من خلال عيني طفل ومشاعره يسرد لنا القاص العراقي تفاصيل حميمة عن علاقته بالعالم، الجدة، والأشجار وتفاصيل المكان، والعائلة، من لحظة استيقاظه فجر يوم العيد حيث تصطحبه جدته لزيارة قبر أبيه في بنية نص يتأرجح على حافة الحلم.

العبور إلى الضفة الأخرى

لؤي عبد الإله

كان صوتها جرْسا ناعما، متهدجا بفرح طفولي، حينما وشوشت في أذنه: " أقعد عَينِي مصطفى، راحْ نِطلَعْ..."، وعلى كتفه استقرت يدها اللدنة، تهزه قليلاً قليلاً.

حضر العيد أخيرا، بعد انتظار طويل له، قادما من بلاد نائية، وقد وعدته جدته بأخذه معها لزيارة أبيه، الذي فارقهم منذ أن كان عمره عاماً واحداً. إنه يحفظ اليوم ملامح وجهه بدقة، لكثرة ما أمعن النظر في الصورة التي ما برحت خالته تريها له خفية، من وقت إلى آخر، لأبيه وأمه، وهما جالسان على كنبة وثيرة. تُرى هل تخلّى أبوه عن نظارتيه الدائريتين اللتين تجعلانه ينفجر بالضحك كلما القى نظرة على الصورة؟

ما زال الظلام كثيفاً في الليوان، حيث ينام أخواله الثلاثة على سجّادة الكوشان العتيقة. تراءى لمصطفى رأس إحدى الأفاعي بين حصران السقف السوداء، مندلقا من ثقب وسطه. سمع كركراتها. "خالة  الحيّةْ تُعرفْ العيدْ إجَهْ؟" لكن سعدية لم تسمع سؤاله. كانت منشغلة في لمّ فراشه ووضعه داخل خزانة الملابس الكبيرة، متجنبة إحداث أي ضجيج قد يوقظ أحد أخوتها فيندفع في زجرها، وهي لا تريد إفساد فرحتها بحلول عيد الأضحى منذ بدايته.

قال مصطفى: "خالة آنِي بَرْدانْ". فهمست خالته: "إش لا تْصيِّحْ هِسّةْ تِدفا". وفي الحوش جثمت شجرة السدر دون حراك، كتلة سوداء، أكثر عتمة مما حولها، تمد أذرعاً خمسة إلى السماء. بدت الشجرة له أكبر بكثير مما كانت عليه بالأمس، فدفعت تلك الفكرة الخوف في دمائه. همس بصوت مرتعش: "خالةْ العصافيرْ بعدْها نايمةْ".

كانت جدته جالسة في المطبخ، على حصير من الخيزران، تمشط شعرها الطويل بتأن. ارتدت ثوبا نيليّاً غامقاً، وكان من النادر أن يراها دون فوطة، أو بملابس لونها مغاير للسواد. شدته رائحة المستكي المنبعثة من اللبان الذي تعلكه، ورائحة شعرها الزكية. اندفع صوبها بلهفة، فجلس في حضنها. قال لها وهو يفرك في عينه:

ــ بيبي(1)، شعرِِكْ صايرْ كلّهْ  أبيضْ.

ــ إنتَ مِن تِكبَرْ، شعرَكْ يِصيرْ مِثْلَهْ.

ــ بيبي، آنِي هسّه(2) أريدهْ يِصيرْ أبيضْ.

ــ ما يْصِيرْ.

ــ لَيشْ؟

ضحكت جدته، حتى اغرورقت عيناها بالدمع، فضمته إلى صدرها. تمنى أن يطول جلوسه في حضنها الوثير. يمنحه حضورها  الطمأنينة. يرهبها الكل في البيت، لكنه هو الوحيد الذي ترقّ معه، بل هي تخشاه كثيرا، وتخشى زعله عليها. التصق بها منذ زواج أمه. إنه اليوم لا يرغب بالبقاء طويلا في قصر أمه والعم خليل، برغم ما يبذلانه من جهود كبيرة للاحتفاظ به: غرفة جميلة له، تحتوي على لعب كثيرة، وشقيقته متعلقة به. لكن لا شيء يشعره بالحرية والدفء سوى بيت جدته، برفقة خالته وأخواله. قال مصطفى، وهو يمرر أصابعه على وجه جدته:

ــ بيبي، وجهِك مَليانْ حُفَرْ.

