يقدم الناقد المصري هنا قراءته لأحدث مجموعات القاص المصري الذي يسعى لأن تكون المجموعة القصصية نصا متكاملا، أو نصوصا تخلق عالما تتصادى فيه الأصوات والصور كي تكشف لنا عن مجموعة من الأبعاد المضمرة في التجربة الإنسانية، والتي نادرا ما تطفو على سطحها.

متعة الاكتشاف ليست «في مستوي النظر»

شوقي عبدالحميد يحيى

الحياة العادية، العائلية، ببساطتها، هي المنهل الذي يستقي منه منتصر القفاش عوالمه القصصية، يقتطع منها شريحة ويعرضها كما هي. فتبدو الحياة وكأنها تسير سريان الماء المتهادي في النيل في يوم صيفي قائظ، فتبدو وكأنها لا تسير، غير أنها في سريانها تحمل الخير والسقيا، وتخلق حياة. بل حيوات. وكذك حكي منتصر القفاش يبدو بسيطا وعاديا، لكنه ضاج بالمعاني والإيحاءات، وكأنه النيران المخبوءة تحت الرماد. وهو ما يذكرنا بقصص بهاء طاهر القصيرة. وإذا كان الكثير من المجموعات القصصية، تفتقد التجانس فيما بينها، الأمر الذي يفقدها الوحدة، ويفقدها العنوان الجامع الذي يمكن أن يحتوي قصص المجموعة، أو علي الأقل أغلبها، فإن منتصر القفاش في مجموعته يحرص علي تلافي ذلك.

حرص منتصر في عتبة من عتبات النص (الافتتاحية) ما يمهد به لمجموعته، ويضع أيدينا علي عناصر المجموعة، ليكون بذلك قد غلف مجموعته بغلافين كاشفين لفلسفته المضمرة وراء النصوص الخادعة. فكانت القصة الختامية "المشي" علي نحو ما سنري، وبين الافتتاحية التي تضمنت الحكي فبدأها ب "يحكي أن". ثم يتحدث "الدور الأرضي" الذي هو محور الأحداث ومحركها في القصص جميعا، يشكو تجاهل صاحب البيت، أي يشكو التجاهل والانعزال والحدة عن باقي الأدوار، الأمر الذي يدعوه "الدور الأرضي" لعدم النظر إلي الأعلي، و[يكتفي بقربه من الشارع، وبأنه في مستوي نظر العابرين، تنطلق تخيلاتهم حينما يثيرهم شئ من خلال الشباك الموارب] فالدور الأرضي، هو الأساس، وهو الذي تتشابه الأدوار الأخري معه من حيث الشكل والمساحة، مثلما أن الجد أو الأب هو أساس الأبناء الذين يتشابهون معه. بينما هو لهم لم يعد سوي ملهم، ومحرك للخيالات والرؤي. أي أنه علي خطاه يسيرون. وبهديه يهتدون، وبهما تسير الحياة، وتسير حياة الإنسان، عبر الزمن.

 فقصص المجموعة كلها – تقريبا – تدور داخل البيت، وتحديدا في الدور الأرضي منه، كما نجد أن كل قصة منها تعتمد علي شخص وصل إلي سن المعاش. الأمر الذي يجعلنا نربط بين الحالتين، البيت أو الدور الأرضي وسن المعاش، وهذه المرحلة من حياة الإنسان، تحمل العديد من المشاعر الإنسانية. وإذا كانت قصص منتصر تخلو من الحدث أو الحادثة، وتكتفي بمقطع من الحياة، قد يبدو في الظاهر أنه مكتف بذاته، فإن مفتاح الدخول إلي تلك العوالم، هو الربط بين العنصرين البارزين، وهما البيت، وسن المعاش. أي عتبة الانتقال من الحركة إلي السكون، أو من النور إلي الظلام أو المجهول. أي أن الحركة والفعل لابد يكمنان في الداخل، في أعماق ذلك الذي وصل سن التقاعد، وسن البقاء بالبيت، وقريبا من الأرض (الدور الأرضي) بما في ذلك من دلالة. والتي أقربها أن يظل "في مستوي النظر" أي أن يظل محط الاهتمام. وهو ما يتبدي بصورة جلية في قصتي "وصف الشقة"، "مواصلة الوصف" واللتان تبدوان كقصة واحدة في مشهدين، يتمهما ويكشف الدلالة فيهما قصة "الكوبري". ففي الأولي والثانية يحاول الأب الذي تجاوز سن المعاش إقناع زوجته بأهمية السكن في الدور الأرضي، وهي ترفض، لنفاجأ بأن السيدة في قصة "الكوبري" كانت تسكن في الدور الثالث، وتستمتع بأن أحدا لا يستطيع أن يتلصص عليها، فليست في مرمي رؤية الآخرين. وعندما تم إنشاء كوبري الجيزة، أصبحت في مرمي رؤية السيارات العابرة عليه، خاصة ساعات التكدس التي تسير فيها المركبات بطيئة، وخاصة راكبي الأتوبيس والميكروباص، الذين يجعلون تأمل ما ومن بداخل الشقق التي في مرمي بصرهم، تسليتهم في زحمة الطريق، وطول انتظار الوصول. حيث نجد هذه السيدة تؤكد بحماس صحة قرار الزوجة {وانها كانت ستندم لو تراجعت عنه}.

