تبحر هذه الرواية في عوالم حكم إستبدادي تنعدم فيه قيمة الإنسان، مما يجعله دائما عرضة للانمحاء في ظل منظومة سلطوية حاضرة تنسل في كل لحظة لقتل واغتصاب أدمية الإنسان. رواية سوداوية حول مجتمع يعيش تحت سلطة القمع مما يجعل الشخصيات ذواتا مركبة. وكأننا أمام سيرة وطن ينمحي تحت ظلمة الطغيان.

وميض البرق ينير خفايا تأريخ بغداد

عبد العزيز بلهادي

بغدادُ والظُرفاءُ والحَذَرُ..
قبل أن أستقل الطائرة المتوجهة إلى بغداد، كان ينبغي أن أصرف السمع والبصر عما تتناقله وسائل الإعلام من مناظر مرعبة وصور مروعة لمشاهد قتل وتخريب، يفترض أنها تحدث، أو يمكن أن تحدث، في أية لحظة، وأن أتفاءل وأستعيد في ذهني شعراً غنته المطربة الأسطورة فيروز:

بغداد والشعراء والصورُ ذهب الزمان وضوعه العطرُ

يا ألف ليلة يا مكملة الأعـــراس يغـسل وجـهك القمرُ

وشعراً آخر قاله مصطفى جمال الدين، ولم يغنّه أحد:

بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر   إلّا ذوَتْ ووريقُ خدك أخضرُ

مرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌ  ودجت عليك ووجه ليلك مقمرُ

وليس مصادفة أن يقترن ذكر مدينة بغداد بالقمر لدى الشعراء وأصحاب حرفة الأدب، لأن من يرى قمر بغداد ليلة اكتماله سيؤخذ ببريق ذلك المشهد الرائع، وقد قال إبن زريق البغدادي في سالف الأيام:

أستودع الله في بغداد لي قمراً  بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرار مَطلَعهُ

ولا يهم أن كان المقصود هو القمر الحقيقي أو حبيبة الشاعر.

لا أنكر مقدار خوفي وحذري وأنا أجوب شوارع بغداد العظيمة، ولا أدري كيف زال الخوف والحذر بعد سويعات قليلة من تجوالي في أحيائها القديمة والحديثة بصحبة أصدقاء قدامى وجدد من الأدباء العراقيين الظرفاء.

لا مفر من أن يرتعب المرء، للوهلة الأولى، من حجم الكوارث والنائبات التي حلت بالمدينة فقلبتها بتلك الطريقة! بالأخص من رأى بغداد في ستينيات القرن الماضي أو سبعينياته. لكن أحجار المباني الراسخة في القدم ولفحة الحر ورائحة الطين وسمرة الوجوه الجميلة تهز صورة البؤس والخراب، وتكشف من جديد عظمة تلك المدينة الأسطورية التي تلملم الآن نفسها وتنهض مثل طائر العنقاء.

لن يستأنس المرء بأي تعليل أو تحليل يبرر أو يصف ما حدث.

يلقي بعض الناس باللائمة على الحرب الأخيرة، وآخرون يعزون ما حدث إلى فترة التسعينيات التي يسمونها فترة الحصار، وهي الفترة التي أعقبت حرب الخليج الثانية والحرب الأهلية التي تلتها، وآخرون يعتبرون مصدر البلاء والخراب هو حرب الخليج الأولى؛ حرب الثماني سنوات الضارية التي أهلكت الحرث والنسل وتركت البلد رهينة للديون والمشاكل المزمنة...

هكذا وجدت نفسي منهمكاً في تجوال وسهرات ونقاشات حماسية وحالة عجيبة من المرح، رغم الحذر والمظاهر العسكرية المنتشرة في كل مكان.

شارع الفكر..
إنقضت أربعة ايام بلمح البصر، وبدأت ألمح نظرات الوداع في وجوه أصدقائي الذين تجمعوا، لغرض إحياء سهرة اليوم الأخير، وكنت صبيحة ذلك اليوم قد قررت زيارة الشارع الذي يحمل اسم أحد أعظم شعراء اللغة العربية؛ المتنبي.

اجتزت إجراءات التفتيش والمدرعة التي تحتل مدخل ذلك الشارع الذي يتفرع من شارع الرشيد الشهير، وينتهي عند ضفاف نهر دجلة، فتداعت ذكريات قديمة عادت بي إلى سبعينيات القرن الماضي، إلى أجمل السنوات التي قضيتها في بغداد أيام الدراسة الجامعية.