ــ إنت مِنْ تِكبرْ يصير وجهَكْ مِثلَهْ.

ــ بيبي، آني ما راحْ أكبَرْ.

إنتشر ضوء، المصباح الضعيف، العاري، دون تناسق، على أرضية المطبخ المرصوفة بمربعات الطابوق الأصفر، وعلى جدرانه المطلية بالجبس الأبيض، المتشقق. اعتاد مصطفى أن يرسم عليها أي شيء يراه في الخارج أو في البيت: باص النقل العمومي، عربات الربل، أفراد عائلته، نخلة الجيران، شمس العصاري. وأحيانا، يقضي ساعات متابعاً خطوط النمل، المتنقل من مكان إلى آخر فوقها، يساعد أيّاً منها في العودة إلى أسرتها، إذا صادف  وإن أضلّت طريقها، أو أعيقت لحاجز ما. كان يشعر بتعاطف شديد مع النمل الأحمر الناعم، ومقت للنمل الفارسي الكبير. قالت جدته بحزم: "لازم هسّهْ نِطْلَعْ..." حينما صفقوا وراءهم الباب الخشبي السميك، استقبلهم الزقاق بظلمته، ينبعث من نهايته ضوء خافت، يكفيهم  لتجنب بقع الطين المتكدسة فوق الإسفلت المتشقق.

"إحنا وَيْنْ رايْحِينْ بيبي؟" سأل مصطفى، حينما وجد جدته وخالته، تقطعان الشارع الرئيسي، منحدرتين  صوب  النهر. لاحت عند حافته قوارب صغيرة مشدودة إلى أعمدة خشبية منغرزة  على الشاطئ. كان من الصعب رؤية  وجه البلاّم(3) الذي توقفت جدته أمامه، عدا دشداشته البيضاء، حيث بدت طبقة اخفّ  عتمة من عباءتي مرافقتيه السوداويين، يسمع صوته  النحاسي، المتحشرج بسعلات، تتداخل من وقت إلى آخر مع أصوات البلاّمة القلائل. "حجّيةْ أوَصِّلْكُمْ بقران(4) ..." وحينما احتجّت جدته بحدة على الأجر، قال البلاّم  بنبرة دمثة، متحايلة: "اليوم عيد، حجّيةْ، والصلاة على نبيِنا مُحمّدْ".

حلّ البلاّم الحبل، ثم دفع الجرف بأحد مجذافيه، ومضى يشقّ بالذراعين الخشبيين سطح النهر، تاركين  وراء كل شرخ طرطرشة رتيبة، وسط الصمت الذي كلكل فوقهم. كانت جدته تجلس في المؤخرة، ويجلس هو مع خالته في الوسط، وأمامهما البلاّم وجهاً لوجه. تخيّل أباه ساكناً في قصر بللوري، لونه كلون السماء عند الفجر، تسبح داخله نجوم  شبيهة بنجمة الصباح الشذرية المعلقة فوقهم. "بِيبِيْ، بَعْدَهْ بابا يلبسْ سدارةْ؟" كركرت جدته، ثم وضعت يدها فوق فمها لإيقاف سعلة انفجرت في صدرها، مشبعة بدخان التبغ. قالت جدته: "ضحكة خير".

كانت أضواء "الجسر العتيق" الشاحبة تنزلق فوق سطح النهر، مكونة عليه شررا مترجرجاً، يمتد خطوطاً ملتوية، حسبها مصطفى أفاعي سحرية من ذهب، تزحف نحو الأعماق. وقبل هبوطهم من الزورق على جرف الضفة الأخرى، انفجر طلق حاد، متعاقب، في السماء: نداءات لهفى لطائر التطوة، جعلت الدم يتدفق عنيفا في عروقه. تراءى له طائر عملاق، أبيض، بمنقار طويل، يحمل على متنه أطفالاً ضائعين، متنقّلاً بهم من مدينة إلى أخرى. قالت جدته: "بشارة خير..."

