لم يكن لي في تلك المدينة التي أتيت إليها حديثا سوى صديق واحد غريب الأطوار. و لكي أقتل إحساسي بوحدتي في مدينة غريبة و مدفوعا أيضا بقدر غير يسير من الفضول، رافقت صديقي غريب الأطوار إلى جلسة لاستحضار الأرواح.
حين وصلنا كان الصمت يخيم على المكان، شموع و بخور في أرجاء البيت. تحدثنا في مواضيع متنوعة بين جد و مزاح. و بطبيعة الحال الموضوع الذي استأثر باهتمام الجميع كان عن الجن والأشباح والأشياء الخارقة للعادة.
في الركن الأيمن من الصالة ملتصقا تقريبا بالطاولة الموضوعة فوقها الأباجورة القرمزية التي ينبعث منها ضوء كمئات من النجوم الصغيرة، كان يجلس رجل لم أكن قد رأيته من قبل و حين سألت عنه بعد ذلك مضيفنا إلياس، همس هذا الأخير في أذني: سفير سابق.
من أغرب ما وقع لي حكى لنا السفير أني في سنة 1979 كنت في مهمة رسمية لكن سرية في اليونان و كان على رجل الأمن المكلف بحراستي أن يؤمن لي المبيت و يقلني في سيارته الخاصة صباح الغد إلى المطار.
بعدما انتهت مهمتي و كانت محادثات شاقة استمرت طول النهار لم نرتح فيها إلا نصف ساعة أكلنا سندويتشا ، شربنا قهوة و دخنا سيجارة ثم استأنفنا الجلوس على طاولة المباحثات حول قضية أمنية على أعلى مستوى من الخطورة.
في المساء حين انتهى كل شيء، شعرت ببعض الراحة فمددت رجليّ و استرخيت على مقعد السيارة الوثير وأنا أنصت إلى موسيقى يونانية حزينة لم أشعر برغبة في سؤال مضيفي عنها وهو من جهته حافظ على صمته كأنه استشعر رغبتي في الاسترخاء وعدم الخوض في مواضيع شائكة و أني كنت قد أخذت منها كفايتي ذلك اليوم.
كانت أشجار الغابة تسير بمحاذاة السيارة يختفي ويظهر من بين أغصانها الكثيفة وجه القمر وفي البعيد تتلألأ مويجات البحر تحت ضوئه الساحر.
لا أدري كم من الوقت غفوت ثم استفقت على صوت محرك السيارة تخفف من سرعتها، تستدير يمينا و تسير بضعة أمتار في طريق ترابي ثم تتوقف نهائيا. فاجأني صوت السائق الذي كسر ذلك الصمت العميق:
- هانحن وصلنا.
كان بيتا من طابق واحد تحف به حديقة تكاد أشجارها الضخمة تغطي واجهته القرميدية. البيت في ربوة تشرف على البحر الذي تحفه الغابة من جميع الجهات.
- سأنزل لك الحقيبة سيدي. ألا يعجبك البيت؟
سألني السائق بعد أن لاحظ شرودي.
- أعجبني و الهدوء الذي يحيط بالمكان أيضا.
كان معدا مسبقا، نظيفا و مرتبا. الأكل في البراد و زجاجة شمبانيا فرنسية الصنع أيضا.
بعد رحيل سائقي الذي وعدني أنه سيوقظني صباحا في تمام الساعة السابعة كي ألحق طائرتي التي ستقلع بعد ساعتين من ذلك.
أخذت حماما، غيرت ملابسي، وجلست في الشرفة المطلة على البحر أقرأ في كتاب استجلابا للنوم واستمتاعا بصفاء هدوء الليل والطبيعة المحيطة بي.
ثم سمعت جرس الباب. استغربت الأمر خاصة و أني لم أكن أنتظر أحدا.
وضعت الكتاب على الطاولة و ذهبت لاستبيان الأمر.
رجل في الخمسين أبيض، أنيق، يرتدي بذلة سهرة نيلية اللون بربطة عنق زاهية يقف مبتسما على عتبة الباب.
اسمح لي سيدي، منذ مدة لم يسكن أحد هذا البيت لكن هذا المساء لمحت زوجتي ضوءا بغرفة النوم و طلبت مني دعوتك إلى سهرتنا التي نحتفل فيها بعيد ميلاد زواجنا. أرجو أن تقبل دعوتي. نحن نسكن البيت المجاور.