شدة الحذر وتوقع التفجيرات لم تمنع باعة الكتب، في ذلك الشارع العريق، من ممارسة تقاليدهم في عرض الكتب على رفوف الدكاكين والعربات وأرصفة الشارع. باعة يبدون لمن يتعامل معهم وكأنهم يعرفون كل شيء عن المؤلفين وكتبهم، وعن بضاعة الثقافة عموماً،  ويستطيعون أن يوفروا للزبون أي كتاب يحتاجه في دقائق معدودة، وقد حصل ذلك بالفعل حينما طلبت مجموعة كتب تراثية نادرة، كنت أظن أن الحصول عليها شبه مستحيل.   

في شارع المتنبي لابد أن يضيع المرء في دوامة آلاف الكتب التي يرغب بقراءتها أو لا يرغب. لكن الوقت كان يمضي بسرعة. مع ذلك قررت أن أقتني رواية أو أثنتين من تأليف كتاب عراقيين، بالإضافة إلى الأحمال التراثية التي رحت أنوء بها.

لن أكف عن عادتي في النظر إلى الصفحة الأولى من اي مؤلف أدبي، فإذا مستني كلماته الأولى اعتبرته كتابي المقصود، وإذا لم يكن الأمر كذلك، تركت الكتاب وشأنه.

عادة مذمومة ولا شك. لكن حكم الطبع أقوى من حكم التطبع. ليس بمقدوري تجنب الإحساس الخاص الذي ينشأ أثناء مطالعة السطور الأولى، ذلك الإحساس الذي يحفز الخيال ويدفع الذهن إلى حالة نشاط استثنائية. 

كتاب على رف..
على أحد الرفوف، لفتت نظري رواية تحمل عنوان "وميض البرق" للكاتب: طلال كمال الدين، مع تخطيط مقتبس من لوحة للرسام الإسباني فرنسسكو ديو كويا، وأنا من المعجبين بأعمال ذلك الفنان العظيم.  

مع التصفح الأولي السريع للرواية، لاح أمام عيني وميض باهر أضاء تأريخاً شهدنا بعض أحداثه، وتأريخاً آخراً موغلاً في القدم. ذكريات قديمة حديثة عن العراق وأهله. الأمزجة الخاصة، الطيبة اللامتناهية، العصبية المفرطة والكرم اللامحدود.. ومع العبارات الأولى وجدت نفسي في خضم الأحداث، ونسيت أني أقف في شارع  المتنبي الذي بدأت دكاكينه بإقفال أبوابها..

".. لم ينفع دوران مروحة السقف في خفض درجة حرارة الجو المفرطة داخل غرفة مفوض الشرطة. ظلت سخونة الهواء أعلى من قدرة احتمال البشر، وظل مفوض الشرطة صامتاً، لا ينطق بأي حرف، منذ أن وقف بدران الساعي أمام طاولة مكتبه المتهالكة.."

ذلك هو مدخل الرواية الذي ألقى بي مباشرة في جو العراق الصيفي الساخن، وفي أتون الحدث، دون الحاجة للوصف المستفيض، والمضلل أحياناً، وأنا عاشق لهذا النوع من الروايات، ولا أنكر أني قد لا أواصل القراءة إذا لم أجد المتعة والتشويق وما يحفز عنصر الحدس والتوقع.   

بعد وصولي إلى محل إقامتي، غرقت مباشرة في الرواية. غفلت عن موضوع الإعداد للسفر، وتناسيت الحر القاتل الذي سببه انقطاع تيار الكهرباء.

في زوبعة الحدث..
كنت كمن يستغرق في سلسلة أحلام تتداخل معها أحياناً كوابيس ثقيلة، وكلما حاولت أن أرسم تصوراً لما سيأتي من أحداث، تراوغني الرواية وكأنها تسخر من أفكاري، وبدلاً من الإنغماس في متابعة الأحداث والوقائع، كانت الرواية تبتعد عن الأحداث الحاضرة وتدخل في متاهة العوالم السرية للشخصيات. الأحداث التي نسوها أو تناسوها، الأمنيات والرغبات الغير مشروعة التي يحاولون قتلها في مهدها، قبل أن تفلت من عقالها، عقدهم، اعتقاداتهم وركام أحداث التأريخ التي شكلت ذاكرتهم الجمعية...

