يكشف لنا الناقد المغربي عن مستويات متعددة من الدلالات في رواية كاتب مغربي استطاع أن يخلق عبرها نصا ثالثا، أو متخيلا هامشيا مترعا بالرؤى ومستويات المعنى المتراكبة، يحمل ترسبات تواريخه الاستعمارية القديمة، والتي تكشف عنها القراءة التي تعتمد منهج ما بعد الكولنيالية والتحليل النقدي المدعوم بحساسية.

هامش كولونيالي خلفي

قراءة في رواية «باريو مالقه» لمحمد أنقار

يحيى بن الوليد

أتصوّر أن رواية "باريو مالقه" (2007)، ولصحابها الأكاديمي والروائي/ القاص محمد أنقار، واحدة من أجمل خمس أو ست روايات كتبت، بالمغرب، على مدار العقد الأول من القرن الواحد والعشرين؛ هذا وإن كانت لم تلفت أنظار النقاد ودارسي الأدب إليها بالشكل الذي يليق بـ"قيمتها الفنية" وبـ"بعدها التاريخي" المضمر في نسيجها التخييلي المتماسك والمسترسل. والمؤكد أن "باريو مالقه" ليست أوّل نص يطلّ من خلاله محمد أنقار على القراء وقراء الرواية بصفة خاصة؛ إلا أن نص "الباريو"، وبالنظر إلى المكانة الوازنة للنوع الروائي ككل، وبين الأجناس الأدبية، يظل الأرجح، في دنيا القراءة... وخصوصا في المدار الذي يصله بـ"النص الثالث" (Third Text) أو "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" ــ ككل ــ بالنظر إلى المراكز الدلالية، ودوران المراكز نفسها، في الفضاء الدلالي للرواية.

وتتأكـّد خواص النص الثالث، في حال موضوع دراستنا، وأوّل ما تتأكد، من خلال العنوان "باريو مالقه" في دلالة، وباللغة الإسبانية، على "حي هامشي" بمدينة تطوان بشمال المغرب وــ قبل ذلك في دلالة، ونظرية هذه المرة، على "المكان" الذي أولته "دراسات ما بعد الاستعمار" أهمية بالغة في سياق رصد "التشكـّل الروائي" في نصوص السلطة الاستعمارية المعتمدة أو المكرّسة أو في النصوص المضادة لهذه السلطة. وتسمية "باريو مالقه" لاحقة أو مرتبطة بالاستعمار الإسباني الذي خضعت له مدينة تطوان وشمال المغرب بعامة؛ وكل ذلك في إطار من "الحماية الثلاثية" التي فرضت على المغرب على مدار الفترة الممتدة من 1912 إلى 1956.

وكما تشير الرواية فالباريو له "جذور" أو "أصول" تعود إلى القرن الخامس أو السادس عشر، وكان يدعى من قبل "سيدي طلحة" (ص14/24/26/34) في دلالة على ولي من أولياء الله الصالحين من الذين كانوا "علامة هوية" على المغرب في تلك الفترة، وما بعدها، الغارقة في "التقليدانية" (الجامحة (Traditionalisme  إلى أن جاء الاستعمار الذي قاتل ــ أيضا ــ على صعيد "استراتيجيا التسمية" دفاعا عن "قيم ثقافية مغايرة" جذريا. ذلك أن من يملك "استراتيجيا التسمية" يملك أيضا "استراتيجيا الهيمنة". فتسمية "باريو مالقه"، وإذا جاز أن نأخذ بلغة اللسانيين، "دال" على "مدلول" "التشكـّل الكولونيالي" المرتبط بالسياق المتدافع لـ"الانتشار الكولونيالي" بـ"ميراثه" الثقافي الكولونيالي الموازي أو الداعم للانتشار ذاته. وإذا كان من ميزة للنص فهي نابعة، وابتداء، من التعاطي لموضوع الاستعمار الإسباني الذي لا تزال "الكتابة" بخصوصه، وحتى في مجال السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، "ضئيلة الحضور" مقارنة مع الكتابة عن الاستعمار الفرنسي الذي كان له النصيب الأكبر من "الكعكة" في شمال إفريقيا ككل. أجل إنه، وبالاستناد إلى "خطاطة الثقافة والإمبريالية"، يمكن الحديث، وفي حال الاستعمارين معا، عن "صورة للمغرب" تظل، وفي النظر الأخير، مرتبطة بمتعلقات الاستعمار وعلاقات القوة وتداخل الاستشراق السافر والاستشراق الباطن. وعلى الرغم من ذلك يظل الاستعمار الفرنسي، وعلى صعيد "التحول الثقافي"، الأكثر "تأثيرا" بالنظر إلى المتعلقات والعلاقات الأخيرة التي طبعت "أداءه" مثلما طبعت "آليات الإخضاع" التي كان يقوم عليها هذا الأداء. وكما يوضح المؤرخ المغربي إبراهيم بوطالب، في دراسته "البحث الكولونيالي حول المجتمع المغاربي في الفترة الاستعمارية"، فإن "الكتابات الإسبانية" "مرَّت من نفس المراحل التي مرت منها الكتابات الفرنسية، مع لزوم مراعاة ما يميز التاريخ المعاصر لإسبانيا من سوء الاستقرار السياسي وعنف الصراعات الداخلية بحثا عن سبل التوفيق بين الأصالة والمعاصرة والتقليد والإبداع والفتوحات التبشيرية والتوسع..." ("البحث في تاريخ المغرب" (جماعي)، ص138(.

