أثارت إشكالية نشأة الرواية اهتمام العديد من النقاد والباحثين، إذ حاول كل فريق الإجابة عنها من وجهة نظر محددة، ومقاربتها وفق منظور يغلب مرجعية على أخرى، أو يحاول أن يجد توفيقا بين هذه المرجعيات، ومن المقاربات التي اعتمدت التحليل السوسيوثقافي: دراسة صبري حافظ، والذي حاول تقديم رأيه من منظور مغاير، فما المرجعية النقدية أو الزاوية التي انطلق منها في معالجته لنشأة الرواية العربية؟. وضح صبري حافظ ملابسات الخلاف حول نشأة الرواية العربية في كتابه: "تكوين الخطاب السردي العربي: دراسة في سوسيولوجية الأدب العربي"، حيث وجد أن تغليب مرجعية على الأخرى سواء المقامة أو الرواية الغربية ـ، فيه تجاهل للمقاربة النصية التزامنية التي تسعى لربط الظاهرة بسياقها العام، وفي هذا تغييب للأسباب الحقيقية.
في هذا الصدد يجد صبري حافظ أن الاهتمام بمسألة تأصيل ظهور الأجناس الأدبية الجديدة في الخطاب السردي العربي قد أثار اهتمام الكثير من الباحثين، وذلك في محاولة لإيجاد "تفسير مقنع لظهور خطاب سردي جديد مع نهايات القرن الماضي لم تعرف سوابق له في الثقافة العربية" ،(1) على أساس أن هذه القضية أثارت الكثير من الخلافات بين من ربط الأجناس بالتراث السردي القديم خاصة المقامة، وبين من أنكر على هذه الأجناس أن تكون أصلا لما استجد، على اعتبار استعارة نماذجها من الغرب، ويعتبر الناقد أن هذين الرأيين قد تجاهلا في دراستهما المقاربة النصية التزامنية أي ربط الظاهرة بسياقها العام، لذلك فهو يتساءل فيما يخص الرأي الأول عن أسباب تأخر ظهور الرواية إذا سلمنا بأن المقامة أصل لها، وعن أسباب التغير الحاصل بين نماذجها الجديدة التي وجدت في نفس الفترة التي ظهرت فيها الرواية وبين الأخيرة في حد ذاتها، ولما اعتبرت المقامة لا الأنواع السردية الأخرى القديمة كالخرافة والسيرة وغيرهما أبا شرعيا للرواية، ومن ثمة يأتي السؤال الجوهري: "هل تجديد الأصل مسألة عشوائية محض، أم أنه من صميم صيرورة التفكير فيه وعنصر داخلي أساسي فيها بالصورة التي تؤثر معها هذه الصيرورة في صياغة الجنس الأدبي الجديد وبلورة التصورات السائدة عنه معا؟"(2) إن التسليم بهذا الرأي ـ أي تطور الرواية عن المقامة ـ فيه تغييب للحراك الثقافي المسهم في بلورة الأجناس والأنواع السردية، حيث نرى أن القول بذلك معناه الاحتفاء بالقواعد السردية القديمة دونما تغيير أو إعادة تحوير، أو كما يوضح عبد الفتاح كيليطو "يذكر بمرحلة ثقافية قديمة كان الناقد أثناءها يلعب دور الموجه فيعرض للكاتب النماذج التي يجب إتباعها دون مناقشة" ،(3) حيث يتم تجاهل كل التغيرات المسهمة في بلورة الجنس الجديد. ويتم الحكم على الجنس الأدبي وفق نظرة ثابتة، وإخضاع الشكل لهوية تتعالى عن التغيير، ونعتقد أن في هذا الأمر تغييب حقيقي لفعل الإبداع إذا سلمنا بأنه خرق وتجاوز وانفتاح. وفي هذا الصدد يجد عبد الله إبراهيم أن الرواية استطاعت أن تؤسس وجودها من خلال تمردها على النموذج الرسمي الذي مثلته المقامات، حيث تم التحايل على المعيارية الحادة آنذاك، وذلك بالاحتفاء بالكتابات المهمشة التي خلقت عوالم محايثة للواقع، وهذا ما أسهم في التحضير لظهور الرواية، بعد أن تم الاستخفاف بالمعايير المهيمنة التي احتفت بها المقامة.
