(إلى محمد أقوضاض)
في أواخر الستينيات، اكتشفنا جزيرتنا الفاضلة المسماة "ظهر المهراز" بفاس العامرة. كانت هذه الأخيرة، في ذاكرتنا، بياضاً في بياض. بياض المرأة والرجل والقطط والكلاب والخير الوفير الذي يشع بلون حليبي مغر كشفت عنه الروائح الحريفة والفواكه العجائبية والأطعمة المغرية والأجساد المرفهة الرافلة في الملبس الأنيق المتوزع بين صفرة الذهب، وبياض الفضة للرجال، والمهفهف بألوانه المتراقصة وهي تطاوع الجسد الباذخ لنساء يسرن الهوينى بخطوات كالوسن، وبشرتهن المشرقة المشوبة بحمرة وردية تشع بالرغبة وحب الحياة. كانت فاس، في ذاكرتنا، مثل فطيرة الصباح الذائبة، كما قال الجاحظ. تذوب مثل الصمغ قبل المضغ. دخلناها دخول الفاتحين، فنحن أبناء الأقاصي لم نكن نعرف عن فاس إلا ما تردد على مسامعنا حول العلم والعلماء، حينا، ونطقهم الغريب لحرف القاف، حينا، وجعل الراء غينا، حينا، وتمطيط جمل عديدة، حيناً. وقبل أن ألتحق بفاس حضرت هذه الأخيرة، في أفواج النساء الزاحفات عصراً، وأنا قابع عند مدخل حانوت الوالد بالقيسارية العصرية بجلابيبهن المنزوعة القب، والتي قدت بالتمام والكمال على أجسامهن الممتلئة، والمناديل الحريرية المستوردة يوم ذاك من إيطاليا والصين تزيدهن بهاء، وصف الأزرار يشطر الجلباب الحاضن للجسم اللحيم شطرين متساويين عمودياً من الأعلى إلى الأسفل.. سنعرف لاحقاً دلالة القول بأن كل شيء في فاس: الماء والخضرة والوجه الحسن واللسان الذرب والطنافس المنتشرة في كل مكان والألوان الزاهية المنافسة لألوان قزح أو لعلها ألوان السواني الزاهية بالخوخ والسفرجل والعنب والرمان والتفاح البلدي بحجمه الصغير الشبيه بنهود الأبكار. وفاس هي "العكر الفاسي" السائل على حواف شظايا الخزف التي طاردتنا في الحلم واليقظة، فاختلط بالدم، أضحية وختاناً وزفافاً، حياة وموتا، بالرغبة والعجز، الألم واللذة.
دخلنا فاس، في تلك الصبيحة، نحمل حقيبتنا المحزومة بحبل من كتان، بالرغم من الدورات الثلاث السفر، في بطن قفلها الصغير الذي قد يخون، أما الحبل ففوائده لاتحصى. وكان القميص الخفيف وبنطال الدجين من عيار "بلو دولار" والصندل الجلدي السميك ورائحة البحر ودعوات الوالد وصدى أنفاس الأم الرتيبة التي كانت تنتظر هذه اللحظة بعد أن غادرتنا لثلاثة أشهر خلت، دون أن تغادر الوجدان والذاكرة. ذلك كل الزاد والعتاد.
وكان السؤال الأول، ونحن على مشارف ظهر المهراز، عن دلالة الإسم والمسمى. فالمكان لاعلاقة له بالمهاريس. وهو أقرب إلى الجنان، فكيف ينعت بالمهراس أوغيره من أدوات الخبط والدق والرفس، وهو الفضاء الحافل بالسقسقة وحفيف الشجر، وصدى تساقط الثمرات اليانعة على طوال الطريق الصاعد من الليدو، الشبيه بمدخل غوطة دمشق أعادها الله إلى الربيع العربي الدائم، نحو كمونة "ظهر المهراز" كما ستكشف عنها أيام التحاريق عند إعلان العصيان ضد كل أنواع العسف، بدءا بصحائف المطعم الجامعي، مروراً بكتاب المغني الذي لم تغن عنه سفسطته شيئاً، وصولاً إلى الجامعة االشعبية التي صدحت فيها أصوات من لا صوت لهم، وكانت جامعة للحلم والمحتمل والمستحيل في المأكل والملبس والمشرب والحرث والنسل، والسلم والحرب، وتنظيم السير إلى الحد الذي استأذنت فيها سيارات الأجرة القائمين على الداخل والخارج، والصادر والوارد، خوفاً من تسرب الغرباء وعملاء "الثورة المضادة".
