تبحث الكاتبة العراقية في إشكالية العلاقة الزوجية في أبعادها النفسية والاجتماعية والحسية ولغز الإنسان – الرجل - الذي تقدم له الزوجة المحبة كل كيانها ومع ذلك ينسج في السر عالما ينأى عنها من خلال بنية قصصية مبتكرة ولغة مكثفة ناسبت إيقاع النص الداخلي.

القديسة والشيطان

ناهدة جابر جاسم

"سقيت روحه العطشى فلم يشكرني ومنحته ثقة بنفسه ومعنى لكينونته فخدعني لكنه ارتوى وانتعش وتركني أذوي" من كتاب ألف ليلة وليلة.

لم أصدق الخبر!.

منذ الأمس صرت مثل جدار جامدة على كرسي قرب التلفون.

- يعني سوف لا أراه ولا ألمسه وأشمه!.

وفيما كنت أظن أنني سوف أموت اللحظة القادمة، رن الهاتف مرة ثانية. ظننت أن المكالمة من العراق أيضاً فقد أغلقت التلفون حال سماعي الخبر، لكن كان رجلاً غريباً، نبرات صوته مليئة بالحقد على من ارتبطت و ظننت انه رفيق العمر وما تحمل هذه المفردة من معاني إنسانية أقدسها.

صوته حقودا وحسودا وينضح بالسم على رفيق عمري، ولكنه كان شجياً ومتعاطفاً معي دون أن اعرف من هو!

- أهلا

Ja det er Nahla""

هذا ما تعودت عليه هنا في الدنمرك حينما ترفع سماعة التلفون تعلن عن أسمك، وهذا يعني عن هويتك وشخصك، لا أسرار و لا خبايا ولا كذب ولا مواراة هنا. الوضوح والصدق. كلمتان بسيطتان وسهلتان ولكنهما عادتا شبه مستحيلتين في قاموس من تعودت إن أقاسمه السرير وحلاوة الحياة ومرارتها.

كان المتكلم مرتبكاً وعجولاً:

- هل أنت فعلا مغفلة عما يدور حولك وفي بيتك؟!.

- ماذا تعني ؟

قلتها كمن يستغيث

- إلى متى ستبقين مخدوعة ومغفلة؟ هل فكرتي لماذا أختفتْ صديقتك من حياتكما وبشكل مفاجئ؟!.

كمن أغطسوه بالماء قلت بصوت مختنق:

- من.. من.. من ؟

- الكردية الأب وروسية ألام!

بدأت ألهث حتى كادت تتقطع أنفاسي وهو يكمل:

- تبصري و انتبهي على عمرك الذي أطفئت شرارة توهجه مع خسيس لا يستحق!

وأضاف صفات بشعة  ناعتاً بها شريك العمر

صرخت بكل كياني:

- ما من خسيس غيرك يا جبان! من أنت كي تتطفل على حياتي!.

أغلقت الهاتف بعد ما دافعت عن حياتي وقدسيتها  وشريكها الذي لم يترك لها سوى ذكرى وثلاثة ثمرات

سمعت ما أراد هذا المجهول أن يخبرني به! من هذا الذي كان ناوياً على جنوني!.. من؟

- هل كان مدلها بي؟

- هل كان حاسداً رفيق العمر ؟

- أكان يتابع تفاصيل حياتي؟

غرقت في بحر الأسئلة والحيرة وقدرت أن المجهول كان من بيئة زوجي الأدبية

في لحظة أحسست نهاية الكون

وشعرت بدوار ورغبة في التقيؤ!.

وبعد أن تمالكت نفسي هرعت فوراً إلى المخزن الكائن تحت الأرض كسرداب كي أبحث في أرشيف أوراقة المبعثرة كروحي. لعنت المجهول الخبيث الذي جعل من يومي وأيامي المقبلات جحيماً من الشكِ وعدم اليقين.

تفرغت تماماً لكي ابحث و أنبش في أوراقه وماضيه لكي أحترق وتحترق بقايا روحي مع أسراره  القشة الهائمة في عالم نساء من حبر وورق.

وكان قد مر على سفره وإقامته في العراق ثلاثة أشهر.