وفي الاتجاه المعاكس يضعنا حافظ أمام سؤال إشكالي يخص النظرة المضادة لنشأة الرواية، حيث يتساءل عن سبب تأخر ظهور الرواية لقرن كامل بعد مواجهة أوربا إذا سلمنا بأصولها الغربية؟ "والأهم من هذا، هو كيف يمكن تبرير أصالته واختلافه عن نظيره الأدبي؟ هل استيراد الأجناس الأدبية ممكن؟ وإذا كان ذلك ممكنا، فما هي العناصر التي يمكن استيرادها، وماهي العناصر التي تترك لاستعصائها على الاستيراد؟ وماهو دور العوامل المتنوعة التي تخلق البيئة الملائمة لعملية الإعارة أو الاستيراد؟ وبعبارة أدق، ماذا يستورد عادة؟ هل هو شكل مجرد من المضمون، أم هي مجموعة من الاستراتيجيات السردية، أو الرؤية الكلية وطريقة التفكير؟" (4) ويتابع في خصوص الإشكال الأخير تساؤلاته: إذا كان الشكل هو الذي يجب استيراده، فهل هو منفصل ومستقل عن المضمون، خاصة إذا علمنا أن الشكل هو جملة معاني تسهم في تشكيل الرؤى؟ وأما إن كانت الرؤية هي ما يجب استيرادها فهل بإمكاننا عزلها عن الصيغة التي تظهر بها؟ وهل يمكن عزلها عن سياقها العام؟
يجد صبري حافظ إجابة عن الإشكال الأخير أن الأشكال السردية الغربية ارتبطت بالسياق الثقافي وأيضا برؤية خاصة للعالم، ويرى من وجهة نظر جورج لوكاتش التي أوردها في كتابه "نظرية الرواية" أن الرواية ملحمة البرجوازية تمثل عالما تخلى عنه الإله، وأن الشكل السردي خاضع للتحول الاجتماعي وتشكلاته وفق النظرة السابقة، واقتحام ذلك العالم له أو عناصر ذلك التحول أو حتى طريقة إدراك الكاتب للعالم على الصورة السالفة، وهذا ما وجده فيصل دراج في كتابه: "نظرية الرواية والرواية العربية" حينما قال: "يبني لوكاتش نظريته على إحالة متبادلة بين المجتمع البرجوازي والجنس الروائي ـ حيث الأول يعطي الرواية سماتها النموذجية، وحيث الثانية تعطي المجتمع البرجوازي شكل التعبير النموذجي" ،(5) وأما رؤية العالم مصطلح استعمله دلتاي وارتبط أكثر بجولدمان الذي استمده ـ حسب حافظ ـ من قناعتي ماركس ومانهايم "بأن صياغة الأفكار مشروطة بعملية تكيفها الاجتماعي، وهي لذلك جماعية أكثر منها فردية" ،(6) وهذا المفهوم يعكس فاعلية الذات الجمعية ودورها وتأثيرها في الذات الفردية، على اعتبار أنه ينطوي على منظور تتوحد فيه علاقة الإنسان بالآخرين وبالكون والعالم، ولأن التفكير الفردي قلما يتصف بهذه المواصفات من الوحدة والتماسك، فرؤية العالم كذلك نادرا ما توافق وتطابق الفكر الراهن لفرد محدد، ومن هذا المنطلق يتضح أن الرؤية لا تنتقل فما بالك تستورد، وبالتالي لا يمكن فصلها عن الوسط الذي وجدت فيه وخرجت منه، ولا عن الشكل الذي يعبر عن محتواها، ومن ثمة فإن "تحوير شكل المقامة في أعمال كثير من الكتاب العرب في القرن التاسع عشر، يبين بوضوح القطيعة الموجودة بين وظيفة صيغ الخطابات السردية القديمة وبنيتها، ويعجل بظهور الخطاب السردي الجديد ويرهص به" .(7) وقد وجد دراج أن المقامة حينما وجدت في زمن مغاير وقدمت وظيفة اجتماعية تفككت، على اعتبار أن الوظيفة الاجتماعية هي التي تفرض وتقرر الشكل الأدبي، ومن ثمة فشكل المقامة يتعارض مع موضوعها أو مضمونها الحداثي، وهذا ما يؤدي إلى تناثر الشكل ونقضه لكل ماهو جاهز وقائم ومقدس، ولذلك فالمويلحي مثلا حسب دراج "لم يكن ينقض جنسا أدبيا بجنس أدبي آخر، بل كان يزعزع نسقا كتابيا ـ أيديولوجيا، له موضوعه ولغته والقارئ الذي يتوجه إليه" ،(8) ومن هنا فالمويلحي قام بنقد المقامة بأدوات تاريخية، لكنه لم يؤسس لوجود الرواية ولم يقل عنها شيئا كما يذهب لذلك دراج.
ونحن نرى من وجهة نظرنا أن القول بأبوية المقامة للرواية العربية، هو من قبيل السجالات التي ظهرت على الساحة الثقافية العربية، والتي ظهرت من أجل الدفاع عن الهوية، فأرجعت كل منتج حديث إلى التراث، أو حاولت البحث فيه عن إمكانات وجوده، نافية بذلك أو متجاهلة أمر التحولات الاجتماعية والثقافية، وما "كان لجدل كهذا أن يثار في الأوساط الثقافية العربية لولا تنامي الشعور بالغبن أمام صدمة الحداثة. هذه التي حملت جيوش الاستعمار في غزو شامل للبلاد العربية" ،(9) مما شكل وعيا جديدا حاول الاحتماء بالهوية والعيش في يوتوبيا الحنين، واتهام الآخر والنظر لمنتجاته نظرة ارتياب وشك. وهذا لا يعني أننا نساير الموقف المغاير، والذي ينظر للشكل الحداثي الغربي على أنه النموذج الأكمل، وإنما هي دعوة لقراءة المعطيات قراءة مغايرة في ضوء المختلف والمتعدد، كشفا عن أبعاد أخرى أسهمت في ظهور هذه الأشكال التعبيرية الجديدة.
