مسرحية "شظايا طين ــ جلجامش" من كتابة واخراج الفنان طارق الرياحي يمكن وصفها بـالملحمة التاريخية والفنية التي تستعيد شخصية جلجامش ـ ابرز شخصية في الحضارة السومرية والبابلية القديمة ـ وتنطلق منها لتبني عالماً يتداخل فيه التاريخ بمعالمه الواقعية وارثه الادبي والفني الذي يتعدى تخوم المخيلة ليبلغ مرتبة جمالية عالية. إنها ملحمة تنصهر فيها كل أنواع الفنون من رقص وأداء مسرحي وموسيقى وغناء وسينوغرافيا وإضاءة ومؤثرات بصرية. وقد نجحت فعلاً فرقة "الفينيق" المستقلة في رهانها على العمل الضخم الذي قدّم صورة عالمية للمسرح العربي.
انطلق طارق الرياحي بغية خلق عالم بكامله وليس عرضاً مسرحياً فقط، عرض تتوالى فصوله توالياً تراجيديا يجمع احداثه خيط درامي متين يصنعه الجسد الراقص والأداء الشاعري والحركة المتفجرة. كان نفس الخيط الذي تزرعه شخصية الحياة فوق شجرة القدر لتقتطعه شخصية الموت في صراعهما الازلي .هكذا يبصر المشاهد شجرة مثقلة بخيطان بيضاء ورمالا بحرية تضيء حافتها شموع تحوط بشخصيات المسرحية في ادائها لصراع بين الرغبة في الحياة والخوف من الغد، بين الحب والانتقام ؛ اذ تحتم اللعنة على جلجامش التخلي عن الحب والحلم فيعرض عن عشتار قديسة المعبد التي ترد الاهانة بقتل انكيدو الاخ الاصغر ووريث العرش الوحيد وامل جلجامش بانقطاع اللعنة عن مملكة اوروك من بعده. صراع تقتسمه الشخصيات مع الجمهور الذي ابهرته دقة الاداء ودقة اللغة الشاعرية.
أما الكوريغرافيا أو تصميم الرقصات فعهد بها الى الكوريغراف المتألقة دوما فائزة الطلباوي وقد انطلقت من روح العمل المسرحي وجوّه وإرثه الكبير بأبجدية خاصة فصاغت اللوحات الراقصة بعين شاعرية مرهفة وإحساس جمالي مضافاً اليهما الوعي الصارم بفن الرقص. وكان على هذه اللوحات أن تتعدد وتختلف وتتناغم أو تتآلف في وقت واحد: لوحات هاذية بجماليتها وحركيتها وديناميتها، يصنعها الممثلان طارق الرياحي ولبنى التازروطي بتمكنهما من تقنيات الرقص الى جانب التمثيل. وقد أضفت عليهما الملابس والأزياء المشتعلة ألواناً بهيجة وزخارف ومنمنمات أبعاداً جمالية وروحية فصار الجمهور معايشا للرقصات ومشاطرا للمواقف الدرامية
ولعل اللوحة الأخيرة، لوحة الختام، كانت فعلاً الأشد ابهاراً. إنها لوحة الفنون كلها، شرقية وغربية، تراثية وحديثة، وقد حضر العالم كله فيها، موسيقى ورقصاً وسينوغرافيا وإضاءة ومناخاً. وبدا الجمهور حائراً الى أي جهة ينظر بل الى أي لوحة أو رقصة أو شكل بصري، فاللوحة الختامية بدت كأنها ملحمية من شدة ما ضمّت من عناصر وإيقاعات ورقصات، حيث تكشف عشتار عن غطرستها وشدة انتقامها لكرامتها كامرأة حتى ان تكلف ذلك موت حبيبها جلجامش الذي صار هشيم رجل حطمه خوفه من الموت فتنتزع منه تفاحة القدر عند بزوغ الفجر وتتلذذ بموته وبالتفاحة التي تودي بحياتها. وهكذا تسقط الشخصيات الاسطورية كاي شخصيات بشرية نزعت منها الروح لتنطلق من جديد لعبة الحياة والموت الازلية حول الشجرة وحول الخيطان.
يصعب فعلاً اختصار جماليات مسرحية "شظايا طين ــ جلجامش" ، هذا العرض الذي جمع أكثر من حقل فني مختلف اكد لنا ولادة وجوه جديدة في سماء الفن المغربي والعربي.