ومن بين ما يعانيه شخوص المجموعة في هذا السن الذي يشعرهم بالعديد من المشاكل النفسية، فضلا عن الصحية بالطيع والتي يلمح إليها في أكثر من قصة، مثل آلام الركبة، والبطئ في المشي، وغيرها، الرغبة في الحديث مع الآخر، الرغبة في إيجاد الونس، جراء إحساسهم بالغربة. تلك الغربة المتمثلة في الوحدة غاليا، تلك الغربة التي يعانيها رجل قصة "لحظة" ذلك الذي يعاني الوحدة بعد رحيل الجميع. يشتاق إليهم، يريد من يحدثه، أو ينتظره، ولا يجد سوي خياله وذكرياته، يستحضرهم جميعا، ويملآ بهم حياته.

كما أن الإنسان في هذا العمر – سن المعاش - يقاوم  إحساسا داخليا، كالرغبة في العودة للصبي، قصة "اللعبة" حيث يتظاهر بالثورة علي الأولاد في لعبهم بالكورة التي ( تخبط) شباكه، لكنه في نفس الوقت لا يتحذ وسيلة جادة لمنعهم، وأيضا في قصة "الوقوف في البلكونة" حيث يصر علي بناء بلكون مكان الشباك، وكأنه يسترجع الزمن، ووقفة الشباب بالبلكونة أمام ابنة الجيران. أو الرغبة في السيادة والتسيد، قصة "مسألة المنور" حيث يثور النزاع بالدرجة الأساسية بينه وبين ابنة صاحب البيت، التي تمثل السيادة أو الملكية الشرعية. و الصوت العالي، المعبرعن الحيويةو التواجد، قصة "صداقة"، التي يصر فيها علي رفع صوته رغم اعتراض الجميع.