ويستمر صبري حافظ في مناقشة هذا الرأي، بتأكيده أن مسألة انتقال الشكل الأدبي من ثقافة إلى أخرى، يؤدي إلى إهمال طبيعة رؤية العالم المتسمة بالوحدة والانسجام، ويتجاهل تميز الثقافة المستقلة برؤى مغايرة، بل ويتجاهل لحظات تطورها ومعتقداتها التي تستمدها من العقيدة الإسلامية، والتي تجعل من أمر التشابه في الرؤية موقفا غير مسلم به. ومن ثمة فالقول بالمؤثر الغربي فيه مبالغة، إذ يرى عبد الله إبراهيم أنه خطاب أشاعته الحركات الاستعمارية، حيث تم من خلاله إقصاء أمر التحولات الفاعلة في تكوين الخطاب الروائي العربي، ويذهب أكثر من ذلك إلى القول إن النصوص الأجنبية المعربة هي التي امتثلت "على أيدي المعربين، للصيغ والأساليب المتداولة والمعروفة في المرويات السردية في تلك الفترة"(10) وليس العكس.
إن الخطاب السردي عمل ينطوي على قصد محدد، ولذلك فنشوؤه في الثقافة العربية محكوم بظهور طريقة جديدة للتفكير العقلي في العالم، وفي إدراك علاقة الآخر بالذات وهويتها، وهذا ما يؤكد تعالقها مع مختلف التجارب الثقافية والاجتماعية التي تخلق الإدراك بالهوية الوطنية والذي يتسم بالجدة والابتكار، ويوضح حافظ سبب اعتماده على رأي باختين وجولدمان في قوله: "إن المقاربة السوسيولوجية لتحليل الخطاب السردي قد وضعت من طرف باختين وجولدمان معا بطريقة طهرتها من المفاهيم التبسيطية للنظرية الماركسية التي ترى الأدب مجرد انعكاس للواقع الاجتماعي. لقد أقاما علاقة تناظر منسجمة بين السرد والبنيات الاجتماعية التي تعترف بالطبيعة الخاصة للنص الأدبي، وتفرد تكوين شعريته، وفي نفس الوقت سيتقضي ويضع قدرته للتعبير عن الواقع الاجتماعي"(11) . ويورد صبري حافظ رأي باختين الذي يرى في الخطاب السردي حوارية واضحة، وهذا ما يجعل شروطه حاسمة مسبقا وتتوقف على مدى مطابقتها للغة الوطنية، إذ أنه ـ أي الخطاب السردي ـ يتكون من لغات اجتماعية متعددة وتتنوع فيه الأصوات الفردية، فهي "تأخذ بما قال به علم التاريخ، وتهضم الوثيقة التاريخية، وتتكئ على معطيات علم النفس، وتنعت ذاتها رواية نفسية، وتستند إلى معطيات علم الاجتماع وتعيد صياغتها، وتدرج في سطورها الأطروحات الفلسفية ... إضافة إلى الأسطورة وقصص الأديان..."(12) ، ومن ثمة فالرواية هي خليط من تلك الأصوات: من اللغة القومية ومن اللهجات المنحلة من هذه اللغة ومن اللهجات الخاصة ولغات السلطات. ومن كل تلك المستويات المتعددة، إذ يقول في هذا الصدد: "إن الرواية هي التنوع الاجتماعي للغات، وأحيانا للغات والأصوات الفردية، تنوعا منظما أدبيا" ،(13) حيث تصبح الرواية تعبيرا عن المتعدد والمختلف.
يحاول صبري حافظ أن يحل الإشكال المتعلق بتوصيف علاقة السرد العربي الحديث بالسرد الغربي أو العربي القديم، وذلك بطرحه فكرة التناص بوصفه آلية منهجية تفسر هذه العلاقة وتحل معضلته، على اعتبار أنه ـ أي التناص ـ يحاول البحث في طريقة تفاعل النصوص وتحاورها، ضمن فضاء الثقافة المنتج في ظلاله أفقه الاجتماعي المتغير، أو كما يعبر عنه عبد الملك مرتاض بأنه "تبادل التأثر، بدون قصد غالبا، وبقصد غير قائم على السرقة الأدبية الموصوفة أحيانا" ،(14) ومن هنا تتدخل القوى الاجتماعية والثقافية في مراقبة الإبداع وتوجيهه عند الأفراد، مما يعني أن الشكل الأدبي هو نتاج عدد كبير من الناس أو بالأحرى الجمهور، الذي يسهم بشكل كبير في نشر النوع وبسط الذوق، أو تعميم القيم التي يتم تسويقها فيما بعد من قبل العمل الأدبي.
من أجل ذلك يواصل الباحث تقصي علاقة العمل الأدبي وجنسه بالسياق الاجتماعي والثقافي، فيجد أن سوسيولوجيا الجنس الأدبي أو طبيعته الاجتماعية تتدخل في تشكيلها عوامل كثيرة أهمها اللغة، على اعتبار أنها فعل أو محمول اجتماعي، يتم تشكيله وفق ظروف خاصة، ويتم تداوله بالنظر لتأثير السلطة الاجتماعية وواقعها الخاص، كما أن اللغة في حد ذاتها لا تعكس الواقع الاجتماعي فقط، بل تقوم بصياغته وتمنح العالم معناه، وهذا ما وصل إليه ميشال فوكو في دراسته لعلاقة اللغة بالمؤسسات الاجتماعية والسلطة وغيرهما، حيث يغدو الخطاب قوة تمارس عنفها على الأشياء وعلى الأحداث. وهنا يكمن التخوف ـ حسب تعبير فوكوـ "من توقع صراعات وانتصارات وجروح وسيطرات وعبوديات عبر الكثير من الكلمات" ،(15) والتي هي في حقيقتها من صنع هذه السلطات. .
