المرآة ، في هذا العمل، مرآتان:
1- مرآة تعكس حقيقة الشيء أو جوهره الحقيقي أو بعبارة أخرى: هي مرآة لا تكتفي بنقل الصورة ، بل تعكس روحها الحية، وقيمتها النوعية.
2- مرآة فاضحة للمسكوت عنه. هي مرآة الداخل ، قبل أن تكون مرآة الخارج. ولذلك فهي تشبه مرآة (الطيب صالح)، في موسم الهجرة إلى الشمال، التي نظر فيها الراوي إلى صورته، فانطبعت صورة ظله، صورة ( مصطفى سعيد) التي تماهى فيها، وتماهت فيه.
وهي مرايا صغيرة، قادرة، بالرغم من صغر حجمها، على أن تقوم بما تقوم به المرايا الكبيرة وزيادة. وذلك راجع لسهولة تموقعها في كل الزوايا، وفي كل الأوضاع، خاصة الإستثنائية منها.
اختيار الأداة (المرآة) اختيار لفعل الرؤية التي تتجاوز البصري ، لتقدم نوعية الرؤية ، أي اختيار نمط الكتابة التي تقابلت فيهاالمرآة الصغيرة مع القصة القصيرة جدا، وتقابلت لحظة التقاط المنظور(انعكاس الصورة) بلحظة صياغته ، حجما ودلا لة.
لاغرو، إذن، أن تكون هذه المرايا الصغيرة شظايا واقع معين، يغوص ، عميقا، في الذاكرة ، والوجدان، بعد أن استفزته الرؤية البصرية، لينتقل من مستوى البصر إلى مستوى البصيرة، مستوى التأويل. فالشظية دلالالة على وضع ما، قد يعكس السلب أو الإيجاب، القوة أو الضعف، القدم أو الحدوث، الإنقطاع أو الإستمرار، العراقة أو الهجنة.
وبالرغم من صغر هذه المرايا فإن ذلك لم يمنع صاحبها من تحويلها إلى أرخبيل ، بعناوين محددة جسدت أوضاعا إنسانية، واجتماعية مختلفة، على الشكل التالي:
1- أوضاع تخص عالم القيم من أمومة وصداقة وخير وجمال وألفة وذكريات وجدانية، وحلم واستيهامات، ووجوه لاتغيب، وفضاءات بروائح مميزة، ومواقف فارقة، وأسماء أدباء وفنانين، وساحات ودروب وأصوات، وأشياء صغيرة أثيرة من طفولة ونشوة وملبس يتجاوز الظاهر نحو الباطن، متقمصا دور اللابس عوض الملبوس، و(كلما ارتديت واحدا، ارتداني) ص.18.
وعلى هذا الأساس أصبحت المرايا هي العين الرائية، عوض أن تكون المرئية. وهذه (الحلولية)، إذا صح التعبير، هي التي جعلت من المرئيات موجودات ذات طعم خاص، وروائح معينة، يستعذبها السارد، بأناة، قبل أن تنعكس على المرآة.(انطر العناوين التالية، جدارات عيوني- صداقاتي- الحظ الجميل- موتنا القديم..)
2- أما القسم الثاني فيخص لحظات الإحباط، والحروب الصغيرة،والنزوات الطارئة، والحسابات الضيقة ،والأخطاء المقصودة المدمرة لكل ماهو جميل في البيئة والإنسان، والذاكرة والوجدان، وغير المقصودة التي تعكس الضعف الإنساني، عبر النزوة العابرة، والرغبة الموؤودة.(جدار متهالك- سجل الوفيات..)
وبالرغم من العنونة الموظفة في تبويب هذه النصوص (13عنوانا ل54 قصة) فإن ذلك لم يمنع من تداخل، هذه الأوضاع عبر زوايا هذه المرايا الصغيرة، بواسطة الآتي:
أ- العتبات التي قامت على الإهداء للأموات والأحياء، أصدقاء وأسرة وأسماء رمزية لأدباء وفنانين ومعلمين.. (29% تقريبا من مجموع النصوص).
ب- التناص القائم على المعارضة –اهتداما واقتباسا- المستوحاة من حدث (أذن فان جوخ- الربيع العربي..) أو من عنوان نص معين تم تحويره لأغراض محددة (النورس الصغير يحيل على الأمير الصغير- ومعطف جوجول المفرد يتحول إلى معاطف بالجمع- ومرزوق واغتيال الأشجار يتغير في المغتال من مرزوق إلى الشجر، وسجل الوفيات يتسع للإنسان والمكان والزمان، وحكاية الذئب مع الماعز تنسج لعبة التقديم التأخير، ليصبح الذئب استبداد دائما ،عمّر طويلا.ص.82وصيادون عميان تستحضر الصيادين في شارع ضيق لجبرا إبراهيم جبرا.)
ج- الصياغة الحكمية التي قامت على التجربة الشخصية( 36 نصا، من مجموع النصوص بضمير المتكلم مفردا أو جمعا) والتي لم تكتف فيها المرآة بنقل الصورة،بل قدمت البنية الحكمية المستخلصة من دلالة التجربة ذاتها.
د- وبسبب ذلك- وهذا قاسم مشترك بين نصوص القصة القصيرة جدا- استثمر النص خصائصه الشذرية، متوزعا، بين الطرفة، أو النادرة، حينا، والنفس الشعري حينا آخر.
ه- لعل من أهم وظائف القصة القصيرة، محاولة القبض على الزمن الهارب، سواء تعلق ذلك بالتداعي، أو تعلق، من ناحية أخرى، بالمرئي المباشر الذي يتفاعل فيه الظاهر والخفي دفعة واحدة. وتخفف القصة القصيرة جدا، من حمولة الكم، من جهة، واستنادها إلى كثافة الكيف، من جهة ثانية، ساهم في التخفيف من المسحة النوستالجية التي غلفت الكثير من نصوص المجموعة.
ومن ثم قدمت – كما سبقت الإشارة- هذه اللحظات، بنوع من التقطير، التي لم يتردد، من خلالها السارد، في استعذاب مختلف تحولاتها، سواء كانت مدعاة للذة أو الألم.
ناقد وكاتب من المغرب
1- حسن اليملاحي: مرايا صغيرة. قصص قصيرة جدا.م. الكرامة. الرباط.2012.