*      *      *

كنت للتو خارجة من عملية جراحية ثالثة كبرى في العامود الفقري، وكنت في حاجة حقيقية إلى الهدوء والأمان الداخلي، كما لم تمر ثلاثة أو أربعة اشهر على محاولتي إن أسامحه على فعلته الشنيعة بحقي، حين اكتشفت رسائله وتوسلاته الغرامية إلى امرأة متزوجة تعرّفَ عليها خلال سفرته إلى القاهرة. اكتشفت ذلك عن طريق الصدفة، فقد سكر ونسى بريده الالكتروني مفتوحاً، كان يخاطبها بهذه العبارات:

(محبتي

دخلت في الفيس بك

طبعا أنا متخلف تكنلوجيا جدا جداً

وتجولت في صفحات من دخل معي أنت تستطيعين أيضا التجول في صفحتي

لا أحبذ ذلك لي أسبابي

فالمشاعر في الفيس مشاعة

وكأنك تنتهك لو كتبت بصدق

عدا أنني بسبب مخاض حياتي الشرس بدت ميالا للعزلة

فمنذ تقريبا 1992 وحتى الآن أقضي جل وقتي وحيدا إلا في الفترة الأخيرة

هل قرأت فصل من روايتي نشر في ملحق الأحد في الأهرام المسائي أقصد الأحد الفائت أعتقد أن روايتي ستكون في المكتبات في الأيام القادمة كم أتمنى أن أمسك تلك القطعة من حياتي والتي تعود لقرابة 19 عام مضت بيدي ككتاب ابعثي لي بنصك سريعا فهذه الأيام لست منشغلا بموضوع

محبتي ووردة)

23-8-2009

كنت أقرأ وأهتز مثل سعفة، يا إلهي.. يا إلهي يا رب الكون ماذا أفعل؟

هو يكتب عن لحظته في الدنيا العابرة وأنا اشعر بحياتي عبارة عن كابوس، قد يكون محقا، وأنا المجنونة في الحب والحبيب القديس.

لا ادري كيف يعيش وحيداً منذ عام 1992 وولدت من نطفته البيضاء طفلنا الثالث في عام 1993 ولداً تمناه هو وكنت احلم بالراحة الجسدية والروحية بعد التجربة الطويلة والقاسية التي عشتها مع الثوار في شمال العراق منذ بدايات 1984 حتى عام  1988 حينما تشردنا عقب هجوم الجيش العراقي العائد من الحرب مع إيران في المخيمات التركية والسجون الإيرانية وعذابات روحي من سكره في الشام وانتظاره الطويل في طابور الحصول على كأس بيرة أو قنينة فودكا في موسكو ورعبي الذي كنت أعيشه وحدي في مستشفيات موسكو حين تتعرض أبنتا الوحيدة إلى أزمة ربو فأرقد معها وأنا مكسورة الخاطر لا أعرف مستقبلنا المجهول وقتها.

وكنت قد شجعته على السفر لا بل قطعت تذكرة السفر وودعته بمطار كوبنهاجن مع ألاماني النابعة من روح روحي إن يسعد  ويحقق نجاحات متواصلة في مجال عمله!.

رسائل كلها شكوى من شريكة عمره والتي أنفصل عنها منذ 1992 وهو يعيش وحيداً.

كانت مصيبة عمري وظننت بها الوحيدة، وكنت أقرء وأنا ارتجف من راسي إلى أخمص قدمي، كغصن شجرةٍ ضعيف تهزه عاصفة شديدة، زوابع من القهر والجور عصفت بروحي، كدت أنشل، وقعت في برزخ مابين الحياة والموت. قرأت كلماته المخطوطة بحس وعاطفة وهو يلقي تحيته الصباحية والمسائية عليها مؤكدا وحدته و انفصاله عن شريكة حياته منذ سنوات طوال حين اكتشف علاقتها بأصدق صديق له. فبات يشك في كل امرأة لأنه كان يظن بها قديسة.

*      *      *

شجعته على السفر  الى مصر ومن ثم العراق، لكي أتنفس الأمان والنوم ملئ جفوني. قلت مع نفسي دعيه يسافر لكي ترتاحي ويبرد رأسك من نكد وعذابات الخمر والسكر الذي أدمنهما وأسطوانته المشخوطة وهو يردد على مسامعي

(أنت مو مثل السوريات واللبنانيات ما تعرفين ترقصي وتهزي ردفيك)

-                  أصمت ولغتي هي التساؤل من هذا؟

-                  كنت في أمس الحاجة الى الكلمة الطيبة، المحنة، omsorg; kærlighed

-                  كان في عالم الذات والأنانية

-                  كنت ضعيفة صحيا وبأمس الحاجة الى الكلمة الطيبة

-                  تذكرت مثل صديقتي الفلسطينية كانت تردده ( الأهل يريدون الغنية والزوج يريد القوية) * وتعني بالقوية يعني المعافاة صحيا.