ويرى حافظ أن هذه الرؤية التي ترتكز على الاجتماعي تبريرا للجمالي، أي تجد في الذوق الأدبي دورا بارزا في تكون الخطاب السردي الجديد، في منظورها تقترب من مفهوم ياوس لأفق التوقع والتلقي، هذا الأخير الذي يتحدد معناه من جملة عناصر وقيم غير متجانسة، منها تقاليد الأجناس الأدبية وأنماط اللغة، وطرق المحاكاة ... وهذه القيم "تتبلور وتتخلق وتنتقل بصورة اجتماعية تساهم عبرها في صيرورة تشكيل الحقول الخطابية" ،(16) كما أن العمل الأدبي من وجهة نظر ياوس ليس ساكنا أو ثابتا بل إنه متحرك، ومن ثمة فأفق الانتظار لا يشكل الأعمال الأدبية فقط، بل يتغير ويتشكل بها، ومن هنا يتضح أن الخطابات الأدبية تتواجد من خلال علاقتها مع الخطابات الأخرى، وهذا ما يؤكد حواريتها وعدم اتسامها بالتحديد والثبات. يحدد ياوس علاقة أفق التوقع بالجنس الأدبي إذ إن النصوص المختلفة التي تسهم في تكوينه تؤسس أفق التوقع/ الانتظار، حيث إن النص الجديد بمجرد ظهوره يخرق أفق الانتظار لدى القارئ، الذي يكون قد ألف معايير معتمدة في النصوص السابقة، والتي يتم تعديلها أو إلغاءها أو إعادة إنتاجها، إذ "أن دراسة تكون الخطاب السردي هي بمعنى من المعاني استكناه لنشوء هذه العناصر استجابة لحاجات ثقافية متنوعة، وتفسير لصيرورة تبلورها عبر عملية مستمرة من التغير والتحول، حيث تتجمع العناصر من مختلف المصادر الأدبية في بعض اللحظات من الزمن لوضع حدود الجنس الأدبي" .(17) إذن تتحد جملة عناصر حسب حافظ في تحديد الشكل الأدبي أهمها رؤيا العالم والثقافة وإفرازات المرحلة التاريخية، ومن ثمة يصعب الحديث عن الشكل بعيدا عن كل ذلك.
إسهام التلقي في بلورة الخطاب السردي:
يبين صبري حافظ أن الخطاب السردي العربي كان نتاج التحول التاريخي، وظهور جمهور قارئ يتلقى هذا الخطاب، بحكم أنه يستجيب لمتطلباته، حيث إن تغير الخطاب الأدبي عادة ما يكون محكوما بالتغيرات الحاصلة في التلقي والذوق السائد والتحولات الاجتماعية والثقافية. وفي إجابته عن أصل الرواية العربية يقول الناقد: "يقوم الخطاب السردي العربي، في آن واحد، على الشفرات السردية المتأصلة في التقليد الأدبي العربي، وعلى الأنماط الجديدة للتجربة المتطورة عبر مسار التحديث والتفاعل مع أوربا الذي أدى إلى تغيرات جوهرية في الحساسية الأدبية"، إذ أن ذلك كان نتاج تفاعل طويل بين ثقافتين تمتثلان لرؤيتين مختلفتين للعالم، وقد حدد زمن هذا التفاعل ابتداء من الحملة الفرنسية عام 1798، وما صاحب هذا التفاعل من دموية حادة، حيث استطاعت الأفكار الثقافية للآخر الانسياب في ثقافة الذات، وبلغ هذا الانسياب أوجه في القرن التاسع عشر. ويقول في هذا الصدد: "حينما وصل نابليون إلى مصر في سنة 1798، عجل اللقاء مع الغرب هذه النهضة وسمح لها بأن تتجه وجهة جديدة. فقد كان أثر الحملة الفرنسية مختلفا تماما، درجة وتأثيرا، عن اللقاءات المحدودة السابقة مع الرحالة أو أثناء الزيارات المتبادلة. وهكذا كان اللقاء مع الغرب من خلال الحرب، والحروب وسائط أساسية للتغيير والتحول" .(18)
ولكن كيف لحملة عسكرية حملت معها كل مظاهر الدموية أن تسهم في ظهور النهضة العربية؟ يجيب عبد الله إبراهيم عن هذا الإشكال بقوله إن التأريخ للنهضة العربية بحملة نابليون فيه مبالغة، حيث تعود هذه الرؤية" إلى بداية الامتثال للخطاب الاستعماري الذي رسخ فكرة بسيطة وواضحة، وهي أن التحديث وكل ما يتصل به جاء مع الحضور الغربي إلى الشرق" ،(19) وفي هذا تغييب للحقائق وتضخيم للأحداث وتجاهل لكل الحيثيات المسهمة في خلق النوع الأدبي، إذ لا يمكن تناسي مساعدة الأدبيات الموروثة في تكييف أحداث تاريخية لتساير المتخيل الغربي نحو الشرق، وبالتالي تسهيل السيطرة عليه، وهذا الموقف ذاته نجده عند إدوارد سعيد والذي وضح أن مهمة مشروع نابليون "أن يصوغ الشرق، يعطيه شكلا وهوية، وتحديدا يصحبه اعتراف كامل بمكانته في الذاكرة، وبأهميته بالنسبة للاستراتيجية الإمبراطورية، وبدوره الطبيعي من حيث هو ملحق لأوربا" ،(20) لأجل ذلك تم ترويج هذا الخطاب لإضفاء الشرعية على الاستعمار. فالحملة كما لاحظ عبد الله إبراهيم كانت معظم مشاريعها حبرا على ورق، ولم تستطع أن تحقق ما ادعته من تحديث، بل تميز طابعها بالعنف إضافة إلى أنها لم تدم طويلا، وهذا ما يجعل منها مشروعا لا لتحديث مصر وإنما لتحقيق رغبة استيطانية.
