شاعر جوّال وشخصٌ مهنتُه السؤال

لم تستطع قاعة الندوات بالمدرسة العليا للأساتذة التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بمرتيل أن تستوعب الجمهور النوعي من نقاد وباحثين وإعلاميين وطلبة الذي تقاطر عليها رغبة في الإصغاء للشاعر ياسين عدنان القادم من مراكش الحمراء إلى جهة الشمال متأبطا دفتره الشعري الضّاج بصور الإقامة في العواصم والمدن الشاردة: "دفتر العابر". جمهور الأمسية حرص على أن لا يفرط في حقه ولو من خارج القاعة في لحظة شعرية أعادت للشعر ألقه وتوهجه بإصرار منقطع النظير للأكاديمي عبد الرحيم جيران وأساتذة المدرسة وطلبتها الذين يناضلون من أجل خلق تواصل عميق عبر سلسلة "تجارب إبداعية" مع أدباء المغرب من مختلف الأجيال.

اللقاء مهّد له الطالب مصطفى الحسوني باقتدار متوقفا عند مسارات الإبداع والإعلام الثقافي عند ياسين عدنان، قبل أن يتناول الكلمة بعد ذلك الناقد محمد العناز الذي حقق سفره النقدي الاستكشافي في الديوان من خلال مداخلته" الخاصية السردية في دفتر العابر: قراءة أولية" عبر خمس محطات. واعتبر العناز ديوان "دفتر العابر" للشاعر ياسين عدنان تجربة متفردة لا في إبداعه الشخصي ولكن على مستوى القصيدة المغربية والعربية معاً انطلاقا من اعتبارات أجمَلَها في أن الديوان يكوِّن قصيدة واحدة مُـمْتَدَّةً لا تتجزأ ولا توضع علامات ترقيم تفصل بين أجزائها، وأنها تقوم على وحدة الموضوع، ووحدة البناء، وعلى بناء يستوحي خطابات متعددة تعمل على الدمج في ما بينها من دون التضحية بالنفَس الشعري. إضافة إلى التنوع في الأساليب المستعملة من تقرير وتعجب واستفهام وصورة وإيحاء. معتبرا أن هذه الخصائص صيغت بطريقة إبداعية متميزة بحيث تتضافر جميعها في سيولة شعرية راقية تجعل المتلقي يتطلع إلى قراءتها دفعة واحدة من دون شعور بالملل أو الرتابة. المحطة الأولى توقف فيها الباحث عند العنوان مبرزا أن الدفتر لا يعني الكراسة العادية، وإنما تلك التي تستخدم من أجل تدوين أحداث يومية ترتبط بالحياة، والعابر في الديوان صفة تشير إلى الأنا التي تعبر محطات مكانية متعددة. وهكذا يصير الديوان بمثابة الكراسة التي تسجل سيولةً من الانطباعات التأملية الممزوجة بالحكمة والمعرفة حول صيرورة من الارتحالات. في حين توقف في المحطة الثانية عند بناء الديوان الذي يستمده من العنوان، بحيث نجد أن السيولة الشعرية لا تنتظم وفق دَفْق انفعالي وشعوري تتبع فيه السطور الشعرية الحالة النفسية أو تفاصيل موضوع ما، وإنما وفق بناء يخضع لحركة الذات وهي تنتقل من مكان إلى آخر. ومن ثمة تتوالى المقاطع الشعرية حسب حركة التنقل؛ مما يعطي للقصيدة بناء متماسكا قويا. هذا البناء الشعري لا ينفصل في صياغته عن الموضوع الشعري الذي يتأسس على تعرُّف الأمكنة (باريس، بروكسيل، غرناطة، قرطبة، برلين، لندن، سان فرانسيسكو..) فالقصيدة هي قصيدة المكان بامتياز. إنها تعمل على التقاط عناصر المكان في تميزها واختلافها ولكنها وهي تفعل ذلك تأبى إلا أن تمرره من خلال بُعد تأملي خاص، ومن خلال وجهةِ نظر ورؤية. ومُفاد هذا القول إن المكان يُـمَّررُ من خلال خاصيتين: خاصية التضاد بين الأنا والآخر، والخاصية الطقسية؛ ففي ما يخص الخاصيةَ الأولى يصير المكان منظوراً إليه من خلال أنا تحاول الاقتراب من الآخر من حيث هو مكان وذات لكنها تجد نفسَها في هذا الاقتراب مسكونةً بمسافة حضاريةٍ وثقافية مختلفة.

