مجددا تستضيف الكلمة ديوانا قصيرا لمختارات شعرية لشاعر تونسي أدرك مبكرا، كيف يحفر لتجربته الشعرية نسقا خاصا، قد لا تتآلف هذه النصوص كي تمثل سمات تجربة نموذجية، لكن مع هذه الأضمومة القصيرة نعيد تلمس تفرد خاصية هذه القصائد في تحلل "الأنا" وسط معمعان اللغة كي تنسكب رؤى وصيغا لتعيد بناء نفسها.

ديوان قصير

يد طائشة من فرح آت (ديوان العدد)

منذر العيني

الأنا

لم أعد سيّدا في بيتي

الفضاء تقاسمهُ الاعيبُ الجنيّات الزرقاء

ومن اليمين إلى الشِّمال

و من الجنوبِ إلى الشَّمال

أصبحتُ خادما للعينِ وهيَ تنزلقُ على سطحِ المرايا

"من أنتَ " تقولُ لي

"أنا لستُ أنا، أنا انتِ في بعضِ اللّحظات و في لحظاتٍ أخرى أَقسمُ مع الهوَ"

غيرَ أنَّ هنالكَ في المربضِ الآخرِ من زوايا الظّلامِ حينَ يعرشُ سيّدنا على سدّةِ الملكِ ضاحكا

اتركُ الحبلَ على الغاربِ لتكتبني الوصلاتُ في مسعاها .

"انا بينَ بينَ كلّما أسقطُ في الهاويةِ تنتابني رعشةُ الفرحِ الماغوطي لتنقذني من الموتِ و كلّما آرتقيتُ نجومَ السّماءَ تجتاحني موجةُ الماغوطي لتقعدني كسيحا على رصيفِ الذّكرياتِ.

"من انتَ " تقولُ لي

"أنا خادمكم الأبله يجوعُ ولا يمدُّ اليدَ يقنعُ ببقايا القمامة و لا يقتصدُ شيئا أمامَ الفجأةِ الملقاةِ على القارعة".

 

أنا لم أعد سيّدا في مكاني الأليف. تركتُ الرّياحَ تمارسُ شهوتها في تجاويفِ بيتي.

أبايعُ سطوةَ مُلكهِ أنحني في المراسمِ سمعا و طاعهْ.

فقد يستنيرُ المسافرُ فيَّ ببعضِ الأغاني على صفحةَ الدّربِ.

أصبحتُ خادمهم  لا ألبّي دعاءَ الحضورَ.

ولا أمزجُ الظلَّ بالظلَّ لا أختفي من ظلالي.

وقد حانَ موعدها للقاءِ الحبيبِ.

لا لن أكونَ خدوما صدوقا كما كنتُ بالأمسِ.

أصبحتُ خادمهم بطريقتهم أستقزُّ الكتابةَ وهيَ تنحتُ روحَ الصّبابةِ في ظلماتِ المسالكِ ...

لا شأنَ لي بالموازينِ .

الرّقصُ  يجمعنا تحتَ إمرتهِ  في عناقيدِ تكوينها. 

لم نعد خدما في إمارتها بالطّريقةِ تلكْ..

و ما خلّفتهُ الرّياحُ على مسمعِ الجنِّ نرتادُهُ سيرةً

و نراقصُهُ ثمّ نمضي إلى حيثُ يمضي الأنا بالأنا في الغيابِ الشّفيف....

..............................................................

لم أعد سيّدا في بيتنا.....

باعني الجميعُ فآمتلكتني الفجأةُ وآشتراني الضّبابْ

 

 

العودة

عندَ العودةِ إلى حرمِ السّكون

الدّوائرُ تشعُّ أنوارها أمامَ خطى التّيهِ

المائيُّ آستعادَ بريقهُ  من حراكِ الضّوءِ على سطوحِ الذّاكرة

النّاريُّ آشتقلَّ عربةَ الأساطيرِ من معجمِ اللّحظةِ

التّرابيُّ آستوفزَ هديرَ السّلالةِ من مواويلِ الفراغ

كانَ اللّقاءِ في طعمِ الخلقِ الأوّلِ

تتناسلَ الأضلاعُ بالأضلاعُ

لترسبُ الحلقة أخيرا في الغناءْ

النّهاوندُ ، و الرّستُ و الصّبا

علقاتٌ بيضاءُ تحتضنُ فراشتنا البريّةَ

...العودةُ بدءٌ أمامَ البياضِ

ربّما يزهرُ الماءَ على صفحةِ الخطوِ

ربّما تزهرُ النّارُ أمامَ آياتِ الصّمتِ

ربّما يزهرُ التّرابُ على أكفِّ الشّعراءْ ...

