من رهان التجريب وسماته، الى سمات الكتابة القصصية في مجموعة يخلخل صاحبها نظام القصة المتعارف عليه، بل ويعمق لدينا التفكير في بنية القصة القصيرة اليوم داخل حقل السرديات العربية. ولعل النصوص التي تحفل بها هذه المجموعة ومن داخل بنياتها الدلالية والبنائية إحدى أوجه هذا التمييز وهذا الرهان في مستويات الكتابة.

الكتابة والموت

حميد ركاطة

في بداية هذه الورقة أود الإشارة إلى أننا إزاء عمل فريد من نوعه لاعتبارات عديدة نذكر من بينها : كون العمل "اعتبر كتابا قصصيا"، كما أن الاشتغال فيه مخالف لما ألفناه في الأعمال القصصية المعاصرة، فمن حيث التجنيس اعتبر كتابا قصصيا وليس مجموعة قصصية أو قصص قصيرة ومن حيث الموضوع والمنظور "الربط بين فن كناوة التراثي والقصة التجريبية" وهذا يجرنا إلى الملاحظة الموالية: يتضمن الكتاب القصصي تنبيها في مقدمته بأن الكتاب هو طقس قصصي في أربع عادات وسبع محلات وهي مهداة إلى والده "المصطفى الرافعي" ص 4 وهذه ملاحظة أتقاسمها مع الناقد والمبدع عبد الحق ميفراني الذي أشار على أن التجريب "رهان مستمر ومفتوح لا يُفضي إلى أجوبة محددة ونهائية، إذ لن يظل الوصول إلى تلمس سمات عامة لهذه القصص هدفا في ذاته، بقدر ما يُشكّل الوصول إلى أسئلة مركزية تهُمّ القصة القصيرة بعدا أساسيا في مشروع القراءة.

منذ البداية، تطرح علينا المجموعة توصيفا بالغ الدلالة: "طقس قصصي" في أربع "عادات" وسبع "محلات"... وليس غريبا على جنس الكتابة ارتباطها بـ"الطقس" في لحظة تجلٍّ، فكما أن للكتابة طقسا خاصا، فالأكيد أن للمبدع طقوسه الخاصة. لكن لطقس القصة هنا امتدادا وتقاطعا مع طقس روحاني خاص يتمثل في "الليلة" الكْناوية، بكل طقوسها، لذلك تدرجت النصوص القصصية بعتبات أساسية: أربع "عادات" وسبع "محلات". بموازاة تسع قصص قصيرة ""2".

تعمد الكاتب لتحقيق منظوره الخاص بهذا الطقس القصصي إدراج مقتطفات خاصة بطقس فني تعبيري '" الطقوس الكناوية " تخللت نصوص قصصية قاسمها المشترك "تيمة الموت" / الأرواح / الأشباح / الألوان / الحلول .." ولعمري يمكن اعتبار هذا النسج أمرا جديدا ـ في الكتابة القصصية المغربية ـ على حد علمي تم توظيفه في الفن التشكيلي الرسم على إيقاع الموسيقى الكناوية ما يدفعنا إلى طرح سؤال العلاقة بين الكتابة حول الموت والموسيقى الكناوية؟

واعتمد الكاتب على مادة مرجعية منها ماهو شفوي ومنها مشاهداته العينية ومنها كذلك المادة العلمية الأكاديمية انطلاقا من تعقبه لمجموعة من المفاهيم والدلالات التي تم شرحها لتدليل كل الصعاب في وجه القارئ كما هو الأمر بالنسبة للنصوص الموازية الخاصة بالطقوس الكناوية أو الإحالات المدرجة في كل من الصفحات: 63 الخاصة بنص زير الجثث والصفحتين 70/ 71 تحت عنوان تنويه وإحالات وكذلك في الصفحة 9 "ذلك الذي بات يعرف ... هو أنيس الرافعي"


_1
فن التجريب القصصي

قبل تناول هذا الكتاب القصصي لابد من الإشارة أنه ليست المرة الأولى التي أتعامل فيها مع أعمال القاص أنيس الرافعي وتناولي لمحور التجريب سبق وأن تعرضت له في بعض أعماله السابقة وأود الإشارة في مقدمة هذه الورقة إلى أفكار ومواقف منتقاة حول مفهوم التجريب القصصي من خلال مبدعين معاصرين له وكذا موقف الكاتب نفسه هو الأخر حوله.

فالتجريب كشف وإعادة بناء أنظمة جديدة لأن إشراقا ته المتنوعة تنحت مفاهيمها من خلال تفجير اللغة، فالتجريب مغامرة إبداعية محملة بدلالات جديدة ورموز تهدف إلى التحرر أو إلى امتلاك حرية ومد جسور جديدة للتواصل وهو سمة جوهرية تلتصق بكل فن عظيم وعلامة فاصلة " برزخ" لكل من يجد في نفسه رغبة في التحليق خارج السرب لأنه ناتج عن القلق والتوتر وأحيانا عن عدم الاطمئنان ورفض للسائد، فهو تجسيد لرؤية مستقبلية واختراق نحو عالم جديد فالتجريب حسب القاص احمد بوزفور " نتيجة وليس سببا "يضيف" أعني أننا لا نعرف ونحن نكتب الإطار النظري الذي نكتب فيه، نحن نحرص فقط على الصدق والدقة والجمال وفيما بعد سيكتشف النقاد أن هذه الكتابة تجريبية أو عجائبية أو واقعية،أو رمزية " .." الكتابة تجريب يستمر طوال الحياة لا ننضج أبدا"3"