صعدوا سلّماً حجرياً يقود من الجرف، حتى الشارع المطلّ على النهر. مضوا في طرقات ضيقة، وسط أزقة مظلمة. وصلوا إلى شارع عريض، تنتصفه شتلات الدفلى وأعمدة الكهرباء. وبرغم  الظلمة، كانت جدّة مصطفى تحفظ  الطريق بكل تفاصيله لكثرة مرورها به. وكان الصمت وأنفاسها الثقيلة برفقتهم. ظل مصطفى يتابع، مندهشاً، هذا العالم الجديد، الذي لم تمسه عيناه من قبل. إنها رحلته الأولى عبر النهر. أحس كأنما هم قد انتقلوا من كوكب إلى آخر، بعيد كل البعد عن بيتهم، وإن الزمن الذي استغرقهم للوصول إلى هذا المكان جد طويل. إنه العالم الذي تقع فيه أحداث الحكايات التي ترويها له جدته  كل مساء، عن الجن والعفاريت والسعالي. وحينما  شاهد بناية حكومية بثلاث طوابق، معلقة  فوقها  عدة أعلام، ومضاءة  بمئات المصابيح الملونة، ظن أن العيد يسكن  في داخلها، يرفل بملابس من حرير، ويضع على رأسه تاجاً مرصّعاً بالماس واللؤلؤ، بوجه منير، ولحية بيضاء كالقطن.

لاح له جدار طويل، تطلّ من ورائه أشجار النخيل والسدر، يتناثر على رؤوسها شرر ضئيل من ضياء مصابيح الشارع. توقفوا عند بوابتين حديديتين، مشبّكتين، لونهما أخضر. ظن مصطفى أنهم قد وصلوا إلى قلعة أبيه الساحرة. ستقابلهم  حدائق غنّاء، بحيرات فضية، ببغاوات زاهية اللون، تتقافز على أشجار ملأى بشتى الفواكه... لكن بدلاً عن ذلك، التقت عيناه بفضاء، مقفر، موحش، تباعدت دون انتظام على أرضه أشجار النخل العجفاء، توهجت حوله شموع، جنب دكّات إسمنتية وترابية، متناثرة في كل مكان. جاءته أصوات العويل والنواح من كل صوب، لكأن هنالك كورساً يشارك في ترديد أغنية، رتيبة، أزلية. أثارت انتباهه تلك الحجرات الصغيرة المقبّبة، يشعّ من جوفها بريق الشموع، محاطة بنساء متلفعات بملابس سوداء.

كان النشيج متواصلاً حولهم، وهم يمشون في درب ترابي ضيق، يتلوى بين كثبان التراب ونباتات الحلفاء والشوك والعاقول، تنفح في الهواء رائحة البخور وماء الورد، تصلهم أصوات تلاوة القرآن من كل جانب، متداخلة ببعضها. شدّت جدته على معصمه، وبرغم العتمة، كان بإمكانه رؤية العبوس الذي تراكم على عينيها المضببتين، وتعمق التجاعيد على جبهتها ووجنتيها، وفوقهم ظلت قبة  السماء محتفظة بصفاء زرقتها المعتمة، مستعرة بالزهرة، وبأنجم قليلة، متفرقة عليها. كانت الأرض ترتفع  بهم تدريجيا، وكلما رموا خطوة، تزايدت خشخشة أنفاس جدته حدة. بلغوا أعلى الربوة. جلست جدته على الأرض. تنفست الصعداء بعمق مراراً، ثم راحوا يهبطون صوب الجانب الآخر بخطى عجلى.

