في دراسته يكشف الباحث المغربي عن سعي جاستون باشلار المتميز إلى إيجاد فلسفة تواكب تصوراته للخيال وحفره المعرفي في المناطق التي لم تعتد الفلسفة الحفر فيها عن شعرية المكان والحلم، وتحديد أرضيّة مفهوميّة تعكس هذا التصور، فكانت الظاهراتيّة منهجه للتعبير عن الدلاليّة المميزة للفعل الشعري وأبعاده التأويلية.

الظاهراتيّة الباشلارية.. أو حيوات الصورة الشعرية

سعيد بوخليط

سعى باشلار Bachelard إلى إيجاد فلسفة مختلفة تواكب تصوراته الجديدة للخيال، مع تحديده للأرضيّة المفهوميّة التي تعكس هذا التصور. وقد وجد في الظاهراتيّة، المنهج المناسب والممكن كذلك، للتعبير عن الخصوبة الدلاليّة المميزة للفعل الشعري. لم يكن بإمكان، مفاهيم مثل الكبت، التسامي، واللاوعي...، الإجابة عن أطروحاته النظرية، لأنها تبقى قاصرة بل ميكانيكية في أحيان كثيرة، تتكلم لغة لا تتناسب والاحتمالات الهائلة واللانهائية التي تنطوي عليها الأبعاد التأويلية للشعر.

فما هي إذن أهم الأسس النظرية، التي استند عليها باشلار لتقديم ظاهريته؟ وكيف حاول في صياغته لها، التعبير مفهوميا عما حاول ممارسته بشكل شخصي؟ وما هو البعد الآخر لهذه الظاهراتية؟ مادام أنه لم يستعمل بشكل قصري الجهاز المفهومي الذي جاء به هوسرل Husserl، جهاز يتميز بنوع من الصرامة النظرية والمنهجية، لا تنسجم مع الخصوصية النظرية للشعر خاصة والإبداع الجمالي عامة. بل، إنه لم يشر في حديثه إلى اسم هوسرل، أو مفهوم من مفاهيمه، مسألة أعتقد مقصودة، مادام هدف باشلار الأساسي يتحدد في إعطائه لعبة القراءة، وازعا ذاتيا تحكمه فقط رغبة التلذذ والاستمتاع. وسيتأكد، الأمر بدقة حينما نستلهم مضامين كتبه الثلاثة: جمالية المكان(La Poétique de l'espace) (1957) شاعرية حلم اليقظة (la poétique de la rêverie) (1960)، شعلة قنديل (la flamme d'une chandelle) (1961)، كوثائق أساسية تظهر رغبة باشلار لتأسيس جمالية القراءة.

إذا، كانت أسماء مثل هيدجر Heidegger، ميرلو بونتي Merleau-ponty، سارتر Sartre، قد طورت الظاهراتية على مستوى النظرية الفلسفية في محدداتها الأنطولوجية، فإنه بخصوص النقد الأدبي، ستتم صياغة أفقه الظاهراتي على يد كل من: غاستون باشلار، مارسيل ريمون M. Raymond، جان بيير ريشار J.P. Richard، جورج بولي G. Poulet، رومان أغردن R. Erden، منطلقين من كون: "العمل الأدبي يقوم على أفعال قصدية من قبل مؤلفه تجعل من الممكن للقارئ أن "يعايشه" بوعيه كقارئ. وتعني المعايشة هنا نوعاً من التداخل عبر التجربة القرائيّة بين المؤلف والقارئ"(1). فالوعي الإنساني قصدي، يتجه صوب أشياء العالم الخارجي المحيطة به، من أجل تمثلها وإدراكها كما تظهر أمام هذا الوعي في الزمان والمكان. لقد جاءت الظاهراتية، كي تقطع مع النظرية المعرفية في الفلسفة التقليدية، التي توخت إدراك العالم منفصلاً عن الذات، هنا: "يتعين علينا تغيير الكوجيطو الديكارتي أي عبارة (أنا أفكر) والكوجيطو الجديد لا يثبت وجود (الأنا) ولكنه يتجه إلى تدعيم فعل الكوجيطو ذاته. وبدلاً من أن أقول: أنا أفكر فإذن أنا موجود. تصبح عبارة الكوجيطو الظاهري: أنا أفكر فذاتي المفكرة إذن موجودة"(2). يتحول الوعي في النظرية الظاهراتيّة إلى فعل قصدي، من ثمة ضرورة تناوله كعمل دينامي وحقيقة تبتغي بها الذات شيئاً معيناً، يكون موضوع قصد الوعي وانتباهه، فتحدث "إحالة قصدية" متبادلة بين الوعي وموضوع الوعي، ذلك أن الذات والموضوع، لا يمكن فصلهما تحليلياً حسب ميرلوبونتي، فالوصف الظاهراتي للأشياء في الزمان والمكان، بغض النظر عن القوانين الثابتة التي تحكمها، يشكل نقطة أولى للنظرة الظاهراتية: "فالثورة الفلسفية التي جاءت بها الظاهراتية تقترن اقتراناً تاماً بندائها الثوري (إلى الأشياء نفسها) أي أن نقطة الابتداء هي الأشياء كما تتمثل في الظاهرة خلال التجربة الخرساء"(3). هكذا، تصف الذات الإنسانية العالم الذي تعيشه، وتقارب الأشياء والموضوعات التي تلفه من كل مكان، كما تتبدى في مظاهرها: "الظاهرة إذن هي المعطى المُقدّم إلى الشعور بصفة مطلقة (...) أما التحليل الظاهري فيقوم بتحليل الظاهرة من حيث هي إحالة متبادلة للفعل الشعوري مع العالم الموضوعي"(4). يلعب الحدس هنا، دورا مهما في إدراك الدلالات الجوهرية للأشياء. تعتبر الظاهرة في حضورها المباشر، نقطة أساسية لكل استيعاب لهذه الظاهرة نفسها، ولا يفترض في ذلك أي معرفة قبلية أو خلفية، بل تقوم فقط على: "هذا الشعور التلقائي المباشر الذي يشرع فيه عامة الناس من أجل إقامة معارفهم وتجميع مواد علومهم. أو بعبارة أخرى إن فلسفة الظاهريات ترى أن أوفق وضع بالنسبة إلى الفلسفة هو أن تبدأ في تشييد أركانها دون أن تفترض وجود أي حكم سابق، فيما يتعلق بأي شيء"(5). وسنرى، بأن هذا الموقف المعرفي، أهم ما التقطه باشلار، من المنهج الظاهراتي، في بحثه عن الصورة الشعرية الفتية والأولانية غير المأخوذة بأي تحديد نظري. إنها صورة، يدركها الوعي الذاتي في آنيتها وحضورها المباشر، من خلال انبعاثها التلقائي.

شكلت مفاهيم: "العفوية"، "الحرية"، "الحداثة"...، منطلقات نظرية، باشلارية، لاستيعاب الصورة الشعرية، حيث طرح ضمنيا التساؤل عن المنهج النظري الممكن، قصد التعبير عن الخصوصية الذاتية للإبداع الفني ولا سيما الشعر. انطلق باشلار: "من إبستمولوجية تستند على موضوعية يحتمها العلم، ثم تأتى له في نهاية مشروعه تأسيس ظاهراتية للخيال الشعري"(6). بعد، أن وجد في ظلها، الفلسفة التي تمنح هاته الإمكانية، لأنها ببساطة تراهن على الوعي والتأمل الذاتيين في مقاربة أشياء العالم. مسألة، طمح إليها باشلار مادامت تعطيه وسيلة فعالة، بغية خلق رافد نظري يسعى به إلى تأسيس فعل شعري لحظي، غير مرتهن بأية رؤية تحصر وتختزل الدلالة الأنطولوجية لهذا الفعل: "سيتبنى باشلار الظاهراتية، كمنهجية وحيدة تخول لنا إمكانية استعادة (ذاتية الصور)، كما تساعدنا على تناول قيمتها الجديدة"(7). غير، أنه لن يحتفظ من هذه الظاهراتية سوى بطريقتها ومنهجيتها في تناول القضايا دون تبني البناء المصطلحي الضخم الذي جاء به هوسرل وميرلوبونتي وأصدقائهما.