ويتابع حافظ تتبع الجو السوسيوثقافي إذ وجد أن محمد علي بمشروعه التحديثي، الذي تبنى فيه مناهج الغرب استطاع أن يدمر نمط المثقفين التقليدين في مصر، وبالتالي ساعد على ظهور جيل جديد، وعلى فتح المدارس وتحديث البلاد، وإرسال البعثات إلى أوربا وتأسيس مطبعة للنشر ومدرسة الألسن والترجمة، كما وجد أن الطهطاوي لعب دورا كبيرا من خلال ترجمة المؤلفات وتعبيد طريق الحداثة، إذ "طبق المقاييس العقلانية في اختيار ما يناسب وضع العرب عامة ومصر خاصة، ثم أدمج اختياره بالمعتقدات الإسلامية الأساسية بطريقة وضعت الفكر العربي في طريق جديدة وواعدة" .(21) ولنا أن نتساءل هنا: عن أي المقاييس العقلانية يتحدث حافظ؟ أليس في ذلك اتهام لكل منجز عربي قبلي بخروجه عن حدود العقل؟ ألا يعد ذلك تعويما للخصائص الذاتية وتأكيدا لما يتهمنا به الغرب بنفيهم عنا صفة العقلانية حتى استوردناها بعد اتصالنا بهم؟.
تتبع الناقد الحراك الثقافي في المشرق ومدى إسهام المسيحيين فيه من أمثال أحمد فارس الشدياق وفرنسيس مراش، إذ كان لهم دور كبير في إصلاح وإحياء اللغة العربية في مقابل لغة الأتراك، في حين أن المسلمين الذين خضعوا لحكمه لم يقدموا إضافات بسبب رفضهم التدخل الأجنبي، فمثلا "كان الشدياق أبرز العلماء اللبنانيين المسيحيين ذوي التقاليد العريقة في التوفيق بين الثقافتين العربية والأوربية" ،(22) وأهم إنجاز له تبسيط لغة الصحافة وتخليصها من الصنعة البلاغية والتعقيد، وهذا ـ كما يرى حافظ ـ خلافا للطهطاوي الذي هدف مشروعه الثقافي إلى تحديث التقليدي، إذ كان غرض الشدياق "فتح الأبواب للتغيير والالتفات قليلا إلى التقليد نحو الامتداد الذي طرحه في كتابه الأول عن أوربا المرفوض، لخرقه للقانون التقليدي وإساءته لأخلاقية الجمهور. ويعكس إصلاحه اللغوي تقديره الكبير للمظهر الأدبي للغة وإدراكه للتفاعل الحيوي بين اللغة والتاريخ والواقع الاجتماعي" ،(23) وأما فرنسيس مراش فكان كاتبا سوريا من أسرة مثقفة، وكان يجمع بين التقليد والتغيير، وفي سرده عمد إلى مناقشة الأفكار والقواعد العقلية من أجل تحقيق الإصلاح الاجتماعي، بهدف تحقيق التفاعل بين الثقافة العربية والأوربية، "فعوض التركيب الصعب للطهطاوي والتوفيق اللغوي الجديد للشدياق، فإن مراش قد حول النقاش من الاهتمام بأصل الأفكار إلى الاهتمام بتطبيقها وملاءمتها. ويبين كيف أن تبني بعض الأفكار يغير مجرى الأحداث وتحول حياة أصحابها. والأهم من ذلك هو النتائج الهائلة لمقاومة التغيير" .(24) وهذا الرأي ذاته نلمس وجوده عند عبد الله إبراهيم، والذي يوضح في سياق حديثه عن أسباب النهضة الأدبية، أن العناية بالآخر تعددت وجوهه، لذا صار من المهم لدى الفئات المتعلمة في بلاد الشام معرفته، "فضلا عن حاجة الأقليات العرقية والدينية إلى تمييز حضورها الثقافي بصورة تتخطى فيها حالة التهميش الذي تعيشه عادة وسط أغلبية ثقافية تقليدية" .(25)
يواصل حافظ تتبع لحظات التغير الثقافي، إذ يبين أنه بعد تسلم إسماعيل السلطة عام 1863 في مصر ولأنه كان عضوا في بعثة مصر الثالثة إلى أوربا، نتج عن هذا الأمر تطور ثقافي هام في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث حاول جعل مصر جزء من أوربا وسعى إلى ذلك من خلال الاهتمام بالمسرح والطباعة والصحافة والتعليم، مما أدى إلى رفع عدد الدارسين في الخارج بزمنه، خاصة بعد رفعه ميزانية التعليم وفتح المدارس التي أغلقت زمن عباس الأول، وتأسيس دار الأوبرا وتشجيع نشر الكتب والصحف، هذا الجو الثقافي والحداثي أسهم في تطوير قاعدة الطبقة المثقفة، والتي كانت النواة الأولى في مرحلة محمد علي، حيث "تميز هؤلاء المثقفون بفهمهم العميق لعيوب أسلافهم، وبالإحساس بدورهم الخاص ومسؤولياته.فأرادوا أن يوفروا للجيل الجديد فرصا أحسن ويرسخوا لهم المؤسسة الثقافية" ،(26) ومن ثمة بدأت النخبة في النمو التدريجي بعد أن استفاد المثقفون في مصر من إصلاحات إسماعيل الثقافية والسياسية والاقتصادية، لكن الخديوي إسماعيل سرعان ما خلع عام 1879 نظرا لتعارضه مع السلطات الأوربية، ولإحساس هذه السلطات بأنه تجاوز الحد في برنامجه التحديثي حينما أراد إضفاء الطابع الأوربي على مصر.