وبحلول الثلاثينيات من القرن العشرين، وكما هو متداول في مصنفات التاريخ، غطت المستعمرات، والمستعمرات السابقة، 84،6% من سطح الكرة الأرضية، ومثل هذا الامتداد الجغرافي والتاريخي يجعل تقديم ملخصات عن الاستعمار أمرا مستحيلا، كما يجعل من الصعب جدا تنظير (Théorize) الاستعمار كما تتصور الناقدة الهندية آنيا لومبا في كتابها "في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية" (الترجمة العربية، ص9). وعلى الرغم من أن إسبانيا كانت بلدا فقيرا ومتخلفا، مقارنة مع فرنسا وبريطانيا، فإن استعمارها كان يندرج ضمن "الظاهرة الاستعمارية" بل إنها كانت واحدة مما يعرف بـ"القوى الاستعمارية الكبرى"، وكل ذلك في نطاق ما يصطلح عليه بـ"العصر الكلاسيكي" للإمبريالية الذي كانت تتصدّره بريطانيا (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس) وفرنسا. فمن الواضح، إذا، أن نظام الحماية، أو بالأحرى "لا نظام الحماية"، قرين "ذل الاستعمار" الذي لا توافق عليه الشعوب على اختلاف أديانها وتباعد لغاتها وتنوع ثقافاتها. ثم إن الاستعمار يظل، في النظر الأخير، "استعمارا" مهما ادعى من "عمل تمديني" أو من "مهمة حضارية" أو تحضيرية" (Mission Civilisatrice) أو من "مهمة تربوية وتحضيرية" كما يجمع تزفتان تودوروف في كتابه "نحن والآخر" (Nous et les autres)بالفرنسية، ص349). وكما يقول عمار بلخوجة، في كتابه "البربرية الكولونيالية في إفريقيا" (بالفرنسية): "المؤكد أنه لا يوجد أي فرق بين الحماية والاستعمار: فالشعوب تعرف المصير نفسه. وهي تخضع للشتائم نفسها، وللعنف نفسه، وللتعسف نفسه، وللاستغلال نفسه، وللتحقير نفسه" (ص35(

وكما نقرأ في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، لقد كان للرواية الدور الأكبر على مستوى التشابك مع كتاب الاستعمار الأسود. وكما كان لها الدور الأكبر على مستوى تفكيك خطاطات الاستعمار ونزع أقنعته وكشف رغباته؛ مما يفضي بنا إلى تشابك من نوع آخر، وهذه المرة ما بين الرواية ذاتها والتاريخ. وحتى إن كنـّا لا نرغب في أن نتوسـّع في مثل هذا النقاش، بالنظر إلى العمل المطلوب منا أن نشرع في قراءته، فإن ذلك لا يحول دون التذكير بـ"الطفرة" اللاحقة التي سيحقـّقها الإنتاج التاريخي بالمغرب وإلى ذلك الحد الذي جعل البعض يتحدثون عن "مدرسة تاريخية مغربية حديثة" ذات "معالم وجود حقيقي، عكسته طفرة الإنتاج والإدراك العلمي الرصين والقدرة على بلورة اتجاهات جديدة في البحث، مما جعل البحث التاريخي المغربي على عتبة التجديد الحقيقي" (محمد المازوني: "الكتابة التاريخية الكولونيالية بين أطروحة الرفض والاستغلال المنهجي"/ المناهل، العدد 87، يناير 2010، ص49(.

غير أن السؤال الذي يفرض ذاته، وعلى صعيد "الآلة التحليلية"، هو في مدى "الالتزام" بـ"الفهم الموسّع للتاريخ" (سالف الذكر) الذي بموجبه لا يغرق هذا التاريخ في السرد؛ وكل ذلك في المنظور الذي يفضي بالمؤرخ، وبلغة كتاب "التاريخ الجديد" الذي أعده جاك لوغوف (Jacques Le Goff)، وقد يكون هذا هو الأهم أيضا، إلى أن يهجر "قلعة التاريخ العتيقة"، نحو ميادين أخرى، وعلى النحو الذي يجعلنا نتلمـَّس دلالة الإنسان من وجهة نظر تاريخية. والغاية مما سبق هي أن نؤكد على أن التاريخ، وفي فترة الاستعمار، بالمغرب، وفي سياق الفهم الموسَّع ذاته، لم يصنعه، وحصرا، الماريشال ليوطي والملك محمد الخامس والزعيم علال الفاسي والمقاوم عبد الكريم الخطابي... وغير ذلك من الأسماء التي يدرجها البحث التاريخي ضمن "قرارات رجال السياسة"؛ وقبل ذلك، ونظريا، ضمن مفهوم "الشخصية القاعدية". وهذا على الرغم من الثورة المنهجية التي رافقت التعاطي للمفهوم ذاته، وكل ذلك في المدار ذاته الذي حصلت فيه الثورة على التاريخ السردي وعلى التقسيم الشكلي للمعرفة وعلى المنهج الآخذ بفقه اللغة وتاريخ الأفكار المجرد الخطي... وهو المدار ذاته الذي حصلت فيه محاولة دراسة الشخصية القاعدية ومحاولة الكشف عن البنية العميقة التي تتحكم في المجال الذي تتحرك فيه هذه الشخصية.

