عن الحرب والزمن ومتاهات السؤال، تستقصي قصيدة الشاعر المغربي عوالم اللانهائية من فيض هذا الزمن العربي. في محاولة كتابة جزء من سيرته اليوم، يلملم الشاعر جزءا من تفاصيل هذا الانكسار المتواصل وهذا البحث المضني عن الانعتاق من حالة النكوص والعدم المتواصل.

ما أراه الآن

خليل الوافي

ــ1ــ

أتلمس خيوط حروف
تباعدت في متاهات السؤال النحيف
على مسافة من الجسد
يتردد الورق البري 
في إكتشاف نفسه
أمام مداد بحر
يغرق صاحبه في دوامة السحر
و العزف الطفولي
يوقظ فراشات حلم
من أديم الصدى المبحوح 
في صدر طفلة 
بدت تفاحتان على وشك النضوج
تفتح شهية آذار على الخروج
تكبر الرؤيا في مفاتيح دجلة والفرات 
تستعد لعام النزوح
يصغر المشهد المترامي
في قرى البصرة و موج النخيل
يواسي شمس حزيران وشمس الجليل
عيون تراقب المدى 
تلامس جباه الحائرين سطح القمر
إقترب يا ضوئي في الإشتعال
يحرق ما تبقى من حطام الذاكرة
في كل الإنفلاتات 
الهاربة من كل شيء
تشعر الطيور المهاجرة بالتيه
ساعة الخطر
ثمة خطب ما
يعلو صراخ الأفئدة
في سوق النسوة يحلو الكلام
عاصفة تطهر المكان
من صديد الحصار
ـــ هكذا يبدو المشهد ـــ
قريبا من دمي
قريبا من لحظة تمادت في الشهيق
أداري رمالي خلف هضاب الريح
لا مكان يشبه صحراء السراب
في السفر المتوهج بحرقة اللقاء
تخاصم الريح 
سبات القرى و المدائن
لا شيء يضاهي الريح 
في انبلاج القمر
وهو يغازل عنقاء الضجر
و يكشف الصبح عن ولادة النجف
تهرب الكوفة خارج حدودها
تسعى لوطن اللغة
و السؤال المرير عن جدوى الحرب
تخرج القوافي شامخة في سلة مهملة
يرتجل الصبي قصيدة السياب
عن معنى المطر و سقوط الحجر 
أتحرى عن معنى الإجابة
تستوقفني صبية بغداد
عن شكل الوطن
و عن الحرب التي لا تنتهي
و عن وباء يصيب الكهل و الرضيع
أعاند نفسي عن إماطة اللسان
عن ما تراه عيناي 
يقودني شعور غريب
عن حكمة الشجر
عن صبر الحجر
توقظني أدغال الهجرة
الموشومة بسحر الغياب
أبحث عن مسالك الوجع
في أقداح الشفاء
من صداع الذاكرة و عتاب الأصدقاء
تنسل خيوط الحكاية 
من ملح الرطوبة المائلة
إلى حصاد الأمكنة
يذهب حالة الفوضى في خريطة الحصار
في مراكز الإستقبال 
أمد يدي إليك 
يستعصي الكلام
ينتفض الصبح غاضبا
من زرقة السماء
حين تضحك السماء
من سفر في الوجود
أصادف طير البجع
يسكن مناحي الجسد
يطير بعيدا في المدى
يعود الصدى صمت الدموع 
الشاردة تحت الحصى
أحميك من جرح تكبد في السماء
يعلن نهاية الطريق
في المروج العالقة في عباد الشمس
أرى ضوء السماء
يتلمس بريق النجوم 
حكاية الطفل الصغير
و الجدة تغالب النعاس في رسم الرواية
ذاكرة تحمل ثقل العبارة
لا تقوى على مصافحة 
من يحتمي بعروبة اللسان 
من يكتب التاريخ دما
و الصخر يردد لائحة القتلى
في طابور النسيان
أحاول جمع شتات المقصلة
تصادفني عشتار في معبد الصمت
و الرهبة الخائفة من الرسوم 
الملتصقة بخواء السقف و الجدار
تأتي الأصوات من قمة الصليب المقلوب
على حافة المذبحة
ينتشر الخبر في القبائل
و عواصف الرمل 
توصي رعاة الإبل
بحمل الزاد في ركاب القافلة
يكبر الطفل في عين الشمس 
و يعجز القمر على رسم الرجولة
في الرمل كانت الحياة هنا
في السراب أعرف هويتي 
طريق العجم
يتناثر الخريف شاردا
خارج حقول القمح
تضجر السنابل من حلم العطش
و الطير تأكل من رأس 
من كان يتوق إلى الحرية والموت
ينتصر الحلم ثانية 
و يحلو التين والزيتون 
في طريق السماء 
تخضر أكف الدعاء 
و تبيض أنامل التسبيح
في صلاة الأنبياء
أرى يوسف 
يحمل همّ الكواكب التسعة
عيون تراقب شغف الأب بإبنه..

