يلبس القاص المغربي روح القمر في عصر العولمة والنيت والذي يشكو الهجر من محبيه الذين هجروه إلى عالم الشاشة، فيبثنا أحزانه وألمه في نص طريف وفكرة أطرف.

الـــشـــاحب

مصطفى قمية

 أتريد الحقيقة حقا؟

 حسنا إذن..

ثمة عاصفة قطبية من الحزن تعبرني، و يبدو أنها ستقيم طويلا، إذ لا تلوح في الأفق أي بوادر لأي انفراج محتمل.

لقد صبرت كثيرا، وتحملت أكثر، لكن السيل بلغ الزبى. حتى هذه العبارة، ما أضيقها.. و ما أبأسها. تكاد لا تصف أي شيء على الإطلاق. إنها لا تعبر بعمق عن حقيقة حزني، الذي يبدو أنني فشلت في إخفائه، مادام قد استطاع أن يغتصب عرش محياي، و أن يبسط سيطرته الكاملة عليه.

بالأمس فقط طلعت متلألئا، أنيقا، فرحا، مبتسما...متحديا كل شيء، وظللت أجوب الفضاء دون أن أعثر على من يبلغني سلامه، أو أن يبثني غرامه، أو حتى أن يرفع بصره إلى الأعلى، و لو لبرهة، و يعيرني انتباهه. انتظرت طويلا، و لما آن أوان الفجر عدت خائبا، كما العادة، من حيث أتيت.

في السابق كنت السراج الذي ينحر به المسافرون، و الهـاربون من العالــــــــــم، و مـــن أنفسهم، عنق الظلام، و على هديه يجوبــــون الفـــــيافي و القــــفار المخيفـــــــة، و الصحـــــــاري العظام.  كذلك كنت، و كما لا يخفى ذلك على أحد، أنيس العشــــــاق، و رسولهم الأميـن، ومشاركهم الأول في كل ما يخالج صدورهم من  فرح و ألم، من قوة و ضعف، من أمل و إحباط،  من  حنين و أنين.

كما كنت أيضا اللوحة الوحيدة التي تعلق على صدرها صور الأحبة، فيزدادون جملا و بهاء، وذلك بغض النظر عن المكان الذي يحلون فيه، أو الذي يرتحلون إليه. أما اليوم فقد صارت هذه اللوحة مهجورة، و باهتة، و متآكلة الجوانب، بعدما صار بوسع الناس أن يروا نفس الصور على شاشات حواسبهم و هواتفهم المحمولة، خاصة أن هذه الصور، بعدما كانت في عصري بعيدة، و مجردة، و خاصة، و منيعة... باتت، من بعدي، قريبة، و ملموسة، و مشمومة، و قابلة لأن تقبل، و لأن يفتخر بها أمام الأعداء و الأصدقاء، و لأن يتبول عليها كذلك.

ليس هذا ما يحزنني فقط، و إنما ما يحزنني أكثر هو أن هذا المخلوق المعتدي صيرني، دون إرادتي، عدوا له، و لا أعرف لماذا؟ عدو ينبغي "غزو" فضائه، و نهب خيراته، أيا كانت طبيعتها، باحثا في السماء عن حلول لمشاكله الأرضية، و ساعيا، في ذات الوقت، إلى تحقيق أحد أحلامه التي لازمته منذ القدم، لكن بأي يحق يا ترى جاز له انتهاك حدودي؟

لن يجيب على أسئلتي البلهاء هذه أحد. أعرف ذلك تماما. فليس هناك وقت للدخول في نقاشات لن تفضي إلى أي شيء ملموس. شيء يمكن أن يكون نافعا، و ليس مجرد لغة مجردة و جوفاء. الكل يبحث فقط، و دون كلل أو ملل، عن أقصر السبل لإنهاء المعركة. فهذا هو الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، و يتفرج فيه المتفرجون، و الكل ينتظر نصيبه من الغنيمة. ما أنا متأكد منه بهذا الخصوص، ولدي يقين تام بشأنه، هو أنه لن يربحني أحد، و إنما سيخسرني الجميع، مثلما سيخسرون معي أشياء أخرى كثيرة.

في برقيتها الأخيرة إلي، التي وصلتني مع رحيلها الملتهب هذا المساء، و الذي تسعى إليه في كل يوم كما يسعى المؤمن إلى الخلاص، قالت لي رفيقتي الأبدية: " لا تظنني أفضل حالا منك، فأنا بدوري تعبت، و  لم أعد ابتسم إلا في  الكتب التشكيلية المخصصة للأطفال الصغار. و لو كان الأمر بيدي، لأويت إلى مضجعي الأخيــــــــر، و وفرت على نفسي عناء ابتسامة جديدة، أعلم  مسبقا أنه لن ينتظرها أحد".

يا لجبروت قسوته.. قسوة لم تسلم منها حتى الأم المسكينة، التي من رحمها خرج، و على صدرها حبا و ترعرع. إنه، والحق يقال، ابن جاحد و عاق. لقد أذاها بأفعاله كثيرا، و تحملت كل ذلك في رضا، كأي أم رؤوم. ولما اقتنعت أخيرا أن تغيره أمر ميؤوس منه، أصيبت بانهيار عصبي مهلك. بيد أن حتى هذه الأخبار الصادمة، رغم كثرة تداولها بين وسائل الإعلام المختلفة، و ربما بسبب ذلك، أضحت بلا أي تأثير يذكر.

في حين يبدو أن ذلك "الكائن الأسطوري"، موطن الآلهة و الشياطين، و الذي ما يزال، رغم ما كشف عنه من خفايا، يحتفظ تحت جلده الأزرق بما لا يعد و لا يحصى من الأسرار، قد أصيب، هو الأخر، بمرض ما في رأسه، فلم يعد فطنا كما عهدته، إذ كثيرا ما لا يستطيع فك شفرات كلامي بالدقة المطلوبة، فيمد لسانه الطويل، بين الفينة والأخرى، ليلتهم مدنا عامرة بأكملها..أها..أها..أها...   

عفوا.. نوبة السعال اللعينة هذه تفسد كل شيء دائما.. اعذرني أرجوك، سأتوقف، مضطرا، عند هذا الحد. فبالإضافة إلى الحساسية المفرطة تجاه التقلبات المناخية، المفاجئة باستمرار، و المعاناة من أمراض تنفسية مزمنة مختلفة، أشعر أن ضغطي الدموي المرتفع أصلا  يزداد ارتفاعا، حيث لم يعد محتملا.

كنت أرغب في التسكع لبعض الوقت، و لوحدي، عسى أن  أصادف شيئا أجد فيه ولو القليل من العزاء. شيء لن أعدم الأمل في وجوده أبدا، و مهما كان، لكن فيما يبدو لن أستطيع القيام بأي شيء الآن، عدا العودة إلى بيتي، لأحجب نفسي عن نور الحقيقة الحارق، فأنعم ببعض الأمن، حتى لو كان مزيفا. أما بشأنك أنت فأعتقد أن ما قلته، أو، على الأصح، ما هذيت به تحت تأثير الحمى، فيه الكفاية. لكن، من الأفضل الآن أن تنسى الأمر برمته. أريدك أن تنام ملء جفونك، أيها الساهر المسكين، الذي أراك هناك وحيدا تسأل في استغراب لا يخلو من ألم: لماذا القمر شاحب هذه الليلة؟

 

البيـــضاء- المــغرب

mostafa-kamia@live.fr