وإذا جاز أن نجادل الجدلية الماركسية، وفي ضوء التحول الحاصل في مجال المعرفة التاريخية ككل، وعلى نحو ما يمكن الاطلاع على ذلك في مصنف "التاريخ الجديد" (وقد سلفت الإشارة إليه قبل قليل)، فإن التاريخ يصنعه المهمـَّشون أيضا، ويصنعه الخيال أيضا؛ الخيال بـ"رطوبته" وليس بـ"تعقله" فقط. و"التاريخ يبحث عن نفسه كذلك في الجزئيات والتفاصيل، وكل تاريخ قابل للتناثر والتشتت". ولذلك يصعب، ولا من وجهة نظر أنثروبولوجية فقط، أن لا نقبل بدور "المهمـَّشين" أو بدور "الفلكلور" و"الثقافة الشعبية"... في صناعة الإنسان وتوجيه التاريخ.

ورواية "باريو مالقه"، وكما يستخلص من "القراءة الأولى" لها، صمّمت على الانغراس، وفي إطار من تداخل التخييل والتحقيق، في هذا الفهم للتاريخ... وكل ذلك في إطار من الانتظام داخل النوع الروائي ذاته بمعناه الذي يشرك خطابات ولغات ونصوص في النسيج النصي؛ هذا وإن كانت الرواية، وعن قصد، لم ترق بهذه الخطابات واللغات... إلى مستوى "الكرنفال" داخل الفضاء الدلالي للرواية. لقد آثرت أن تسرد حكاية "نماذج"  بشرية مختلفة استوعبها "الهامش" المتمثل بـ"باريو مالقه" باعتباره "وحدة" لا تخلو من "اختلاف" لا يمس "الجذر" المتمثـّل بـ"الهامش" ذاته. الرواية، وبنظرتها، أو بالأحرى بـ"تناصها الموجب" مع نص التاريخ، تنأى عن "النص العام والغالب" بخصوص تطوان. ذلك النص الذي عادة ما يتم فيه التركيز على "الواجهة المركزية" وعلى "الحداثة الوليدة" وعلى نحو ما كانت تمثـّلها مجلات وشخصيات طمعا في الارتقاء بتطوان إلى "بيروت مصغـَّرة"... والرواية بدورها تشير إلى جانب من هذا "المطمح الحداثي" الذي كان يراود "الإنتلجنسيا الأقلية والمحلية" وقتذاك.

ليس هناك فرانكو فقط، وليس هناك ــ ومن ناحية تضاد "رجالات السياسة" ــ عبد الخالق الطريس وعبد السلام بنونة (وعلى أهميتهما)... إلخ. هناك "جماعة طوريطا" التي تتمحور أغلب أحداث الرواية حولها، وسواء من خلال شخوصها التي يعرض لها السارد منذ طفولتها إلى لحظات "نضجها" أو من خلال شخوص مرتبطة بها من خلال القرابة أو "مصير الباريو". وحتى إن كنـّا لسنا بصدد تلخيص الأحداث فإن ذلك لا يحول دون الإشارة إلى أن الرواية تفتتح بحدث "الاغتصاب" الذي تعرض لها صبي في الحادية أو الثانية عشرة من عمره، وهو الحدث الذي سيظل يراود المجموعة في دلالة على "عالم الفتوة" و"السيبة" و"قطاع الطرق"... في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ المغرب التي كانت مفتوحة على جميع الاحتمالات. غير أن الرواية، ومن خلال الحارة، لا تنحصر في الاغتصاب وعالم الفتوة؛ فهناك إلى جانب الفتوات الباعة والمشردون والمعتوهون... وهناك العشق والحلم والفقر والبؤس والتحرش والخوف والغناء... إلخ.