 

ـــ2ــ

حرقا ألهم حماسة الإخوة
في الإنتقام 
لم يكن الأمر يسيرا على من حمل الحجر
سراج ينير طريق الهداية 
في بلاط الحاكم و الكهان
تبكي العيون 
حتى البياض الأخير
هو الشوق الجارف
لمعنى الشجر
تدق رحى الوقت 
نسائم العودة 
إلى هجرة أخرى 
تساند صدى الإبتهالات
المجروحة في ركن البيت
أحتمي بكل الأعشاب الجافة
خلف سهل البقاع 
أحتسي قهوة بغدادية
على مشارف نهر الفرات
أجمع فتات الكتب المحترقة
في أرصفة باريس 
ينتابني شعور بالوحدة
أطل على قرطبة 
أراها توزع رايات الفتح 
على أبناء إفرنجة و السلاجقة
أتذكر مشهد السقوط
لا تقرؤوا تاريخ طليطلة
و لا تلمسوا نقوش غرناطة و إشبيلية
في أسوار الكثمان 
تتسكع البطولة في خانات الصخب
قصر الحمرا 
يغري فضول الكنائس ساعة الغضب
ألوان دافئة من إطلالة القلعة الحصينة
في علو المكان و انصهار الحجر 
تغيب الصور عن الذاكرة 
لم تسعفني تفاصيل الحكاية
حين لا أروي كل شيء
يقتل الراوي و الحاكي و المرتجل المجنون
ماذا ينتظر السيف 
كي يؤدب الحناجر
في مسرح الإغتيال
أعترف بأخطاء الأمس
في أقداح الخمر
المعتق برحيق الخلاص
تأتين مكشوفة العراء
يخضر وجعي 
مائدة الضجر
على إيقاع الضحكات
أسمع وقع خطى خلخالها
يدغدغ حواسي المفقودة
في سجن كلماتي الموبوءة
بوشم أمازيغي
يعيد التربة خصوبة الحناء
في أقاليم إملشيل
أملأ نخب المصالحة المشروطة
بقرار الإنسحاب 
لا يجتمع الحب والكره
في مرآة واحدة
أرمي أقداحي 
حدود نهر ينسكب في الذات
شلال الغضب الآتي
حانة تربي وقاحة الطغاة
في كؤوس الخيانة
و الشفاه المشدودة 
لقبل متعطشة إلى دماء 
بكارتها الأولى
أراك شامخة 
في هزائم ملوك الطوائف
و خروج اللغة عارية من ضادها
أتسول حروف الهجاء 
و أقراص الخصوبة
من لسان تقاعس عن مغازلة النساء
أراء وحيدة في العراء
تحملين شعلة السماء
و منارة تطل بضوءها الخجول
مطالع الفواكه النادرة
على مرمى شاطئ 
يتقاسم البوح و الجرح
أمواج النهاية الخاطئة
على حافة البحر
أتلمس آثار قدميك
و أنحني لأرى خصرك الجارف
يعتلي صوتي منصة الصمت
أظل أراقب الشمس
في إشعاع شعرك القرمزي
وملمس الحرير يداعب أرداف الإقامة
مشعة في تلألأ النجوم
فوق كتفيك 
أراك حزينة في مواطن القمر
صامة في دروب 
النكسة و النكبة 
في حرب أكتوبر
في كل ما هو آتي 