والتجريب عند الكاتب أنيس الرافعي يعتمد على أدوات اشتغال منفتحة على كل المجالات التعبيرية مع التركيز على لغة بصرية وهو هاجس ينحو نحو ترسيخ الاختلاف والانزياح عن التطابق، للانفتاح على حقول الفكر الإنساني من خلال طرح أسئلة جديدة تخرق الاطمئنان إلى النفس، أو الواقع، أو العالم ما يجعل قوته تكمن في الابتكار والخروج من المألوف وضرب قوانين العلوم، ما يضفي عليها طابعا خاصا ويدخل كتاباته في خانة التجريب العالم ضدا عن كل نزوات وشرود في الكتابة، يقول عن تجربته: "ما هو التجريب حسب المنظور الذي أحمله له كقاص؟

هو في المقام الأول والأخير خيار أنطولوجي للذات الكاتبة المفردة التي تطمح إلى محاولة كسر قيود الوعي الجمالي السائد لمفهوم القصة، وإحلال ذوق بديل للذوق الجماعي المهيمن على ذائقة تلقيها.. التجريب ليس استكانة إلى الصورة بل إعادة نظر دائمة في هذه الصورة ذاتها" "4"

نصوص الرافعي بقدر ما تثير دهشة المتلقي تزرع بداخله رغبة التحدي وركوب سفينة الحلم بهذيان عاصف تفتح المنغلق من منافذ جوانية بقوة وعنف استنادا على المناورة السردية حسب ذ مصطفى الحناوي"5" .

لكن ما يضفي عليها طابعا غرائبيا هو تكرار الصوت واللغة والجملة أحيانا، وإيقاعاتها الواحدة. يشير الدكتور محمد رمصيص حول أسلوبية الحكي عند أنيس الرافعي قائلا "بخلاف البلاغة التقليدية فإن البلاغة التجريبية بقدر ما يخرق فيها النموذج بقدر ما يثبت المبدع تميزه لأنه يحرص أساسا على حضور الذات الكاتبة وطاقاتها التخييلية دون الاكتراث بنمطية النموذج ومعيارية الجنس الأدبي المطروق... فاللغة فضلا عن كونها وسيطا تصويريا لرسم المشاهد القصصية تخلق تفاعلا كميائيا جديدا بين الكلمات وذلك بتكسير التعابير المتفسخة واستثمارها للجناس الغريب والأسلبة البارودية التي لا تحافظ على معاني العبارات النمطية "6"

وقد سبق لنا وأن أشرنا إلى خاصية من خاصيات كتابته ذات البعد الثالث أو الثلاثي "الحلم والصمت والتشظي" وهي مكونات تتورط في صياغة فضاء المستحيل وتحقيق الحلم الذي بقدر ما يكون مشتركا ومنتظرا أو أفقا جديدا يشكل مجالا مثاليا للوصول إلى حلم آخر من خلال بروز لحظة الضعف القصوى كما في نصوص "اعتقال الغابة في زجاجة" لكن في مجموعة "الشركة المغربية لنقل الأموات" نجد إستراتيجية جديدة مع نصوص حافظت على لحمة الحكاية بالإضافة إلى الارتكاز على"اللون والموسيقى والحلم" بأبعاد ثلاثية أخرى كما أن المشترك بين المجموعات المدروسة هي تيمة الموت وأشكاله داخل أبعاد جديدة غير مألوفة ولكن محسوسة فالموت يقع داخل الحلم أو من خلال إغفاءة ما يجعلنا نمارس نفس طقوس الجذبة الكناوية بمرورنا من الملموس والمرئي نحو المحسوس والمجرد وغير المرئي داخل مسارات ميتافيزيقية وكأننا إزاء برزخ يحقق ديمومة تتوقف داخلها الموت نفسه، لتستمر من خلال تماهيها كأرواح تبحث عن ذواتها للعودة في أجساد أخرى.

لقد تحولت نصوص المجموعة بهذا المعنى إلى وطن تمثله الشركة المغربية لنقل الأموات والمواطنين إلى أموات سلبيين تمارس عليهم شتى أنواع القهر والترهيب والتخويف والتبخيس والتقتيل داخل وطن لم يعد يضمن فيه حتى موتا تاما وناجزا بل على الميت أن يسافر فيه نحو أصقاع أخرى وبعد آخر كي يكمل موتته.
إنها كتابة داخل مساحة تخييلية وهمية أو عجائبية، لكن لها امتداداتها وإحباطاتها في اللاوعي وتصدعاته وشروخاته يقول هوسرل "إن الميزة الخاصة للعجائبي هي عناده، وبالتالي فهو يميز نفسه مثاليا من خلال اعتباطيته المطلقة" "7"

(2) الموت في بعد آخر
لماذا قدر لكل هؤلاء الشخوص الموت في بعد أخر؟ ألم يعد هذا الوجود برحابته كافيا لميتتهم بشرف في الواقع؟ ثم لماذا هذا الموت الغريب، والسفر العنيد في أرذل العمر بحثا عن شبيه؟ أو بحثا عن ذاكرة؟ أو بديل؟ هل فقد الذات قيمتها إلى هذا الحد ؟ والإنسانية كرامتها إلى هذا البعد؟ لم الاضطرار إلى البحث عن إنسانية الإنسان وعن روحه الضائعة في بعد غريب الأطوار ؟ هل أدركنا أننا ميتون من قبل أو أننا كنا نتظاهر بالحياة حسب ما طرحته إحدى شخوص الكتاب القصصي ؟ أليست فكرة الموت أشد وقعا على الروح من الموت نفسها؟

