رؤية مأساوية وجارحة للكون، هكذا يسم الناقد العراقي المرموق تجربة شعرية ولدت من رحم معاناة الغربة والمنفى وهي تحاول تلمس تجربتها الشعرية.. ومن خلال أضمومة شعرية نتعرف على قدرة القصائد على توظيف لعبة الانزياحات كي تخلق عوالم جديدة للمعنى والوطن والمكان.

انزياحات الربيعي في احتدام الوقائع

حاتم الصكر

يقيم الشاعر عبد الرزاق الربيعي ((بغداد 1961)) تجربته الشعرية على استثمار توترات المفردة وإيحاءاتها الدلالية انطلاقاً من محرق صرفي خالص، فكأنما تعمل لغته داخل وجودها اللفظي، أو ما يعرف باللغة الشارحة التي تتحدث عن نفسها كدوال أكثر من إحالتها إلى مدلولات خارجية، وتعكس وعيها كذات بالنسق الذي تشكله. وهذا أمر شارك فيه أصدقاء من جيله الثمانيني ((بحسب الأجندة الشعرية وتحقيب الأجيال في الشعر العراقي)) لعل أبرزهم عدنان الصائغ وعلي الشلاه في هذا المجال اللغوي.

وقد أخذ شغل اللغة على نفسها أو ما يعرف ب"الميتا – لغة" جزءاً مهماً من كيفيات التعبير في قصائد الربيعي... وأظنه استراح لهذا الوعي الذاتي للغة بالأنساق التي تتشكل عنها، فراح يؤكدها بطريقتين: الإلحاح على الانزياحات اللغوية والصورية، و الإتيان بما يخالف توقيع القارئ للعبارة المتناظرة، مثلما سمي ديوانه الماثل للقراءة "موجز الأخطاء" فهو ينزاح عن المتوقع المألوف "موجز الأخبار" وكقوله في عنوان إحدى قصائده "تأبط منفى" انزياحاً عن "تأبط شراً المعروف في تراثنا الشعري.هو انزياح بالإضافة، بينما كانت "الأخطاء" انزياحاً  حروفياَ يتلاعب بالحروف الأخيرة من الكلمة.واستثمار طاقة التناص لخلق انزياح أكبر.. فهو يكمل الأبيات المضمنة بما ينحرف بدلالتها.. فيقول: بيوم كريهة  وسداد... قلبي بدلا عن قول الشاعر: ذهب الذين أحبهم../ وفاطمة ولقد تأكدت حماسة الربيعي لإقامة شعرية قصائده على الانزياحات بشتى أنواعها في هذا الديون الثالث في إصدارته بعد: إلحاقاً بالموت السابق 1986 وحداداً على ما تبقى 1993 وسوف ترينا عناوين دواوينه ارتياحه لهذا الأسلوب الانزياحي واستثمار المفارقة الحاصلة بين المتوقع و المتحقق.. بل انه يعلن في خاتمة ديوانه الثالث عن ديوان رابع مخطوط بعنوان "جنائز معلقة" وهي إشارة واضحة للجنائن المعلقة " ببابل حيث خلق الانزياح الحروفي في نقلة دلالية هائلة متحصلة من المقابلة بين جنائن و جنائز بما تحمله كل منهما من إحالة مغايرة.. ولعل هذا الصنيع الخاص بالشاعر سيقدمه لنا ساخراً فكها يلاطف قارئه ويمازح اللغة نفسها ، بينما ينطوي شعره على مرارات وخسائر تبدأ بمفارقة الوطن ولا تنتهي بفقدان الحبيبات و الأصدقاء و الطفولة، و يكون على قارئه إذن أن يغير موقع قراءته، فاللغة  هنا لا تصف الوقائع المحتدمة في القصائد لتشرح عملها وتتأمل نفسها متجاوزه الصلة الغنائية الساذجة بموضوعها. إنها لغة  في حالة عمل تراقب ذاتها كموسيقى ودلالة و تركيب.