الجنس الأدبي والتحول الثقافي:
يرى صبري حافظ أن ظهور الجنس الأدبي محكوم بالتحول الثقافي وحاجات التلقي، وقليلا ما يكون نتاج "محاولة مقصودة لتجديد الصيغ الموجودة للخطاب أو تقديم إنتاجات ثقافية جديدة" ،(27) ومن ثمة فالتجديد مرتبط بحصول اختلاف في الحساسية الفنية التي تقترن أساسا بالرؤية الجديدة للعالم والطريقة المبتكرة المعبرة بها، إذ تكون الصيغ الجديدة استجابة طبيعية للدوافع الجديدة، حيث يستوعب الخطاب السردي الجديد كل التغيرات الحاصلة. إن أولى هذه التحولات السردية تجلى في الانتقال من النظام الشفوي إلى النظام الكتابي، ويبرر الناقد هذه التحولات وتراجع الأشكال السردية القديمة، بالخضوع إلى المعيار الديني وسلطته حيث قال: "إن المشكلة مع السرد الشعبي والملحمي هي أن المتلقي يحفظ القصة عن ظهر قلب. والأشكال الأخرى من السرد التقليدي التي تشترك في هذه الخاصية مع الأدب الشفوي هي أشكال الليالي العربية التي كانت بالرغم من قيمتها الأدبية قد أبعدت من طرف المصلحين الأخلاقيين والذوق الأدبي المحافظ إلى هامش المؤسسة الثقافية والشعبية. كان للأدب الشفوي المبدع جماعيا أن يستهلك بشكل جماعي، إلا أن الصيغ الجديدة للوجود المديني تطلب استهلاكا أدبيا فرديا وخاصا أكثر. وكان هذا وليد ظاهرتين مختلفتين ولكنهما متكاملتين: إحداهما تتمثل في شعبية الترجمة واقتباس السرد الأدبي الأوربي، والأخرى في تقوية المقامات، وإعادة طبع السرد التقليدي" ،(28) وفيما يخص الظاهرة الأولى فقد توفرت في نهاية القرن التاسع عشر المئات من الكتب المترجمة، معظمها من جنس الرواية إضافة إلى نشر أجزاء منها في الجرائد والدوريات. في حين يرجع عبد الله إبراهيم أزمة الأشكال السردية القديمة وتراجعها إلى تمسكها بالمعيارية الثابتة، إذ "تتأزم أبنية الأنواع، وتكف عن التطور، حينما تدعم بتصورات نقدية مدرسية تستخلص منها قيما فنية مطلقة، ومعايير ثابتة، فيصبح الخروج عليها إثما، وتجديدها مروقا، والامتثال لها أمانة وفضيلة" ،(29) ومن ثمة تبرز أوجه التمرد والاحتجاج قبل أن تظهر علنا، لكن لا يعني ذلك حدوث قطيعة مع الأشكال القديمة، وإنما يكون فعل تفككها وتشكل النوع الجديد ببطء بشكل متزامن ومتداخل.
مع حصول جملة التغيرات الثقافية والاجتماعية في القرن التاسع عشر، ظهرت الحاجة إلى إنتاج صيغ جديدة من الكتابة خاصة بعد تراجع الأنماط القديمة الكلاسيكية، واتسامها بالانحطاط الفكري وغياب الأصالة وخروجها عن دائرة اهتمام الجمهور، مما أدى إلى انخفاض الاهتمام بها وتراجع الشكل التقليدي.في هذا الجو عادت المقامة إلى الظهور في أواخر القرن الثامن عشر، كجزء من المشروع الإحيائي، نظرا لاستجابة هذا النمط التعبيري إلى حاجات التلقي ومحاولة المؤسسة الأدبية التقليل من تأثير الترجمة على الذوق العام.