ذلك الصوت الذي نجده أيضا في قصة "في حضرة الشيخ" والتي تبدأ ب  {ارتفع صوته يدعو لي بالنجاح) رغم أن ارتفاع الصوت في مثل حالة الشيخ يبدوا ملفتا وغير طبيعي { نداؤه مرة واحدة فقط. بصوت قوي لاتتوقع صدوره من شيخ تجاوز التسعين}. إلا أن الصوت هنا يحمل دلالة السطوة. فحينما يروي الراوي مسألة أن كان الحلاق يضع يده فوق رأسه ليخسل له شعره، ورغم أن الضغطة كانت خفيفة إلا أنا كانت تضايقه، وهنا يضع الشيخ يده علي رأسه. ورغم أنه يدعو له بالنجاح، إلا أن استدعاء واقعة الحلاق، تستدعي تداعياتها. ويؤكد ذلك سطوة الشيخ علي أبنائه. الذين يتدافعون كلما استدعي الشيخ أحدا، الجميع يسارع لتلبية النداء، حتي يقع أحد الأحفاد علي السلم تنفتح رأسه { أخبرني بأنهم معتادون علي وقوع لأطفال لكن أكثرهم حظا من يقع والشيخ موجود ويضمد جرحه بنفسه}وكان من الممكن أن يسير التأويل نحو سطوة الماضي علي الحاضر. إلا أن الحديث أن (الشيخ) وليس الأب أو الجد، فالشيخ أبو صديقه، وهو الطرف الآخر في الحوار. إلا جانب حديث الدكتور عبد الله الذي {اشار فجأة إلي حامد وعرفنا أن والده أحد العارفين بالله وينتشر مريدوه في كل المحافظات} ليخرج التأويل من حدود سطوة الأب، أو السلطة الأبوية بكل صورها، إلي سلطة الغيب، للدرجة التي يتحدث عنها الاستاذ الجامعي، كجسد حي علي الأرض لما أراده الطيب صالح في روايته (عرس الزين). وكأنها محاولة أيضا لمقاومة الماضي للمغادرة، والتي نجدها أيضا  في قصة "ضرورة الحديد" حيث يصير النزاع والخلاف بينه وبين زوجته علي ضرورة وضع حديد علي الشباك، نقرأ ٍ[ وأكثر ما ضايقها حينما ثبت الجيران المواجهون لها القضبان، كأنهموضعواأمامها مرآة تري فيها يوميا ما ترفض حدوثه، بينما يري فيها والده ما يرغب فيه] ثم نقرأ في نهاية القصة [ وأفهما أنها منذ أن ثبت الجيران "اللي قدامهم الحديد" وهي تغلق الشباك دائما بقوة وكأنها تريد كسره". فهو إذن يريد أن يضع القيود علي بيته (أو أهل بيته)، وهو الشعور الذي غالبا ما ينتاب الإنسان كلما كبر به العمر، وكأنه يشعر بزوال قوته، أو انسحابها، فيبدأ ما يشبه الخوف أو الغيرة. 

الزمن ونسبيته

تثير قصص منتصر القفاش كثيرا من القلق والحيرة لدي القارئ، بما تحمله من بساطة ملغزة. إذ القارئ دائما ما يثور بداخله السؤال المنطقي، ماذا يريد الكاتب، وما وراء الكتابة.  وهو - السؤال – ما أعتقد أن منتصر يريده في حد ذاته. فهو يضع القارئ في مواجهة ذاته. يريد أن يقول للقارئ هذه حياتك، فماذا تريد منها، وماذا تري فيها؟ إن الحياة رغم اعتياديتها، هي مثيرة للقلق. مثيرة للتأمل، هي أبعد كثيرا مما يبدو منها علي السطح. عليك ايها القارئ، إن كنت تلهث وراء المتعة، وراء الاكتشاف، فالمتعة والاكتشاف ليسا في "مستوي النظر". فالقصة لديه وإن بدت ساكنة، خالية من الحدث، إلا أنها متحركة حركة غير منظورة، وكأنك تركب القطار. فأنت بداخله تجلس، لا تتحرك، بينما في الحقيقة أنت تتحرك.  تصل إلي مبتغاك، رغم أنك لا تمشي. فالحركة هنا، حركة الزمن، لا تستطيع الإمساك بحركته، رغم أنه يتحرك. بل ربما، وكما يردد البعض عادة، أن الزمن (يجري). فالحركة لدي منتصر هي بالفعل حركة الزمن، شكلا ومضمونا.يستعين عليها بفعل الزمن، ومن خلال المقابلة. المقابلة بين ما كان وما هو كائن. بين الماضي والحاضر. بين الأب والجد والشيخ، وبين الشباب، عبر رؤية كل منهما للأشياء. عبر إحساس كل منهما بما حوله. وحيث تقوم المجموعة القصصية الممتعة "في مستوي النظر" في المكان الواحد ( الدور الأرضي) ومستوي نظر كل منهما له. فهي إذن رحلة الزمان في المكان.