واللافت، في الرواية، أن الإسبان بدورهم أسهموا في "عالم الباريو" ولا سيما من ناحية العلاقات الاجتماعية التي انخرطوا فيها بدورهم، بل وأسهموا في توسيع داوئرها. وكما ورد على لسان مجموعة طوريطا: "مذ ولدنا وجدنا النصارى يعيشون بيننا كأنهم أصحاب الباريو ونحن الطارئون" (ص4). وهناك، ومن الإسبانيين، "بائع الأواني الذي قلما يبتسم"، شأنه خوان "جامع الضفادع الذي يبعث على النفور"، عكس بائع الورق. وهناك صاحب "الخبيزات": "الحلوة المطلية بأصفر البيض"، وبائع التفاح المغلف بالحلوى الحمراء الذي مهما كان يثير الأطفال لا يبلغ تأثير بائع حلوى "البيلولين"... إلخ. إننا بإزاء حال نوع من "الرواج الكولونيالي"، حتى وإن كان لا يقاس بـ"الرأسمال الميتربولي" طالما أننا لسنا بإزاء "مركز كولونيالي أمامي" بقدر ما نحن بإزاء "هامش كولونيالي خلفي". ولذلك لا نعدم فقراء، ومن الإسبانيين، في الباريو مثل خوليان، "صاحب القطيع"، وقبل ذلك المنسجم مع الأفاعي والفتوات وقطاع الطرق واللصوص. وعبر أبسط الوسائط، "لايكا": "الكلبة". وربما في هذا السياق أمكننا استعادة فكرة طاغور حول أن "الشرق والغرب، باستمرار، أحدهما يبحث عن الآخر، ومن الضروري أن يلتقيا". فلا مجال، هنا، لـ"الهوة" أو "الخندق" الفاصل ما بين النماذج البشرية كما في تنظيرات الصدامات الثقافية التي بلغت، في أيامنا، وفي إحدى صيغها المتطرفة، حد "الصدام داخل الصدام". ثمة نوع من "الحياة المشتركة" إذا جاز أن نأخذ بعنوان كتاب تودوروف في "نزعته الإنسانية".

من الجلي، إذا، أن الرواية تعج بالشخصيات التي يمكن النظر إليها منفردة أو في علائقها مع شخصيات أخرى، وكل ذلك في إطار من "منطق التحوّل" الذي لا يهدد "عرش العلائق" ذاتها. وفي هذا الصدد يمكن أن نشير، وعلاوة على مجموعة "طوريطا"، إلى السعدية وخديجة...  وعمر وفطوش، وعلي وعويشة، وطامو وفطوش... إلخ. والظاهر أننا، هنا، لسنا بصدد شخصيات فقط، وإنما بصدد "نماذج بشرية" أيضا. وضمن هذه النماذج هناك المزواج والقبيح والسارق والمحتال والطالق والعاقر... إلخ. غير أن شخصيات الرواية لا تنحصر في هؤلاء الهامشيين فقط، إذ هناك شخصيات تنتمي إلى الثقافة والتدريس كما في حال الفقيه ومؤرخ الباريو الصنهاجي والأستاذ السوسي. فـ"باريو مالقه"، وكما قال الباحث محمد مشبال وفي قراءة للرواية نفسها، "عالم مصغر له نظامه الاجتماعي والثقافي والأخلاقي الذي لا يمكن أن يتكرّر في أي مكان أو زمان".

وكما في التصور النظري فالرواية "بنت المدينة"، أو هي من "نثر المدينة"، غير أنه في حال "باريو مالقه" فالمكان، أو بالأحرى "المكان ــ البطل"، هو حي هامشي (من البراريك). هذا وإن كان الباعة، وكما ورد في الرواية، هم من كانوا يصلون الباريو بعوالم المدينة (ص43). والأهم، في نظرنا، أن الرواية، ومن ناحية المكان ذاته، تنصهر في ما اصطلح عليه، في السوسيولوجيا الكولونيالية (الفرنسية، تعيينا)، وفي "محطتها الثانية"، وفي إطار من تحول من نقل الاهتمام بالقرية إلى المدينة، بـ"ولادة البروليتاريا"(Naissance de la prolétariat). وكانت هذه البروليتاريا قد أخذت في التشكـُّل منذ الثلاثينيات النازلة بالنظر إلى كارثة الجفاف التي ألمـّت بالمغرب العام 1937، وفرضت ــ بالتالي ــ على الفلاحين الهجرة إلى الدار البيضاء مؤشرين في ذلك على "ميلاد البروليتاريا".

أجل إن الاستعمار "حد فاصل" في حال الباريو، بل إنه كان في أساس تشكـّله. غير أن الرواية لا تعنى بـ"القابلية للاستعمار" (Colonisabilité)، ولا تشير إلى الأهالي (Indigénes) والتابع (Subaltern)، وبثنائية "المستعمـِر والمستعمـَر"... ولا تقدّم لدخول الاستعمار وما يرافقه من نهب وتدمير، ومن سيطرة على وسائل الاتصال قبل السيطرة على الحياة والملكيات أو حتى على اللغة نفسها تبعا لفكرة تودوروف المتداولة في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، ومن تفتيت الخريطة إلى صناعتها، ومن تلاعب بالجغرافيا واختلاقها بهدف الغزو والهيمنة... إلخ. يبدو "الباريو" وكأنه تشكـّل "من أعلى" إذا جاز أن نأخذ بفكرة جاك بيرك التي كان قد أكد عليها في سياق الحديث عن "المعمار المغربي" في عهد الحماية.