فقارئ نصوص الكتاب القصصي " الشركة المغربية لنقل الأموات" سيلاحظ أن تيمة الموت تضحى القاسم المشترك بين كل النصوص كموت " المصور الفتوغرافي في نص صانع الجنازات، أو الحديث عن فكرة الموت باعتبارها أشد إيلاما من الموت نفسه في نص "الشركة المغربية لقل الأموات" ص 19 بحيث أن الهوس والقلق والجنون والخوف من الموت ظل حاضرا في الذاكرة والأمكنة سواء أثناء النوم أو في الحلم أو اليقظة حيت ينتاب البطل الإحساس بكونه رجل ميت "يقول السارد" لا يجوز أن أكون ميتا وأنا أتنفس وأعي جيدا ما يدور حولي لا بد أن هذا كابوس " ص 21 أو في نص "يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء" ص 32 حيث ينتاب بطل النص الإحساس بكونه رجل ميت وأنه يوجد في بعد آخر مواز للواقع الفعلي في حياة أخرى غير مستعملة أو استعملت سابقا وتم التخلي عنها" ص 35 يخبرنا السارد متسائلا: "فهل جئت إلى هنا بنفسك لأتما م ميتتك السابقة؟ لإعادة ترتيب موتك الماضي الذي لم يكن حاسما ومقنعا كما يجب" ص 35
هناك مستوى أعمق للإبداع يسميه كوردن كلوبس"مستوى تكوينيا لا ينبغي خلطه بالتنوع الإبداعي إننا لا نشكل عالم حياة اليقظة، فهذا ليس إلا معنى عاما فذلك العالم موجود هناك سابقا ينتظرنا وينتج مع ذلك كشفا له... ففي الحلم نخلق بطريقة تشكيلية العالم نفسه وحياتنا فيه " "8" أو في نص " ثلاثة أحجار في قاع النهر " ص 58 مثلا حيث سيكتشف البطل أنه ميت منذ زمن طويل وقد أتعبه التظاهر بالحياة، وسيكتشف أنه الشبح الأكثر وحدة في الكون " أما في نص "مونتاج خشن " سيكتشف بكونه جثة متعفنة جدا أثناء النوم لكنه بمجرد ما يستيقظ تختفي كل تلك الأحاسيس لتعوض بإحساس جديد كمغادرة الظل لجسده تم عودته، هذا الإنخطاف دفع إلى الحدس والإحساس بالغرابة وبكونه في بعد مماثل لنهاية ما أو نوع من الحتف الخطأ.
أما في نص "صحراء في الطابق الأخير" ص 52 فإننا نلمس نوعا من الموت المتكرر نظرا للحالة التي تنتاب البطل بحيث تجعله يعيش لحظة اختزال لمراحل حياتية "غير قابلة للاستنفاذ بحيث يولد في الصباح يكبر في الظهيرة يشيخ في المساء يموت في الفجر.. ويتكرر الأمر حتى يصير في كل دقيقة أكثر مواتا " ص 54 فهل يمكن الحديث عن حالة ديمومة التي يعرفها د . مصطفى حجازي بكونها "وحدة الزمن في مساره: وحدة للماضي والحاضر والمستقبل كما تعاش نفسيا والزمن المعاش يختلف عن الزمن الفيزيقي المكاني فالزمن الفيزيقي لا يضطرب إنما الديمومة قد تتعرض للاضطراب سواء في مسارها أم في وطأتها أم في التوازن بين مراحلها الثلاث وقد تتجمد الديمومة في الماضي كما في بعض الأمراض النفسية""9".
أما في نص "زير الجثث" ص 59 فإن البطل يعيش تحت وطأة كابوس يظهر له كل الذين أرسلهم إلى آخر التراب يسددون له طعنات قاتلة ينزف لكنه لا يموت وسنلاحظ تحولا في مجريات النص بتدخل السارد في النهاية لانقاد البطل من الموت.

إن هذا الموت يطوق الأشخاص الأكثر عزلة ووحدة ما يجعل فكرة الموت أشد إيلاما وهو شعور ولد الإحساس بالحلول في أرواح ذوات أخرى. فهل نحن إزاء كائنات سردية من أشباح؟ فهي تطالعنا بغموضها وعزلتها وتقوقعها وهواجسها وأوهامها ومعاناتها من الانفصام بسبب التهيؤات، يقول الناقد محمد يوب "وموضوع الموت في المجموعة القصصية له دلالة هامة، فقد أحدثت أثرا نفسيا في حياة البطل مما جعله يفكر في وجود الإنسان في هذا الكون ومصيره، فالبطل يعيش تجربة بؤس داخلي رهيب نتيجة صراع النفس الحية في ظل بحثها عن حالة دائمة ومستقرة وكأنه يمني النفس بحياة دائمة وهانئة ""10" و يمكن أن نضيف لها حالات مرضية " كالهوام، والهجاس، والتماهي، ومعاناتها من إشكال الديمومة.
لقد أصبحت الموت في نصوص "الكتاب القصصي" بصيغ متعددة وصل حد الموت بالقوة نتيجة فقدان الذاكرة ما جعل إعادة ترتيب الأحداث عملا من قبيل الاكتشاف وزحف نحو موت جديد قد لا يكون رتب للبطل بالخصوص ولكن الصدفة قادته إليه.

ولا حظنا أن تيمة الموت استحضرت كذلك في المقتطفات المنتقاة بعناية في الصفحة 7 لكل من محمد خير الدين، وعبد الستار علي، وسيلفيا بلات، أوفي ص 12 من خلال بيت شعري لكعب بن زهير.