تكشف لنا قصة "الفرجة علي الشقة" بعدا آخر لذلك الخلاف بين الأب وزوجته ومعها الأبناء، وكأنها خلاف الأجيال ورؤيتهم، الرؤية النسبية للأشياء. حيث نري "الحاج إسماعيل" ومن كلمة الحاج، ومن جلبابه الأبيض، ومن زيجتيه، نتعرف علي أنه في عمر أبيه – رغم أن الراوي لم يصرح بذلك – ذلك الذي يسكن {تالت عمارة بعد السجن} ويسكن أيضا الدور الأرضي، يتعرف الحاج إسماعيل علي الراوي بمجرد وصوله للفرجة علي الشقة في نفس العمارة{ تالت عمارة جنب السجن}، وذلك لكثرة من ذهبوا للفرجة علي نفس الشقة – الرخيصة – إلا أن كل من يذهب ويتعرف علي قربها من السجن، يغادر حتي من دون أن يتفرج عليها، أي يتم الربط بين الشقة، وبين السجن بصفة عامة. غير أن الحاج إسماعيل ينظر للوضع بمنظور آخر.فهي أمام النيل، ويكفي أن يفتح الشباك ليري الإنسان النيل، ويصطحب الحاج إسماعيل كل من يأتي للفرجة، مع كرسيين بلاستيك للجلوس علي النيل، الذي يكفي الإنسان إذا ما مل الجلوس بداخل الشقة، يخرج بالكرسي البلاستيكك للجلوس علس النيل. وتهرب الزوجة الأولي من الحاج إسماعيل، بالطلاق، وتموت الثانية دون أن تنجب هي أيضا و{كانت زوجته تثق أن أولادها سيكرهون مثلها المكان. وسيشتكون لهما من سخرية أصدقائهم، وأحسن شئ عليهما أن يفعلاه أن ينتقلا إلي شقة جديدة قبل أن يولدوا}.

فالحاج إسماعيل ينصح الراوي، كما من المؤكد نصح آخرين، بأن { يري السجن مثل أي مبني آخر ولا ينشغل بوجوده}. فالحج إسماعيل يري في المكان ما لم يره الآخرون، بل إنه استطاع أن يقيم علاقة مع حراس السجن. أن يتعايش معهم. فالمكان هنا، مثلما الزمان أيضا، نسبي، نابع من داخل الإنسان ذاته، من جوانيته، فلاشئ مطلق بين البشر.

وفي قصة "وهو ينزل" يشعر صاحبنا أنه نزل أكثر مما تعود، ربما نزل أربع أو خمس أدوار، وليس ثلاثة فقط حيث يسكن. يرجع ذلك في البداية لعدم رغبته في الذهاب للعمل في ذلك اليوم [لكن الإحساس تكرر كلما نزل من شقته، سواء كان يرغب في الخروج أم لا، وسواء كان بمفرده أم مع آخرين] فالإحساس هنا ليس وقتيا لرغبة عابرة، لكنه أصبح، وأكرر، أصبح إحساسا يلازمه، أي أنه صار فعل الزمن. فما كان يقطعه في يسر، لم يعد له نفس اليسر، وأن [هناك أشياء في الحياة لا مفر منها] وعلي المرء أن يبحث عما يمكن أن يشعرف بأنه لازال علي قيد الحياة، وأنه مازال [إنسانا وليس شبحا]. أي ان الزمن هنا هو الذي تغير، ومعه تغيراإحساس، وتغيرت لوازم الحياة.

وفي قصة "لا أحد يري" يلجأ منتصر إلي الحيلة التقليدية عندما يريد أحد أن يروي شبئا غير تقليدي، أو شيئا خياليا. (يحكي أن) ليروي لنا شيئا غير تقليدي، وهو تبادل الشقق لأماكنها. إلا أنه في الحقيقة لم يخرج عن نمطه في البحث عن نمطية الحياة، ونسبية الزمن. ف(الشقق) لم يكن يروق لها أن يكرر أحد سكانها جملة "حاجة غريبة" عندما مثلا [ عندما لم يقدر مثلا المسافة بينه وبين الترابيزة فيقع كوب الشاي وينكسر، رغم أنه وضعه مرات لا تحصي] أي أن شيئا تغير. ليس بسبب الفعل الفنتازي الذي يلجأ إليه منتصر، وهو تغيير الشقق لأماكنها، ولكن لأن شيئا تغير. الأشخاص هم الأشخاص، والأماكن هي نفس الأماكن، وهنا يدعونا – منتصر – للتفكير حين يُنطق الشفف بأن عبارة "حاجة غريبة" [ يرددها السكان لإنهاء الحدث وليس لبدء التفكير فيه] وهذا التفكير هو ما يدعونا للتأمل فيه، والإجابة عليه حين كان السكان [ يريدون ضبط مساحة الشقة داخلهم وتحديد إن كانت ضيقة أو متسعة] أي أن المسألة نسبية، وما كان لم يعد ليكون، وما هو كائن الآن، ليس بالضرورة أن يظل كائنا في الغد. الماكن هو المكان، ولكن الزمن يتغير بنا، فتتغير الأشياء في إحساسنا، وفي وجودنا، فنتغير به.

