مثنى العنوان تناطرة ثنائية البنية السردية التي تعتمد على التجاور والتفاعل: بين المكتوب والمسكوت عنه، بين السردي والشعري، بين رؤى أبوية تقليدية وتصور نسوي مغاير، في قصة الكاتب المغربي الذي يسعى عبرها لكتابته مدينة طنجة، بطريقة مغايرة تتفجر فيها الدلالات من خلال موضعة منظور الطفل في بؤرة الحكي، وعرض رؤى السرد الناضجة عليها على الدوام

خطيئتان

عبد اللطيف الإدريسي

رجعت في ساعة متأخرة من الليل. كان الجودافئا. نسيم عليل يتسلل من الأطلسي والمتوسط يحمل رائحة البحرين اللطيفة والعطرة ..السماء وَشَمَتْها نجوم متفاوتة النَضْرة واللمعان، في أماكن عدّة من جسدها، وكانالقمر قد جنح إلى إحدى فضاءاتها وأصبح أكثر بعدا معلنا أن الليل قد انتصف منذ مدّة.. حملقت فيه طويلا .. وعيناي مفتوحتان تُنافسان نَضارة النجوم وكبرياء القمر.حلمت أشياء حدثت منذ آلاف السنين، كأن تتزوّج بلقيس مني.

جلّ أهل حينا وقعوا ضحايا لمفاتن "مورفي".

ارتجّ الفضاء بصوت مذياع ناء منبعث من أحدالسطوح .. صوت ملائكي قهر الليل الذي كان قد أطبق على كلّ الأرجاء بصمته. اعتمرالمكان به وأصبح أكثر لمعانا:

أهلالهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم              واتجمعوايا ليل صحبه وأنا معهم

يطولوك يا  ليل  من  اللي  بيهم              وانت يا ليل بس  اللي عالم بيهم

زقاقنا خال من البشر .. إلا من بعضالقطط التي كانت تبحث في القمامة المطروحة على الرصيف عن أكل غير مضمون. ضحكت ..ماذا عساها تجد في هذه القمامات المتراكمة؟ ربمّا فتات خبز يابس .. لا .. الخبزاليابس تجمعه ربّات المنازل ويتركنه جانبا للمتسولين الذين يُبكّرون بدورتهم خوفامن أن يقوم منافسوهم بكَبْسة، وينشلون ما تبقى منه. اللحم قليل في هذه الأزقة ..ربّما إذا صادفها الحظّ عثرت قططنا على بعض حَسَكات السمك .. وليس أي سمك ..السردين على وجه الخصوص، لأنه أرخص الأسماك وموجود بوفرة (أمّا البلم أي"الشطون" باللغة المحليّة فلم يكن للقطط حظّ فيه لأن أهل البلد يطحنونهبحسكته). قططنا تشخيص للواقع المرّ في حيّنا .. هزيلة، نحيفة، بها سَماجَة، سريعةالغضب، مواؤها من أنكر الأصوات، وتتوالد بسرعة فائقة .. فعندما لا تجد ما تملأ بهبطونها، تمارس الجنس وتكثر الهِرَرة .. رأيتها مرارا تلْحَس قُلافَة الخضر وقشورالبطيخ بلونيه الأحمر والأصفر. إلا في فصل الصيف حيث تكثر فيه حفلات الزفاف وكلأنواع الحفلات الأخرى. حتى لكي نهزأ من أنفسننا بسبب كثرة الأفراح والولائموالمسرات، كنا نسمي أنفسنا: شعب الغيطة والطبل. كان الفرح يغمرها .. لأننابإفقارنا للمفهوم نُغْني الماصدق. ففي كثرة الحفلات كثرة الولائم، إذ تصيرالقمامات منتفخة بكل أنواع نفايات الأكلات، "بسطيلة" بجميع تشكيلاتها،لحم بقر، دجاج محشو، شظايا خرفان مشوية، وأسماك على أنواعها.

خطفتْ عيناي قطّا هرما فوق جدار يتأملالهررة وهم يقلبون بقايا قمامة هزيلة رأسا على عقب. خاطبهم شيخ الهررة الهرم: ألمأنبهكم مرارا .. ألم أقل لكم في الصيف ادّخروا .. ادّخروا .. ادّخروا! إن فيالادخار فائدة .. والآن خذوا العبرة من السلاحف وتدرّبوا على الإسبات*1*

الصوت الملائكي لازال يقتحم هذا الفضاءالمملوء بالهزيمة وكأنه يواسيه:

فيهمكسير القلب والمتألم             واللي كتمشكواه ولم يتكلّم

فتحت الباب الخلفي لمنزلنا الجديد ..بقايا فيلا كانت جميلة .. بناها المقيم العام البلجيكي في وقت كانت المدينة تزخربنظامها الدولي .. اشتراها منه بعد ذلك بسنوات أحد أعيان المدينة، وقسم الأراضيالمحيطة بها أطرافا باعها تجزئة جاهزة لبناء جديد. نتجت عنها أحياء مقننة فيمتاهات متقاطعة، اكتظت بالبشر والقطط والفئران. اشترى أبي ما تبقى من الخردة عندماتحسّنت حاله. كان لنا كلب صغير اسمه "فاكس". غريب .. إن أبي لم يكن يحبالقطط، كان يحب الكلاب كثيرا .. كان دائما يسأل إخوتي إن كانوا أطعموا"فاكس" أم لا .. تحسسني "فاكس"، طلبت منه ألا ينبح ..لم ينبح "فاكس" .. تسرّبت من الباب الخلفي .. توجهت إلى سريري. عبارة عنمُضَرَّبَة من بين المُضَرّبات التي تتمدّد طول الصالة يتوسطها طيفور[1]كبير .. نفس الديكور الذي نجده في كل صالات منازل مدينتنا. كانت أمي قد دثرت إحدىالمضرّبات بلحاف وبطانية .. توسطتهما متأهبا للنوم .. خالجتني بعض الأفكار ..تقلّبت في فراشي .. استرجعت يومي بما فيه من أشياء مفرحة ومؤسفة. أتذكر أني حلمتوعيناي مفتوحتان بأشياء "ربّما" لن تتحقق أبدا. كالزواج من كيلوباترا.بدأ النوم يداعب جفوني .. ثقلت مقلتاي، أصبح تنفسي منضبطا على إيقاع سرعة الطائراتوالبواخر وهي محلقة كل منها في بحارها. بدأت "مورفي" تداعبني.