وقد تفاوتت درجة تمثل أشكاله وحالاته لكن ما يجمع بينها هو ذلك الإحساس الحقيقي الذي يصل حد الرؤيا وهي تقف عند حدود أقصى أو من خلال نظرة الكاتب نفسه واستشرافه للمستقبل التي تجعل من نصوص المجموعة تعلن منذ البداية وبشكل صريح تقمصه صور كل تلك الشخوص" ذلك الذي يعرف أن هذا حدث مساء ..ذاك الذي بات يعرف أن ذلك سيحدث صباحا اسمه أنيس الرافعي تأكدوا من ذلك " ص8 "

(3) الحلول
بالإضافة إلى فكرة الموت تنجلي فكرة الحلول وهو حلول مكشوف في جسد آخر أو مغادرته وهو ما جعل النصوص مفتوحة على نهايات موجعة ففي نص " سبعة أرواح" يقول السارد في الجزء المرقم بـ " 1 " تحتسي المشهد برمته وأنت تواصل البكاء بمرارة ..لأنك كنت ذلك الرجل الذي ودع تلك المرأة إلى الأبد في حياة سابقة " ص 65

الجزء المرقم بـ " 2" ترى نفسك مثل زرافة في الصحراء " ص 66

الجزء " 3" ها أنت ..بعد أن انتحلت كيان شاعر فاشل وأقمت في وجدانه وتصرفاته كما تقيم في بلد غريب " ص 66

" في حين أن جسدك الناحل سيغادرك بلا رجعة في هيئة أدنى ليسكن جسدا آخر كنت على الدوام تضمر الرغبة في اقتلاع أحد عينيه " ص 69

فنصوص سبعة أرواح تقدم مفهوم الحلول في أرواح شخوص آخرين ومفهوم الحياة بعد الموت داخل مسار آخر في حياة سابقة وهو ما تم التأكيد عليه في افتتاحية كل نص " يحدث في حياة كهاته".
إن مغادرة الروح للشخص وحلول روح أخرى بجسده بقدر ما تخلف صدمة ودهشة "كأنها بقة هاتف نقال" فهي تنهي كل الصلاحيات القديمة وتخلق صدمة ودهشة وتخلف عزلة الكائن الجديد داخل المجال وتزيد من شقاء البحث عن الهوية والأخيلة الحقيقية بعد الحلول في حيوات كثيرة أخرى أو نكسة الاصطدام بالبديل أو بديل البديل.

هذا الحلول يجعل من الروح حرة في اختياراتها وقراراتها ورغباتها التي لا تروض أو غير قابلة للتنازل فهي تحدد بمشيئتها وأهوائها بعيدة عن الجسد، يقول السارد "وبما أن روحك أمعنت دوما في وخزك والإثقال عليك ك "مسمار الكيف" في باطن القدم وأضحى لزاما أن تبتعد عنها قليلا كي تصير أكثر عافية وخفة فإنك ستبادر إلى إيداعها هناك لمدة شهر مقابل وصل" ص 68 "الجزء الخامس "،وهي صور سوف تتكرر في المشهد السادس يقول السارد" لكن ما ذنبك إذا ما كانت الروح قد قررت البقاء معك، في حين أن جسدك الناحل سيغادرك بلا رجعة في هيئة أدنى ليسكن جسدا آخر " ص 68.. وفي ص 69 " روحك التي تود أن تكون هكذا بحذافيرها في حياة قادمة".

يشير القاص أنيس الرافعي في إحدى حواراته حول تيمة الموت في هذا "الكتاب القصصي" قائلا: - هذه المجموعة سيناريوهات مفترضة لموتي الخاص، واستشراف للموت الجماعي الذي يتعرض له الكثير من المغاربة ماديا ومعنويا، ومن هنا فإنها تنطوي على موقف سياسي مبطن ومدفون تحت الحكاية.

إنها توبيخ للحياة التي لم تكفل الكرامة للجميع، ولم تحنُ عليهم كما يحنو النبات على السور، وهي تصوير استعاري للمغرب وقد تحول فيه الممسكون بزمام الأمور إلى تجار للموت اللامع، وإلى سماسرة للقبور القادمة."11"

(4) هل نحن إزاء غرابة شخوص أم سلوك مرضي؟
يقول المبدع عبد الحق ميفراني عن نصوص المجموعة " "ولو أمكننا استدعاء البعد النفسي هنا، لأمكَننا الحديث عن "مزاج متقلب" للنص القصصي، تقلبَ الوجود ذاته. وهنا، يتحول "الوعي" بالقصة إلى استدعاء "لا واعٍ" لأسئلة الكتابة، عموما، بما هي تفكير دائم في الوجود والعالم، لكنْ، بمنطق الشك والقلق، إذ لا يقينيات بإمكانها أن تجعل فعل الكتابة فعلا مستمرا في الزمن، وذاك بعد معرفي آخر" "12".

فما يلاحظ على شخوص الكتاب القصصي أنها تبدو شخوص مرضية تعاني من الانفصام والعزلة أو مصابة بتهيؤات أو تحفها غرابة ما أو عجائبية " كما أن بعضها متمنع حد الاستحالة ويتطابق سلوكه بسلوك إنساني من خلال مجموعة من القرائن.