استهدف باشلار بطريقته، الحفاظ على أصالة الصورة حتى تبقى دائما قادرة على إنتاج ذاتها باستمرار وتحافظ على شبابها. هذه الصورة، التي شرعت في التحاور مع المتلقي، لن تشيخ قط لأن الوعي الذاتي والفردي يمكّنانها دائما من سبل القوة والحياة: "فالاقتضاء الظاهراتي بالنسبة للصورة الشعرية، هو زيادة على ذلك بسيط: إنه يعود إلى التشديد على فضيلة أولانيتها بل وتناول الكائن ذاته في أصالته، والاستفادة أيضا من الإنتاجية النفسية العظيمة التي للخيال"(8). يقف الظاهراتي، عند مطلع الصورة، كي يتماهى مع حمولتها المتعددة إلى درجة تقمصه، شخصية الشاعر نفسه. أي أن الصورة الشعرية، تهب القارئ قدرة الانتقال من تحقق الشعري إلى الوعي الإبداعي، بمعنى التحول من موقع الذات السلبية إلى ذوبان في العملية الإبداعية. هكذا يستجيب باشلار: "للاقتضاء الظاهراتي، بإعادة تخيل الصورة المعطاة من قبل الشاعر، بالتموضع عند أصل الصورة. ثم، يأخذ هذا الأصل، باعتباره الصورة ذاتها. إنه، إذا متيقن وهو يسعى إلى منطلق الصورة، حلوله في وجودها ذاته"(9). لذلك، سيلجأ باشلار إلى حلم اليقظة La reverie كميكانيزم يضمن حداثة الصورة وجدّتها، حيث تدرس وظيفة "اللاواقع" لذاتها. أما، الفكر المفهومي، فلا يمكّن من تناول الصورة في حلًميتها وحركيتها، لأنه ينظر إليها بشكل مجرد يزيل عن هذه الصورة كل مظاهر الاستمرارية والصيرورة.

تلح الظاهراتية على اقتسام اللحظة الإبداعية، من أجل التأكيد على فرادة الصورة وأولانيتها. يقول باشلار: "تدعونا ظاهراتية الصورة إلى تفعيل المساهمة في الخيال المبدع، مادام أن هدف كل ظاهراتية يتجه إلى وضع الوعي في الحاضر، على سطح زمان جد متوتر"(10). لكي: "لا تتم خيانة الصورة بتثبيت (صداها)، يعمل ظاهراتي الصورة على بعثها من جديد، بإعادة إحيائها بين ثنايا "حاضر متوتر جداً، بالتالي، سيتردد دائما في إعطائها معنى:(11). تركز، منهجية باشلار على: "التموضع (بشكل أولي)، متوحد بموضوعه: الخيال المبدع. وحتى يستوعب الصورة انطلاقا من (ميزة أصلها)، فقد ألزمه ذلك أن يتخيل بدوره ويعيش ثانية لحظة الإبداع، مؤولا الأشكال التي يفرضها الشاعر مع وفائه ليس فقط للصورة، لكن إلى ما سماه بعد مينكوفسكي Minkowski (رنينها)"(12).

لعبة مماهاة الصورة، تفتح سبيل أن تحيا الذات الحلم من جديد وبالتالي النظر إليها في ذاتها ولذاتها دون ربطها بتقنين دون آخر. مسألة، اختلفت فيها الظاهراتية مع التحليل النفسي الذي يختزل الصورة في الرمزية وتأويلات عليّة: "يعقلن الصورة، ويرى في كل شيء تفسيرات سببية، هكذا يتوخى (تفسير الوردة بالسماد)"(13). إذن، عوض البقاء ضمن حدود هذه الصورة ومعطياتها اللحظية، ينتقل للحديث عن سياقات أخرى.

لقد انصرف باشلار عن التحليل النفسي الكلاسيكي، نظرا لاختزاليته وتقليصه الصورة إلى مجرد راسب لإدراكات قديمة، تبرز بطريقة ما من قبل الذاكرة. أما الظاهراتية، فقد أكدت على حضور الوعي الذي ينمو بشكل مستمر، نتيجة قراءة دائمة للشعر والشعراء، وللاستفادة المطلقة من هذا الامتلاء، يجب على القارئ أن يعيد إنتاج الحدث الإبداعي. فالظاهراتي: "بوسعه إحياء وعيه الشعري، بمناسبة آلاف الصور التي ترقد في بطن الكتب"(14). إنه شاعر بالقوة. لذا: "فالظاهراتي الذي سيقتصر على إحصاء صور الشعراء، كي يبرز معناها، سينخدع إذا لم يمنح نفسه وعيا متخيّلا فعالا، أي وعي الشاعر الذي يعيد إبداع ما يتلقاه (...). للوصول إلى وعي المبدع، ينبغي على كل واحد منا، أن يصبح ظاهراتيا للصورة، بحيث يتموضع في (وضعية الانطلاق)"(15).

من الضروري، كي نستعيد مطلقا الصورة، الاهتمام بوجودها وكيانها كما يقدّمان للوعي، دون البحث في أسباب هذا الوجود، لأن ذلك من شأنه إبعادنا عن حقيقة الصورة التي تعتبر مسلكا جوهريا نحو اختراق وفضح سر الخيال. ليس المطلوب، فهمها، لكن الأساسي استيعاب نشأتها وإدراكها في كنهها بغير تحويلها إلى لغة أخرى: "كي نتناول الصورة من خلال كليتها. ألا يجب الانتباه، بشكل أقل إلى علة وجودها مقارنة مع وجودها ذاته ؟ باشلار Bachelard، وهو مقتنع بضرورة تناول الصورة كما هي، فقد بحث في أحسن طريقة للنفاذ إليها"(16). تقوم، الظاهراتية: "على تناول الصورة الشعرية، بناء على تحققها الذاتي، في انفصال عن وجود سابق"(17). لا تخضع الصورة لمنطق الزمان العادي، أو تمتلك ماضيا أنطولوجيا ومعرفيا مكتملا، إنما هي مهيأة باستمرار للانفلات من سطوة البعد الواحد. وحتى، لا يخون هذه الصورة، يركز الظاهراتي على رنين الصلة التي يستدعيها مرة أخرى: "إنه يتلقى صورة الشاعر مثل صدى، والصدى ليس مجرد تكرار. فحالما، نموضع الصورة، يتحتم علينا تخيلها مرة ثانية، لأن الصورة التي لا تفرض على الفكر إعادة تخيلها وتقويمها، لا تنهض إلا على جدول ذهني للرموز، تتماثل داخله الصورة مع الرمز"(18).

أولانية الصورة، حداثتها، إبداعيتها ثم تعددها بالنسبة للوعي الفردي، مبررات أساسية بالنسبة لباشلار، كي يتبنى المنهج الظاهراتي، داعيا إلى سبر أبعاد منطلق الصورة، والنظر إليها باعتبارها بدءا مطلقا، يستدعي صورة مجردة، من كل حتمية تتوخى تأويلها إلى كيان مفهومي: "لكي يتمثل باشلار المنهجية الظاهراتية، فقد تموقع عند "خط الانطلاقة"، بحيث يعيش وجود الصورة في فوريته"(19). إعادة، تخيل الصورة بهدف فهمها، هي عملية ترفض ربطها بأحداث سابقة زمانيا، أو تبريرها بخلفيات ما ورائية، بل اكتشاف سرها في إطار الحالة الوجدانية التي سماها باشلار بـ: تقمص وجدان المبدع. وهو، ما حاول كتاب "شاعرية حلم اليقظة" (1957) التنظير له، بمعنى أفق الانتقال المعرفي من قارئ مستهلك إلى مبدع خلاق. فالظاهراتي، الذي لا يوفر لنفسه وعيا ملهما وديناميا، هو ذاته وعي الشاعر، يعيد به خلق ماتلقاه. قلت إذا عجز عن ذلك، فإنما يسلك طريقا مميتا لروح الصورة الشعرية: "هذه الصورة التي تأتت لنا بقراءة القصيدة، تصبح لنا حقا، إنها تتجذر فينا. لقد حصلنا عليها، لكن يحدث عندنا الانطباع أنه كان بوسعنا إبداعها، بل كان لزاما علينا ذلك. تصير الصورة، كائنا جديدا للغتنا"(20). إحساس، يرتقي بالظاهراتي إلى مرتبة شاعر ثان، وبفضل هذا الوعي الواهب أو المانح، يستطيع إلى جانب اللذة الجمالية، اكتساب وعي يجدر تحديده: «وبهذه الاستفادة تقوم ظاهراتية الصورة التي تتجلى كفلسفة، وليس فقط مثل (مدرسة للسذاجة)»(21).