ــ3ــ

لا يخرج صمتي عن صمته
ما دام النبض 
يحرس قفص صدره من وشاية
القدر من إرتجاج الزمن
في عقارب الوقت
تسكنني لهفة الإنتظار
يرتجف الرصاص
في مهب الشجر
تركض الأيام 
نحو نهاية حذفها
متى تصبح شقائق النعمان
فراشات بيتي
و ألوان لوركا
تصلح ما أفسده الدهر
تجاعيد لما تبقى من جدي
جسدي يعتريه الإنتشاء
قرب سماء أخرى
لا يطيب لها المقام
في غياب صرخة الشمس
كل صباح 
نسي الوجوه و المرايا
يرقد الحلم بعيدا
في سباته القديم
يحلم في سماء القمر
عن طفل ضاع في الوجود
في الحدود
تسيل الخدود وقع سيزيف على الحجر
يهيج الرمل سراب الملاحم و الذكريات
يقفز الظل 
يقتفي أثر صاحبه في الدجى
في إنتعال الخوف
في عين حمأ
تدون خطايا سبأ
من حكم امرأة
تقاوم أنوثتها من جحيم الإغواء
خارج بلاط كسرى
تأتي الإنتصارات ناقصة
لأن عرافة العرب
أمسكت مكنسة الرمل
مقلوبة
قالت : هنا الحرب 
و الركاب خاوية من صهيل الخيل
أعود إلى مرتع الهزائم
أنبش التربة
عساي أجد أعشاب فقدان الذاكرة 
أعود إلى مقتبل العمر
ألعب في الزقاق الخلفي
لفرح العيون و إشتعال الخدود
نشيد الحلم الباقي 
أصيك يا إبني بالصمت
أتذكر العبارة من فم جارتنا القريبة
من شيخ صادفته
في طريقي إلى القدس 
إلى المدن البعيدة
عن خريطة الوطن
و الواجب المدرسي
تذكرت أستاذ الجغرافيا
كانت إشارته توحي بالعروبة
أحسست بروح الإنتماء
لشيء يخالج صدري المكلوم
أتحرى عن تفاصيل أخرى
تعيد للذاكرة صحو فراستها
أنتظر خروج الوقت
من زنزانة تعاكس 
إختباء الشمس في النفق البعيد
تعود قوافل الأسرى 
إلى بداية الزحف 
لم تكن الحرب قد نضجت
في وقعها الكارثي
تحمل غبار العواصف
القادمة من بدائية الأشياء
على باب الصحراء
اجتمعت القبائل من حولي
تسأل عن أثر الأطلال
في مدن الصفيح
فصاحة البيان في متاحف النسيان
نحل الكلام يضاهي بلاغة اللسان
أرى القمر ثانية
يغازل ظل امرأة في إنحناء الضوء
يختبئ ثانية
في معطفي القديم
يمحو آثار الإغتصاب
من جسد مومس
لم يسألها أحد عن مهنتها الجديدة
تسألني عن إحساس الأمومة
في شكل الحمل و الإنجاب
و الرغبة العارمة 
في امتلاء رغيف الخبز
في امتلاك حق التقاعد
حق التوبة 
حق الحياة
تراني أقلب أسرار الحجر
عن جرح الشجر 
كان المطر يربي روح الأمل
في إكتساب حجة البقاء
تحت سقف المدافع
أختار بيتي و قبري الجديد
أداوم الإعتراف أمام موتي
أمام سيل الأسئلة التي تأتي
و أخرى تغرق في وادي الصمت
دوي الإنفجار 
يعطي إنطباع بهدنة المصالحة
تخرج يدي من فرط التلويح
راية كبيسة في علم الفلك
أضرب الأعداد فوق جدول الحيرة
أسافر خارج سرب القبيلة
أجد متسعا من الوقت
أتسكع في مراعي الخصومة الزائدة
قرب شجر الخروب
و التفاحة الفاسدة 
في يد طفلة يتيمة
تقرأ طالع الحروب
عينان ذابلتان في الرماد
و وجه يختزل حجم الكارثة 
يغير البحر هدير موجه
خوفا من قراصنة الجنوب
يتودد في إستحياء وهوان
لا أصدق الرؤيا 
فيما أراه الآن
البحر لا يكشف عن ملامحه
إلا ساعة الغضب
الجسد لا تعرف شكله
إلا لحظة البكاء و برهة الفرح
بعيدا عني 
أراك تلامس حجر الجدار
و تقرأ فصل الكتاب المقدس
تسقط الشوائب من جبة الصليب
يتحرر الطائر من جناحيه
كي يرى الأشياء واضحة
قبل الطلقة الأخيرة...

 

كاتب و شاعر من المغرب

طنجة في : 19/01/2013 
maroua-khalil@hotmail.com