عندَ العودةِ كلُّ شيءٍ ممكنٌ و محتملٌ لآغتيالِ ما تبقّى من حرارةِ الطّقسِ.

الفراشاتُ التّي وُلدتْ بيننا أعلنت عنوانَ الفصلِ

.....أيّتها الآهاتُ الصّاعدةُ سجّلي عودتنا من مدرجِ الرّيحْ .......

 

 

الدّخولُ

لا نطرقُ بابًا و لا نستاذنُ أحدا ولا يدخلُ علينا إلاّ الغرباء

الكهفُ زاويةٌ متروكةٌ في النّسيانِ

تذوبُ المسالكِ في غضونِ السّرابِ

و الجاذبيّةُ تفقدُ صوابها كي تطأَ بدءَ حكايتها

القصيدةُ إذن صديقةٌ غيرُ مأمونِة الجانبِ

و الدّخولُ إليها آنفتاحٌ آخرٌ على بوّا بات بابل

إذ لا شيءَ تحجبهُ الشّمسُ على ملإِ الغيابِ :

عسكرٌ منتشرونَ في الخنادق

قطعٌ مهملةٌ من شطرنج البارحةِ

صخبٌ بحّارةٍ فارّينَ إلى الغيبِ

مداخنٌ شتّى تستعيدُ عطرها المنهوكَ من أفواهنا

مدافنٌ شتّى تستعيدُ شواءَ الوقتِ على الأنظارِ

الملجاُ يُعلنهُ المجازُ على بابِ العمارةِ

مثنى و ثلاثَ و رباعَ تتوزّعُ في البالِ أشلاءُ العباراتِ

الزّخرفُ بأجنحتها الزّرقاءِ تدعوكم للمسامرةِ

" ردَّ عليَّ الكأسَ إنّكما لا تدريانِ الكأسَ ما تُجدي "

الأمرُ متروكٌ للعناصرِ في معاركها الآتيةِ

و الدّخولُ براءةٌ من دمِ الذّئابِ

شكٌّ متشابكٌ, تشبيهٌ بتشبيهٍ ، كذبٌ حقيقيٌّ و حقيقةٌ كاذبةٌ

....إذا آتّصلَ الآنُ بالآنِ آنفصلَ جسدي عنهما

....و إذا آنفصلَ الآنَ عنِ الآنِ حلّتْ الرّوحُ ثانيةً .

 

نحنُ في الدّاخلِ نخرجُ من إطارٍ لندخلَ في إطارٍ :

حيطانٌ مُخرّبَةٌ و حيطانٌ مطليّةٌ

خريفٌ و ربيع

لعبٌ مُستعارٌ من غُمّيضةِ الطّفولةِ

و الدّخولُ حركةٌ لولبيّةُ الشّكلِ لا تطرقُ بابًاو لا تستأذنُ أحدا

تناوُبُ صديقينِ على شُربِ قهوةٍ عتيقةٍ من يدِ الجنِّ

ثمّةَ يختلطُ النّقدُ بالنّقدِ و البيعُ صمتٌ مسكوتٌ عنعُ

السّوقُ عكاظٌ و الإشهارُ في ذمّةِ آذانِ الغيبِ

الدّخولُ شروعٌ في الغثيانِ

إيقاعٌ يُنشبُ أظافرهُ في أجسادِ الضّمائرِ

...من أبى أن يقتسمَ معنا غنائمهُ فليذهبْ إلى الجحيمِ

التّمائمُ تفتحُ خزائنها للصّعاليكِ

و الزّغاريدُ تُكوّرُ دوائرها على مرأى من العينِ

الدّخولُ تسلّقُ جداريّةٍ ناتئةٍ تُشبهُ صورةَ القيءِ على سطحٍ جرّاءَ مراةدةٍ دؤوبةٍ تريدُ الوصالَ معنا :

مع عرائنا البدائيِّ مع ضحكنا الطّفوليِّ مع رقصنا الهمجيِّ

 ..كانَ لابدَّ من صراخٍ ليعرفَ أحدُنا الآخرَ

صراخٌ خلاسيٌّ يتقافزُ بينَ الضّحكِ و البكاءِ

الظّلمةُ حالكةٌ و الطّريقُ طويلٌ

حينَ نتلمّسُ جسدكَ المرئيَّ اللّزوجةُ تخترقُ مساماتِنا

.....ماذا سنفعلُ أمامَ قرارِنا الآتي

....إنّي أرى خيطَ ضوءٍ في آخرِ الزّقاقِ

هل رأتموه؟؟؟

.............آذنتَ لكم بالدّخولْ ..