بعد عدة صفحات، بدا من الواضح أن الأحداث الجارية لم تكن سوى خلفية، أو أرضية background رسمها الكاتب ليجعلها مركز انطلاق للتوغل في التأريخ السياسي والإجتماعي والنفسي للمجتمع. 

بالطبع ليس الأمر جديداً. العديد من الروايات والأفلام، ومختلف أنواع الدراما، تلجأ إلى ما يعرف بأسلوب التداعي أو التقهقر flashback وهو استحضار الماضي من أجل كشف غموض عقدة الأحداث الحاضرة، لكن الأمر ليس كذلك في رواية طلال كمال الدين، لأن أحداث الرواية بسيطة وليس فيها أسرار أو عقد تحتاج إلى حلول تقتضي العودة إلى الماضي أو الإستعانة به.

العقدة الوحيدة هي سيكولوجيا الشخصيات التي تنعكس على تصرفاتهم وردود أفعالهم، وهي التي لأجلها ظل الكاتب يلاحق تأريخ المجتمع، القريب والبعيد، ويلتقط منه مشاهداً وصوراً سريعة ولماحة أثرت العمل الروائي وجعلته أكثر طراوة وجمالاً. ومع النبش السريع في مقبرة الماضي، يتسلط ضوء البرق الخاطف على مشاهد تحاول أن تفسر بعض أسباب العاهات النفسية الفردية والجمعية.  

لم يكن القصد، كما أعتقد، وضع نهج تحليل نفسي كلاسيكي، شبيهاً بتحليلات مدرسة فرويد، لأسباب نشوء العقدة النفسية وآثارها، بقدر محاولة تلمس الآثار الخطيرة التي تخلفها التجارب المرة القاسية، سواء تلك التي يشهدها الفرد، أثناء حياته، أو تلك التي يتلمسها في أفكار وسلوك الأجيال التي سبقته.

المحور الأبرز الذي تبدأ به الرواية، ثم تدور حوله بحذر، هو حادث دهس يتورط به أديب (روائي) يدعى بدران الساعي، ويصادف وقوع ذلك الحادث في يوم مهم في حياة ذلك الرجل، يتعلق بتكريم أو منح جائزة أدبية. المهم أن بدران هذا يقع تحت تحت طائلة القانون، قبل موعد الحفل المرتقب بسويعات قليلة، لأنه تسبب في مقتل رجل كهل.

تصورت أن ذلك الحدث سوف يشكل عقدة الرواية، وأن متابعته ستكون هي المقصد الرئيسي للعمل الأدبي، بحيثياته ونتائجه، لكن أثناء وجود بدران الساعي في غرفة مفوض الشرطة وبعد ذلك في الحبس، مع ثلة من المجرمين الظرفاء، يتضح أن ذلك الحادث الطاريء هو إحدى البوابات التي استخدمها كاتب الرواية بغية الولوج إلى أعماق الشخصيات، وإلى التأريخ السياسي القاسي الذي وضع شخصيات الرواية، والمجتمع بأكمله، في أزمة نفسية عامة حاولت الرواية كشف أبعادها من خلال إضاءات خاطفة أنارت مناطق خفية وحساسة في أعماق النفس البشرية السحيقة.

دوامة الزمان والمكان..
ترتكز الرواية على ثلاث شخصيات رئيسية حاضرة: الكاتب الروائي بدران الساعي، وصهره الكهل منير النعمان الذي يمثل الجيل السابق لبدران، أي جيل المرحلة الملكية، والذي نتعرف من خلاله على أفكار الطبقة الأرستقراطية الآخذة بالإنحلال، ومن ثم الجنرال القروي ناصر الشهابي رجل المخابرات الذي يتبوأ منصباً خطيراً، أثناء فترة الإعداد لحرب ما، ويمثل في سلوكه ومعتقداته خلاصة الفكر المشوه الذي أنتجته حقبة الإنقلابات العسكرية وما تبعها من محاولات التشبث الفردي الأوتوقراطي autocratic بالسلطة المغتصبة بقوة الدبابة والمدفع الرشاش.