نص "صانع الجنازات"

أ ـ استحالة تصوير بطل النص الذي يقول عنه السارد " الصورة مجردة من الوجه كأنها حفرة ضباب نجمت عن ممحاة دقيقة " ص13

ب ـ إن رهطا من الكلاب الضالة ابتعد مفزوعا وبأن أسرابا غفيرة من الجنادب والعصافير أحجمت عن إصدار أي صوت وانفضت هلوعة " ص 15

ج ـ موت كل الأشخاص الذين يلتقي بهم ما جعله في صورة قابض للأرواح " عزرائيل " يتحدث التحليل النفسي عن ذات مركزية تستطيع أن تنظر إلى ذاتها من خلال الذات المرآة .ـ ومع ذلك ـ وباعتبار الكائنات البشرية أشباحا لنفسها، فإنها في أحسن الأحوال تكون مفارقة ومتنقلة بين مختلف الأدوار بحيث تحول وتحل محل بعضها البعض " "13" فالشخصية المحورية تعيش على إيقاع التهيوءات والوساوس والخوف من الموت ولعل رصدنا تفاصيل لحياته اليومية أبرزت مدى حالة الرعب التي عاشها سواء من خلال الواقع أو من خلال الحلم بل حتى داخل إحدى مراحل الحلم الواحد في بعد غريب وهو ما أبرز تضاربا في الأحاسيس أبرز نوعا من الغرابة لكونها تستمد معطياتها من الواقع "14"

أو الدخول في غيبوبة أو كونه عالقا داخل كابوس وسيكتشف في النهاية ألا وجود لشركة لنقل الموات في البناية المقابلة وهو ما دل على نوع "الهجاس المرضي" "ورهاب الأمكنة" و"الهوام" لعبت دورا عازلا وقدمت تآلفا بين واقعين داخلي وخارجي .

ويدرج الكاتب في نص " يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء " ص 32 فقرة حول الذاكرة باعتبارها جانيا ملغزا من الزمن وبأنها قد تكون قد خذلته كلما حاول التذكر سيتحرك بداخله هاجس الاكتشاف والفضول والافتراض والشك حول حادثة سير، وهذا القصور يحول البطل كائننا تائها كلما برزت ملامح أو معالم لم تكن غريبة عنه رغم كونه ظل ينفي بشكل مطلق زيارته مثلا لمدينة " ك" يقول السارد " لم تكن المرة الأولى التي حللت بها هنا لأن بعضا من مبانيها التي لاحت لك مثل منعطف بعيد في الروح تدين لك بشيء من وميض الذكرى الآفلة " ص 35 إنها حالة من الوعي المشرق التي يقول عنها فولفانغ إيزر " هذا الوعي المشرق لحالتي اليقظة والنوم المتزامنين أثناء الحلم الواضح لا يمكن الحالم من الانتقال إلى ما وراء أفق الحلم...

"فتتحول" المضاعفات الناتجة عن ذلك إلى حالة مستمرة لكون المرء يوجد فوق ذاته وخارجها " .." وهذه ليست مرحلة عابرة بل هي خاصية من خصائص الإنسانية " "15"

إن هذه الحالة تبرز أن سفر البطل تم خلال النوم حيت يقول السارد " قيض لي أن أغفو "أو هكذا خيل لي" بعد أن وطدت النفس على التوجه في صباح اليوم التالي إلى مدينة "ك" ص 34

بينما في نص ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر " ص 38 ينتاب البطل الإحساس بحدوث تطابق أو ربما تماهي بينه وبين السارد يقول " بزغ من الباب رجل شاب بوجه مشدود وعيون لا معة وجه مألوف من المحتمل أنني امتلكته ذات يوم" ص 43، وحالة التشابة مع الحلم يقول عنها كوردن كلوبس "يفرض التشابه مع الحلم نفسه وإن كان ذلك مجرد إعادة للمحظور بل هو عملية إبداعية " تخلق عالم الحلم من جديد" ".." إن الإبداع الرائع له مستويان مميزان فهناك إبداع أول يحدث من مجرد حصول تنوع عوالم الحياة الفريدة التي يعيد الحلم تكوينها فالمعاني المتعاونة في الحلم هي مجموعة جديدة خاصة لم تكن أبدا مترابطة من قبل وبالتالي ينتج عنها تنوع إبداعي " ص "16".

فالتشابه يصل حد تطابق المصير يقول السارد " بالرغم من تشابه الأسماء وتطابق المصير الذي كنت عرضة له في ما مضى فذلك الرجل يقينا لم يكن أنا تماما " ص 40 فهل نحن إزاء حياتين متوازيتين لنفس الشخص؟
يقول خورخي لويس بورخيس " كتب هنري جيمس قصة عنوانها " الزاوية العجيبة " بطلها يعود من انجلترا إلى بيته القديم في نيويورك وهناك سيجد نفسه وجها لوجه مع الشخص الذي كان سيصيره لو أنه لم يغادر ذلك البيت. "سيطارد البطل الشبح عبر الممرات والسلالم"... لدينا هنا حياتان متوازيتان في شخص واحد وأنه لمن الشيق أن نلاحظ أن كل هذا سبق أن ورد في بيتين من الأوديسا: يلتقي أوليس في الجحيم بشبح هرقل في الأولمب حول مائدة الآلهة إنها الفكرة نفسها التي يعيد هنري جيمس إكتشافها بعد ثلاثين قرنا" "17"
أما في علم النفس فيتم تناول الفكرة من خلال مفهوم التماهي، وهو "عملية نفسية يتمثل الشخص من خلالها جانبا أو خاصية أو صفة من الآخر ويتحول كليا أو جزئيا على غراره، تتكون الشخصية عادة من سلسلة من التماهيات الجزئية بأشخاص مرجعيين ".." والتماهي يختلف عن المحاكاة في أن هذه الأخيرة تظل سطحية وواعية، أما التماهي فهو عملية نفسية لا واعية تؤدي إلى انبناء الشخصية تبعا لنموذجين "أي أن يصبح الشخص هو الآخر ويكسب هويته ".." وفي الحالات المرضية يصل التماهي درجة كلية مما يفقد المريض كل استقلالية ذاتية في حالة من الذوبان في الآخر " "18"