وفي إطار من الإفادة من "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" فإنه يصعب التأكيد على أن المهمة التحضيرية "فشلت" بدليل "استمرار البراريك" على نحو ما ورد في الرواية ذاتها (ص331). فثمة أحداث كثيرة حصلت في فضاءات وأمكنة محددة مثل السينما والمقهى والحانة والكشك... جنبا إلى جنب أمكنة دالة على الخدمات الاجتماعية مثل المدرسة والمستشفى والمعمل والملعب... وعلى ذكر الملعب من المفيد أن نشير إلى مقابلة كرة القدم التاريخية بين بارشلونة وأتلاتيك تطوان، وكما كان متوقعا فقد انتهت لصالح الفريق الأول (ص299). غير أن "المثاقفة"، الممزوجة بالسخرية، تبلغ مداها في إشارة الرواية إلى "ملكة جمال الباريو" التي كان ينتخبها الإسبان في إطار "احتفالات 18 يوليوز" وما يرافقها من فرح وانتشاء (ص216(.

فالاستعمار لا يمكن حصره في مظهره العسكري الخارجي القائم على "السيطرة" و"الهيمنة" و"الاستحواذ" و"الإزاحة"... فثمة مظهره الاجتماعي والثقافي أيضا. ولعل في المظهر الأخير ما حفـّز بعض "الأهالي" على "التماهي" مع "المستعمـِر". ويشرح الناقد الهندي الأشهر هومي بهابها (Homi Bhabha)، في كتابه الأشهر "موقع الثقافة"، فكرة "التماهي الكولونيالي" قائلا: "ما من محلي إلا ويحلم مرّة في اليوم على الأقل بأن يحلّ مكان المستوطن" (الترجمة العربية، ص110). ونقرأ عن هذا التماهي في الصفحات الأولى من الرواية، وذلك حين يقول السارد عن أب الشريف: "حلم برؤية أولاده وهم يتابعون تعليمهم في الأكاديميات الحرة بتطوان ويتأبطون الكتب ويذهبون لدراسة الهندسة والطب في مدريد" (ص8). وتجدر الملاحظة إلى أن التماهي لا ينحصر في التعليم والوظيفة فقط، وإنما يمتد إلى عادات الأكل واللباس والتأنق؛ بكلام جامع: الحلم بالارتقاء إلى "عالم جديد" ودونما سؤال حول انعكاسات ذلك على الهوية واللغة.

حقا كانت مرحلة الاستعمار قصيرة في المغرب، غير أنها كانت حاسمة وفاصلة. وكما قال جان دريش في تقديم كتاب المؤرخ المغربي جرمان عياش ("المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية"): "استعاد المغرب استقلاله سنة 1956، بعد 44 سنة من الحماية، وبالتالي لم يفقد استقلاله إلا خلال مرحلة قصيرة من تاريخه الطويل، بيد أنه تعرض خلال أربع سنوات وأربعين سنة لتحولات عميقة وبسرعة خارقة"(ص14). والأكيد أن "التحولات الاجتماعية"، ومن منظور "ألف باء العلوم الاجتماعية"، لا تسلم من "صدام" وبسبب من الثقافة ذاتها، الثقافة التي "توجد أمامنا وخلفنا" بتعبير الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس، والتي لا تكشف عن ذاتها في أشكال جاهزة، وخصوصا حين تلتبس هذه الثقافة بألغام في حجم الهوية واللغة والذاكرة والسرد... وخصوصا كذلك حين يصير الإنسان مفعولا لهذه الثقافة دون وعي منه.

أجل لقد تمّ، وبعد الإعلان عن "الاستقلال السياسي" للمغرب، إغراء الإسبانيين ــ وبالمال، ابتداءًا ــ للرجوع إلى إسبانيا وعلى نحو ما ورد في الرواية أيضا (ص340)؛ غير أن ذلك لا يفيد، وإن ما ناحية التضمن، انتفاء بعض "مظاهر الصدام" ــ في الرواية ــ التي يمكن ردّها إلى اختلاف الثقافتين بل وتفاوتهما، وعلى مستوى النظرة والسلوك، وفي الكثير من المواقف والقضايا. ويتجسد هذا الاختلاف، وبنسبة غالبة، في نظرة "الأهلي" إلى المرأة.. وفي نظرة هذه الأخيرة المضادة للأهلي. وفي هذا الصدد يمكن التوقف بعض الشيء عند نموذج سلام  في لهاثه المحموم وراء الإسبانية ماري، والذي أبلغه مخافر الشرطة بـ"دليل التحرش"، وعلى النحو الذي جعل هيامه يزداد في أثناء حصول المغرب على استقلاله، وإلى الحد الذي جعله ينسى وطنه بل ويركله خوفا من رحيل ماري إلى إسبانيا وــ بالتالي ــ غيابها النهائي. وكأننا، هنا، بإزاء"حليب الاستعمار الضائع" الذي تحسـّر عليه نايبول حسب قراءة لإدوارد له. وعلى الرغم من ذلك فقد كانت النهاية، وفي حال سلام، في إطار من مقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا"، وعلى ما تأكدت في روايات عربية سابقة مثل "الحي اللاتيني" (1953) و"موسم الهجرة إلى الشمال" (1967) ومن قبلهما رائعة يحيى حقي "قنديل أم هاشم" (1944). وهذا مع فارق في الوعي سنشير إليه بعد قليل.