فاستشهاد يحيى العياش مثلاً سيثير في الشاعر ما لم يستخدمه سواه وهي دلالة الفعل يحيى فيبدأ قصيدة ((صمود يحيى عياش)) بالقول سمته الضفة يحيى /كي تحيى الوردة وينساق لهذا الوعي اللغوي بالمفردة كذات وموضوع  فيلاعب اللغة:

           يا يحيى/ إنا بشرناك / ببيت ملموم كالضمة/  في الليل يعتّونك مثل حروف الجر

 ثم يصل بالتداعي النسقي هذا إلى لقب يحيى  ((المهندس)) ليفجر منه دلالات مشابهة:    

ومضى يرسم جسراً / متوازي الساقين/ ليعبر للرئة الأخرى/ يشتق الجذر التربيعي لدهشته / يضرب أطراف الظل تمام الخيمة

وأحسب أن المقطع الأخير يرينا عمل الانزياح كنسق داخل  وقائع محتدمة ، فالشهيد الذي اغتالته أجهزة الدولة الصهيونية لا يهندس زوايا  وضلالاً ودوائر .إنه يهندس حسابات الروح المشردة كي تعبر للرئة الأخرى ((لا الضفة)) ويكون الجذر التربيعي مشتقاً لدهشته... و يتوقف الظل بتمام خيمته كلاجئ مشرد عن أرضة ((موجز الأخطاء)) الذي يقدمه الربيعي طويل وشائك لأنه موجز لأخطاء القصيدة التي تزيد شقاء وعيه بالوطن والزمن والأحداث... وليست الأخطاء إلا القصائد ذاتها، ولكي يؤكد ذلك يسرد في آخر صفحات ديوانه عناوين إصدارته السابقة مصدراً إياها بعبارة ((ارتكب عدة أخطاء أهمها...)).

تلك أذن أخطاء لا خطايا.إنها حاصل تعامل الشاعر المرهف مع عالم قاسٍ حسب أن مواجهاته كافية ليهزمه.. فكانت النتيجة جراحاً وأخطاء نقرأ بعضها بهذا الديوان..

وفي ظني أن ((الرؤية)) التي تحرك شعرية الربيعي تضيق في حصرها بين أقواس الانزياح والتناقص, لأنها أكثر سعة وشمولية، فالشاعر لا يندرج تحت ايديلوجية معلبة أو يستدعي أشجانا طافية مسطحة ولا يقف((خارج)) موضوعة مناجياً ومستثاراً بهيجانات اللغة أو الصور وابتذالات العاطفة.. الشاعر زاهد بذلك كله، بمقابل رؤية مأساوية وجارحة للكون، زمناً ومكاناً وبشراً ووقائع.. ولا تخطئ علينا القارئ ((درامية)) حياة الشاعر ((داخل)) قصائده، كما هي((خارجها)).

الوطن حاضر في خلايا القصائد.. وهو مركز استمداد الرؤى الشعرية،وبؤرة تحولات النص الشعري..به تتأثث القصائد وتعمل الذاكرة.. بلا خيال صوري أو سرد متخيل.. والتعويل على الذاكرة واستحضارها في ألان القائم أكثر خطورة من الخيال المنمق بأسطورة مجتلبة.. ذلك إنما حدث وما يحدث هو في ذاته أسطوري: أقسى من أسطورة وأبلغ من رمز.. واستحضار مفردات الوطن تبدأ من أدق تفاصيله وصولاً إلى أشدها ضراوة:حكايات أتلام أيشجانها وأغانيها الدامعة،طريق العودة الى البيت بكائناته ومكوناته، المفردة ذات الدلالات السياقية المحلية، مفردات البيئة مأثورات الجنوب وذاكرته: محمل العرس وصورة ((ابن المعيدي)) كما صورها الرسامون الفطريون، الحلي الكاذبة، شارع المحيط على دجلة، المدرسة الطينية والكراريس وأقلام الرصاص، إضلاع البردئ والفانوس والموقد،حمام الجسر الطائر في كوى الذاكرة ن الخبز الحمض وماء الزهر والمقاهي.. والشاعر يواجه المدن الأخرى ويجول فيها ولكن((كما ولدته..مدينته)) في عمان والبحر الميت وصنعاء ومآرب..

يختزل محنته وجوهر غربته، وتمتد يد الذاكرة الى المخيال الشعبي الذي يصور مأساة((أولاد مسلم بن عقيل)) يطوفون الشوارع في يوم عاشورا مرددين((الدهر خان..)) فيقول، مطابقاً بين الحالتين: ((الدهر خان)) ، غلقت موظفة السفارة.