لست أدري ما الذي دفعني إلى تغيير ملابسي و مرافقة الرجل رغم تعبي ورغم موعد سفري في الصباح الباكر.
بعد أمتار قليلة دخلنا بيتا يشبه إلى حد كبير البيت الذي أنزل فيه: نفس الحديقة الواسعة ، نفس النظام و الترتيب.
موسيقى كلاسيكية تصدح في أرجائه، بعض الراقصين يدورون بخفة و هم يحضنون الأجساد الرشيقة لرفيقاتهم، البعض الآخر يتبادل أطراف الحديث أو يتمشى تحت ضوء القمر في الحديقة.
بعد أن عرفني صاحب البيت على زوجته التي رحبت بي بشكل أشعرني بالخجل و اعتذرت لها عن عدم تمكني من جلب هدية لأني لم أكن أعلم أن في الجوار حفلة وأني محرج كليا وأنها جميلة و تستحق أجمل هدية.
أعجبها الثناء، ضحكت و قالت:
- أنتم العرب كلكم شعراء. تعال أعرفك على الآخرين.
الكثير منهم كانوا يسألونني عن بلادي و عن ثقافتها و عاداتها. لم يكن سؤالهم من باب المجاملة بل كان نابعا عن إحساس صادق من الألفة شعروا بها نحوي أو هكذا تصورت الأمر على الأقل. فأنا نفسي شعرت أني أعرفهم منذ زمن بعيد.
والابتسامة لا تغادر شفتيها، قدمت لي صاحب البيت صينية عليها أطباق مختلفة و نبيذ من نوع ممتاز :
- أظن أنك لم تتعش بعد؟
شكرتها و أقبلت على الطعام بشهية. كان لذيذا.
لم أشعر بالوقت يمر و صاحب البيت يملأ كأسي كلما فرغت. نظرت إلى ساعتي و قمت واقفا أودع مضيفي لأن الوقت قد تأخر وأمامي فقط حوالي ساعتين كي أنام قليلا.
أوصلني صاحب البيت إلى باب المنزل الذي أسكنه تمنى لي ليلة سعيدة و عاد أدراجه من حيث أتى.
استفقت مذعورا على جرس الباب يرن بعنف. حين نهضت من فراشي بصعوبة كبيرة أصابتني دوخة شديدة و اضطررت أن أتمسك بالأثاث كي أصل إلى الباب و أفتحه.
- ماذا؟ ألم تستيقظ بعد سيدي؟ الوقت يداهمنا. مابك؟ لماذا لا تستطيع أن تفتح عينيك؟ يا إلهي هل أنت مريض؟ هل أستدعي الطبيب؟
- لا..لا..لا أرجوك لا داعي لذلك.
قلت وأنا أرمي بجسدي المتهالك على أقرب مقعد واكمل:
- سآخذ حماما و سأنتعش هذا فقط بسبب سهرة ليلة أمس عند الجيران.
- سهرة؟ جيران؟ أي جيران؟ لا أحد يسكن في الجوار سيدي.
- صاحب البيت المجاور كان يحتفل بعيد زواجه و دعاني بكل حب فلبيت دعوته. كانت سهرة جميلة.
كان التعجب باديا على وجه الرجل في بداية حديثي أما الآن فقد أصبح وجهه مصفرا.
البيت المجاور لم يسكنه أحد منذ أكثر من عشرين سنة سيدي. منذ مقتل صاحبيه. احتفل بعيد زواجه وفي الصباح وجد مقتولا هو وزوجته و منذ ذلك الحين و البيت مهجور. لا أحد يريد أن يشتريه.
لم أصدق ما يحكيه ذلك السائق و نعتته في داخلي بالأخرق لأنه يؤمن بالأشباح فدعوته إلى الخروج معي كي نذهب إلى البيت المجاور و يرى بأم عينيه.
- أنت الذي سترى بأم عينيك سيدي.
ذهلت حين وقفت بعتبة البيت الذي كان بابه مكسورا و صدئا و حديقته مهملة تملؤها الأعشاب الطفيلية و حين اقتربنا أكثر و ألقينا نظرة من إحدى النوافذ كان الأثاث مكدسا بأحد الغرف و تغطيه طبقة سميكة من الغبار. أرأيت سيدي؟ لا أحد يسكن هنا منذ وقت بعيد. منذ تلك الحادثة المشئومة.
