من خلال سرد انطباعاته الشخصية الأقرب الى القراءة العاشقة، نتلمس جزءا من ملامح العمل الإبداعي الجديد للكاتبة الجزائرية المرموقة، حيث يلتحم في عمل واحد تيمتي الحرب والحب لينسجا معا عوالم رواية تفتح الكثير أمام فسحة القراءة.

أحلام مستغانمي تكتب للحرب والحب معا

فرّاس حج محمد

لم يحدث أن تربكنا الكتب التي نقرأها أو تستفزنا، فكيف بها إذا جعلتنا نبكي، ونشعر بألم ما نعاني، وتفتح جروحنا فيصبح لها أصواتا تشيعنا إلى مثوانا الأخير؟ هذه هي رواية أحلام مستغانمي الأخيرة، "الأسود يليقِ بكِ"، رواية الفجيعة والموت، ولكنها أيضا رواية الحب والحياة والأمل والتجدد، رواية طائر الفنيق الذي يعاود حياته بعد رماد!!

يخيل إلي وأنا أقرأ في رواية "الأسود يليقِ بكِ" أنني أطالع سيرة الحياة بكل عنفواناتها وانكساراتها ليس على المستوى الفردي فقط، بل على المستوى الجماعي، فقد كانت الرواية معمارا فنيا جمع الحب والحياة في كفة ميزان متحدية ألم الموت والفراق والقتل والإرهاب الفكري والسياسي وأوهام العجرفة الدكتاتورية النابعة من أقبية الموت حيث هم رجال الأمن العاطفي والسياسي، فكان كل ذلك في الكفة الأخرى للميزان، لترجح كفة الحياة والحب والأمل والتسامي على كل الجروح والمآسي، حتى أفدحها خسارة.

رواية مشبعة بالتفاصيل العاطفية بين امرأة ورجل، امرأة بسيطة جزائرية أنهك قلبها الحزن على والدها وأخيها، ففقدتهما جراء إرهاب الفكر الذي لم يرحم أحدا في بلادها، وأضناها حزن فراق رجل اجتاح هدوءها ورزانتها، وتتبعها بطقوس مفاجآته ليحظى بالنوم معها في سرير واحد في باريس أو فيينا أو أية مدينة حلّ بها، فانتصرت عليه بكبريائها واحتفاظها بأناقة شرفها، لأنها استطاعت بما أودعتها الجزائر من فلسفة الحياة أن تكشف الأسرار وتعرّي أقنعة الآخرين الموهومين والمرضى النفسيين المتغطرسين، الذين ما زالوا يعيشون بنفَس شهريار العظيم الذي يريد كل النساء بمتعة عابرة، يستدرجهن ليكتب على أجسادهن مغامراته في اتصالات الجسد الخاوية من متعة اللقاءات الحارة العاطفية التي تغازل فيها الروح الروح، امرأة تنتصر على جيب الثراء، وتنعش نفسها بالموسيقى، لتغني في حفل عالمي في ميونيخ نصرة لشعب العراق واللاجئين العراقيين، إنها امرأة حديدية على الرغم من أنها أنثى كاملة في شهوتها وضعفها الإنساني الحكيم، امرأة هي كما وصفتها الرواية نصفها رجل في قوتها وتحديها وإصرارها على الانتصار في معاركها لتربح ذاتها، إنها هالة الوافي تلك البسيطة معلمة اللغة العربية بأجر زهيد، التي وُهبت حنجرة ذهبية تصدح بها مغنية للإنسانية، فهل من كانت بمثل هالة الوافي يمكن لرجل مثل طلال هاشم أن يهزمها!!

لقد كان هذا الرجل مسكونا بعظمته وجبروته، لحد أن يتخيل نفسه إلها، لا ينكسر ولا يخسر أي معركة، لتكشف لنا الرواية عن مدى ضعفه وهشاشته، لقد هزمته المرأة مرارا، منذ بداية حياته، وقد تخلت عنه أول امرأة أحبها عندما توجه للبرازيل، وبعد عودته وجدها قد فارقته وتزوجت غيره، فيقرر الانتقام منها بالنجاح في أعماله الحرة، فيغدو رجلا عظيم الثراء والمال، يظن بما أوتي من قوة المال أنه قادر على استدراج كل أنثى، مع أنه لا يحبّ المرأة المستسلمة التي تأتيه سهلة، ولا تلك المرأة التي تحبه لجيبه شغوفة بسطوة ما يمتع به من ثراء فاحش.

ولكنه بالمقابل رجل يمتلك حسا إنسانيا مرهفا، يحب الموسيقى العالمية ويستمع إليها بشغف، ومسكون بروح العظماء من المفكرين عربا وغير عرب، رجل رصين هادئ رزين، يحب الحياة والاستمتاع بها، إنه يصوغ الحياة كقصيدة شعر باذخة، سخّر ثروته ليدلل نفسه ولا يحرمها من أي متعة تمناها، رجل لم تتعبه أوهام الشهادات الكبرى، والسعي لها، فهو لم يكن يحمل أي شهادة جامعية، سوى شهادة كبرى من مدرسة الحياة، كما كان يحلو له أن يقول، رجل ذكي يتصرف ببرجوازية أنيقة، محافظ على سمعته وشهرته وهدوء بيته التي تنتظره فيه زوجةٌ محبة وابنتان، رجل ما زال يحن، على الرغم من أسفاره وثقافته الحداثية، لثقافته القديمة الشرقية المتسربة في روحه، فيعبر عن أمنيته بإنجاب مولود ذكر يحمل اسمه، ولكنه لم يستطيع تحقيق حلمه هذا، رغبة منه في المحافظة على أهم ركن في حياته، بيتِه وزوجتِه وابنتيه، رجل هزمته الأماني والأحلام والتوقعات، وجرحه الحب، وتركه يجترّ خسارته، فكيف هزمته امرأة مثل هالة الوافي؟ يا لها من خسارة يا طلال هاشم! وأنت الرجل الذي لم يعرف الخسارة يوما!