".. تلك الأحداث وقعت قبل انتقال الدنيا، من مرحلة الجنرالات الحالمين، إلى مرحلة الرؤساء المعمرين. كان يمكن أن تستمر الحياة بدورتها الروتينية، في قريته المتاخمة للصحراء، وكان يمكن أيضاً أن تستمر دورة تعاقب الجنرالات على السلطة، لولا ظهور شعارات تبشيرية تنبئ بعصر جديد يحكمه رجال جبابرة، أصحاب إرادات فولاذية"  

الشخصيات الحاضرة في الرواية ترشدنا إلى شخصيات أخرى غائبة. أبرز تلك الشخصيات  جواد الساعي، وهو والد بدران، والشيخ صقر الشهابي، وهو والد ناصر الشهابي، وهذان الرجلان كانت تربطهما ببعضهما، وأيضاً مع منير النعمان، علاقة صداقة حميمة، ومن خلال ذكريات وتداعيات شخصيات الرواية الحاضرة نطلع على أوصاف وتأريخ الرجلين.

جواد الساعي شخص مثقف واسع الإطلاع جمع بين حب التجارة وحب الإطلاع وجمع الكتب والمقتنيات النادرة. لكن هذا الشخص مفقود لا نعرف مصيره، إذ تشير الرواية إلى اعتقاله أثناء أحد الإنقلابات العسكرية، ومن ثم اختفائه إلى الأبد. وليس جواد هو الشخصية الوحيدة المفقودة في الرواية، إذ تشير الرواية إلى شخصيات أخرى فقدت وأصبح مصيرها مجهولاً ومفتوحاً للتخمين. مع ذلك فهي شخصيات فاعلة في الرواية رغم غيابها.  

أما الشيخ صقر الشهابي، وهو شيخ عشيرة الشهابيين، فيتبين لنا أنه رجل متحضر ومثقف على طريقته، يتوفي بعد صراع تراجيدي مع خرف الشيخوخة، وبعد صراع مؤلم بين أفكار أبناء عشيرته التي تقدس العنف، وأفكاره المتشبثة بقيم بدوية مثالية مهذبة بثقافة علمية وأدبية لا تتواءم مع تطلعات الأجيال الجديدة التي تحاول استثمار المرحلة.       

تطور أو تدهور مشاعر وأفكار وسلوك هذه الشخصيات.. الصراع مع الذات ومع الواقع الذي ينتهك آدمية الفرد.. الشعور بالعدمية وغياب الأمن والسلم الإجتماعي... هكذا تلقي بنا الرواية في دوامة زمانية تتنقل ما بين الحاضر والماضي البعيد والقريب، وترسم لوحات ميلودرامية، ذات قدرة تعبيرية لماحة، تتجنب الإسهاب والمراوغة الفكرية والتدوير اللغوي والتهويم الذي ابتليت به القصة والرواية العربية. لكن رغم استغراق الرواية في خضم الحالات الإنسانية ومتابعة أحوال النفس البشرية، كانت هناك فسح للتصوير، ورسم لوحات قلمية مقتضبة، لكنها زاخرة بالألوان والأشكال، وأهم من ذلك أنها متناغمة مع السياق العام للرواية، إذ أنها تتسم بالإيجاز بما يجعلها غير منفصلة عن الحدث، وتبتعد عن استعراض القدرات الإنشائية واللغوية، وذلك النمط الذي اعتدنا عليه في العديد من الأعمال الروائية..

".. عند سهل منبسط تحيط به التلال، قرب مُرتَفَعٍ تنبع منه عيون مياه صافية، تقع قرية الشهابية؛ مسقط رأس الفريق ناصر الشهابي. من المؤكد أن عيون الماء التي انفجرت، ذات يوم، ودفعت بالمياه العذبة إلى الوادي، ثم إلى مجرى نهر "الصواف"، كانت السبب الأهم في توطن الشهابيين في تلك البقعة. آل شهاب؛ القوم الذين جاء أسلافهم، إلى هذا المكان، من أرض كثيرة العشب، بعد أن نازعهم عليها أحد الملوك الجبابرة، وسلط عليهم جيوشه الجرارة لتفتك بهم، وترغمهم على الهجرة... وفيما عدا الأشعار، وأسماء الأبطال والأشرار والمهرجين، وبعض التفاصيل الدرامية، لم تكن تلك السيرة الأسطورية تختلف كثيراً عن الأساطير التي ترويها القبائل المتوطنة، ذات الأصول الرعوية.."

وصف وافٍ مقتضب يندمج بسياق العمل بسرعة مع عبارة ".. عيون الماء التي انفجرت.." توابع فعل الإنفجار هي النشاطات البشرية، بواقعيتها وخرافتها، ويراوح الوصف بين المكان ذاته، وبين الفعل الإنساني الذي يصبح حكاية تبلغ الذروة فتتحول إلى ملحمة، ورغم ارتباط الناس بحكاياتهم وملاحمهم، وتشبثهم بها، فهي غير قادرة على الصمود بوجه الزمن..