كان السؤال، ونحن نتقدم، بخطوات مضطربة، نحو ظهر المهراز، الغريب على اللسان قبل العيان. كيف نقيم المهراس على قاعدته، عوض أن يظل فاغر الفم نحو السماء؟ تلك كانت بداية اكتشاف الديالكتيك. جئنا من الأقاصي هيجليين نسير على رؤوسنا، ودخلنا فاس لنسير على أقدامنا دون أن نفقد رؤوسنا. تلك ثمالة درس الفلسفة الذي رافقنا بعد أن تركنا المدينة وراء ظهورنا، دون أن نتنكر للدرس الأخير من المادية التاريخية بقسم الباكالوريا الوشم الذي لا يغيب.
ولم يقف الإسم والمسمى عند حدود المهراس والهاون، بل امتد إلى أسماء أهل الحاضرة، بعد أن تلقينا درساً بليغاً، في الإسم والمسمى، على يد أستاذ البلاغة الذى سأل عن أسمائنا فجاءت تباعاً، أقوضاض ومودن وأمزال وعتو. يومذاك سألنا عن كوكبنا الذي أتينا منه، وهو يغالب الإبتسام. وبدأ درس البلاغة البليغ، فقال: المؤذن من فصيلة الديكة. وأقوضاض لا يكون إلا للإنقضاض. فهو من الكواسر.. وأمزال من الرحل. وعتو من العتو. وأنهى بلغته -برفع الباء- بإصلاح قب جلابته المحببة رافعاً عقيرته وكأنه دلال محترف: هذا بلاد القاع والباع، وغيره يباع.آسيدي مولاي الشريف.
أما فاس التي في خاطري فهي "باب جياف" وأحواض الدباغين التي امتزجت حمرتها بدم ما تبقى من سلالة "ثورة الدباغين" المشتعلة دوماً في أرباض شارك فيه الذئب الإنسان في وجر يتسع لـ"الديدان التي تنحني" وغيرها من هوام الأرض التي سكنت "عقبة الفئران،" وأعشاش الزنابير وحفر الزواحف العاجزة عجزت عن معرفة لون السماء. أولئك هم أهلي مع سبق الإصرار. تلك هي جامعتنا، ولكم جامعتكم التي لا تزهر فيها إلا الأرضة في العقول قبل الأسفار، بعد أن أتخمت بالحواشي وحواشي الحواشي، وأصحابها يدورون ويدورون حول الإستنجاء والإستبراء، والإحتلام والإستيهام والعنة وموانع الإنتعاظ. تلك هي جامعتكم ولنا جامعتنا، ونحن نفتح نوافذها على متمردي كل الأزمنة: الشنفرى، وفي عرفكم هو مجرد صعلوك عاطل بـ"الموقف"، الذي قسم نفسه في نفوس كثيرة. دعبل وهو يحمل صليبه أكثر من أربعين عاماً. الحسين وهويرفع سيفه المثلوم أمام أبناء الطلقاء.غيفارا وهو يبصق في وجه جلاده، لحظة الإعدام، الذي عجز عن النظر إلى وجهه النبوي وهو يطلق طلقته الأخيرة. الزرقطوني وهو يرهف السمع إلى دبيب السم، دون أن تصدر عنه حركة أو نأمة. الراشدي يرفض العصابة السوداء، فسماء هذه الأرض لا تشبه السماوات الأخرى. سميحة الذي أسقطته الحسابات الضيقة من لائحة المتاجرين بدم الشهداء. المهدي بنبركة الذي عجزت عن تحديد قبره كتب الأطوال والعروض -بالرفع- والخطط ونشرات المساحين والطوبوغرافيين وعلماء الآثار والجيولوجيا وسجلات الوفيات العربي المهيدي، فرحات حشاد، عمر المختار، عبدالناصر، المهدي وعشرون ألف شهيد ضد اللورد كتشنر بالسودان. عدن وجنتها الضائعة بين أبناء الدم الواحد. لكم جامعتكم المتآكلة بالكلام المكرور، والبرودة النابعة من أفئدة متكلسة، وبصائر عمياء، قبل أن تعمى الأبصار. ولنا جامعتنا في