وفي حال سلام يتجسد الصدام دائما وإلى الحد الذي جعل أمه طامو، وفي إطار من "ثقافة الكراهية" في مظهرها الشعبي، تولوِّل عندما علمت بقصة سلام مع "البنت الإسبانية النصرانية" معتبرة ذلك من باب "العار الرومي" وليس "الهيام الرومي". وفي حال سلام، دائما، تكشـّف كليشه "المورو" (ص316) الذي يؤدي دلالته الصريحة كليشه شارح تضمنته الرواية أيضا وهو كليشه "مرة أخرى المغربي القذر" (ص232) الذي واجهت به لوسيا سلام بعد أن راعها مشهد الرسالة التي أراد هذا الأخير تسليمها لابنتها ماري. وكليشه من هذا النوع لا يمكن استيعابه إلا في إطار من "التنميط" أو "القولبة الشاملة" التي تنتظم بدورها في إطار موسـّع هو إطار "الاستشراق العملي التحقيري والسافر".

وحتى في حال المديني، وفي اللحظة التي يمكنها التأكيد على أوج "المثقافة" في حلتها الاجتماعية، فإنه عجز عن الزواج من بيلار (ص341)؛ وهذا على الرغم من وقوع، ومن قبل، إسبانيات في شراكه وكأن لا شيء يمكنه التحقق إلا في ظل الاستعمار. ومن ثم دلالة مصطلح، أو بالأحرى دلالة الكليشه المضاد، "النصارى" الذي تتكرّر مرات وعلى النحو الذي جعله لافتا في الفضاء الدلالي للرواية. ومن ثمّ أيضا دلالة "لهم دينهم رغم زواج مغربيات منهن" (ص212) تأكيدا لمبدأ "التدين الاجتماعي". ولعل هذا ما جعل خديجة، ورغم وعيها الساذج،  "تفضل عشقا مغربيا" (ص202).

وبقي أن نشير، وفي حال شخوص السابقة وغيرها، إلى أن مجال التحرك كان في إطار من "الانبهار" و"الصدام" و"الرجولة والأنثى"... غير أنه كان من خارج دوائر "الشعور القومي" و"معاداة الاستعمار" وثنائية "المستعمِر والمستعمَر" و "ما بعد الاستعمار"... على نحو ما "لوّى" بالروايات سالفة الذكر. هذا بالإضافة إلى أن ما حصل، في "رواية باريو مالقة"، حصل في الأرض المستعمَرة ("قلم الظلام") وليس في عواصم الغرب (الرأسمالي) التي كان يرحل نحوها الطالب العربي من أجل التحصيل المعرفي"، وبعد ذلك يعود إلى وطنه في أفق التخلص من "الزفت الاجتماعي". وعلى الرغم من أن الرواية تعرض لاستقلال المغرب (ص304)، بل وتشير إلى أن أوّل احتفال رسمي بعيد الاستقلال كان يوم 13 مارس 1956 (ص250)، وأن  الباريو بدوره احتفل بالاستقلال، وأن "تحوّلا اقتصاديا" أخذ يلوح بعد حصول المغرب على الاستقلال (ص323)، فإننا لا نعثر على أحداث ومواقف قابلة إلى أن يتم تأطيرها ضمن "الحدّة الكولونيالية" التي كانت قرينة "ذبذبة الحالة الروحية" التي فرضها المركز على الهامش. وكانت هذه الذبذبة السمة الأساسية للتغريب الاستعماري كما يقول أصحاب كتاب "الإمبراطورية ترد كتابة" (ص140).

وحتى على مستوى الشخوص التي تفرض ذاتها في "النقاش العام"، وعلى نحو ما يمثل ذلك الفقيه الصنهاجي والإسكافي، فإن ما نألفه، وبخصوص النقاش حول الاستعمار تحديدا، لا يعدو أن يكون مجرد مشافهات لا تتعدى التلميحات بخصوص القضية الوطنية وفي لحظات محدّدة كما في حال ما تعرضت له العائلة الملكية (ص13). هذا وإن كانت هذه الشخوص مع "القضية ــ المعيار" التي هي قضية الوطن. واللافت أنه حتى  "إسبانيي الباريو" كانوا لا يتكلمون في موضوع الاستعمار في دلالة على نوع من "اللامبالاة" بل يظهرون حتى بدون "لاشعور كولونيالي"، هذا وإن كانت شخصية خوانيطو ــ التي لا تفكر في العودة إلى إسبانيا ــ لا يمكنها أن تعبـّر عن جميع الشخوص الإسبانية. يمكن الحديث، في حال الرواية، ومن ناحية العلائق التي تصل ما بين الشخوص، عن نوع من "التعايش". ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال تسمية في حجم تسمية "حميدو فيليب" في دلالة على نوع من "المثاقفة الشعبية". هذا بالإضافة إلى "اللهجة الإسبانية" التي كان الانتماء إلى الباريو في حد ذاته علامة على تعلمها والتواصل بها.

ولذلك عندما قال خوصي لخديجة:

"أين تعلمت الاسبانية؟.. تتكلمينها بطلاقة.."

ردّت البنت بكثير من الاعتزاز:

يكفي أن القول لك إنني من باريو مالقه.." (ص77).