- ربما أخطأنا في البيت فقط.
- لكن هل ترى أنت بيتا آخر في الجوار؟
رفعت عيني المتعبتين و معدتي تؤلمني و بي حاجة إلى القيء
فعلا لا منزل آخر في الجوار عدا الغابة و البحر.
- لكن لماذا لدي دوخة و رغبة في التقيؤ؟
- لأنك احتسيت زجاجة الشمبانيا .
- لا أذكر أني فتحتها.
فعلا حين عدنا للبيت كانت زجاجة الشمبانيا مغلقة في مكانها من البراد.
ثم خيّم الصمت من جديد على المكان.
قدم مستحضر الأرواح من الركن القصي من الغرفة التي كان متسمرا فيه على رجل واحدة، رافعا رأسه الأشيب الذي تتدلى خصلات شعره على كتفيه يتمتم أشياء غير مفهومة وصوته الخشن كأنه حشرجة هو الوحيد الذي يسمع في سكون البيت. طلب من الحاضرين أن يتحلقوا حول طاولة طويلة بيضاوية الشكل رسمت عليها دائرة بخط أحمر. وسط الدائرة سكين من الحجم الكبير و خط آخر أبيض يقسم الدائرة نصفين؛ أعلى عليين و أسفل سافلين. بجانب الدائرة ملاءة بيضاء وضعت كأنها تغطي جثة ما، وضع كتاب جهة الرأس و لوحة كتبت عليها كتابات كأنها حروف هيروغليفية جهة القدمين.
لا أدري كم من الوقت بقينا على هذه الحالة كأننا غائبون عن الوعي نحملق في الملاءة البيضاء و في السكين وسط الدائرة. ولم يحدث شيء.
كان أخ الضحية التوأم و الذي شرح لي صديقي قصته فيما بعد أقرب واحد إلى الدائرة و إلى السكين و لم يكن يحول عنهما عينيه الجاحظتين و بين الفينة و الأخرى تعتريه قشعريرة كأنه مصاب بحمى شديدة.
وجد الضحية جثة هامدة، بجانبه رسمت دائرة في وسطها خط ابيض يشبه علامة ممنوع المرور وسكين عليها آثار دم تبين بعد التحاليل أنه ليس دم الضحية. لم يعثر أبدا على الفاعل و لا على أداة الجريمة التي سجلت ضد مجهول.
منذ مقتل توأمه و هو يعاني من هذه الحالة. لا ينام إلا بعض لحظات يغفو فيها ثم يستيقظ مذعورا ليحكي حلمه الذي يتكرر في كل إغفاءة بنفس التفاصيل ثم يصرخ فيمن حوله:
- أخي يريد أن يقول لي شيئا، أراه يفتح فمه لكن عوض الكلام تخرج من فمه فراشات سوداء فيعم الظلام.
حاول بكل جهد أن يستعيد قدرته على النوم دون جدوى ولم تنفع في ذلك الأدوية والعقاقير والاستشارات الطبية و الفحوصات ولا أجهزة الكشف المختلفة و المتعددة التي قام بها.
فجأة كأننا استفقنا من حلم مزعج، دارت أعيننا في محاجرها كأننا نبحث عن شيء ضاع منا.
كل شيء في مكانه لكن من تحت الملاءة برزت قدمان لرجل ينتعل حذاء مغبرا كما أن أصابع يده اليمنى تظهر جلية فوق مرمر الطاولة.
شهق الجميع و تسمروا في أماكنهم. جحظت الأعين و توقفت الأنفاس.
تقدم المجذوب بخطى بدت مرتبكة ولم يستطع منع أصابعه من الارتجاف. ببطء شديد مد يده وسحب الغطاء. شهق الجميع من المفاجأة: التوأم مسجى في وسط الدائرة, تراجعنا خطوات إلى الوراء ليس فقط خوفا وهلعا بل لأن موجات شديدة من البرد كانت تنبعث من الجثة فتتوغل مباشرة في عظامنا. شعرنا أننا تائهون و محاصرون بفلاة ثلجية.
بحثنا عن الأخ التوأم الذي كانت الجلسة من أجله في كل أرجاء البيت. لم نعثر له على أثر.