نفس الأمر ينطبق على بطل نص " مونتاج خشن" ص 45 حيت نلمس إحساسه بحلول ذاكرة شخص آخر بذاكرته وهي ذاكرة ستدخل مرحلة التحول والتكيف داخل عوالم جديدة وسينتهي مسارها بانتهاء صلاحيتها التي تمت عبر مراحل واتخذت لها ألوانا من الأبيض إلى الأسود ثم إلى الأصفر، "وسوف نتناول دلالة الأوان في محور خاص"، فحالة فقدان الذاكرة الأصلية تسببت في انعزال البطل وانشطاره كما منحته الإحساس بموت بالتقسيط وهو تعبير عن كذلك عن علاقة "دمجية ذوبانية" تنتفي منها الاستقلالية والغيرية، أو ذوبان للذات في الآخر إلى الأبد " "19" هذا التناقض أفرزته الحالة النفسية التي وصلت حد الانفصال عن الذات والتي سيتكرر حدوثها مع شخوص آخرين بوثيرة أكثر حدة كما هو الشأن بالنسبة لبطل نص " صحراء في الطابق الأخير " ص 52 بحيث يعاني البطل من محو، وكأن ثقبا بذاكرته يقول السارد" لم أعد أذكر أي شيء ..ثمة ثقب أسود بلا قرار " ص 52 ويضيف السارد " في ص 56 قائلا على لسان البطل " دون أن يزايلني الإحساس بكوني لست أنا من يحث الخطى " .." أشاهد نفسي وأنا أحدث الخطى ثم دلفت أول فندق صادفته" وهذه الصورة تناقض ما مارد على لسان نفس البطل في بداية النص " أحث الخطى على عجل .ناشدا البحث عن فندق ما أقضي فيه ليلتي الأولى " ص 52 ف "نحن أنفسنا منفصلون عن ذواتنا لأننا بالذات نوجد ولكن لا نعرف ما هو الوجود إن صور الشبح التي تضيع من أنفسنا باعتبارنا ممثلين تنقصنا الحقيقة بقدر ما نعتقد أننا نملك أنفسنا من خلال الصور وكوننا لا نستطيع القبض على أنفسنا في أي دور مطلق يرفع القيود عن عدد الأدوار التي يمكن تمثيلها ""20"

إن المثير في حالة البطل النفسية هو التهيؤات والوساوس الخطيرة التي وصلت حد استحالة عبوره مسافة فاصلة مثلا بين سريرين في نفس الغرفة لأنه كان يخال بينهما هوة سحيقة وانه يعبرها فوق حبل، وسينتهي به المطاف ميتا في نفس الحيز الصغير حسب إفادة عامل الفندق في نهاية النص.

أما في نص "زير الجثث" ص 59 وانطلاقا من العتبة تتبادر إلى الذهن صورة القاتل المتسلسل لكننا سنصطدم بصورة معاكسة لرجل يعاني من تأنيب الضمير ومن غزو صور قتلاه الفظيعة وهي تطأ بثقلها ككابوس على روحه في حالات يقظته وهم يوجهون له طعنات تجعله ينزف لكنه لا يموت فتوالي الصور يدخلنا في مسار احتمالات أبعدها تأنيب الضمير،واجتياح أرواح الموتى لذاكرته وهي ردود فعل غير مسبوقة لقاتل محترف.. "فالنص الأدبي يظهر موقفا خاصا يوجه المؤلف من خلاله نفسه نحو العالم وحيث أن هذا الموقف لا يوجد في العالم المعطى الذي يشير إليه المؤلف فإنه لا يمكن أن يتخذ شكلا من الأشكال إلا إذا تم إدماجه حرفيا في العالم الواقعي" "21" فماهو هذا العالم الذي يثيره الكتاب القصصي؟ إن الجواب على هذا السؤال مرتبط أشد الارتباط بواقع الكتابة واستحالة الحياة في "وطن بحجم غرفة" °°

(5) أسلوب الحكي في الكتاب القصصي
يوظف القاص أنيس الرافعي في كتابه القصصي مجموعة من الضمائر تراوحت بين استعمال ضمير المتكلم لما له من قوة اختراق وحميمية بالنسبة للمتلقي وهو توظيف يقول عنه الناقد والمبدع محمد اشويكة "يظهر أن الكتابة بضمير المتكلم كصيغة سردية طاغية تظهر الكثير من الاضطرابات والأفكار السوداوية ".." كما أن ضمير المتكلم يحيل على الصدق والتصديق منطقيا مما يجعل القارئ يعيش أجواء النص ويتخذ لنفسه موقفا محددا ".." قوة ضمير المتكلم في الربط والتنسيق السردي : إنه الحبكة ويوطد العلاقات فيما بين فقرات وشخوص النص فضلا عن صلاحيته في الاختراق والتوسع النصي" "22"

تم استعمال ضمير المتكلم في كل من النصوص التالية:

" صانع الجنازات " ص12 : يقول السارد " اعتدت في الآونة الأخيرة .."ص 12

" الشركة المغربية لنقل الأموات " ص 19 " منذ أن تم افتتاح هذا الفرع الجديد للشركة المغربية لنقل الأموات

في البناية المقابلة للعمارة التي أسكنها تغيرت حياتي تماما .."

