يمثل المثقف الاسباني المرموق أحد الأسماء العالمية القلائل الذين احتفظوا بقيم المثقف الأصيل الذي ينتصر للقيم الكونية ولعدالة حقوق الشعوب المستضعفة، بنكران ذات وبتمسك قوي بمسيرته الإبداعية وبهموم الكتابة، هنا نتعرف على كتاب يعالج محنة شعب البوسنة والهرسك، من خلال مجموعة مقالات سماها "دفتر سراييفو".

مؤامرة الصمت وتهافت المثقفين

هشام بن الشاوي

أثار رفض خوان غويتيسولو  لإحدى الجوائز العربية حنق بعض المثقفين، المتهافتين.. ممن تخلوا عن دورهم الطليعي التنويري  الحضاري، واختاروا  بيع ضمائرهم، ولعب دور النديم المهرج للسلطان، فأينما وليت وجهك تجدهم بجانب ولي النعمة، دون أدنى إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير.. لتغاضيهم عن معاناة بني جلدتهم  من الشعوب العربية المقهورة.

وقد يتساءل البعض :  أليس غريبا أن ينتصر كاتب إسباني للشعوب المسحوقة، فيما نخبتها "تنام في العسل" أم هي مجرد عنترية جوفاء، كما يفعل كتابنا العرب الميامين؟

كلا،  لقد سبق أن ساند من قبل المسلمين، مخاطراً بحياته، وقام بما لم يقم به  سائر مثقفي العالم العربي والإسلامي وكتابه ومبدعيه وفنانيه...

إنني ممتن لموقف الكاتب الإسباني، الذي دفعني إلى قراءة كتاب قديم له، كنت قد اشتريته - منذ مدة- من بين الكتب المستعملة من عند كتبي عجوز يفترش رصيفا.. وضعت الكتاب جانبا، وانشغلت بقراءة الروايات والكتابة عنها،  و أبرر- الآن ...هنا-  إهمالي له بأنه ليس كتابا إبداعيا.

أتذكر جيدا أني سبق وقرأت عن محنة شعب البوسنة والهرسك، قبل أكثر من عقدين. أتذكر تلك اللحظة جيدا، وكأنني  أتصفح ذلك العدد من تلك المجلة الإسلامية الآن، وكنت -يومها- دون سن العشرين.

من أجل الأجيال التي لم تعاصر  تلك المذبحة، ومن أجل الأجيال القادمة نقدم هذا العرض.

 كما جاء في مقدمة مترجم الكتاب، الصادر عن دار الفنك  المغربية (1994م)، الدكتور طلعت شاهين ، يعتبر خوان غويتيسولو من القليلين الذين أصدروا بيانات ضد النازية الجديدة في البوسنة والهرسك، والتي تحاول القضاء على آخر شعب مسلم في أوربا، وقد خاطر الكاتب بالسفر إلى سراييفو، حيث قضى أسبوعا كاملا، عايش خلاله الموت الذي يحيط بالمدينة في كل لحظة، فكان نتاج هذه الرحلة مجموعة مقالات سماها "دفتر سراييفو". وللكاتب حساسيته المميزة اتجاه القضايا الإنسانية العادلة بشكل عام، والعربية الإسلامية بشكل خاص، وفي حواره مع المترجم صرح غويتيسولو بأنه حاول أن يظل محافظا على احترامه لنفسه، فقد كان يشعر بالغثيان من قراءة ما يحدث هناك يوميا، وبعد مرور أكثر من سبعة عشر شهرًا لم يعد يقبل هذا الدور دون أن يكون طرفا مباشرا فيه، لكنه يعتقد أن الكتابة وحدها لا تكفي.