توقفت مرافقتاه  جنب نخلة تنتصب قربها دكّتان، أحداهما واطئة يسهل الجلوس عليها. أشعلت جدته عدة شموع، وضعتها فوق المصطبتين، ثم أشعلت بخورا. في الوقت نفسه، مضت تتمتم بعبارات غامضة. بركت على ركبتيها أمام المصطبة العالية، لمست سطحها بكلا باطني كفيها لمساً رقيقاً، ثم بدأت في التحدث عاليا مع شخص وهمي. اعتذرت عن انقطاع زياراتها الأسبوعية له، بسبب مرضها الأخير، طمأنته من تحسن صحتها. أخبرته عن حال أبنائهم فرداً فرداً، بشرته بنجاح ابنهم البكر في دراسته الجامعية، أكدت له بأنهم جميعا يفتقدونه، يتذكرونه كل يوم، وكل خميس يشعلون  له بخورا في البيت. انقطع صوتها بنشيج بكائها، فراحت  تنوح، مرددة كلمات بإيقاع  موسيقي حزين، رتيب، تشاركها سعدية البكاء والنحيب.

فجأة، ظهر شبح بملابس بيضاء، يخفق حذاؤه فوق التراب الكثيف، يحمل بيده فانوسا وبالأخرى كتابا، وحينما أصبح قريبا منهم، اتضحت ملامح شاب لم يزل شارباه غضين.

ــ خالةْ أقرأ لكم؟

ــ لَعْ ما نريدْ.

ــ خالة، الفجر بعد شْوَيّةْ راحْ يطُرْ.

لكنها لم تبال بما قاله. اعتادت أن تستقبل كل عام سلمان الضرير، الذي يحفظ  القرآن عن ظهر قلب، والذي يكسب عيشه من تلاوة سوره في الفواتح والمواليد، لا كهؤلاء المراهقين الذين يتلون القرآن دون وضوء، ويبتلعون سطورا كثيرة من سورة يَس، ليكسبوا نقودا أكثر، ثم يصرفونها على المنكر في أيام العيد. ستنفحه هذا العيد عشرتين، وعشرة فلوس زيادة، عيديّةً لأبنائه. وحينما حضر سلمان برفقة ابنه البكر، تراءى لمصطفى أنه يبتسم له.

التفتت جدته إليه بعد انتهاء المقرئ من تلاوة سورة يَس وذهابه إلى غيرهم:

ــ شِفِتْ بابا؟

ــ وَينَهْ بِيبِي؟

ــ إنت هسّه قاعدْ على صدرَهْ...

انزاحت عتمة الليل شيئاً فشيئاً. بدأت من أسفل الأفق، صاعدة إلى كبد السماء، فتحول لون السماء إلى لازوردي عميق. اختفت كل النجوم، عدا نجمة الصباح التي أوشكت على الانطفاء. كان ممكناً منذ ذلك الوقت مشاهدة أناس كثيرين حوله، متجمعين حلقات صغيرة هنا وهنالك يتبادلون التهاني، يضحكون بصخب. وقد حضر إليهم بعض أقاربه وجيرانهم، فتحلقوا حولهم مهنئا بعضهم الآخر. أعطته جدته  قطعة حلوى، وأشعلت سيجارة لها.

كان اللون الأرجواني قد شقّ طريقه في أقصى الشرق، فاتحاً الطريق لصعود قرص الشمس البرتقالي. قالت جدته لسعدية: "لازمْ هسّه نرجَعْ..." قال مصطفى: "وبابا؟" فاحتضنته جدته: "بابا رجعْ لْبَيتَهْ بالسما".

وفي الطريق إلى البيت، انهمكت سعدية وأمها في حديث متواصل عما  ستقومان به ذلك اليوم، يطفح على وجهيهما البشر والاسترخاء، وهما تتابعان مظاهر العيد: الأطفال بملابسهم الجديدة في كل مكان، أقواس الزينة في الشوارع، ضربات الدمّام ورنين الصنج أمام  البيوت، الأشرطة الملونة والبالونات على واجهات المقاهي والمحلات... لكن مصطفى ظل  صامتاً، واجماً، طيلة الوقت. راوده آنذاك شك عميق  بأنّ العيد قد حضر حقاً.

 

لندن 1988

 

___________________________________

1- بيبي: جدتي (بالعامية العراقية).

2- هسّة: الآن، قريبا، بعد قليل، حالاً (بالعامية العراقية).

3- البلاّم: قائد نوع من الزوارق الخشبية يسمى "البلَم".

4- قران: عملة عثمانية قديمة (تساوي عشرين فلسا عراقيا).