صاح أبي مكرّشا جبهته:

ـ سأقتلها .. الملعونة .. سأنحرها ..لقد لطخت شرفي .. لقد أصبحت عرضة لكلام اللي يسوى واللي ما يسواش. أين السكين ..هاتوني بالسكين .. سأنحرها حيّة.

ـ استرنا يا الحاجّ .. هذا العار أضعهتحت قدميك استرنا .. قالت أمي.

ـ أنت هي السبب أيتها الوغدة .. منعلّمهن الخروج والدخول بغير إذن. أنا دائما خارج المنزل .. أسافر .. وعندما أعودماذا أجد .. حدثت مؤامرة في البيت .. ثورة .. تهرقون ماء وجهي .. أنت هي المسؤولةعن كل ما حدث وما يحدث وما سيحدث .. أين السكين؟

إخوتي ملتصقون بأهداب أمّي .. يصيحون ..أختي تولول في أحد أركان الغرفة .. أبي كثور فحل يحاول أن يشقّ طريقه بينهم .. أنيخترق الثوب الأحمر .. أمي تتصدى له .. ك"ماطادور"، عزلاء لا سيف ولاخرقة حمراء. تعرقل كرّه .. يتراجع إلى الوراء، بأوداج منتفخة يعيد الصياح:

ـ شرفي .. أين أضع شرفي؟ ماذا أقوللأصدقائي وكل معارفي؟ أين السكين؟ أعطوني الخُذمي*2*..

ـ هذا العار يا حاجّ، غيّر هذه الساعةبأخرى .. قالت أمي. وفي نفسها أضافت: غلبوك الرجال في السوق، وعدت للنساء فيالبيت.

- سأذبحها .. سأنحيها من الدنيا ..الفاجرة .. العاهرة .. لكن أنت هي السبب .. أنت يا خشبة جهنم.

كانت أمي تريد أن تقول له أشياء كثيرة ..كانت تريد أن تقول له مثلا، هي التي لم تقرأ الشعر أبدا:

"حضورك وغيابك

سيّان ...

أنت في دوام آفل

يفيض عنك سديم كثيف

عندما تعود من سفراتك

لستَ بنا هشّا بشّا

سفرات لا علم لنا بها

إلا ما علّمتنا

بدلاتك

الوسخة

تمجّ روائح أخريات

ممزوجة بعرقك ..

ترمي بها في سلّة الغسيل

وفي سلّة المهملات ترمينا

تمزّقنا ..

تفركنا بأصابعك الفولاذية

ونحن زجاج هشّ

تكسّر حتى الزجاج

كلّما عبرتنا

كمحطة

تطأ بقدميك

لحظة توقفك

ذهابا وإيابا

ما تبقّى من رماد الزجاج

تسأل عن نفسك

بنفسك

لنفسك:

سأل عنّي أحد

اتّصل بي أحد..

كلّمني أحد..

.........

أما نحن،

كالرماد نثرته أرياحك الموسمية

صرنا كما كنّا

لا أحد."

عبرت أذناي الصخبَ الذي ملأ كل أرجاءالمنزل باحثة كالرادار عن أصوات أخرى تهدهدني لعلني أجد لي نصيبا في النوم ..  كان صوت مذياع السطوح لازال يردد:

يشكواولا مخلوق سمع شكواهم                إلاالكواكب في السما سمعاهم

فتحت عيني على صوت أمي وهي تهزّ ذراعيالأيمن:

ـ انهض، لقد تنفس الصبح .. ستتأخر عنموعد المدرسة .. لقد ذهب عنك الوقت ولن تجد المركوب.

نظرت إليها بنظرة غريبة.

حدّقت في وهي تلوي رأسها قليلا جهةاليسار مُكمّشة عينها اليسرى كعادتها، عندما تريد أن تعبر عن اندهاشها:

ـ لماذا تنظر إلي هكذا؟ قالت.

سألتها بصوت مهتزّ:

ـ كيف هي أختي؟

ـ أختك نائمة. لماذا؟

ـ ألم يذبحها أبي؟

ـ ....... !!

في مكان آخر ناء .. ووجه القمر كان قد بدأيشحب، ووشوم السماء تضمحل، كان أبي يغازل إحدى الفتيات في سيارته الجميلة، ويعرضعليها هدايا لم تسعد بها أمّي طول حياتها ...

منذ ذلك الوقت توقّفت عن الحلم ... أوربما لأنّني قررت وأد مناومي.

شروح:

·                    *1*الإسبات- فتور الحياة شتاء في النبات وبعض الحيوان والحشرات وأهل حيّنا.

- قال ثعلب: السبات: ابتداء النوم فيالرأس حتى يبلغ إلى القلب. ابن منظور.

·                    *2*الخدمي ـ كل شيء قاطع في لغة السياسة وعند أهل حيّنا وبالخصوص الرجال منهم.

ـ المخذم: السيف القاطع. ابن منظور.

بيزوس المحروسة ـ فرنسا



[1]مائدةمستديرة