في طريق الرحلة يثير انتباهه مجموعة من السياح، فيتذكر ما قرأ في الصحف، عن شركات سياحية إيطالية تعلن عن رحلات خاصة للسياح المتعطشين إلى الاستمتاع  بمشاهد خارقة للعادة، حيث يجوبون المناطق التي دمرتها الحرب حديثا في مختلف انحاء العالم، فيستنشقون رائحة البارود، ويتجولون في القرى المدمرة، ويشاهدون الأجساد المتحللة والمقابر الجماعية التي لا يكاد يغطيها التراب وأكوام الجثث المصطفة، ويخمن أنهم في طريقهم إلى البوسنة، ويتساءل هل يذهبون لالتقاط صور فوتوغرافية للنساء والأطفال المكدسين في قطارات النفي أم لتصوير البيوت المحترقة والأجساد المتفحمة والمساجد المدمرة أو تلك الفتاة المسلمة التي  رسموا على ذراعها  الصليب بسكين حاد أو تلك المرأة الباكية أمام كاميرات التلفزيون، وهي تقص حادث اغتصابها المكرر على أيدي جيرانها، وتبول طفل أحدهم على وجهها وهم يمسكونها بأيديهم، وكل جريمتها أن زوجها هرب ولم يدافع عن قضيتهم المباركة، وتعاون مع "المتطرفين المسلمين".

لحسن الحظ أن الحقيقة كانت بخلاف ذلك، لكن الكاتب يستغرب كيف يستمع أولئك السياح بجمال الشاطئ الدلماسي (اليوغوسلافي)، ويتجاهلون ما يحدث على بعد مائة كلم. في الطريق إلى الفندق يسأل سائق التاكسي أين يمكنه مقابلة المهجرين من البوسنة والهرسك، ممن يستطيع الحديث معهم باللغة الإيطالية، يعرف أنهم يقيمون في نفس الفندق، ولا يخفي السائق عنصريته اتجاه المسلمين قائلا : "هذه مدينة نظيفة، وجودهم هنا يسبب لنا هروب الزبائن. نحن لا نريدهم هنا في سيليت".

-                  إلى أين تريدهم أن يذهبوا؟

-                   إلى تركيا أو ليبيا. عن نفسي أقول لك فليذهبوا إلى الجحيم."

أمّا  نشرة الأخبار الكرواتية، فهي  مكرسة للأنشطة والخطب واللقاءات اليومية للرئيس العبقري توجمان. وفي دليل مصور قديم للعاصمة (ما قبل الحرب) يقرأ تحته "إذا سافرت نهارا، ستعثر على مدينة شرقية تشبه تلك التي توجد فقط في الأساطير وستذهل وأنت تخترق طرقها الواسعة ذات العمارات الحديثة البراقة أو على الطراز النمساوي في القرن التاسع عشر". بيد أنها  لم تعد سوى ساحة من الدمار، مليئة بالجراح والأوصال الممزقة، والمباني والشوارع اختفت بالكامل من الوجود، والناس قابعون في مخابئهم... ويشبه الكاتب العيش في سراييفو بأنها حياة في مصيدة الفئران، تجبرهم على تجنب أماكن الخطر ومعرفة الأماكن التي يمكن التنزه فيها، دون خطورة كبيرة ومعرفة حتى الزوايا والتقاطعات المفضلة  لدى القناصة، وأبسط خطأ أو غفلة في اختيارات الطريق يؤدي إلى النهاية المشؤومة، مع أن الجميع مضطرون للخروج بحثا عن الماء والطعام  ومواد التدفئة، ويتعايش السكان مع مشاهد الإبادة اليومية والإحساس العام بالخيانة، ولا يتوانى الكاتب في وصف كل ما يحدث في البوسنة وسراييفو من عمليات قتل وتدمير ومذابح-أو ما يسمى بالتطهير العرقي- يجري بلا رادع !!.