ثم إن أحداثا، وهي محدودة في الرواية للمناسبة، من مثل إقدام الجندي الإسباني على التحرش بمليكة، ابنة عمر (ص130)، لا تعدو أن تكون أحداثا "عابرة" و"عادية" في نسيج العلائق الاجتماعية وسياقاتها الصغرى المتدافعة. وهذا على الرغم من الأطفال الذين أخذوا يلعنون الجندي وأخذوا يدافعون بكل تلقائية عن الفتاة، بل واعتبروا يوم الحدث "يوما غير عادي" (ص131). ودون أن تفوتنا الإشارة، هنا، إلى ما كانت تتعرض له خديجة، وهذه المرة في خفية من "الشارع"، من تحرش من قبل فرانتيسكو اليافع البشوش ابن خوصي الذي كانت تعمل خادمة في بيته. "خديجة البيضاء الوجه، المشبعة بضياء الباريو وصفائه، المشقشقة بلغة إسبانية كأن المستمع إليها يتمنى لو يظل يرتوي من منهلها العذب طوال الدهر" (ص77).

أحداث من هذا النوع مرتبطة بـ"الضعف الإنساني" ولا ترتبط بما أسمته الباحثة الاجتماعية  كريستيل طارود (Christelle Taraud) بـ"العنف الجنسي الكولونيالي في المغرب العربي"، ولا ترتبط بما كان فرانز فانون قد ربطه بـ"الخيالات الخاصة بالاغتصاب" التي كانت المكوّن الرئيس لأحلام المستعمر الفرنسي تجاه المرأة الجزائرية. وحتى الباريو ومدينة تطوان بعامة، وفي منظور الرواية ككل، تبدو متحرّرة من "البغاء الكولونيالي المنظم" على نحو ما يمكن الاطلاع على ذلك في التحقيق الإثنواغرافي الذي أنجزه، وتحت إشراف روبير مونطانيRobert Montagne) )، وما بين 1949 و1950، طبيبان: جان ماتيو (Jean Mathieu) وموري (P.-H. Maury). وكان التحقيق قد استقرّ على حي بالدار البيضاء، وظهر في كتاب تحت عنوان "بوسبير ــ البغاء في المغرب الكولونيالي ــ  إثنوغرافيا حي محجوز". وكان المستشرق جاك بيرك يعدّ "حي بوسبير" بمثابة "نجاح معماري" و"أوحد مشروع سكني أهلي"... و"كسخرية منه تجاه تخلف سلطات الحماية في توفير سكن لائق للمجتثين" كما يعلـِّق عادل المستاني في الدراسة التي خصصها لـ"إسهام جاك بيرك" في كتاب "سوسيولوجية الدولة بالمغرب" (ص85). وحقا فنحن، وفي ضوء أحداث رواية "باريو مالقه"، لا نلمس أي أثر لما سلف، بل يمكن التأكيد على الغياب المطلق للقرارات التنظيمية في عهد الاستعمار بخصوص الباريو.

إن ما سلف من حدثين سالفين، وبخصوص كل من مليكة وخديجة، دال على الضعف الإنساني الذي يمكن التأكيد عليه، وهذه المرة من ناحية الأهلي تجاه الأجنبي، في الشيخ عمر في عشقه لـ"االممرضة الكطلانية": "طويلة القامة، موفورة الصحة، موردة الخدين" (ص247). ولعلّ هذا ما جعل الشيخ عمر يجس: "لا حياء في الدين. لو قدّر المكتوب أن يتزوج المرء نصرانية على سنّة الله ورسوله فلا مانع هناك إن هي أسلمت... أ لا يقول الشرع ذلك؟..." (ص247). ففي "الأهلانية" (Nativism) (أو "النعرة البلدية" كما يترجمها فواز طرابلسي)، وفي حال رواية "باريو مالقة"، وتبعا للمصطلح المتداول في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، لا مجال لـ" العدوانية الجنسية"، ولا مجال لـ"التشكل العدواني للهوية". أجل إنه لا يمكن نفي "منظور ما بعد الاستعمار" عن الرواية، وخصوصا من ناحية "الرؤية" التي تلوي بـ"خيطية السرد"... غير أنه يصعب، وفي حال روايتنا دائما، أن نؤكد على "العلاقة الطباقية" التي تصل ما بين السرد الاستعماري ومنظور ما بعد الاستعمار. فلا مجال، وفي الرؤية سالفة الذكر، لـ"الاختلاف العرقي والثقافي" و"الرغبة الكولونيالية" و"المواجهة الكولونيالية" و"المناقرة الكولونيالية" و"الاخضاع الكولونيالي" و"تشتيت الأمة" (الباريو، في حالتنا)... ولا مجال لنوايا "إحداث الآخر" و"صناعته"... إلخ.