ويختتم منتصر مجموعته بقصة "المشي" التي تكاد تكون الوحيدة التي تخلو من المقابلة بين الشيوخ والشباب، وإنما هي مرور الإنسان عبر الزمن، من الشباب إلي الشيخوخة، والتي تكاد تعتبر أفضل ختام لمجموعة متجانسة، وكأن القفاش كتبها في مرحلة زمنية واحدة، وبرؤية واحدة، فجعلها من التجانس ما يدعونا للقول بأن "المشي" هي الرؤية الكلية للمجموعة، أو خلاصة التجربة في المجموعة، وليظل الزمن هو البؤرة الأساسية فيها. فالمشي هو الحركة، والانتقال. وهو التجسيد الحي للزمن. فالمشي من نقطة لأخري، يحتوي الزمن في داخله، والزمن فيها لايمكن أن يكون صفرا. كلما مشي صاحبنا يصطدم بالآخرين. و[ في الشهور الأخيرة تكرر علي فترات متباعدة، وزاد معدل حدوثه من شهر دون أن يعرف عدد من سيصطدم بهم في اليوم الواحد. وحرص عندما يبدأ الفعل في العمل علي أن يبطئ سيره جدا إلي درجة أنه يبدو كمن يتعلم اليبر] لنتذكر علي الفور قوله تعالي في سورة ياسين «ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون».

يبدأ الانسان حياته بنشاط، يتداخل ويتعارك و(يصطضم بالآخرين) عندما يكون قادرا علي (المشي) بسرعة يتعامل ويحتك بالرجال والنساء، بمن يعرفهم ومن لا يعرفهم، فحياة من حوله صخب واحتكاكات. وعندما يتقدم به العمر، يبطئ مشيه، ويقل احتكاكه و(اصطدامه) بالآخرين. وتسير به الحياة، بطء في الحركة، وإحتكاكاته بالآخرين تقل. حتي يصل إلي الحد الذي يصبح فيه أمام نفسه وحيدا. ويصبح احتكاكه مع نفسه، وفقط [ صرخت فيه فتاة خرجت من المحل، ونادت علي أشخاص في الداخل ليساعدوها علي إبعاد كريم عن الفاترينة التي راح يضغط عليها بوجهه، مصدرا حمحمة تشتد كلما حاولوا تحليصه منها، ولا أحد يستطيع فهم ما يقوله، أو الانتباه إلي أنه يصطدم بصورته المنعكسة علي الزجاج].     

الزمن والمفتاح الرمز

لم تكن المجموعة لتستوطن مكانا واحدا (الشقة) لمجرد أنها ربما ترتبط بتجربة معاشة لدي الكاتب، وإنما، ولكثرتها التراكمية، تدفع للبحث عما يضمره منتصر وراء البساطة الخادعة. فإذا تأملنا كلمة (مفتاح) مثلا، وبما تحمله من دلالات، وجدناها تكررت في أكثر من قصة في المجموعة. ترد كلمة (المفتاح) في قصة "لحظة" ٍ[أسرع نحو الباب وفتحه، جذب المفتاح ال>ي نسيه فيهمن الخارج، وأتته أصواتهم المتداخلة،منها ما يضحك ومنها ما يهمس له ألا ينسي مرة أخري، ومنها ما تنصحه أن يسرع بالدخول إلي غرفته ولا يرد علي أبيه المتضايق من نسيانه الدائم] حيث نري إرتباط المفتاح بالنسيان، فضلا عن أن مجرد فتح الباب، زرعه مباشرة في زمن غير ما هو فيه، حيث تماهي الحاضر في الماضي [نصحه أن يسرع بالدخول إلي غرفته ولا يرد علي أبيه المتضايق من نسيانه الدائم].  وهو ما رأيناه في القصة التي تحمل "المفتاح" عنوانا لها في البداية، وارتباطه بالنسيان أيضا. فإذا ما عدنا إلي الجملة الافتتاحية لقصتنا "لحظة"، نجد [وهو يفتح باب شقته، تمني أن يدخل ليجدهم جميعا منتظرين عودته] وهو يعني هنا من ذهبوا وغيبهم الموت، أبوه وأمه، وإخوته. من كانوا يشاركونه (الشقة) التي أصبحت خالية عليه.فهو إذن عندما فتح الشقة، كان في الحقيقة يفتح باب الذاكرة ليعتلي قاطرة الزمن.