اشتغل باشلار على مفاهيم: التجربة، إعادة التخيل، المعايشة الجديدة...، كدليل على أن ظاهراتية الصورة بشكل عام، لا تقدم معطياتها في صيغة نسق مذهبي مُؤسَّس قبليا، يتوخى فرض أسسه المنهجية دون مراعاة لطبيعة الموضوع الذي يحاول الانكباب عليه، خاصة إذا ميزته حساسية الصورة الشعرية: "هكذا، ستكون ظاهراتية الصورة، ظاهراتية وعي حالم، منقاد، منتبه، وجاهز لعفوية الصورة"(22). ينجز الظاهراتي والشاعر، نفس المهمة في الآن ذاته، ويتموضعان داخل المجال عينه، بحيث لا يختلف الأول عن الثاني، إلا على مستوى درجة الإبداعية التي تحضر لدى كل واحد منهما. يستحيل، استيعاب الصورة بغير وعي مبدع، محلق: "فالظاهراتي الذي أقام، بمنهجيته في مقدمة الصورة، يأمل لقاء تحول يتكرر دائما، أن يصبح الشاعر نفسه ويسلب ثروته، أو بشكل أفضل: ينمو بعطاءاته"(23).

راهن باشلار، في إطار مشروعه لدراسة الصورة على جانب الحركة والدينامية، بالتالي رفض حصرها عند مكون، إنها صورة تتعدد مضامينها حد اللانهائي وتبعث لدى القارئ حسا أنطولوجيا ملهما، حيث تشدد الظاهراتية الباشلارية على فردية الوعي واستكشافه لمنطلقات الصورة، غير أن الظاهراتي: "قد يبرز لقارئه مبرر أصالة صورة ما، ولا يمكنه إعطاؤها له كأصل، لأن الوعي بذلك، ينطوي على فردية وعي يحتاج بدوره إلى الوقوف عند بداية الصورة. إجمالا، فالظاهراتية شخصية، نظرا لي: "التركيز على منشأ الصورة"، يقتضي تبلور وعي فردي. لكن، خاصة، من خلال:

دينامية الصور، والذي يتنافى مع كل تفسير مطلق لها.

"الرنين"، وظيفة للوعي الذاتي، حيث عمله منفردا غير قابل للتصرف. ظاهراتية الصورة، تجسد إتيقا للوعي، لأنها مثل الأخلاق التي تعلم (العيش الصالح)، ترشد أيضا إلى (التخيل الجيد)"(24). ينبني البحث الظاهراتي على اكتساب وعي فردي، لهذا يجد في حلم اليقظة La rêverie بخلاف الحلم le rêve، مادة دسمة. فالحالم "اليقظ"، يحضر بكل كينونته أمام تأمله، بينما ينتفي ذلك في الحلم الليلي Nocturne. وقد ترك باشلار، دراسة هذا الأخير إلى حقلي علم النفس والأنثروبولوجيا مركزا في المقابل على حلم اليقظة، مدخل الظاهراتية لتفحص تجربة الوعي، ومن تم استحضار الصورة الشعرية في كل إيحاءاتها المعرفية والأنطولوجية: "إذا أمكن للظاهراتي الإيمان بأشياء كثيرة، فإن شيئا واحدا لا يناسبه جيدا: إنه الحلم. بالعكس من ذلك، يحث حلم اليقظة la rêverie على دراسة ظاهراتية، لأن "حالم حلم اليقظة"، يكون حاضرا داخل حلمه"(25).

يتفحص الظاهراتي، الصورة، بنوع من "السذاجة"، قصد استثمار أهم جانب فيها، ألا وهو معطى الجدّة والحداثة، من أجل تبرير سخي يعطيها صدى ورنينا شخصيين. تمتلك الصورة الباشلارية، سلطة دينامية، تحلق بالوعي نحو عالم جديد يمكن تسميته ب "واقع اللاواقع"، فتتحول إلى مناسبة لولادة أولى، دائما مختلفة: "انطلاقا من إيمانه، بإبداع النفسية لصور جديدة، يطرح باشلار، أسئلة من قبيل: أين تكمن حداثة الصورة ؟ كيف نقوّمها ؟ كيف تثير نفسية غريبة عن ظهورها وقارئا محتملا؟"(26). إذن، ظاهراتية الصورة، هي لوعي حالم ؛ واهب، يقظ، ومتهئ لعفويتها، يتمرد على الممارسة التقنينية التي تحكم الذهني، كي يقتحم ممكنات حدوس حلم اليقظة: "إذا استسلم باشلار للحلم أحيانا، كي يتلذذ ويتذوق الصورة التي تثيره، فإنه يفعل ذلك غالبا من خلال اهتمام صارم بالمنهجية. فهو يعتقد، أن وحده "مضاعفة حلم اليقظة"، يعرض الصورة طبيعيا دون اختزالها ويستنفد الرنين قدر ما يمكنه ذلك"(27). لذا، فترجمة الصورة إلى لغة أخرى غير اللوغوس الشعري، يعتبر خيانة.

شعرية حلم اليقظة: Le poétique de la rêverie (1960).

أراد باشلار، بهذا العمل دراسة أحلام اليقظة، انطلاقا من صياغة منهجية، تتبنى المنهج الظاهراتي في مقاربة الصورة الشعرية. لقد سعى، انسجامامع مشروعه الفكري إلى بلورة تحققات نظرية تؤسس لممارسة أدبية جديدة، معتقدا بأن الخاصية الأنطولوجية للصورة تفترض بعدا مغايرا في الصياغة المفهومية، ما دام أن الرؤى التقليدية أفقدت الصورة روافدها الجوهرية، ك: الأولانية، الحداثة، والجدّة، تعددية المعنى، استمرارية التشكل الآني.

استدعى باشلار، أحلام اليقظة بناء على مفهومين أساسيين للتحليل النفسي اليونغي، وأقصد بهما الأنيما والأنيموس. يشير الأول إلى أحلام اليقظة الأنثوية، في حين يتضمن الثاني أحلام اليقظة الذكورية. يقول في هذا الإطار: "حتى لا يحصل غموض والتباس مع حقائق بسيكولوجيا السطح، فقد جاء يونغ Jung، بفكرة صائبة تقوم على وضع ذكورية وأنثوية الأعماق تحت التأثير المزدوج لاسمين لاتنيين: أنيموس Animus وأنيما Anima. إسمان، لروح واحدة، ضروريان من أجل تبيّن حقيقة النفسية الإنسانية. فالرجل، الأكثر رجولة، والذي نصفه بأن له أنيموس قوي، يتوفر كذلك على أنيما قد تكون لها تمظهرات متناقضة. أيضا المرأة، الأكثر أنوثة، تنطوي على خصائص نفسية تثبت وجود الأنيموس. إن، الحياة الاجتماعية المعاصرة بتنافسيتها التي "تخلط الأجناس"، تعلمنا كيف نكبح مظاهر الخنثوية L'androgynie"(28).

حسب باشلار، فإن مدرسة يونغ المهتمة خاصة بعلم نفس الأعماق، بيّنت أكثر من جل مدارس التحليل النفسي الأصول الخنثوية للذات الإنسانية: "نعتقد أن أحلام اليقظة تجسد أفضل مدرسة ل "علم نفس الأعماق"، وسنطبق جميع الدروس التي استقيناها منه، كي نفهم على نحو أفضل وجودية حلم اليقظة"(29). وظف يونغ، الأنيما والأنيموس، قصد الإحاطة باللاوعي الإنساني. كما قارب، تأملات الخيمياء Alchimie التي هي: "لغة حلم اليقظة، اللغة الأم للتأمل الكوني. لغة، يجب إدراكها كما حلمنا بها في العزلة. إن أكبر إحساس بالعزلة، ينتابنا حين نقرأ كتابا عن الخيمياء، ويحصل عندنا الانطباع بأننا (وحيدين في العالم)"(30). غير، أن لغة الخيمياء، تُفهم كحوار بين الأنيما والأنيموس، تتوحد داخل روح الحالم.