في أحد المستشفيات والذي لم يسلم بدوره من القصف،  وأغلب المصابين في المستشفى مبتوري السيقان أو مقطوعي الأيدي، وفي غرفة واحدة يتواجد مصاب كرواتي رفقة صربي و مسلم، يعيشون ثلاثهم كأشقاء، يصرح له الكرواتي بأن  "الشكناز يريدون زرع الكراهية في قلوبهم"، وفي جناح الأطفال  يحس  غويتيسولو باستحالة الوقوف إلى جوار طفلة صغيرة تتدلى عضلة ساقها الممزقة في دلو ماء... وفي المقبرة تتوجه كل الشواهد المسيحية والإسلامية، بجميع طوائفها، باتجاه القبلة، فوحده الموت يوحد بين المؤمنين من ديانات أهل الكتاب.. ضحايا الوحشية نفسها، ويقترح  أن تضم المقبرة شاهدا آخر تكتب عليه :"هنا ترقد كرامة المجموعة الأوربية ومصداقية منظمة الأمم المتحدة المقتولتان في سراييفو. لقد ذهبتا ضحيتي جبن مفاوضيهم وزعمائهم  النموذجي ووقاحتهم"، ولا يتردد في أن يعلن أن تلك القرارات و الاتفاقيات بقيت مجمدة في الأدراج، لأن المصالح الحيوية لتلك القوى لا تتعرض للخطر.

إن السيد رادوفان كاراديتش الذي يتخفى خلف مظهر شاعر حالم يتظاهر بجهله التام بتعبير "التطهير العرقي"، ويضمنه ببلاهة في إجاباته على الصحافيين، فيرد مستنكرا :"مذابح وغرف غاز ومعسكرات قتل؟ إنها من صنع خيال المجاهدين، والمتطرفين المسلمين الذين يحاولن السيطرة على أوربا !"، فهو يلعب مع ميلوزفيتش وسيسليج دور الضحايا لمؤامرة فاتيكانية-إسلامية-ألمانية، وهم يقاومون كل المؤامرات بفضل مساعدات الروس واليونانيين، فضلا عن حماية "سانا سافا" ضامن النصر النهائي للشعب السماوي المختار، الذي تتغنى به الأغاني الشعبية الصربية.

في مأوى للاجئين،  قابل الزوجين ياسمينكا وايساك- وعلى الجدار علقت مسابح وشعار البوسنة والهرسك-  وضحا له أن"الشكناز ينفذون الأوامر كالآلات المبرمجة تماما (...)، وأكثرهم مرتزقة  من روسيا و أوكرانيا أو من المجرمين الذين أطلقهم ميلوزفتش من السجون. يريدون أن يزرعوا الكراهية بيننا، لكنهم لن يتمكنوا من ذلك، سنعود لنعيش معا في يوم من الأيام... ففي الجانب الآخر من الشارع توجد عائلات صربية، يساعد كل منهم الآخر، ويهبطون المخابئ معهم... "نحن لا ننسنى، لكننا نعفو".

 إنها سراييفوا... وهكذا كانت.

أما الأرملة"ابزيا" فتسرد كيف أن قوات النسور البيض قام أفرادها بغرز مكلاب جزار في فم جارها المسلم ووثقوا يديه ثم ربطوه إلى خلفية  سيارة وسحلوه، ليراه كل الناس ثم ذبحوه، ولعبوا برأسه كرة القدم، وبعدها رموا أشلاءه في النهر، وأجبروها على وضع فوهة مسدس في فم ابنها وينهالون عليها ضربا بأيدهم وأرجلهم لتطلق الرصاصة، وحين يئسوا غادروا، لكنها فقدت النطق ثمانية أيام... لم تستطع خلالها النطق بأي حرف.

بينما المسلمون اللاجئون إلى قراشده، فقد حشروا  داخل مسجد قديم، أضرموا فيه النار، ولم تنس صرخاتهم المرعبة ورائحة اللحم المحترق، وعن إمكانية العيش  مع صرب القرية من جديد، ترد بأنه من الصعب أن تعود للعيش إلى جوار الرجل الذي أرشدهم إليهم.