الشوارع والأزقة والساحات المشتعلة بحب الحياة، والمشرعة النوافذ على الجهات الأربع، تستشرف كل الآفاق. في جامعتنا قرأنا معلقات ظهر المهراز لأحمد المجاطي، واستضافنا محمد برادة على مائدة أرنست فيشر، ولوكاتشو جولدمان، ومغربنا، نصاً وممارسة، غريب كامي أمام حسن المنيعي. وطرقنا أبواب حبش، وحواتمه، وبوعلي ياسين، وصادق جلال العظم، وأحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام، وعمر بنجلون، وحمامة، وعبداللطيف الدرقاوي، وثريا الشاوي، وإلياس مرقص، ومحمد الفيتوري، وألان كريفين، وماسبيرو، وساكووفانزيتي، وخوان بايز، والكتاب الأحمر، وصوفية تولستوي، و"سورة" -بتسكين الواو- ماياكوفسكي، ومواقف كمال عبدالجواد. قلنا: لكم جامعتكم ولنا جامعتنا. وعبدالكريم عند وصوله إلى قاهرة المعز، كان "الفلاح الفصيح" الذي لم يخش في قول الحق لومة لائم.
كل شيء في فاس.
هي كعب أخيل ودرع أجامنون.. سجاد بنيلوب وشراع أوليس.. باب الحرق، وباب الفتح. لم تسعفنا إلا لغة الريح التي رافقت الأمير، وهو يتقدم نحو باب الفتوح على فرسه الأبيض. وانتظرنا.. وطال الإنتظار.. لكن الجياد تعرف طريقها، والبيار التي ارتفعت فوق جبل زلاغ لاتخطئ صوت الصهيل.
تذكر يا صديقي تلك اللحظة، والأمير يتقدم، فوق جواده، بجلبابه القصير المنسوج من شغاف القلب، وضفائر الصبايا، ووصايا السلالة.عند البوابة رفع الأمير يده مودعاً، وعاد من حيث أتى، عاد إلى ذاكرة أجيال لن تفقد ذاكرتها، بعد أن ألغته المقررات المدرسية، والبرامج التعليمية، قرارات مجالس بلدية بليدة تفضل أن تسمي الأزقة والشوارع بأسماء المهربين وقطاع الطرق واللقطاء عوض إسم الأمير ومن تبعه بإحسان.
منذ تلك اللحظة قلنا: تلك جامعتهم، وهذه جامعتنا. الشارع لمن؟ من هنا نبدأ. نزلنا عبر منعرجات الليدو، صبيحة يونيو 67، واندلقنا بموازاة نهر الجواهر الذي لم يكن إلا إسماً من الأسماء الحسنى لنهر سبو العظيم، الذي لا يتنكر لعرق السواعد، أو دمع اليتامى والأيامى المسفوح على قنطرة اعتلاها شهداء الشهادة الإبتدائية رفضاً لامتحان يهان فيه المرء ثم يهان. والغريب أن القنطرة ستصبح قنيطرة ضاقت بالشهداء الذين يتناسلون كل وقت وحين. نهر الليدو لا يتوقف عن الهدير، وليذهب امتحان نهاية السنة إلى الجحيم. وبين الهدير والهدير، اتجهت كل الرؤوس نحو الأمام. كل الرؤوس.. راس أمغار، وشيشاح، وقطري بن الفجاءة، ودعبل الخزاعي، والشريف أمزيان، وأم حكيم التي ملت حمل رأسها وغسل شعرها ودهنه. فالرؤوس خلقت لغايتين: الرأي أو المقصلة.. فالحرب سجال.
صديقي العزيز:
كيف تحولت أرض الأنبياء إلى مرعى للطلقاء؟ العبرة عندهم بالعيرقبل النفير، ومع ذلك أزهرت بنادق عبد الكريم أقحواناً أزهر بدوره في كل مكان.. أنوال وظهر أبران والهري ومارس 65 وولادة خليفة ومذابح السبعين ويونيو81. كلها روافد نهر لا ينضب سواء سميته سبو أو نهر الجواهر، فذاكرة النهر لا تشيخ، وهو قادر على طرق كل الأبواب لنرهف السمع.
مع كامل المودة