هذا التأسيس الجديد لمفهوم الذكورة والأنوثة، أجاز لباشلار إمكانية تفجير مفهوم الصورة الشعرية، جراء القطيعة الواضحة التي أقامها بين الحلم وحلم اليقظة. بناء عليه، اتجهت كل كتاباته النقدية إلى هذا الجانب كمدخل رئيسي لأي خطاب شعري: "فيما ركز التحليل النفسي وعلم الاجتماع على اللاوعي، سواء عن طريق الأعراض الحلمية، أو المنظومات الأسطورية، وجّه باشلار بحثه في الآن نفسه نحو ما فوق الوعي الشعري الذي يشتغل بواسطة الكلمات والمجازات، وكذا مسار هذا الجهاز التعبيري، الأكثر غموضا والأقل مجازية من القصيدة، المؤسِّس لحلم اليقظة"(31).

طرح باشلار، كمقدمة أساسية للكتاب، مسألة الإيجابيات المنهجية والنظرية للأفق الظاهراتي، عبر تخصيبه لممكنات الصورة الشعرية. فما هي حيثيات ذلك؟ أي بماذا تتميز الظاهراتية؟

يمكّن المنهج الظاهراتي، من التواصل مع الوعي المبدع للشاعر، نظرا لما يفرضه من عودة دائمة إلى الذات. تدرك الظاهراتية كيفية انتظام الوعي في سلسلة حقائق.طبقا لمرتكزات المنهج الظاهراتي، ينبغي إيضاح مسار وعي الذات المعجبة بالصور الشعرية. تشدد الظاهراتية وتؤكد، على أصالة الصور وأولانيتها، حيث الاستفادة من إنتاجيتها النفسية العظيمة. تدعو الظاهراتية، إلى إعادة تحليل وقراءة الصور المعشوقة بإخلاص ومنظور جديد. نتجاوز مع الظاهراتية منطق التفضيلات، الذي يحول الذوق الأدبي إلى عادات، ومن خلال الامتياز الكبير الذي تعطيه للآن ولحظة الحاضر، فإننا نحتفي بالصور الطازجة التي يأتي بها الشاعر. تحقق للصورة، منفصلة عن كل ماض. تعمل الظاهراتية على إبراز وتناول الوعي الذي هو سبب في تغير الصورة الظاهراتية مدرسة لـ "السذاجة". فلا يمكن، قراءة الشعر مع التفكير في شيء ثان. بالتالي، نلاقي الصورة الشعرية بنوع من الصفاء. تراهن ظاهراتية الصورة على الاشتراك في عملية التخيّل، فهي ليست وصفا تجريبيا للموضوع، بل هدفها تحيين عملية الوعي.

ينبهر الظاهراتي أمام الصورة الشعرية، لهذا قد يوقظ وعيه الشعري بالصور التي تنام بين دفتي الكتب. توضح الظاهراتية بجلاء، مفهومي الحلم وحلم اليقظة، حيث يفصل بينهما حضور الوعي: "إن حلم اليقظة الذي يختلف كثيرا، عن الحلم المتصف غالبا بلهجات المُذكر القاسية، يظهر لنا بالفعل ـ أبعد من الكلمات هاته المرة ـ ذو ماهية أنثوية. حلم اليقظة، كما يبدو أثناء طمأنينة النهار وهدوء الراحة ـ حلم يقظة طبيعي، حقا ـ هو نفسه قوة الكائن المستريح. إنه طبعا، إحدى حالات الروح الأنثوية، بالنسبة لكل كائن إنساني ذكر أم أنثى"(32). تتميز الظاهراتية بقدرتها على تناول الصورة الشعرية في كينونتها الخاصة، حيث تتفاعل باستمرار ككائن لغوي جديد، تضفي على الوعي ضوءا.

إن مسألة مثول الصورة أمام الوعي، وديمومة أولانيتها، وكذا إدراك صيرورة الوعي وكيفية اشتغاله، رسمت الأطروحات الأساسية التي دافع عنها باشلار سواء بين طيات عمله الحالي: "شاعرية حلم اليقظة"، أو كتابيه الآخرين "جمالية المكان" و"شعلة قنديل". إضافات نوعية، صاغت نسقا مفهوميا، من أجل إرساء الدرس الظاهراتي على قواعد نظرية. لكن، تبقى الإشارة، أن: "ظاهراتية باشلار ، الدينامية و"المضخِّمة"، تختلف كليا عن الظاهراتية استاتيكية والعدمية لسارتر مثلا. فهذا الأخير ـ الوفيّ لهوسرل ـ يضع "بين قوسين" المحتوى المتخيل، معتقدا الوصول كي يضع في بداهة داخل هذا الفراغ، معنى المتخيل. باشلار، وهو يقترب أكثر من هيغل صاحب تعريف الظاهراتية كـ (علم لتجربة الوعي)، يشتغل بالعكس من ذلك على أقصى ما للصورة: حيث يمتزج المتخيّل مع الدينامية المبدعة والتضخم "الشعري" لكل صورة محسوسة"(33).

استحضر باشلار، الصورة التي ينتجها حلم اليقظة، المنصبة على الطفولة أو الفضاء الخارجي، بعد أن وقف على مفهومي الأنيما والأنيموس، محددا الخاصيات الأنطولوجية لكل منهما، وبالتالي تصوره لطبيعة اشتغال الذات الإنسانية في كل من لحظتي الحلم ثم حلم اليقظة. الحلم، ممارسة بدون فاعل، إن صح التعبير، يتسم بإحالته الذكورية، بينما يتخذ حلم اليقظة بعدا أنثويا. يقول باشلار: "سأحاول اقتراح الأمر على قارئ متسامح، إن الحلم ذكوري، بينما حلم اليقظة أنثوي. ومن خلال توظيفنا، للتصور الذي اقترحه علم نفس الأعماق، بتقسيمه النفسية إلى أنيموس Animus وأنيما Anima، فإننا سنبرهن، أن حلم اليقظة سواء عند الرجل أم المرأة، يمثل ظاهرة للأنيما"(34). انطلاقا من ذلك، سعى باشلار إلى الإحاطة بمختلف امتدادات حلم اليقظة، فمن حديثه عن حدود اللغة والمكونات الأنثوية للكلمة، إلى نوستالجيا الطفولة، وكذا مختلف الآفاق الحُلمية التي يبعثها الوقوف أمام المكونات الكوسمولوجية للعالم الخارجي.

فيما يخص المسألة الأولى، تطرق باشلار إلى حسية الكلمات والمفردات أي الحمولة الأنثوية والذكورية التي تخترقها، كمدخل للفصل الأنطولوجي بين الحلم وحلم اليقظة، على اعتبار أن الأول، ذكوري، في حين يحيل الثاني على معطيات الأنوثة: "إن فيلسوفا حالما، سيتوقف عن التفكير، عندما يتخيل، معلنا لنفسه الطلاق بين الذهني والخيالي. فيلسوف، كهذا حين يحلم باللغة تنبثق لديه الكلمات من أعماق الأحلام، فكيف لا يمكنه إذن، الإحساس بالتنافس بين المذكر والمؤنث حين يستكشفها في أصل الكلام"(35). تمثّل باشلار، بامتياز أحلام اليقظة في الكلمات المؤنثة. كما أن مسألة التذكير والتأنيث، والتغيرات التي تحدث عند الانتقال بين لغة وأخرى، تحتاج إلى إجراء حلمي بدلا عن البحث في الأسباب والمبررات العقلانية. يجب أن نحلم أكثر، نحلم في حياة اللغة نفسها، لكي نحس كيف استطاع الإنسان حسب تعبير "برودون" Proudhon إعطاء أجناس لكلامه. وإذا جسدت اللغة مبحثا خصبا بغية معرفة المحددات الجنسية لأحلام اليقظة، فإن لحظة الطفولة، حلم جميل مستمر، باعتبارها بوتقة تنصهر فيها مختلف آمالنا وآلامنا. استعاد باشلار إذن، انطلاقا من المنهج الظاهراتي، بقايا هاته اللحظة بكل امتدادتها. وبالتأكيد، يخول لنا حلم اليقظة، إمكانية الولوج إلى ذواتنا بعمق، حيث نستعيد طفولتنا في حميمتها: "إن طفولة تسكننا، حينما نقف عليها ثانية مع أحلام اليقظة أكثر منه واقعيا، فإننا نعيشها مرة أخرى في إمكانياتها. نحلم، بما كان من المفترض حدوثه، نحلم بحدود التاريخ والأسطورة"(36).