يسمى الكاتب قصف معهد الدراسات الشرقية، بمكتبته الشهيرة، حيث احترقت محتوياتها الثقافية الثمينة  بـ"اغتيال الذاكرة"، يرمي إلى إزالة أي أثر إسلامي من أرض صربيا الكبرى، وأولها المكتبة التي تمثل ذاكرة الشعب البوسني المسلم.  نائب رئيس  الجمعية الإنسانية للثقافة والتعليم اليهودي يتأسف لأن لا أحد يزور البوسنة منذ استقلالها  ومنهم اسبانيا التي لا ترسل سوى الضباط وقادة الجيش،"إنه لمن المخجل أن تتجاهلنا إسبانيا ولا تقيم علاقات مع البوسنة "، ويرى بأن العلاقات بين الطوائف الدينية في البوسنة كانت طيبة جدا.  وكانوا يطلقون على سراييفو اسم "أورشليم الصغرى"، والمعونات فهي "صدقة مهينة" بتعبيره... فهم يرسلون إليهم الحثالة وما لا يصلح للبيع من ملابس وأطعمة محفوظة، وأولئك المتوحشون يطلقون عليهم النار دون تمييز، لأنهم يعيشون معا، ويعتبر الحديث عن التهديد الإسلامي "فرية من أكاذيب ميلوزفيتش، فالمتطرفون الحقيقيون هو وعصابته".

ويعتبر الكاتب وجود قوات القبعات الزرق بدورها المحدود إنها تحولت إلى متفرج ثم إلى مشارك أخرس للمعتدي، والرافضون للتدخل العسكري يستخدمون الإعانات الدولية كسلاح يحرم المحاصرين في سراييفو من حقهم الشرعي في الدفاع عن النفس، بينما كلينتون يلقي بصواريخه على العراق، وهو ما قوبل بالتفهم من جانب وزارات الخارجية  الغربية.. ولا أحد يدين القناصة الذين يقطفون أرواح النساء والأطفال، لأن المنطقة التي تجري فيها هذه الأحداث، لا تدخل في مناطق "المصالح الحيوية" للولايات المتحدة والمجموعة الأوربية، وقيمة الإنسان البوسني أقل من قيمة برميل البترول الخام، وبهذه الطريقة- بتعبير الكاتب- يكفر المسلمون وغيرهم  من الأوفياء لحكومة سراييفو عن جريمتهم الوحيدة.. انتمائهم لدولة لا تملك حقولا للنفط.

إن المتطرفين الصرب يطلقون صرخات التحذير من "المتطرفين المسلمين" الذين توجههم إيران، هكذا تصير  حرب التطهير العرقي حربا صليبية جديدة ويتم إحياء الصراع الأوربي القديم ضد المسلمين ومحاولاتهم إقامة "خلافة إسلامية في البلقان"، وهي حرب إعلامية أيضا، فتلفزيون الصرب واليونان، يحذران من الخطر التركي... حيث يبث تلفزيون بلغراد وصلة غنائية فيها فتاة بزي فلكلوري صربي تنحني بإثارة لتقبل مدفعا يقصف مسلمي/أتراك البوسنة.

رئيس أئمة البوسنة يؤكد أن الحكومات الأوربية بدل مساعدتهم وقفت تتفرج عليهم وتسمح بإبادتهم، ناكرين حقهم المشروع في الدفاع عن النفس، ويتساءل بما تفيدهم  المساعدات الإنسانية إن كانوا يتركونهم يذبحونهم، وعن التهديد الإسلامي ردّ  بأنها فكرة يشيعها الصرب فقط، وهناك أكثر من سياسي غربي يعد استراتيجيته الخاصة لمواجهتها. فالشكناز  يريدون محو الإسلام من منطقة البلقان.

قبل الرحيل يعترف الكاتب أن مبادرته والكاتبة الأمريكية سوسن سونتاغ  لجذب كتاب من ذوي الأسماء الرنانة إلى سراييفو باءت بالفشل، والمسألة ليست سوى مقت للإسلام، بينما المثقفون البوسنيون الذين ظلوا في سراييفو يسألون زملاءهم بإلحاح :"لماذا كل هذا الجبن وكل هذا الصمت؟". ويقر الكاتب أن  لا أحد يخرج من جحيم سراييفو سالما، فمأساة المدينة تحول قلب وجسد من يشاهدها إلى قنبلة على أهبة الانفجار في مناطق الأمن المعنوي للمذنبين بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا الانفجار هو الذي يسبب أقصى الخسائر.