الظاهر، وفي محطات كثيرة من الرواية، أن هناك نوع من "القبول" بمواصلة الحياة على النمط الإسباني ودونما "كره للأجنبي" (أو "اجتنابية" كما يترجمها البعض)، بل تبدو الحياة وكأنها كانت في غفلة من الاستعمار ذاته. وفي هذا الصدد أمكننا فهم بداية اختفاء إسبانيي الباريو بشكل متدرج (ص299، 315)، بل وأمكننا استخلاص "مرارة الهجرة" وخصوصا في ظل تنامي "الهجرة المضادة" أو "الهجرة الداخلية". والظاهر، أيضا، أنه، وعلى مستوى "النص التحتي" في الرواية، ثمة نوع من "النزعة الإنسانية" التي تطبع العلاقات التي تصل ما بين الشخصيات والتي تصل ما بين الوقائع والأحداث. وكانت هذه الرؤية قد تأكدت، لنا، من خلال "البحث الأكاديمي" الذي خصـّه محمد أنقار نفسه لـ"صورة المغرب في الرواية الإسبانية الكولونيالية" ("بناء الصورة في الرواية الاستعمارية" (1994). وكانت الرواية قد ساهمت، وفي إطار من تعميق "الحضور الإمبريالي"، في تكريس "صور منمطة" للمغرب والمغاربة. وهذه الصور لا تخلو من دلالات "تبخيسية" و"تحقيرية" إن لم نقل "عنصرية". وفي مقدَّم هذه الصور "صورة المُورُو" التي سادت في فترة الاستعمار وما قبلها، وقد كان لها بعض الحضور في الرواية التي هي موضوعنا.

وعلى الرغم من إن الأدب الكولونيالي استمد إلهامه من النزعة العرقية ومن الأنثروبولوجيا الفيزيقية، فقد دافع الدارس، في مختتم الدراسة، وبمرونة، عما أسماه بـ"التسامح الإنساني" تجاه "الآخر"... وذلك بدلا من "المنطق العدواني" الذي يضاد التسامح الإنساني. ومن ثم أمكننا القول بأن النقد الذي ينتظم في إطار منه البحث لا يسعى إلى أن يتخندق في خانة "النقد ما بعد الكولونيالي" أو حتى "الوطني". فالدارس لا يولي كبير أهمية، وعلى صعيد التصور، لصلة الثقافة بـ"القوة" و"الهيمنة" و"الاختلاف" (الأنثروبولوجي). في نطاق "تخييل الآخر"، وعدم السماح له بـ"تقرير مصيره" أو "ممارسة التحديد الذاتي القومي" (Autodétermination).  وهذا ما يبدو جليا في الرواية. وكان من البيـّن أن يكون لهذا التصور الفكري تأثير في الرواية.

وحتى إن كان من المفيد تخصيص دراسة مستقلة لـ"التقنيات السردية" في الرواية فإن ذلك لا يحول دون التأكيد على أن الرواية لا تخلو من تأثير نجيب محفوظ، ولا من ناحية الربط ما بين بعض الشخصيات كما في حال خديجة التي تذكـّرنا بشخصية نفيسة في "بداية ونهاية"، بل ومن ناحية "البناء" ذاته إذ يمكن الحديث عن "محفوظية البناء" في "باريو مالقه". غير أن ذلك لا ينفي عن الرواية "خواصها" التي تتأكد على مستوى الإيهام الروائي والاسترجاع وعودة الحدث واعتماد الدارجة والسخرية الحوار والوصف وتعدد الشخوص... هذا وإن كان هذا التعدد محكوما  بنهاية مرسومة سلفا حتى وإن كانت هذه النهاية غير مأساوية على شاكلة نهايات نجيب محفوظ. أجل إن الرواية لا تخلو من "توابل إثنوغرافية" وفي العديد من قصصها القصيرة حتى نشير إلى أن الرواية مكتوبة بـ"منطق القصة القصيرة" أيضا. هذا وإن كانت هذه القصص موصولة ببعضها وسواء عبر تقنية عودة الحدث أو تقنية التتابع والتتالي الكلاسيكية. وحتى نستدل على هذه التوابل، وفي مظهرها الحارق، يمكن أن نحيل على نص "أذن الحمار" (صص226- 230) الذي يذكرنا بـ"النثر الأنثروبولوجي" الجميل الذي كتب به الأنثروبولوجي الأمريكي غليفورد غيرتز(Glifford geerz) مقاله الشهير عن "صراع الديكة في بالي" (والمقال متضمن في كتاب هذا الأخير "تأويل الثقافات).

"باريو مالقه"، وعلى مستوى التضَّـمن واللزوم، "مرآة استعمارية"؛ غير أنه "باريو متخيـّل" أيضا وأخذا بمفهوم بندكت أندرسون  (Benedict Anderson) حول "المجموعات المتخيـَّلة"  (Imagined communities) وحول "المجتمع المتخيّل" الذي لا يتم تخيّله دفعة واحدة، وإنما يظل موضوعاً لتخيـّل وتخييل دائمين، ولا سيما في إطار من خطاطة "تاريخية النص ونصية التاريخ" كما في حال "باريو مالقة". ويمكن النظر إلى الرواية باعتبارها من "الروائع المعتمدة" والدّالة على "أصوات العالم الثالث" والبعيدة عن "قصة الأصل" و"السرديات الافترائية" وعن "التركيب المراوغ للسرد" وعن "تورّط الهوية القومية في السرد"... إلخ. "هناك ما وقع، وهناك ما يحكى"، وفي جميع الأحوال صار للباريو "تاريخ فني".