تخيل الطفولة، وبنائها ثانية بواسطة أحلام اليقظة، تمظهر صورة الطفل الوحيد المنعزل، مادام أن نواة الطفولة تبقى مستمرة في الروح الإنسانية. نجتاز بتلك الأحلام، كل مراحل الأزمنة الإنسانية من الطفولة إلى الشيخوخة، حيث نحيا كل قيم الماضي: "نشيد بأحلام اليقظة، لوحات انطباعية تنتمي لماضينا، ويقنعنا الشعراء بأن جميع هذه الأحلام الطفولية، تستحق أن نبدأها من جديد"(37). قراءة الشعراء، توقظ فينا حالة طفولة أخرى، ويجب أن تعيدنا الوثائق الشعرية إلى المعطيات الحلمية لمرحلة الطفولة، من تم يلح باشلار على تطبيق المنهج الظاهراتي الذي يقارب شعر أحلام اليقظة الطفولية في لحظته، حيث يتجاوز بذلك التحليل الموضوعي مثلما تبناه علماء النفس المختصين بالأطفال: "حتى ولو تركنا للأطفال حرية الكلام ولاحظناهم دون رقابة وهم يمتلكون كامل حرية لعبهم ثم استمعنا إليهم بالصبر الناعم المميز، لعلماء نفسية الأطفال، رغم كل هذا فلن نصل حتما إلى الصفاء البسيط الذي يتمتع به التحليل الفينومينولوجي"(38).

تظل إذن، نواة الطفولة ملتصقة بالنفس الإنسانية، حيث يعيش الفرد المجتمعي لحظات كبت مستمرة لهاته الطفولة، التي تتدفق في كل آن بين ثنايا أحلام اليقظة أثناء العزلة. تصبح ولادات لا نهائية للفرد، لأن جغرافيتها وتاريخها مطلقين: "يبدو بأن، حلم اليقظة، الباحث عن الماضي والطفولة، يحيي عدة حيوات لم تولد إلا في المخيلة"(39). لذا، ينبغي إزالة الصبغة الاجتماعية عنهما، بمعنى حكايات الآخرين والقيام بعملية تأريخ تتأسس على الذاكرة والتخيّل. أشار باشلار، إلى نوع من التحليل الشاعري لطفولة تنمذج مثال سعادة بسيطة وحقيقية. موقف، يحتم علينا أن نكون في الآن ذاته: شعراء وعلماء نفس. إن تلمّس الطفولة بقصائد شعرية، يفضي إلى نتائج أكثر أهمية من تحليلها بذكريات. كما أن رؤية الطفولة بحلم اليقظة، أبقى وأسمى من استرجاعها بالوقائع., فالشعراء، يحدسون أشياء أخرى في الإنسان، يعجز علماء النفس عن تحسسها. داخل كل حالم، يعيش طفل، تسامت به الأحلام الشاردة التي هي "قدر" كل واحد منا.

أما عن الفرق الأنطولوجي بين أحلام الليل وأحلام اليقظة، فهو تمايز، ينبجس أساسا من إمكانية وجود الذات أو بلغة باشلار "كوجيطو حالم".هكذا، يصعب التكلم عن كوجيطو، بالنسبة للحالم الليلي، مادام لا يمكن الانتقال من الحلم الليلي إلى وجود الذات الحالمة. بل، "إن الحلم الليلي، لا يساعدنا حتى على صياغة "لاـ كوجيطو" Non-cogito، من شأنه إعطاء معنى لإرادة النوم لدينا. لا يمكن إذن للظاهراتي، الاشتغال اعتمادا على وثائق الأحلام الليلية، ويجب على ميتافيزيقا الليل، أن تضمن تكافل هذا اللاكجيطو بخسارات كينونية"(40). بل يجب أن يترك الحلم للمحلل النفسي، وكذا الأنثروبولوجي قصد المقارنة بين الأحلام والأساطير. فالذات، منفلتة منا أثناء الحلم الليلي. بالتالي، التجأ باشلار إلى حلم اليقظة من أجل تبيّن زخم القوى الشعرية في الحياة النفسية الإنسانية. فحالم حلم اليقظة، حاضر مع تأمله، يبني نشاطه الحلًٌمي بكيفية واعية، هكذا تتعلق أحلام اليقظة مباشرة، بموضوعها.

إن المسافة، التي تفصل الذات الحالمة عن الصورة المتخيلة، هي الأقصر بين كل المسافات، حيث دهشة تلقي الصورة، فالتلازم العضوي بين الحالم وتأملاته، قوي وراسخ. يشتغل، الشاعر على وثائق الحلم اليقظ، الذي تقدمه لنا أحلام اليقظة، والتي هي فرصتنا إلى الشعر، نحن اللذين لسنا بشعراء. بعد ذلك، تحول باشلار، للحديث عن علاقة حلم اليقظة بالكون والفضاء الخارجي. فجأة، ينفتح العالم ويشرّع أبوابه ثم تنصهر كل الأسوار بين الحالم وعالمه، فقد أضحى هذا العالم بلغته "فاكهة هائلة": "نحلم أمام ناره، فيكتشف الخيال بأن النار محرك للعالم. نحلم مع ينبوع، فندرك بأن الماء دم الأرض، وبأن للأرض عمق حي. نتوفر بين الأصابع، على عجين عذب ومُعطّر، ثم نأخذ في عجن مادة العالم"(41). ابتدأت التجربة الإنسانية بالحلم، ثم انتقلت إلى التفكير. بعد أن وحدت أحلام اليقظة، الكون والمادة. يلتمس العالم منا تأمله، ويعتقد الحالم بأنه وبين العالم، تقوم نظرات تشبه النظرة التي توحد العاشق بعشيقته. تكتسي الأشياء الكونية، دلالات مختلفة، وتعطي للذات هندسات أخرى غير تلك المألوفة. فالماء، النار، الهواء والأرض، عناصر تشيد بين جدران الخيال الإنساني كونا جديدا، نتيجة المرجعيات المتعددة التي تحددها رؤية أحلام اليقظة: "في حياة كونية خيالية ومتخيّلة، غالبا ما تتواصل مختلف العوالم وتتكامل.أحلام اليقظة، الواحد منها يستدعي الآخر. وقد عملنا في دراسة سابقة، على تجميع وثائق عديدة، تفصح عن الاستمرارية الحلمية، بين أحلام السباحة والتحليق. ثم قبل ذلك، تحولت السماء إلى ماء هوائي بفضل المرآة الخالصة للبحيرة"(42). إنها، تأملات السكينة الكونية.

شعرية المكان: La poétique de l'espace (1957)

أرسى باشلار بمؤلفه هذا، بداية دعوته إلى المنهج الظاهراتي، وتحددت طبيعة القطيعة التي سيحققها في مساره الفكري، قياسا إلى تجربته المفهومية السابقة. لهذا كان من المفروض، أن أقف بداية عند هذه المحطة، ثم بعد ذلك انتقل إلى "شاعرية حلم اليقظة"، لكن المسألة بدت لي غير خاضعة للترتيب المنطقي. لأنه، من المفروض الانطلاق مما هو عام إلى الأكثر خصوصية. يضع حلم اليقظة نفسه، عند مقدمة كل مقاربة لظاهراتية باشلار، مادام أن هذا المفهوم يشكل أساس البناء النظري لمنهجه الجديد، وبعده يتم الانتقال إلى تمثل المكان الباشلاري، عبر وصفه لأشكال هندسية مثل البيت، الأركان، الأعشاش، الصناديق وخزائن الملابس...، بناء على الفكرة الأساسية التي يحاول الدفاع عنها: "البيت القديم، بيت الطفولة، هو مكان الألفة، ومركز تكييف الخيال. وعندما نبتعد عنه، نظل دائما نستعيد ذكراه، ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن اللذين كان يوفرهما لنا البيت. أو هو البيت القديم، كما يصفه باشلار "يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية".إننا نعيش لحظات من خلال الأدراج والصناديق والخزائن، التي يسميها باشلار (بيت الأشياء).العشّ، يبعث إحساسنا بالبيت لأنه يجعلنا "نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة بالعالم ... هل كان العصفور يبني عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم" ؟ القوقعة تجسد انطواء الإنسان داخل المكان، في الزوايا والأركان، لأن فعل الانطواء "ينتمي إلى ظاهراتية فعل (يسكن). وانطلاقا، من تذكر بيت الطفولة تتخد صفات وملامح المكان طابعا ذاتيا وينتفي بعدها الهندسي"(43).