 

 

وجه لوجه

نلتقي أحيانا وجها لوجه الانا والآخر

نورٌ يتدفّقُ بين جوانب الهيكلين

كلانا على طرفي نقيض

لكن عند السّياق تنسجم بيننا الكائنات

تقتتسم معنا نكهة القهوة و عبير المارين

...من أدرانا لعلَّ التنافس أبقى على القاضي حكمُ بالإستئنافِ

الأنا و الىخر صديقان في الجحيم

لكنّنا رغمَ ذلكَ لم نكسّر المرآة

...ظلَّ المارّون مندهشين أمامَ فاجعةِ التّآلفِ ....

 

 

يدٌ طائشة

اليدُ الطّائشةُ رتّبت مطبخَ الحبّ

ذلكَ الرّكنُ المنسيُّ في وسواسِ الحالةِ

إمضاءاتُ عانسٍ من قلائدَ فضّيةٍ في خندقِ المرآةِ

عسسٌ مجهولونَ غرباءُ يحرسونَ السّاحةَ

: شموعٌ و رصاصات

واواتُ الحسرةِ تنسلُّ داجنةً خلفَ ضبابِ المرأةِ

...اليدُ الطّائشةُ قد يُسعفها موجُ الآهةِ

لتبنيَ من القشِّ عشَّ العصفورةِ

تلكَ التّي و دّعتنا ذاتَ مطرِ صيفٍ

و تركتنا نستحمُّ في فراغِ الممكنات

..الإمضاءاتُ بآلامها الموسيقيّةِ أتممنَ إيقاعَ الحضرةِ

العسسُ المجهولونَ أشعلوا مأدبةَ الذّكرى

الواواتُ أخيرا في المنفضةِ نفثن دخانَ الحنين

....مرّةً أخرى: كوني معنا أيّتها الغائبةُ السّاكنةُ في السّطر

ليسَ في البيتِ سوانا نطبخُ الحبَّ الذّي فاتْ

...اليدُ الطّائشةُ بآرتعاشتها المعهودةِ فضحت أمرنا أمامَ الملأ

اليدُ الطّائشةُ عنقودٌ من داليةٍ خضراء

وأجراسٌ دمّيعةٌ من فرحٍ آتْ  .....................

 

 

عملٌ

عملٌ ينتظرُ الرّائي على صفحةِ أيّامهِ

الرّقصةُ في النّكسةِ إيقاعٌ جميلٌ

لا ترى المرءَ فقطْ في بيتهِ

بلْ تُولدُ البدءَ على ضحكتهِ الهزلى لتجتازَ ممرَّ الموتِ

......من قالَ صداهُ ورثتهُ الكلماتُ و حكتهُ الأيّامُ

عملٌ يخرجُ عن طاعتنا

فعلُ حياةٍ و حياةٌ راقصهْ

...اِشهدوا حفلتنا و آلتحقوا بالغرباءْ

 

 

مجــــيء 

يعودُ المكافحُ نحوَ مشيئتهِ قدرًا مُقبلا من سماءِ الفجائعِ ،لا لم تسعْهُ المفازاتُ واللّيلُ أضحى سبيلَ آنتشاءاتهِ . جاءَ للبيتِ يبحثُ عن سرّها يُعلنُ العرسَ أعيادَ سيرتها،

قد يجوزُ لهُ أن يرى ظلّهُ في خطاها الوئيدةِ نحوَ مشيئتها

و يجوزُ لهُ أن يُداعبَ أشياءَهُ في محلاّتها القُدُسيّةِ : الأصدقاءَ وُجوهَ الطّفولةِ البنتَ ذكرى التّي ضحكت ذاتَ يومٍ أمامَ بساطتهِ و الحكايا المُدويّةَ الآنَ في البالِ بيني و بين سرير الغريبةِ .

  

جئتُ بريدا يُسابقُ موتتهُ نحوَ حجرتها في سطورِ الكتابةِ وصفا يُكابدُ شهوتهُ في المجازِ ويسترشدُ النّارَ أضواءها عندَ اهلِ التآويلِ مُحتملاً غيرَ مُكترثٍ للمعاني الأليفةِ مُستَتَراً في الغيابِ يبوحُ و لا يُغمضُ الجفنَ عن صورةِ البيتِ ، بيتهُ من شاهقٍ  في القُصيبةِ في زنقةِ العينِ في سيرةِ الخطوِ حينَ آلتقاها مصادفةً في سكونِ التّواريخِ ، قد يقفُ الوقتُ حينا يرتّبُ سرّ العلاقةِ بيني و بينَ صدى آمرأةٍ كلّما جئتها من غيابٍ رمتني على صفحةِ الغيبِ مُنتجعا سرّ ضحكتها سرّ وردتها في ضبابِ الرّؤى .