يعود حافظ إلى البدايات الأولى لتشكل المقامة في العصر الحديث، حيث يجد أن معظم الكتاب قد ارتادوا هذا العالم بداية من عام 1800، عندما كتب حسن العطار مقاماته التي سماها "في دخول الفرنساويين إلى الديار المصرية"، ثم توالت المحاولات مع مقامات محمد حفني المهدي وأحمد عبد اللطيف البربير وحنانيا المنير ومقامات البيمارستان وحكايات الشيخ المهدي، وكتب رواد النهضة في المشرق هذا النمط مثل نيقولا الترك، ناصف اليازجي، إبراهيم الأحدب، محمد الجزائري ... لتستمر في تقليده أسماء أخرى في مصر، مثل عبد الله فكري ومحمد شريف ومحمد حسني ... وغيرهم، لكن رغم ظهور هذه الأعمال السردية التي تؤكد حاجة القراء ورغبتهم في السرد، إلا أن هذا النوع لم يستطع إرضاء حاجاتهم، رغم وجود بعض المحاولات التي كتب لها النجاح كـ "مجمع البحرين" لليازجي عام 1856، والذي حاول فيها الجمع بين التقليد والاهتمامات الحديثة، وأيضا "المقامة الفكرية السنية في المملكة الباطنية" لفكري عام 1872، والتي حظيت بالاهتمام لتميزها بالرونق اللغوي والأسلوب الكلاسيكي.
يلاحظ حافظ أن الاهتمام بالسرد في تلك الفترة كان ناتجا عن اهتمام المؤسسة التقليدية ممثلة بمحمد عبده، إذ حاول إحصاء أنواع السرد في جملة الكتب المقروءة في مقاله المنشور عام 1881، وتجلت هذه الأنواع في كتب التاريخ والمقالات الأخلاقية والسردية التي دعاها بالرومانيات، حيث تم دمج هذه الأغراض ـ أي السرد والتاريخ والرسالة الأخلاقية ـ في خطاب واحد. ومن ثمة نلحظ كيف تدخلت المؤسسة الدينية في إخضاع السرد إلى الحكم القيمي، مما يجعل أمر الاحتفاء بالنصوص الممتثلة لمعاييرها أمرا مسلما به، في حين "إن البنية الثقافية، بقيمها الدينية والاجتماعية قد تحول دون رواية وحدة سردية، تنافي النسق السائد من القيم"(30) كما بين عبد الله إبراهيم.
إن الظروف المصاحبة لظهور السرد المحلي في مصر عام 1881، والتي شكلت مسوغات له تمثلت أساسا في تناهي الوعي الوطني الذي انتهى بالثورة العرابية، والمطالبة بالاستقلال في بيروت والاعتراف بالعربية لغة رسمية للبلاد، ونشوء جو نسبي من الحرية ساعد على زيادة المعرفة، لذلك فقد لاحظ الناقد أن الخطاب السردي المحلي ارتبط ظهوره في الأدب العربي "بتزايد الوعي بالهوية القومية والحاجة إلى التعبير عن هذا الوعي وتبليغه. كما ارتبط أيضا بالتغيرات الثقافية والاجتماعية المتنوعة" ، ومن ثمة بدأ الخطاب السردي ظهوره مع النديم في مجلته المستقلة، كما أسهمت مجلة (الجنان) في هذا الجانب، باهتمامها بالتخييل السردي بالموازاة مع الأعمال المترجمة، مع مراعاة الأحكام القيمية التي وضعتها المؤسسة التقليدية إرضاء لها، لذلك حينما كتب علي مبارك كتابه "علم الدين" عام 1879 قدم مخطوطته إلى عبد الله فكري ليقوم بتنقيحها" وبعبارة أخرى ليضفي عليها الطابع الأدبي المتعارف عليه لتحظى باعتراف المؤسسة الأدبية. لقد اعترف في مقدمة عمله بأن هدفه الأساسي كان هدفا تربويا، وأنه لجأ إلى الشكل السردي لما كان يتمتع به السرد من شعبية" ،(32) لكن هذه المحاولات لم تستطع استيعاب رغبات الجمهور المتعلم الجديد، حتى ظهر النديم الذي استطاع التعبير عن الطبقة الوسطى، إذ حاول إنشاء أسلوب جديد يتمكن من خلاله من إيصال أفكاره وقناعاته إلى عدد أكبر من القراء، فبحث عن صيغة جديدة من خلال عمله الصحفي، إذ سعى للتعليم عبر السرد وذلك بوضع الموعظة وتمريرها بواسطة حكاية وأمثلة، في فصول هزلية يبرز من خلالها العيوب الاجتماعية.
