الرسيس والمخاتلة

عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان صدر للدكتور الأردني رامي أبو شهاب كتاب الرّسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر (النظرية والتطبيق)، ويقع في 288 صفحة من القطع الكبير. يبحث الفصل الأول في خطاب ما بعد الكولونيالية اصطلاحا ومفهوما، فضلاً عن الأسس المعرفية، والتأصيل النظري لاسيما لدى مؤسس الخطاب الناقد الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، بالتجاور مع أشهر منظري الخطاب، ومنهم هومي بابا، وجاياتري سبيفاك، وبيل أشكروفت وغيرهم. بينما يعرض الكتاب في فصله الثاني للخطاب في النقد العربي المعاصر، وتحديدا لدى أبرز النقاد العرب الذين اشتغلوا به من حيث التقديم النظري، والتأصيل، بالإضافة إلى تعالق الخطاب مع عدد من الاتجاهات النقدية الفكرية المعاصرة. وفي الفصل الثالث يتوصل الناقد رامي أبو شهاب إلى الاستراتيجيات والآليات التي تم توظيفها في دراسة الخطاب، ومن أهم تلك الاستراتيجيات: استدعاء الآخر، والاستقراء السردي، وقراءات في تجارب مشابهة، والاخضاع الثقافي خطابيا، في حين تمثلت الآليات بالقراءة التقابلية، وتفكيك خطاب الهيمنة، وتحليل مستويات التمثيل، وأخيرا مقاربة اللغة وتكوينها المقاوم. ونقرأ مما جاء في الكتاب "  يشهد النقد العربي عددا من التحولات، لاسيما في ظل هيمنة المناهج والاتجاهات اللغوية، وتحديدا المنهج البنيوي الذي شكل حالة ثورية للتعاطي النقدي مع النص، فارضاً شبه انعزال عن الفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي المحيط، مما استدعى ظهور بدائل جديدة للتعاطي مع النص الأدبي، والخروج من الإطار اللغوي المنغلق للبحث عن أنساق جديدة، تتولد من قراءة النص الأدبي -خاصة في زمننا المعاصر- الذي يشهد صراعات حضارية وثقافية تتمحور حول مفهوم الذات، والهوية والآخر؛ ونتيجة لذلك ظهرت اتجاهات نقدية جديدة، إذ بدأنا نلحظ مسميات لمناهج واتجاهات منها: النقد الثقافي، والتاريخانية الجديدة، والماركسية الجديدة، والنقد النسوي، بالإضافة إلى خطاب ما بعد الكولونيالية. والأخير تصاعدت أهميته بعد أن قام الناقد الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد بنشر كتابه "الاستشراق" مشكلا اتجاها جديدا لقراءة النص ثقافيا بالاعتماد على استراتيجيتي التمثيل والحفر المعرفي اللتين تعدان من أبرز دعائم هذا الخطاب.

شكل الاستعمار إشكالية لدى الشعوب المستعمَرة مسببا ردة فعل لدى مثقفيها، مما دفعهم إلى تشكيل صورة حقيقية عنه عبر تحليل الخطاب المنتج من قبل المستعمِر، لاسيما الخطاب الأدبي الذي تم إخضاعه إلى التحليل عبر اتجاهات واستراتيجيات نصوص عملت على رسم صورة الشعوب المستعمَرة في آداب المستعمِر بهدف توفير مبررات للاستعمار من خلال بناء صورة استخباراتية متخيلة، أو مغلوطة للشعوب والأمم، تمهيدا لتسهيل عملية الاستعمار، وفي مواجهة ما سبق، نشأ خطاب آخر عمل على نقض الاستعمار، وكشف آلياته واستراتيجياته اتكاء على نص مضاد ومقاوم.

هذان الاتجاهان المنتجان شكلا ما يمكن ما نطلق عليه خطاب ما بعد الكولونيالية Post colonialism Discourse إذ توجه نحو الأثر الذي أحدثه الاستعمار على الشعوب والدول المستعمَرة، ومن عناصره الهامة الخطاب الكولونيالي الممارس لدور الإقصاء والتهميش لثقافات الأطراف مقابل ثقافة المركز، ونعني بها مركزية الثقافة الأوروبية – الأميركية التي عملت دوما على وضع ثقافتها ولغتها في المقام الأول ضمن استراتيجية الهيمنة وإقصاء الآخر. 

يعد حلول الاستعمار في المنطقة العربية التي عانت من تواجده على أرضها لسنوات طويلة دافعاً للبحث في خطابه، بهدف نقضه عبر نص مضاد، لاسيما على المستوى الأدبي، وهذا يتأتى من قدرة النصوص الأدبية على تمثيل الواقع بكافة أشكاله- أثناء وبعد الاستعمار- و بناء على ذلك استعان الناقد العربي بنظرية خطاب ما بعد الكولونيالية، ونتيجة لذلك أصبح النقد العربي معنيّا بهذا الخطاب، مما استدعى العناية به من حيث البحث في أسسه المعرفية والفلسفية، أضف إلى ذلك منهجيته وآلياته النقدية، وهذا بدوره يسهم بإثراء المشهد النقدي العربي، ومن هنا انبثقت الحاجة لهذه لدراسة التي تحاول البحث في خطاب ما بعد الكولونيالية  واستقباله في النقد العربي المعاصر؛ نظريا وتطبيقياً، فضلا عن  تعالقه مع مقولات واتجاهات، لعل أبرزها الاستشراق، والنقد الماركسي، والنقد النسوي في قضايا منها: التمثيل الأدبي، والعنصرية العرقية، والهجنة، والتحليل النفسي، والهوية، والمقاومة، واللغة. وهكذا تبلورت فكرة هذه الدراسة لقراءة الواقع النقدي العربي المعاصر، وملاحظة مقدار وقيمة تداخله في النشاط النقدي ضمن خطاب ما بعد الكولونيالية.