لن تقارب الظاهراتية الباشلارية، المكان كظاهرة هندسية، لكنها ستصيغ للذات حيزا جوهريا من أجل إعطاء هذا المكان، ديناميته الخاصة. فالمكان، يتحدد في إطار وعينا به. وإذا حاول العلم، فهمه بالاستناد إلى المنظومات والقوانين الفيزيائية. فإن الظاهراتية، أعطت لهذا المكان بعدا خياليا، أصبح موضوعا خاصا للذات، بعد أن كان في الأول وجودا ماديا. في سبيل ذلك، أعلن باشلار عن استراتيجيته الجديدة للبحث، واستبداله التقليد المعرفي الذي ميّز متنه العلمي، بمعنى آخر القطع مع عادات فلسفة العلوم، من أجل معالجة المسائل التي يطرحها الخيال الشعري: "إن الفيلسوف الذي راكم مجمل فكره في ارتباط مع الموضوعات الأساسية لفلسفة العلوم، واتبع بشكل أكثر وضوحا على قدر المستطاع، محور العقلانية النشطة والنامية للعلم المعاصر. عليه أن ينسى معرفته، ويقطع مع كل عاداته في البحث الفلسفي، إذا رغب في دراسة القضايا التي يطرحها الخيال الشعري"(44).

صرامة العقلانية وأنساقها التدليلية، تعجز عن معاينة الصورة الشعرية في حمولتها المتعددة وخصوبتها اللانهائية. فالشعر، كما يقول باشلار، لا تاريخ له، والتقليد المعرفي الذي يمكن الذات من التسامي بتحققات الخيال الإنساني، هو المنهج الظاهراتي. لهذا، خصص مقدمة كتابه "شاعرية المكان"، لإبراز علاقة هذا المنهج بالصورة الشعرية، انطلاقا من بناءاته المعرفية، في أفق استيعاب الصور التي يقدمها البيت كمكان. إن الصورة مفاجئة ومباغتة، تتدفق إلى السطح بشكل غير متوقع، كما أنها لا تخضع لاندفاعات وليست صدى للماضي. بالتالي، ينبغي "على فلسفة الشعر، معرفة أن الفعل الشعري يفتقد لماض ما، أو على الأقل ماض قريب، يمكننا في إطاره تتبع تهيؤه وانبثاقه"(45). فعل شعري، ينتج صورة حديثة وأولانية، تتحلى دائما باللحظية والفورية، بحيث لا نستطيع إدعاء إقامة مبادئ عامة وشاملة لفلسفة الشعر، فذلك من شأنه اغتيال هذا التجلي المطلق للفعل الشعري.

حالة مكثفة وزاخرة خياليا، تعجز وسائل التحليل النفسي عن التماهي معها. من هنا، تأكيد باشلار على استلهام الظاهراتية: "لإيضاح مسألة الصورة الشعرية فلسفيا، علينا اللجوء إلى ظاهراتية الخيال. نقصد بذلك، دراسة ظاهرة الصورة الشعرية، حينما تبرز للوعي كنتاج مباشر للقلب والروح والوجود الإنساني"(46). أشار باشلار، إلى سبب تخليه عن الموقف الموضوعي، الذي حاول تبنيه اتجاه صور العناصر المادية الأربعة في لحظة ما من مشروعه، فالتزاماته كفيلسوف تفرض عليه تجنب كل التفسيرات الشخصية، غير أن هذا الموقف المعرفي لا يؤدي مطلقا إلى تأسيس ميتافيزيقا الخيال، لأن الصرامة العقلانية تكبح وتحصر دينامية الصورة. الظاهراتية وحدها، تجيز لنا مقاربة الصورة في مباشريتها، لحظة تكونها داخل الوعي الفردي، ثم استعادة ذاتية هذه الصورة: "نطلب من قارئ الشعر، ألا يأخذ الصورة كشيء، أو حتى بديلا عن شيء، بل يستلهمها في حقيقتها الخاصة. لذا، يجب عليه أن يربط منهجيا فعل الوعي الخلاق، بأكثر منتجات الوعي انفلاتا: الصورة الشعرية"(47).

الصورة، وعي "ساذج" ولغة فتية تتمرد عل كل دراسة نظرية، والشاعر، أصل اللغة. لهذا، فعندما يتلقى صورة، عليه التفاعل معها ومعايشتها دون تبريرات تستند على السببية، لأن ذلك يتنافى مع حقيقتها الأنطولوجية. فالمذاهب، القائمة على الفهم السببي، تسقط دائما في ورطة "خيانة" الصورة، حين ترجمتها إلى لغة غير لغة الشعر. الظاهراتي، شاعر آخر، عليه استحضار الصورة في ماهيتها، بحيث يختلف عن الناقد الأدبي الذي يبتغي للعمل صرامة قد تنتهي به إلى الاستعلاء، يقول باشلار: "أما بالنسبة لي، كمستسلم للقراءة السعيدة، فإنني أقرأ وأعيد قراءة فقط ما يرضيني مع قليل من كبرياء القراءة يمتزج بكثير من الانفعال"(48).

تستوطن الصورة الشعرية دواخلنا، هكذا حين نقرأ الشعر، تغرينا تجربة أن نكون شعراء. القراءة، تعبير عن الإحساس بالمتعة والإعجاب، لا تنفصل عن لذة الكتابة، تتولد عنهما كينونة جديدة وإنسان سعيد. وإذا ابتغى المحلل النفسي، التنقيب دائما عن ماض للشاعر، وقد تغاضى عن ذاتية الصورة، منتقلا بالأساس نحو فهم معاناة الشاعر ومحيلا على فرضية أن التسامي مجرد تعويض نفسي. فإن الظاهراتي، على العكس من ذك، يباشر الصورة في ذاتها، غير مبال بدوافعها البسيكولوجية، أو تراكماتها السابقة، وتصير الروابط بين الماضي والحاضر غير ذات جدوى، فالصورة تتكلم لغتها الناشئة.

"يبدو، بأن تبني الفيلسوف للظاهراتية، جاء نتيجة، لعدم قابلية التحليل النفسي (استيعاب الدينامية المباشرة للصورة) (شاعرية المكان، ص 3). لكن، ما الذي سيقصده من الآن، بهاته "الظاهراتية" التي أراد إقامتها ؟ بالتأكيد، ليس ما وجده، أو ظن الوقوف عليه عند الظاهراتين "المعاصرين" (ماكس شيلر بلا شك، ثم بعض المفسرين الفرنسيين ل هوسرل، الذين كتبوا سنوات الخمسينات"(49). أسّ الخلاف،إذن بين الظاهراتي والمحلل النفسي، أن الأول ينظر إلى الصورة في حداثتها، بينما الثاني يؤولها إلى تجليات أخرى، وتستغرق أبحاثه قنوات ملتوية، تحجب حقيقتها الذاتية. ما يهم الظاهراتي، عنصر اللاواقع في الصورة ثم توهجها. أما، علم النفس فقد نظر إليها باعتبارها استعارة بسيطة، مما أضفى على مفهومه كثيرا من الالتباس. الأطروحة الأساسية، مفادها أن الصورة نتاج للخيال، لكن علماء النفس غيبوا مبدأ اللاواقع. أفق، تداركه باشلار في كتاباته إيمانا منه باستحالة التحدث عن الخيال الشعري، دون تمثل صميمي لحدي الواقع واللاواقع.