فتحت الأفق التي انفجرت على شفق غريب حين لاحت خضرة السعفات في عشب((الجواز)) لقد غدا جوازه العراقي بلونه الأخضر مدعاة لكي تجعله الموظفة الأجنبية تحت طائلة الشك، وكذلك لتصوير حالة التشظي والانكسار تحت الشموس الغريبة حيث تتجسد حالة العراقي مغتربا في قصيدة((قلوبنا وصلت ..شكراً لساعي البريد)) حيث تعتمد القصيدة في عدة حركات على تكرار لازمة  افتتاحية هي:

قلوبنا التي وصلت / وصلت مبلله. ثم تصبح في مقطع تال: وصلت ممزقه/ ثم تالفة/ مفتوحة/ ملصقة بشريط شفاف. مع الاعتماد على التقاطات من رسائل عراقيين متبادلة كضمادات جراح واللعب برقم صندوق البريد الذي يغدو بكل عدد فيه دلاله  متخيله،فالرقم ((7))فأس و((8)) قوسان يلعبان الكروباتيك و((1)) نادي يتهجي العزف المنفرد و((3)) دوده تتوجع.. إن الربيعي استغرق في تفاصيل الوطن لا كجغرافية ومكان خاص، فحسب بل كحالة من الوجع الدائم المولد للشاعرية والحزن معاً، ويستمر في إطار سخرياته الدامعة ليحدثنا عن مسافة تقاس بمائة تجربة مره، وعن توقيت الساعة تمام الأحزان، وعن أول أوكسيد النسيان. وتتكرس فاعلية اللغة وهي تتأمل ذاتها بقصيدة قصيرة هي فعل ناقص تبدأ بالسوائل:

لماذا أبقيت أصابعي وحدها  / تترنح في الهواء/ مثل مبتدأ بلا خبر/ وتنتهي بتقرير حقيقة/ وتمرين وحدك إذا تمرين/  مثل فعل ناقص.

فيستوي الشاعر والحبيبة في الحاجة لما يكمله،وكأنه قدر مشترك في فراغ العالم.

إن قصائد في ((موجز الأخطاء)) تعكس نهما  ثقافيا فريدا، فكل قصيدة تحيلك الى مرجع أو أكثر.. وعلى القارئ أن يشارك.. في حالة كهذه.. في استرجاع ذلك المرجع الثقافي وتمثله وربطه بالحاضر..ففي((ماركة مسجلة))يستحضر الوصفات الشعبية في التراث ليقول:

لكي تصنع صباحا جيدا /احضر/فتيت جناح صدفة/ظهيرة مقفلة الرنين /أضف نصف كوب صمت.

وإذا كان إيقاع قصائد الربيعي في الديوان محتدما وحادا، ليس في قصائده الموزونة فحسب بل في تلك المنتمية لقصائد النثر، فهو جارح النبرة يذهب إلى أعمق طيات الذاكرة، يحفر فيها، كآثاري مهووس بتراب اللقي والحفريات، ولا يوفر نادرة أو فكاهة أو سخرية، حتى وهو يستحضر أكثر الأحداث ألما وشجنا..

وكتابته القصيدة الموزونة((الحديثة))وقصيدة النثر ترينا جانبا آخر من رؤيته الشعرية التي لا تعد الشكل ضربا من التابو لا تقربه تعصبا لشكل آخر واندراجا قطيعيا ضمن حدوده.. فحرية الشاعر الأسلوبية كامنة في اختيار ما يراه مناسبا لحظة انبثاق قصيدته،  وسيجد القارئ أن تجاربه النثرية تؤهله للاستمرار في هذا النوع الشعري الخصب، لا سيما وهو ذو منحنى سردي بحكم امتثاله للذاكرة.

أستطيع في ختام قراءتي  لموجز أخطاء الربيعي الشعرية أن أرصد تحولا أسلوبيا وجماليا في كتابته، ترينا عناصره ومفرداته قراءتنا المستندة إلى آليات التقبل، حيث يتخذ القارئ موضعا قريبا من أفق القصائد.. هذا الأفق المتلون بأطياف الوطن وروح الإنسان ونبض المكان..

 

halsager@yahoo.com