".. حكايات وقصائد تتحول، وفق خيال مؤلفيها، إلى ملاحم شبه مقدسة، يرددها شعراء الربابة الجوالون، في حلهم وترحالهم، وتغرم الأجيال بتكرار نصوصها، فتتحسر على زمان البطولات الذي لن يعود. ومع تعاقب الأجيال، وتطور المعتقدات والأمزجة، تتعرض تلك الملاحم للتحريف، وللحذف والإضافة والتأويل... لا أحد يدري كيف، أو متى، تتسلل الأحداث الخارقة، والخرافات العجيبة، لتتداخل مع نسيج الحكايات الأصلية، ثم تبدأ بنخرها كما تفعل ديدان السوس، وربما تصبح، في فترات لاحقة من الزمان، سبباً من أسباب الوهن الذي يصيبها، فيسلبها ألقها، ويشل قدرتها على مجاراة الزمن وتقلباته."

لوحات ومشاهد سريعة وخاطفة قد تبدو أحياناً شبيهة بأحلام نسينا أجزاء منها ونحاول تذكرها أو تخيلها من جديد، وفي أحيان أخرى شبيهة بكوابيس ثقيلة تجثم على الصدر فنتمنى الخلاص منها ونسيانها.

الرمز والأسطورة..
كما نوهت، لم تحاول الرواية الإختباء خلف معميات فكرية أو لغوية، أو أي وصف مسهب يربك المادة الأدبية وحبكة العمل. حتى بعد أن قرأت العمل للمرة الثانية والثالثة، وهو أمر يندر أن أفعله، كنت أتعلق أكثر بالأسلوب وبفن "القص التلقائي" - المصطلح مستعار من الرواية- وانسيابية النفس الهاديء للسرد المتداخل مع حالة الحلم.

ليس هناك فكرة غامضة، في مجال السرد والتحليل واستخدام الزمان والمكان، لكن ذلك لا يعني أن الرواية تخلت عن المستوى الرمزي والتجريدي الذي يتجلى بوضوح في حالات وأشياء ظلت تتكرر وكأنها تعرض نفسها من زوايا متعددة للرؤية، وبحسب أفكار من يشاهدها في حينها.

من أبرز الرموز ذات الدلالة لوحتان للرسام الإسباني فرنسيسكو ديو كويا، وهما لوحة:        

El tres de mayo de 1808  التي تصور عملية إعدام الثوار المدافعين عن مدينة مدريد في ثورة 1808 ، ولوحة: صيد الأسنان A caza de dientes  وهي تصور امرأة تقتلع سن رجل مشنوق كي تعمل عليها تعويذة سحرية.

تلك اللوحتان تردان في الرواية ضمن تداعيات أفكار بدران الساعي وإرهاصاته، بعد إصابته بحمى شديدة أثناء وجوده في الحبس، مقترنة بمشاهد مؤلمة تتعلق بأحداث عنف دموية رافقت أحد الإنقلابات العسكرية التي شهدها بدران أثناء طفولته، ومقترنة أيضاً بفكرة مصير بشع يمكن أن يكون أباه المفقود قد لقيه.

يتبين لنا أن هاتين اللوحتين كانتا ضمن كتاب عن الفن حصل عليه الطفل بدران وخبأه في مكان ذي دلالة أكثر رمزية، وهو صندوق صيني مصنوع من الأبنوس نقشت عليه صورة رجل يبارز حيوان التنين الخرافي، وهو من مقتنيات أبيه جواد الساعي، حيث ترد إشارات إلى كتب ووثائق مودعة في ذلك الصندوق.

المكتبة الضائعة والصندوق الصيني ومحتوياته ترمز، على الأرجح، إلى الإرث الثقافي الذي تركه الجيل القديم، وبدلاً من أن يذهب ذلك الإرث إلى أصحابه الشرعيين، يقع في يد ناصر الشهابي، يد السلطة الأوتوقراطية الضاربة، ونفهم من بعض الإشارات الأخرى أن هذا الرجل الكاره للآداب والفنون، وكل أنواع الثقافة، يحاول أن لا يفرط بمحتويات ذلك الصندوق، لكنه لا يجرؤ على فتحه والنظر إلى تلك المحتويات، بينما يظل بدران يتساءل عن مصير ذلك الإرث دون جدوى.