بعد وفاة النديم ظهرت محاولات لإحياء المقامة بشكل مغاير، إذ حاولت استعمال الموضوعات المعاصرة وكانت أولها محاولة أحمد فارس الشدياق "الساق على الساق فيما هو الفرياق" عام 1855، إذ ساهمت مقاماته في تطوير هذا النمط إلى مقال سردي، يبتعد عن الأسلوب التقليدي ويتناول الموضوعات الاجتماعية، ومن ثمة الاهتمام "برسم الشخوص الثانوية وحوافزها التي قلما وجدت العناية من طرف الجنس التقليدي الذي اهتم فقط بالشخصيتين الأساسيتين: البطل والراوي، وهذا ما أعطاها درجة عالية من المعقولية والحيوية لموضوعاتها" ،(33) كما أدمجت الانشغالات والاهتمامات الواقعية في الشكل التقليدي والخروج عن النمط المألوف للمقامة بالسخرية ونقد عيوبها. وبعد وفاة النديم بسنتين نشر محمد المويلحي "حديث عيسى بن هشام" حيث كان متأثرا فيها بالفصول السردية التي كتبها النديم، وبالتغييرات الحاصلة والتجديدات التي طالت شكل المقامة، وفي عمله احتفى المويلحي بالتحولات الاجتماعية والثقافية، وتناول عدة قضايا كان النديم قد عالجها من قبل.
وربطا بهذه التحولات الاجتماعية يجد فيصل دراج أن المويلحي كتب النص في فترة شهدت اضطرابات عديدة في مصر، لذا لم يشغل نفسه بإيجاد جنس جديد بل بتأسيس كتابة تسجل وقائع الاضطراب الاجتماعي "وعلى هذا، فإن حديث عيسى بن هشام يحيل على مقولات الاضطراب والتغير ومساءلة التاريخ، قبل أن يحيل على جنس أدبي جديد" .(34) في حين يجد عبد الله إبراهيم أن الحديث كتاب عبر عن التحولات في القيم والشخصيات والأسلوب واللغة، وقام"بتمثيل الاصطراع العميق والمعقد بين أنساق قيمية متعارضة، لكنها سرعان ما تخضع لقانون التحول" .(35)
أقدم والد محمد إبراهيم المويلحي بعد نجاح الابن، على نشر سلسلة من المقامات الحديثة عنونها بـ"حديث موسى بن عصام" أو "مرآة العالم"، لكن بسبب نقده اللاذع للبريطانيين منع من نشر عمله بعد عدة أعداد، وهذا المنع حسب تقدير الناقد يدل على أمرين: "الأول هو أن تجديد الشكل التقليدي للمقامة قد أخذ يحدث تأثيرا حقيقيا في الجمهور المتعلم. وقد كان لهذا التأثير أهمية أكثر من أشكال الخطاب الأخرى، لأن المؤلف قد منع فقط من نشر عمله الإبداعي (المقامات الحديثة) دون أن يحرم من الكتابة نهائيا. والثاني هو أن إحياء الشكل القديم كان مرتبطا أكثر بالرغبة في التعبير عن الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي الجديد، وكنتيجة لذلك، فإن معالجة الخطاب السردي للقضايا الاجتماعية والسياسية المتضاربة أدت حتما إلى المواجهة مع السلطة" .(36) ثم يتابع الناقد تقصي الظاهرة وتطوراتها في محاولات بعدية عند أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد لطفي جمعة، رابطا ذلك بالسياق الاجتماعي والثقافي العام.
يمكن القول أخيرا أن هذا الكتاب شكل مرجعية هامة في معرفة ملابسات ظهور الرواية العربية من زاوية مغايرة لم تطرق من قبل، فهو يعتبر محاولة جادة من أجل التأصيل لظاهرة شغلت النقد العربي مدة طويلة، ومن هنا فصبري حافظ قد عبر عن هاجس التأصيل من منظور سوسيوثقافي متخطيا كل جاهزية تفترضها التفسيرات السابقة.
أستاذة الآداب العالمية جامعة محمد الشريف مساعدية/ الجزائر
هوامش:
(1) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي دراسة في سوسيولوجية الأدب العربي الحديث، ترجمة: أحمد بوحسن، دار القروون، الدار البيضاء/ المغرب، ط1، 2002.ص25.
(2) المرجع نفسه.ص28.
(3) عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، دار توبقال، الدار البيضاء/المغرب، ط2، 1998.ص35.
(4) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص28.
(5).فيصل دراج: نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط2، 2002.ص28.
(6) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص30.
(7) المرجع نفسه.ص30.
(8) فيصل دراج: نظرية الرواية والرواية العربية.ص179.
(9) ادريس هاني: حوار الحضارات.ص30.
(10) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص144.
(11) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص35.
(12) فيصل دراج: نظرية الرواية والرواية العربية.ص146.
(13) ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة /مصر، ط1، 2009.ص64.
(14) عبد الملك مرتاض: الكتابة من موقع العدم.ص283.
(15) ميشال فوكو: نظام الخطاب.ص7.
(16) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص46.
(17) المرجع نفسه.ص50.
(18) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص60.
(19) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص11.
(20) ادوارد سعيد: الاستشراق.ص112.
(21) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص65.
(22) المرجع نفسه.ص66.
(23) المرجع نفسه.ص67.
(24) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص68.
(25) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص37.
(26) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص70.
(27) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي..ص70.
(28) المرجع نفسه.ص149.
(29) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص79.
(30) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص88.
(31) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص155.
(32) المرجع نفسه.ص158.
(33) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص181.
(34) فيصل دراج: الرواية والرواية العربية.ص165.
(35) عبد الله إبراهيم: السردية العربية الحديثة.ص248.
(36) صبري حافظ: تكوين الخطاب السردي العربي.ص185.