  

من قديمٍ أسائلُ نفسي لماذا تميدُ بنا الأرضُ في حضرةِ الجمعِ بينَ الحضورِ و و بين الغيابِ حميمينِ نرتادُ أدخنةَ العطفِ في جنّةِ الكلمات نُريدُ مجيءَ المياهِ صدورَ الفراشاتِ في حقلنا القزحي تمثيلَ حكّوتةٍ حيّةٍ من نثارْ لبمساراتِ لا تبتغي غيرَ أنشودةٍ من فمِ البحرِ .

بين و بينكِ حلمٌ يُراودنا كلّما دقَّ عزلتنا جرسُ الصّمتِ أو كلّما آنطلقَ العطرُ من زهرِ فجأتنا  المجيءُ إليكِ آحتضارُ الدّقائقِ في الموتِ زلزلةٌ في الحياةِ البطيئةِ غسلٌ من القدر الإلاهيِّ .....

لا شيءَ يُنبئنا موعدا لاحقا غيرَ عودتنا من جديدٍ لبيتِ القداسةِ في سرِّ ضحكتها

 

 

العبور  

بين فاصلتينِ يمكثُ وجهيَ الحرّ يراوح في اللازمان

يحثُّ الخطى إلى مساراتٍ مأهولةٍ بالفجاءاتِ

لا أدري ؟

الكلماتُ تأبى أن تتركَ أحصنتها الطّفوليّةَ

و اليمُّ يأخذني إلى رحلةٍ نحوَ الآفاقِ

...لا تبقَ مكانكَ أيّها المجداف و آغنم من السّيرةِ نسماتِ الملاحةِ

قد نتعلّمُ من الدّورانِ موسيقى التمرّدِ

و قد تتكلّمُ فينا الحياةُ بعدَ السّبات

مازالَ لنا في البعدِ أمنيةٌ أنيقةٌ و رغيفُ خبزٍ

و مازالَ لنا في المجهولِ ما يتمنّاهُ اليتيمُ

..لكأنّني بين فاصلتينِ

الفاصلةُ الأولى علامةٌ باهتتةٌ تصلُ الأوّلَ بالثّاني و تتركُ للإعرابِ بيانَ الحكايةِ

و الفاصلةُ الثّانيةُ علامةٌ مطلوقةُ الجناحينِ أينما حلّتِ القافلةُ يخضرُّ الكونُ

يسيبُ شعاعها إلى أن يبلغ بالمرءِ شواطئَ "زرادشت"

ما ذنبُ الفجأةِ إن أشعّت بينَ التوأمينِ إشارةَ البدءِ

الهو يدفعني نحو الهوّةِ

و الأنا ينهرني عن الهذيانِ

بينما ضحكٌ متزايدٌ يتزاحمُ في حصّالةِ المعنى و على الخشبهْ ....

 

 

الإنتظار

الغيابُ يتركُ للإنتظار هيكلةَ دقائقهِ المعتوهةَ

لا شيءَ ينبئُ بالإحتضارِ

موسيقاتٌ تتآلفُ في صمتِ البيتِ

..للصمتِ قداستهُ المعهودةَ

الشّمعدانُ بأظلافهِ البريّةَ يعزفُ قافيةً نواسيّةً

سنابلُ المزهريّةِ الكأس تطرقُ على ساحةِ الطّاولةِ آونةَ البيدرِ

الزّهراتٌ المقطوفةَ من جنّةِ الدّارِ تؤلّفُ رقصتها لمجيءِ الكورسِ

السّاعةُ العتيقةُ تستتعيرُ نقيقها من مدوّنةِ الفراهيدي

الهياكلُ : حرّاسُ المعبدِ يشعلونَ سجائرهم النّورانيّةَ في زحمةِ الإيقاعِ

حتّى أمشاطُ الجدّةِ يسترجعنَ مقاماتِ النّارِ قبلَ الإنشادِ

...معذرةً أفرادُ الجوقةِ المنسييّن

كلّنا كتيبةٌ واحدةٌ أمامَ مفتاحِ صولْ

و الإنتظارُ وجهٌ آخرٌ للغياب

الموسيقى الآنَ قافيةٌ مجهولةُ العتباتِ لا يقودها قائدٌ و لا يحدّها حدٌّ

تتقفّى آثارَ الحافرِ على أوتارِ الصّدفةِ

..ألآمنحينا صولفاجكِ الأغبرَ أيّتها اللّحظات...

 

 شاعر تونسي من سوسة