" اليوم الأول بعد الموت " ص 25 " التحقت لتوي بهذه العمارة القديمة والبعيدة نسبيا عن صخب المدينة " .

" ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر " ص38 " أدعى السيد "س"

" مونتاج خشن" ص 45 " بدون سبب واضح بدأ كل شيء بذلك الهجوم الغامض للرائحة أحسستها تنبعث ذات صباح "

" صحراء في الطابق الأخير " ص 52 " كل ما بوسعي قراءته الآن "

ـ ضمير المخاطب

تم الارتكاز على ضمير المخاطب في جل النصوص المنضوية تحت عنوان " سبع أرواح" ص 65 وتتميز باشتراكها لنفس جملة التقديم " يحدث في حياة كهاته"

في حين تم توظيف أكثر من ضمير في نصين " يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء" ص 32 وزير الجثث" ص 59 بحيث نلاحظ استعمال ضمائر: المتكلم والمخاطب والغائب:

يبدأ النص بضمير الغائب يقول السارد "هكذا هما القاتل المحترف ومنزله" ص59 ثم يستأنف الحكي بضمير المتكلم يقول السارد " اكتشفت عند عودتي المتأخرة" ص59  ثم ضمير المخاطب" فاصل بينك وبين هذه الخزانة" ص 62

"يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء "ص 32 تم توظيف ضميري المتكلم والمخاطب لسرد وقائع نفس الحدث بمعنى حضور أكثر من سارد:

بضمير المتكلم " يخبرني الصوت بأنه يهاتفني من مدينة " ك"ص 32

بضمير المخاطب: " حسب افتراضك كانت سيارتك تلتهم الطريق بسرعة فائقة في اتجاه مدينة " ك" ص 34

(6) زمكان الكتاب القصصي":
تختلف الامكنة والازمنة في نصوص الكتاب القصصي وهي في مجملها غير حقيقية لأنه بالرجوع إلى دراسة الحالة النفسية للشخوص لمسنا أن الوهمي منها هو المسيطر على أغلب أحداث النصوص
.
في حين أن زمن الأحداث بقدر ما تنوع يظل أهمه الزمن النفسي لكونه أضفى على المسرود عجائبية من خلال الإحالة على أمكنة غريبة بين الواقع والخيال، أثناء الحلم، إبان إغفاءة، بين الحلم واليقظة، في حلم داخل حلم آخر ما جعل الأزمنة هي الأخرى تتراوح بين الافتراضية والوهمية.

(7) دلالة الألوان من خلال الكتاب القصصي محاولة اختراق
دلالة الألوان في مجال التشكيل واضحة للعيان لأنها مستمدة من عناصر الطبيعة والمحيط، لكن في مجال الموسيقى والرقص تدخل ضمن أساليب التعبير الرمزية لما لها من دلالة سيميولوجية وأنتربولوجية لاختلاف دلالة طرق التعبير والتفسير وتمثلها من شعب لآخر ومن حضارة لأخرى لنفس الطقس.

وباستقصائنا لدلالات الألوان داخل نصوص الكتاب القصصي لمسنا أن حضورها كان متميزا وبارزا في النصوص الموازية الخاصة بالطقوس الكناوية وهي ألوان امتزجت بجذبة وموسيقى وبخور يعمل من خلالها على مخاطبة الأرواح واستحضارهم والتقرب منهم وإرضاؤهم أثناء طقس العبور . وهذا الأخير يستلزم تهييئات معينة إيذانا بانتقال رهيب من مرحلة الفراجة إلى مرحلة الملوك حسب ما ورد في طقس "النكشة" رابع أجزاء العادة.

ومحاولة الربط بين هذه الطقوس ونصوص الكتاب القصصي كانت جد صعبة فلم نعثر في النصوص سوى على ألوان قليلة من قبيل " البرتقالي في نص صانع الجنازات يقول السارد واصفا مغيب الشمس "الصدفة عينها التي قادتني عند نهاية يوم بدأت شمسه تذوي تاركة وراءها نورا برتقاليا رهيفا" ص12 واللون الأسود الذي تحدد من خلال وصف السارد لبطل النص يقول "كان في العقد السابع من عمره ويرتدي معطفا مرتفع الطوق ونظارات شمسية وقبعة مستديرة الحواف جميعها تطنب في اللون الأسود الشامل" ص13 أما الأحمر فقد ورد عند وصف حذائه يقول "'"حذاؤه" الذي اعترته حمرة سافلة ص 13، أما اللون الأبيض فقد عثرنا عليه في نصين نص الشركة المغربية لنقل الأموات " يقول السارد في ص 19 " انبثق فجأة أمام بصري رجل بقفازات مطاطية بيضاء ووزرة بيضاء" ص20 وكذلك في نص اليوم الأول بعد الموت" ص25 "على امتداد النظر مقبرة شاسعة تنتشر على نفس الأراضي كانت تحتل حلمي وعلى طولها كان ثمة حصان أبيض" ص30 .

وإذا ما تمت العودة إلى دلالة الألوان في النصوص المرفقة للطقوس الكناوية سنلمس ما يلي:
اللون الأصفر: يستعمل في ثاني محطات الليلة الكناوية في مرحلة الملوك وهي محلة مفروضة لاستحضار نساء الجان.

اللون الأبيض: هي أولى محطات مرحلة الملوك ترافقها سبعة أصناف من البخور تنطلق بالنداء على كل من سيدنا بلال ومولاي عبد القادر الجيلالي.