تتشابك مع هذه الحكاية، حكاية هالة وطلال وهي سر الرواية، تنوعات أخرى على وتر الحياة العربية المفتتة بالصراعات، فتفرد الرواية مساحات للحديث عن أوضاع الجزائر في عشرية الدم والموت، عشرية الإرهاب والإرهاب المضاد، عشرية اغتيال الحياة والحب والفرح والسكينة، عشرية تفتت الأحلام، عشرية سقوط الوطن، عشرية الحلم من أن أجل أن يعيش الإنسان في وطن يموت من أجله وليس وطنا يموت على يديه.

عشرية الموت التي أودت بالجزائر وبشباب الجزائر إما في السجون والمعتقلات ومحاسبة النظام للناس على الشبهة، وإما في الجبال حيث الجماعات المحاربة للدولة تغتال الدولة والناس والفرح، تغتال الشباب إما بقتلهم وإما بتجنيدهم، جماعات مارست فقه الموت وصناعته، وكانت تعده على عجل ليكون صارما قويا.

عشرية من الدم تركت الناس جرحى في الحب والأمل، وخلّفت في كل بيت من الحزن ما يكفيه، بيت توشى الناس فيه بالأسود ليليق بحدادهم وحزنهم وفجائعهم على من فقدوهم موتا أو تشردا أو في المعتقلات حيث التعذيب وإهانة الكرامة، عشرية قاتلة وجارحة ومدمرة، يخرج الناس منها لم يربحوا إلا مزيدا من الفقدان والألم!!

ومن آلام الجزائر وأمراضها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية نبشت أحلام مستغانمي قضية الهجرة إلى الضفة الأخرى حيث الحياة المنتظَرة بعيداً عن الموت، وما جرّه ذلك من مآسٍ على الشباب وفقدانهم، وتشردهم وموتهم وقد ابتلعهم البحر، أو انتهوا في السجون محتجزين محبطين ثكالى بأحلامهم التي لم تتحقق.

وليس هذا وحسب بل تعرضت الرواية لمأساة العراق وشعب العراق، بلد المليون نخلة، لتغدو بلد المليون قتيل، وملايين اللاجئين الموزعين هنا وهناك، بلد ربح فيه الفاسدون ففرخت المأساة مليون منتفع من حروب الدمار القاتل، بلد استسلمت فيه الحياة للمحتل ليتركها فريسة لأتابعه والمتاجرين بوطن كامل مفتوح على الخراب والدمار.

لقد تشبعت الرواية بالعاطفة، كما تشبعت بالموت، وتشبعت بالحياة، قدر تشبعها بالألم، رواية طافحة بالأسود، لأنه يليق بنا جميعا، ليغدو العنوان ثيمة أساسية لفلسفة خاصة بنيت عليها الرواية، فلعلك تظن لأول وهلة أن الأسود ملمح جمال للأنثى، مستفيدا مما قاله الشاعر القديم: "قل للمليحة في الخمار الأسود"، وإنه لكذلك أحيانا، ولكنه أيضا لا يفارقنا في دلالته على الحزن، ولذلك فإن هالة الوافي قد غيرته، واستبدلت به اللون اللازوردي عندما صدحت حنجرتها في الغناء للعراق في ميونيخ، فصدحت بحنجرتها الذهبية وهي ترتدي ثوبها بلون جديد، فارتدت بذلك لون العصيان والتمرد على انكساراتها كافة، لتودع حزنها القديم وتبدأ حياة أخرى مليئة بالنجاح والاستعداد للحياة على الرغم من أن الحياة تحيطنا بأسودها من كل ناحية، فلنقهرها بالحب والعيش من أجل العيش لأهدافنا الكبرى والصغرى وأشيائنا الصغيرة الحميمية، فهذه هي فرصتنا!! فلا مفرّ لنا من صنع بهجتها كما يحلو لنا.    

رواية لم أقل كل ما ينبغي قوله فيها، فلعلني أحاورها في نصوص أو مقالات قادمة، فقد مسّت شغاف قلبي بما تلبّس به من ألم في الحب والحياة والأمل، ولكنني لم أكن طلال هاشم، ومن أعني بالتأكيد ليست هي هالة الوافي، ولكن فلنقرأ الرواية بعين أخرى لنعدل بعض التفاصيل لتناسب حياتنا، ونعيد ترتيب أحداثها لتناسبنا، إنها إذن روايتي أنا من حيث لا أدري ورواية من انتظرتها زمنا لتكون "عصري الذهبي دون منازع"، لقد أعطتني الرواية أمل أن أعيش بعيدا عن الأسود الذي أراه يليق بنا جميعا، ولكنْ لا يليق بها إلا الجمال والدلال والرضا وتحقيق الأحلام اللازوردية، لأنها هي صانعة أحلام قلبي وسيدة روحي، فكل رواية وهي الأجمل، وكل رواية والحب والحياة بألف خير!!