ترسم هذه، التوطئة، مدخلا أساسيا لدراسة صور يقدمها المكان، والذي تأخذ بطبيعة الحال هنا دلالته، معنى شعريا تختلف مطلقا عن التصور الموضوعي المتداول في الممارسة العلمية، أي الفضاء المحدد بأبعاد هندسية. المكان، نعشقه ؛ تتخيله ونتسامى به. فكيف، إذن ولج باشلار إلى شاعرية مكانه بناء على أطروحاته الجمالية ؟ كيف، درس البيت وملاجئ الاختفاء ثم الأدراج والصناديق والخزائن؟ لقد سعى باشلار إلى ملاحقة الخيال، وهو يتملى حلًٌمية صور البيت، حيث نمتلك ما سماه "بسيكولوجيا الدمج". يقدم لنا، البيت صورا، لأن الخيال، لا يقف عند كيفية الواقع،بل يمنح إضافات لا نهائية، تتوالد عنها حقائق شتى، متعلقة بهذا الارتباط الحميمي بمكان ما. لذا، تمسك: "الظاهراتية بالأصل الجوهري، لسعادة مركزية، قائمة ومباشرة. إن المهمة الأولى للظاهراتية، هي إيجاد القوقعة الأصلية لكل مسكن، ولو داخل قصر"(50). ثم، يضيف باشلار: "كل فضاء مأهول، يتضمن حقا ماهية المنزل. سنرى في هذا الكتاب، كيف يشتغل الخيال على هذا المنوال، حينما يعثر الكائن على أقل مأوى: سنكتشف، بأن الخيال يبني "أسوارا" بظلال دقيقة. الكائن المحميّ، يرهف الحس لحدود مأواه، يستحضر البيت في حقيقته وافتراضيته، بالفكر والأحلام"(51).

إننا نعيش مع البيت كل ذكرياتنا وماضينا، حيث يرتبط الخيال بالذاكرة، فهو مثير للحلم مثله مثل الماء والنار، يدمج الماضي بالحاضر ثم المستقبل، ويعطي أزمنتها ديناميكية بناءة. بكل ذلك، يخلق البيت عوامل الاستمرارية في حياة الإنسان، والذي يبتدئ وجوده في قلب البيت: "هدفنا الآن واضح: يجب إظهار، بأن البيت يجسد إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات وكذا الأحلام الإنسانية. المبدأ الرابط، هو حلم اليقظة"(52). يحفظ البيت ذكرياتنا وأحلامنا، حيث تسافر بنا أحلام اليقظة إلى أماكن لحظات عزلتنا الماضية، نشيد خياليا الزوايا التي عانينا فيها من الوحدة، فظلت راسخة: "كل ما يجب قوله عن بيت الطفولة، يجعلني في حالة من الحلًمية، ويضعني عند عتبة حلم اليقظة، حيث استريح في الماضي. حينئذ آمل، أن تمتلك صفحتي بعض الرنين الصادق. أريد التحدث بصوت بعيد جدا، يسكن داخلي، يسمعه الكل حين إصغائهم إلى عمق الذاكرة، عند حد الذاكرة"(53). فالبيت الذي ولدنا فيه، لا يعتبر فقط فضاء مأوى، لكنه أكثر من ذلك، إنه حلم متوقد يطوي طفولتنا المتوهجة. إن تأسيس بيت الطفولة عن طريق الحلم، يعني أكثر من مجرد سكناه في الذاكرة. كل تلك القيم الحلًٌمية، يؤثثها المنهج الظاهراتي، ما دام الأكثر قدرة على مجاراة حلم اليقظة وفهم طبيعة العلاقة بين الذاكرة والخيال.

كانت تأويلات باشلار، للبيت رسما بيانيا بسيكولوجيا، يسترشد به الأدباء والشعراء في عشقهم للحميمية L'inimité. مسألة، تتجلى بامتياز في الامتداد الأنطولوجي من البيت إلى الكون، والذي قدم باشلار بخصوصه مجموعة نماذج إنسانية في الأدب العالمي، نسجت تأملات تعطي مفهوما ذاتيا للبيت، لاسيما لحظة مواجهة تقلبات الكون: "أصبح البيت.. الوجود الحقيقي لإنسانية صادقة، كائن يقاوم دون أن تكون له مسؤولية الهجوم"(54). يوفر، البيت حماية للفرد، تقيه عواصف الرياح والثلوج، وتمكن الشعراء والمبدعين من الإنصات جيدا لميلوديا الكون. الشاعر بودلير مثلا، كان يحس بألفة متزايدة، وهو في البيت عندما تحيطه الأمطار، ذلك أن سعادة الدفء الداخلي تمنح إحساسا آخر بالبيت، من أجل مواجهة قساوة العالم الخارجي. أما الشاعر ريلكه، فقد وصف البعد العدواني للأعاصير في المدن: "يستثمر البيت انتصاراته ضد الإعصار. وبما أنه في مقاربتنا للخيال، ينبغي تجاوز سطوة الوقائع، سندرك جيدا أنه في البيت القديم، نتمتع أكثر بالراحة والطمأنينة، ثم في البيت الأصلي مقارنة مع بيت الشوارع التي نقطنها بشكل عابر"(55).

أما، مع "هنري بوسكو" فالبيت يمتلك صلابة تميزه بمقاومة، كي يحارب بقوة وشجاعة الأعاصير والعواصف، حيث شيد على جزيرة في منطقة "كامارج" بالقرب من نهر الرون. أصبحت لهذا البيت فضيلة إنسانية، تمنح الحماية وتضفي الطمأنينة على ساكنته. يقف، بنبل وشجاعة أمام جبروت الطبيعة ومساوئها. هكذا، يتجاوز لحظته الهندسية نحو حالة نفسية زاخرة وغنية. بين جدران هذا البيت الحلًمي، تتوزع فضاءات عدة، تسمو بصور الخفاء. في هذا السياق، أحال باشلار على نماذج الأدراج، الصناديق، وخزائن الملابس. يقول: "إن الخزينة برفوفها، المكتب وأدراجه، الخزْنة بقعرها الثنائي، هي أدوات حقيقية للحياة البسيكولوجية الباطنية. بدون هذه "الأشياء" وكذا أخرى ذات قيمة، ستفقد حياتنا الباطنية نموذجا للحميمية. أشياء مختلفة وموضوعات- ذوات، تمتلك صفة الألفة مثلنا وعبرنا ولأجلنا"(56). بواسطة الصناديق والخزائن، نضمن اتصالنا مع منبع ومصدر أحلام الألفة.

حيز العشّ والقوقعة، وظيفة للمأوى والسكن، لكنه خاصة انبعاث للبدائية التي تقطن داخلنا،لذلك تبدو صورة العشّ في الأدب، مثل صورة طفولية. وقد حدد باشلار، العلاقة بين المنهج الظاهراتي وصورة العش بقوله: "(العشّ المعاش)، صورة لا تفيد جيدا، لكنها تملك مميزات جوهرية، بإمكان الظاهراتي العاشق للمسائل البسيطة اكتشافها. إنها فرصة جديدة، لإزالة سوء التفاهم حول الوظيفة الأساسية للظاهراتية الفلسفية. لا يقف مجال الظاهراتية، عند مستويات وصف الأعشاش كما تبدو في الطبيعة، بل هي مهمة موكولة إلى "عالم الطيور" Ornithologue. تبدأ الظاهراتية الفلسفية للعشّ، حين نتمكن من توضيح الاهتمام الذي نطالع به قائمة صورة، تتضمن صور أعشاش. أو بشكل جذري، إذا تمكنا من استعادة الدهشة الساذجة التي شعرنا بها حينما وجدنا عشّا"(57). إن رؤية عش الصورة، تقود إلى ظاهراتية العش الحقيقي. يجسد العشّ، مأوى طبيعيا لوظيفة السكن، نحلم به لأنه يرتبط بصورة البيت البسيط، يثير فينا أحلام يقظة ويجعلنا نثق في العالم، هنا يتساءل باشلار عن إمكانية بناء العصفور لعشه لو لم يتوفر لديه إحساس الثقة بالعالم. يمكننا إذن، تمثيل العالم كعشّ نبنيه شيئا فشيئا، نحيا داخله بثقة وأمان. بالتالي، فكل نزعة عدائية لهذا العالم، قد تأتي في لحظة متأخرة لأن أصل الحياة هناء وسعادة.