اللون الأسود: وهي المرحلة السابعة والأخيرة من الليلة الكناوية يستخدم فيها اللون الأسود وهي أخطر لحظات "الليلة" حيث يفقد فيها الممسوس وعيه لعدة دقائق وكل خطأ في الإيقاع قد يؤدي إلى وفاته المفاجئة " ص 64  هذا المراحل تنطبق على مص مونتاج خشن بين إيقاعات الألوان والحالات والموسيقى ويمضي وفق خط تصاعدي كما هو الأمر في محطات الليالي الكناوية لندرك أن التوظيف تم من خلال الكشف عن حالة سفر سواء في الذاكرة أو من خلال الإحساس بحلول ذاكرة أخرى في ذاكرة السارد وهو نوع من استحضار أرواح أخرى وبلوغ الذروة "المحفة السابعة" التي يفقد فيها البطل إدراكه لأحاسيسه وكون صلاحيته قد انتهت وقرب أجل التخلص منه كما لاحظنا حضور ألوان بدلالة أخرى كالأصفر "العيالات" فتيح الرحبة، أولاد الغابة "الوردي" والشرفاء "الأخضر" والبحراويين "الأزرق" وسيدي حمو "الأحمر" والحنش "الأسود" . كما أن المزج بين الرقصات والألوان والموسيقى والأهازيج والبخور هي ما يحدد تراتبية الطقوس الكناوية التي تتخللها ممارسات متعددة لها جذورها الثقافية العريقة تؤثثها حركات الجسد باعتبارها حركات تعبيرية وطقوس للعبور بالراقص من مرحلة الوعي إلى مرحلة اللاوعي . إن هذه المسافة بالذات هي التي هدفت نصوص هذا الكتاب القصصي من خلالها التحقق في فضاءاته اللامرئية وهي تعلن عن محاولتها لاختراق مفاهيم مألوفة حول الموت والأشباح والحياة بعد الموت، والحلول، والتطابق، والاستنساخ، والعوالم الأخرى بكتابة غير مألوفة لا تطمئن للسائد وتكسر مفاهيم سابقة بإحلال أخرى لأنه في حضرة التجريب لا وجود لمكان حقيقي أو واقعي فالنص مجرد وسيط بين الكتاب والمتلقي لكون الفعل التخييلي حسب كودمان و أنساقه تنتج علاقات داخل النص وتركيبها هو ما يبرز الواقع المستمد من التخييل أو حسب بلنسر " لا يمكن للنسبي أن يكون ذاته إلا من خلال ذاته.

 

هوامش:
1" أنيس الرافعي الشركة المغربية لنقل الأموات كتاب قصصي منشورات اتحاد كتاب المغرب 2011
2" عبد الحق ميفراني الشركة المغربية لنقل الأموات".. رهان على التجريب والأسئلة المقلقة "جريدة المساء 28 سبتمبر 2011 عدد1558
3"أحمد بوزفور "التجريب تجربة شخصية" تحولات القصة الحديثة بالمغرب ص 147 مختبر الدراسات حول القصة والتجرجمة منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب 2010
4" أنيس الرافعي" التجريب القصصي دليل استعمال شخصي "ص 158
5" د. مصطفى الحناوي في دراسة معنونة ب "بحثا عن الهوائيات غير المرئية " "ثقل الفراشة على سطح الجرس" ص 103 .
6" د. محمد رمصيص "أسلوبية الحكي في قصص أنيس الرافعي مجموعة البرشمان نموذجا" أسئلة القصة القصيرة جدا بالمغرب مقاربات موضوعاتية ص 69/73
7" فولفانغ إيرز التخييلي والخيالي من منظور الأنتروبولوجية الأدبية ترجمة د حميد لحميداني ود الجيلالي الكدية ص5 مطبعة النجاح الجديدة البيضاء 1998
8" فولفانغ إيزر ص 104
9" د مصطفى حجازي التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور اص 245 المركز الثقافي العربي الطبعة الثامنة 2001
10" الناقد محمد يوب الفنتازية والعجائبية في القصة المغربية المعاصرة " الشركة المغربية لنقل الأموات نوذجا الاتحاد الاشتراكي ليوم 22/06/2011
11" حول الكتابة التجريبية موقف القاص أنيس الرافعي، مقتطف من حوار أجراه معه محمد الأصفر من قناة الجزيرة بتاريخ 19/9/2011
12" عبد الحق ميفراني
13" فولفانغ إيزر ص 99
14" وهو ما يصطلح عليه في مجال الأنطروبولوجية الأدبية حسب كولدمان " الواقع المستمد من التخييل وحقيقة النص هذه تصنعها العملية العلائقية من خلال تحديد العناصر التي تركبها وكذا من خلال التعامل المتبادل بين تلك العناصر من خلال التركيب " فولفانغ إيزر ص 16
15" فولفانغ إيزر ص 105
16" فولفانغ إيزر ص 106
17" مصطفى جباري " الأدب الفنتاستيكي حوار مع خورخي لويس بورخيس أجرته : ريتا إستر فاسكيز ص 145 مصطفى الجباري وعبد المجيد جحفة في نظرية القصة مقالات مترجمة مجموعة البحث في القصة بالمغرب منشورات المختبر 2011
18" د مصطفى حجازي ص 241
19" فولفانغ إيزر " ترجمة د حميد لحميداني 101 مرجع مذكور سابقا
20" د مصطفى حجازي ص 249
21" فولفانغ إيزر ص 10
22" ذ محمد اشويكة المفارقة القصصية ص 41/ 55 منشورات سعد الورزازي الطبعة الأولى 2007.
°°وطن بحجم غرفة وهو عنوان رواية المبدع "محمد البوزيدي"حاولت رصد المخاضات الصعبة للمجتمع المغربي "