وكما اسلفنا، فالأنهار في الرواية تكتسب أيضاً دلالات رمزية، مع إشارات إلى أساطير وخرافات تداولها الناس، في مراحل زمنية قديمة، ثم انتقلت إلى أعماق اللاوعي الجمعي الذي يظهر في سلوكهم بشكل أنواع من الخوف اللامبرر phobia أو السلوك المتهور وأعراض نفسية أخرى.

السرد والبناء..
الرواية مقسمة إلى فقرات قصيرة أشبه بمشاهد سينمائية تمهد لبعضها، لكن كل منها قائم بذاته ومشبع بموضوعه، إذا نظرنا إليه بصورة مستقلة. وقد كتبت تلك المشاهد والاستطرادات السريعة بطريقة لا تترك فسحة للملل أو تقليب الصفحات بعجالة، أو إهمال أية عبارة دون تدقيق أو تمحيص. ورغم التنقل السريع بين الأزمان، والتداخل بين الواقع والحلم، إلا أن المشاهد ظلت واضحة لم تفقد حيويتها وقدرتها على إيصال صور جمالية بليغة اختصرت الحاجة إلى الوصف المسهب، ودخلت مباشرة في معترك الصراع النفسي والإرهاصات الفكرية.

ساهمت الأماكن في رسم أرضيات موافقة أو مناقضة للمواقف، سواء في مجال السرد وتتابع الأحداث، أو في مجال رصد الحالات النفسية والصراعات الفكرية. وقد استخدمت الرواية لعبة طريفة بخلط أسماء أماكن حقيقية مع أماكن وهمية، فحينما استعلمت عن بعض أسماء الأحياء والأنهار (نهر شويلي، نهر الصواف، ضاحية أوسكان باشا..) عرفت أنها أسماء خيالية وضعت ضمن أسماء واقعية لمدن وقرى وأنهار (بغداد، دجلة..)، وربما كانت تلك إشارات للخلط والتحوير الذي يجري بفعل الخيال الإنساني، مثلما يجري تهويل أو تصغير الوقائع:

".. الخيال البشري ساحر مدهش، يمكنه أن يطرح حلولاً وهمية لأعقد الإشكالات. قد لا تنفع تلك الحلول في تغيير الواقع، لكنها تجلب نوعاً من السكينة. إنه يستطيع أيضاً تخفيف ثقل الرزايا، حين يضفي عليها ألواناً زاهية، لكنه قد يهول من شأن المتاعب البسيطة، يمزجها، أو يركبها مع بعضها، بطريقة شائكة، ربما تدفع إلى اليأس، أو إلى الجنون.."

خلاصة..
تقع أحداث الرواية في أجواء حكم إستبدادي تنعدم فيه قيمة الإنسان، مهما بلغ اجتهاده، الناس يختفون بشكل غامض، أو يعيشون في تهديد مستمر من قبل كائنات استخباراتية شبيهة بالأشباح التي تستطيع أن تنفذ من خلال الجدران والحجابات، وربما من خلال الجلد الآدمي.

كل هذه الأوصاف والاستنتاجات تتسلل إلى ذهن القاريء دون أن تتورط الرواية في وصف تقريري لحالات عنف مباشرة، ولا في تهويل قصص الرعب حول ما يدور في الأقبية المظلمة، إلا بقدر ضروري محدود جداً. مع ذلك ينتقل القاريء إلى الحالة السوداوية التي يعيشها المجتمع المقموع، المغلوب على أمره، فتتسلل تلك الأفكار مع إشارات لماحة وسريعة إلى أحداث تاريخية  عاصفة، مرت بالبلد، وأحداث أخرى شخصية تخص أبطال الرواية.

لا أبالغ في استنتاجي بأن رواية السيد طلال كمال الدين الموسومة "وميض البرق"، في أسلوبها وطريقة بنائها، هي تأسيس لرواية عربية جديدة، ففي موضوع التفاصيل والجزئيات، تعتمد الرواية على عناصر الدراما والسرد القصصي الممتع، بحيث تبدو وكأن خيوطاً سحرية تشدها إلى بعضها من البداية إلى الخاتمة، أما في موضوع المعنى العام فهي تكشف بهدوء، ودون استفزاز، عمق الأزمات النفسية والفكرية لمجتمعاتنا، وخوفنا المزمن من وضع أيدينا على مواطن الألم كبداية للعلاج.