إذا كان عنصر الثقة بالعالم، أهم خصلة نكتسبها من تأمل العشّ. فإن علاقتنا، بمفهوم آخر للمأوى وهو القوقعة، يجيز لنا إدراك العالم باعتباره دهشة، لأن ساكن القوقعة يبهرنا: "هل يمكن للكائن أن يظل حيا داخل الحجر، وسط هذه القطعة من الحجر ؟ دهشة كهاته، قد نعيشها مرتين، فالحياة تستنفد سريعا، الدهشات الأولى. إضافة إلى هذا، ومقابل القوقعة "الحية"، كم توجد من القواقع الميتة ! وكم، من قوقعة فارغة، بمحاذاة أخرى ممتلئة"(58). تبعث القوقعة أحلام اليقظة وتنتج صورا، تلزم الظاهراتي بالانكباب عليها. إن عامل الدهشة، المصاحب للقوقعة، مصدره لعبة الخفاء، بحيث يخلق الخيال كائنات مذهلة، منها جدلية الصغير والكبير. ذلك، أن باطن القوقعة، قد تنبثق منه أجسام ضخمة وخارقة. فالكائن: "المختفي (داخل قوقعة)، إنما يهيئ لـ(خروج). هذا يصدق، على كل الاستعارات، ابتداء من انبعاث الإنسان من قبره إلى التعبير المفاجئ لشخص، مكث صامتا لمدة طويلة. وإذا بقينا في قلب الصورة موضوع الدراسة سيظهر، بأن الكائن الذي بقي منزويا في قوقعته. يهيئ لانفجارات زمانية"(59). إن القوقعة من خلال ثنائية الخفاء والتجلي، تعطي للخيال إمكانيات كبرى في التضخيم والمبالغة: "نريد بكل بساطة إظهار، أنه ما إن تبحث الحياة عن مأوى كي تختفي وتختبئ وتحتمي، حتى يتماهى الخيال مع الكائن الذي يقطن المكان المحمي. يعيش الخيال الحماية، من خلال مختلف معطيات الأمان ابتداء من الحياة في أكثر القوقعات مادية، إلى غاية الاختباء الأكثر دقة"(60).

بعد العشّ والقوقعة، انتقل باشلار إلى تجل آخر من تجليات المكان المحمي، أقصد بذلك أركان وزوايا ترمز للعزلة، والانفراد والسكينة، كما أنها اللبنة الأولى للبيت. الانزواء في ركن، يحمل على مستوى معانيه البسيكولوجية، إيحاءات النفي والاغتراب عن العالم، والإحساس بالعجز عن مواجهة القدر الكوني. يرتبط الركن، بالعزلة والصمت، فينساب الخيال والأحلام، لذا شكل انسحاب الحالم إلى الركن موضوعا خصبا للشعراء والأدباء، تحدثوا عنه بكيفية مستفيضة: "فالحالم بين أحضان ركن ما، ألغى العالم بحلم يقظة دقيق، حطم كل أشياء هذا العالم الواحدة بعد الثانية. لقد، تحول الركن إلى دولاب للذكريات"(61).

أيضا، أحلام المأوى والسكن، تفضي حتما إلى الاهتمام بـ(المتناهي في الصغر) Miniature، تيمة ظلت نادرة في كتابات الفلاسفة وعلماء النفس، بالرغم من تكرار وجودها في الحكايات: "حين أعيش المُنمنمة بكل صدق، فإن هذا يفصلني عن العالم المحيط بي، ويساعدني على مقاومة الذوبان. إن المُنمنمة، تمرين لطرواة الميتافيزيقا"(62). في المقابل كذلك، تلمّس باشلار المتناهي في الكبر، معتبرا بأن الهائل مقولة فلسفية لحلم اليقظة، حين يدفع الخيال الأشياء إلى أقصى حدودها اللانهائية: "إذا استطعنا تحليل انطباعات وصور الهائل، أو ما يحمله هذا الأخير قصد بناء الصورة، فإننا سنتوغل سريعا في منطقة للظاهراتية أكثر نقاء ـ ظاهراتية دون ظواهر ـ أو لنتكلم بصيغة أقل تناقضا، ظاهرتية تترقب فقط، أن تتشكل وتستقر ظواهر الخيال في صورة مكتملة، بغاية معرفة تدفقها"(63). توضحت لدى باشلار إذن، علاقة الألفة بين الكبير والصغير، بحيث يستسلم المكان لقانون الصورة وينقاد العالم وراء منطق الخيال الذاتي.

هناك كذلك بعد آخر للمكان، تحول عند الشعراء إلى بوثقة لأحلام يقظة تتحرر بها الحواس من كل ما يتصل بالحدوس، ألا وهو التحديد الباشلاري لجدلية "البراني والجواني"، تحقق ينهض على تموضع خيالي يتجاوز المعيار الهندسي، بالتالي عدم الاكتفاء بمجرد تناوله في تبادليته البسيطة والمبتذلة: "لا نستحضر الهندسي قصد التكلم عن التعابير الأولى لوجود، عبر اختبار بدايات أكثر تحديدا أو ظاهراتية على الأصح"(64).

أما، التأمل الظاهراتي، لصور الاستدارة، ولاسيما الاستدارة الصلبة، فقد تجاوز بدوره التحليل النفسي، نظرا لعجزه عن محاورة التحققات المباشرة، هكذا حينما يعلن فيلسوف ميتافيزيقي أن الوجود دائري، يخلخل حتما كل البناءات البسيكولوجية، كي يبرز لنا وجودا مباشرا. والظاهراتية، وحدها قادرة على الإقرار بذلك.

 

boukhlet10@gmail.com

مراكش/ المغرب

الهوامش
1- ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، إضاءة لأكثر من خمسين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2000، ص214.

2- عبد الفتاح الديدي: مذاهب وشخصيات، الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة (بدون تاريخ)، ص21.

3- نفسه، ص15.

4- نفسه، ص26.

5- نفسه، ص33.

6 – François Pire: De l'imagination poétique, dans l'œuvre de Gaston Bachelard, librairie josé corti, 1967, Page 151.

7 – Ibid, page 22.

8 – Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie PUF, Quadrige, paris, 1960, 4ème édition 1993, page 2.

9 – François Pire: Op. cit, Page 172.

10- Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page 4.

11- François Pire: Op. cit, Page169.

12 – Ibid, page 167.

13 – Gilles gaston Granger: Janus Bifrons, in revue international de philosophie n° 150, 1984, Page 265.

14 – Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page7.

15- François Pire: Op. cit, Page 174-176.

16- Ibid, Page 169.

17- Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page 3.

18- François Pire: Op. cit, Page 173.

19 – Ibid, page 171.

20 - Gaston Bachelard: la poétique de l'espace, PUF, Quadrige, Paris, 1957, 10ème édition 1981, page7.

21 - François Pire: Op. cit, Page 175.

22- Ibid, page 184.

23- Ibid, page 166.

24 – Ibid, page 178.

25- Ibidem.

26 – Ibid, page 168

27 – Ibid, page 167.

28 - Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page 52.

29 – Ibid, page 49.

30 – Ibid, page 60.

31 – Gilbert Durand: l'imagination symbolique, PUF Quadrige 2ème édition, 189, Page 73-74.

32- Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page 17.

33- Gilbert Durand, op. cit, page 76.

34 - Gaston Bachelard: la poétique de la rêverie, op. cit, page 26.

35- Ibid, page 25.

36 - Ibid, page 86.

37 - Ibid, page 90.

38 - Ibid, page 91.

39 - Ibid, page 96.

40 - Ibid, page128.

41 - Ibid, page 151.

42 - Ibid, page 177.

43 – غاستون باشلار: جمالية المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط4، 1996، ص 9. ونشير هنا إلى مقدمة المترجم.

44 - Gaston Bachelard: la poétique de l'espace, op. cit, page 1.

45- Ibidem.

46 - Ibid, page 2.

47 - Ibid, page 4.

48 - Ibid, page 9.

49 – Gilles Gaston Ganger: Janus bifrons, op.cit,page 265.

50- Gaston Bachelard: la poétique de l'espace, op. cit, page 24.

51 - Ibid, page 24/25.

52 - Ibid, page 26.

53 - Ibid, page 31.

54 - Ibid, page 56.

55 - Ibid, page 55.

56 - Ibid, page 83.

57 - Ibid, page 94.

58 - Ibid, page 107.

59 - Ibid, page 110.

60 - Ibid, page 127.

61- Ibid, page 135.

62 - Ibid, page 150/151.

63 - Ibid, page 169.

64 - Ibid, page 195