بل ليلغي وجود الزمن ذاته، فيدخل الماضي في الحاضر ليعاود معايشته، ليرفض الحاضر بثقله وعدم استطاعته التعايش معه، ويستحصر الماضي الذي كان له به تواجد. ذلك التواجد الذي يري نفسه فيه وسط الآخرين، وهو ما يحرص عليه شخوص المجموعة كلهم، بإصرارهم أو رغبتهم، وتحمسهم لسكني الدور الأرضي، القريب من الآخرين. الذي يشعرهم بأنهم لم يزالوا أحياء، وأن الوحدة هي الموت. ذلك الذي يهرب منه الإنسان، خاصة عندما يبلغ سن التقاعد.

وفي قصة "المفتاح"  نتعرف علي رجل خرج علي المعاش، دائما ما ينسي مفتاح شقته، وتعود علي مناداة الراوي ليقفز من الشباك ويفتح له من الداخل. وذات مرة كانت ابنة صاحب الشقة بالداخل، ظنها الراوي شخص غريب فطعنها أسفل بطنها. وتنتهي القصة. هنا  يخدع منتصر القفاش قارئه ببساطة اللغة والحكي في القصة، غير أنه يبث المعاني الإنسانية الكبيرة مغلفة بهذه البساطة. حيث نلمح (شقاوة) فتي في مقتبل الشباب، تسنح له فرصة اللقاء مرة أخري بفتاةٍ [وصرختها تدوي في أذني كأنها صرخات كل من وجهت لهم ضرباتي من قبل ولم يكن يسمعها غيري] ، هي الحافز القوي الذي يدفعه لتسمع وترقب الرجل المسن كلما عاد ناسيا المفتاح، ذلك المفتاح الرمزي الذي يحفظ للرجل ما بداخله من السرقة، بما فيهم ابنته ذاتها. بل (رددتُ عليه أن كثيرين من أبناء الجيران يتمنون لو نادى عليهم ليقفزوا) فالقفزة هنا قفزة جنسية، أحد أطرافها الراوي، وطرفها الآخر ابنة الجيران. وإذا كانت القصة قد امتدت بنا مساحة زمنية تتعدي اللحظة، فإن بساطة اللغة وسلاسة السرد جذبت القارئ في تؤده نحو اللحظة المعينة، وكأن الأم تتحدث إلي طفلها وتحكي له، وهو لا يدري أنها تسقيه الدواء، فكذلك لا يشعر القارئ بطول الفترة الزمنية عندما يواجه باللحظة الكاشفة دون أن يشعر.

وعلي الجانب الآخر وفي مقابلة لا مباشرة يواجه المسن وقد غرب عنه ضوء الحياة ومفتاحها وأصبح غير مرغوب فيه{ لو كانت بالفعل – ابنته – تريد انتقاله إلي شقتها لحضر زوجها معها بسيارته، وأصرا علي عدم التحرك من مكانهما إلا إن غادر معهما} يعيش وحيدا ولا من مؤنس، بينما بقاياه يتخطفها الناهشون. فنحن إذن أمام الحياة التي لا تتوقف ولا تمل الدوران، فبينما تغرب شمس جيل، تبزغ شمس أجيال جديدة. فالزمن هنا أيضا متواجد في لمقابلة بين أحاسيس واهتمامات كل من الجيلين، الرجل الذي أصبح النسيان آفته، وخوفه علي محتويات شقته، والفتي ومغامراته البطولية الوهمية وأحلامه المتصورة في هزيمة أعدائه المتخيلين، وطعنته – التي يمكن أن تكون من بين أوهامه المتخيلة – لمثل هذا العمر الفتي.

وفي النهاية نقول لمن يقدم علي قراءة منتصر القفاش. لاتخدعنك بساطة الإسلوب، وعادية الحدث والحركة، وطبيعية الشرائح المقتطعة من الحياة البسيطة، إذا كنت تبحث عن الإشباع والاكتشاف والمتعة. فالمتعة والإشباع ليسا في مستوي النظر العابر، وإنما عليك أن تبحث عن ما وراء البساطة من فكر ورؤي.

 

Em:shyehia@yahoo.com