-                  كنت غنية روحيا ولكن لم أكن معافاة جسديا !

*      *      *

كل من يعرفني عن قرب كان يصفني بالغزالة أو المهرة. وكنت أحاول بكل جهدي أن لا أبين له ولمن يحيط بي ضعف جسدي الذي كان خارج إرادتي إلى أن كوتني في ساقي جمرة سيجارتي دون إن اشعر بأي ألم.

حدد موعد أجراء العملية الجراحية في عمودي الفقري في 2- أيار 2008! كان مشغولا في كأسه ونسائه العابراتّ ! كان عذابي مركبا من ألم في جسدي وأشد منه  في حنايا روحي العاشقة له و أولادي.

كان يوما ربيعيا من أيام شهر نيسان من ذلك العام، كان هناك زعل في روحي منه, كنت في أوج مرضي وعجزي الجسدي, العجز الذي كان خارج طاقتي الإنسانية!

طلبت منه إن نتحاور ونتفق فيما لو لم تنجح العملية. كانت العملية خطرة جدا ونسبة النجاح 50% كما اخبروني الأطباء!

قلت له:

- لا أريد منك شيئا سوى أن تغادرني بهدوء إذا أصبتُ بالشلل وإن رحلتْ روحي إلى مستقرها إثناء العملية. عش حياتك كما تريد ولكن لا تأتِ بامرأة أخرى إلى البيت الذي يسكن به ولدي وبنتي.

كان يلزم الصمت شاردا بعينيه من مواجهة عينيَّ.

- كنت أعيش كابوساً لا أتمناه حتى لعدوي كما تقول أمهاتنا!

لليوم الثاني و أنا أبحث عن ضالتي بين أكداس أوراقه المعبأة في أكياس متناثرة في المخزن. أبحث وأنا ألعن المتصل المجهول الذي سمم قصة عمري باتصاله. كنت على يقين من أنني سأعثر على شيء ما فأنا أعرف حبيبي سكير يبوح بكل شيء للورق ولا يتلف شيئاً.

ويالهول ما اكتشفت؛ عالمُ كامل كان يعيش فيه بعيداً عني طوال العشرين سنة الأخيرة. عالم كنتُ بعيدة عنه بعد الأرض عن أبعد نجمة في الكون. رسائل من أديبات ملئها الكلام الناعم الودود المليء بالشكوى والشوق والبوح بالمشاعر والتجارب الحميمة التي لا تقال إلا بين المحبين.

كانت رحلة جحيمية في عالم إنسانٍ كنتُ أظنه ظلي الذي يرافقني أينما حللت!

تصدعتْ روحي قبل رأسي!.

غريبة كنت حقاً عن عالمٍ لم أفقه من حروفه شيئاً.

لكن هذا العالم لم يكن يهمني، فالكلام ليس به شيء سوى أحلام. وكنت أبحث عمن أشار إليها المتصل المجهول عاشقي المسموم في مكالمته. وتمنيت أن لا أعثر على شيء، تمنيتُ من القلب من لب روحي، ولكن عثرتُ على ما لم أريد أن اعثر عليه، رسالةً يتيمة بخط يده إلى صديقتي التي كان يعتقد أنها ستكون بديلة عني أنا التي نعتني بعشتاره! وكتب نصاً تبارك خلقي وجسدي ليلة عرسنا ونشره.

كنت مخلصة في معنىً مطلق!.

كنت في وادي النور وكان يتخبط في وادي الظلمات

كنت قديسة ومحبة

كان شيطانا وقاتلا

ما أن أكملت رسالته الطويلة المتغزلة بتلك المختفية من حياتنا منذ خمسة عشر عاماً حتى صرخت مثل مجنونة وأنا أنحب وأحترق بحقدي على العاشق المسموم الذي أتصل وحبيبي الذي غادر الدنيا قبل يومين في العراق أصرخ صراخَ مذبوحٍ :

-                  ليش.. ليش ماذا فعلتما بحياتي؟!.

-                  ماذااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا؟!

-                   

8 – 12 – 2012  دنمارك