أما في ما يخص الخاصية الثانية، فإنها تبني العالمَ الشعريَ من خلال تمرير المكان انطلاقا من ثنائية البرودة والدفء التي تختزل العلاقة المائزة بين الشمال والجنوب. أما المحطة الثالثة فقد توقف فيها عند الخاصية السردية انطلاقا من بناء القصيدة في ديوان "دفتر العابر" حيث يتم تمرير الخاصيةِ الشعريةِ فيه انطلاقا من مُمْكِنِ المحكيِّ. فهي تكاد تكون بمثابة حكاية طويلة حول المكان مَصُوغَةٍ بوسائلَ شعريةٍ، حيث أن كلّ اللوحاتِ الشعريةِ مُؤَطَّرةٌ بين هاتين النقطتين، وتزدادُ الخاصيةُ السرديةُ قوةً بوجود مكونين هامينِ: مكوِّنُ اللقاءاتِ، ومُكونُ الوصفِ المعتمِدُ على الفعلِ؛ فجلُّ الانتقالات من مكان إلى آخر تتضمن لقاء ما بأنثى متفردةٍ وهذا اللقاء دال على صيرورة حدثيّةٍ ما تفرض على الأسلوب الشعريِّ أن ينحُو في اتجاهِ اعتمادِ الوصفِ الذي يتوسلُ بالفعل في نقل الموصوفِ، وهذا التجديلُ بين الحدثِ والوصفِ يعد خاصيةً سرديةً. أما المحطة الرابعة فقد مثل فيها للبناء الشعري من خلال مقطع محدد يُصاغُ حول وجود الذات في "المترو بار" بمحطة "فيغتوريا" بمانشستر. معتبرا أن اللقاء في هذه المحطة تامٌّ بين الذات والأنثى. وهو لقاء يُلتقَطُ من خلالِ إسقاطِ تفاصيلِ المكانِ على الأنثى مؤكدا على أن الأسلوب السردي واضح بكل دقَّةٍ ويأخذ طبيعتَه من الوصف المتوسلِ بالفعلِ، والمدَعَّمُ بالتشبيه الشعريِّ. متوقفا عند خاصية سردية أخرى في بناء القصيدة ألا وهي المونولوغ. ليخلص العناز في المحطة الخامسة إلى خاصيةٍ أسلوبيةٍ ذات بُعْدٍ خِطابيٍّ مُتَمَيِّزٍ تستعملُ أَوَّلَ مَرَّةٍ في الكتابةِ الشعريةِ لكونها مُسْتَوْرَدةً من مجالٍ غيرِ شعرِيٍّ، واستخدمت داخل القصيدةِ من خلالِ ضرورتها الشِّعْرِيَةِ، ويقصدُ بها خاصيةَ "الخُلاَصَةِ" التي نصادفها في الكتابةِ النقديةِ والتي تنزلُ مَنْزِلَةَ الخاتِمَةِ. لقد كان الشاعرُ على وَعْيٍ تامٍّ بأنَّهُ يكتُبُ نَوعاً شِعْرِيّاً له طبيعةٌ سرديّةٌ، وأنه لا بد لهُ في مِثْلِ هذا النَّوْعِ من خاتمةٍ تُغْلِقُ انْفِتَاحَ الحَكْيِ.

أما الأديب والإعلامي ياسين عدنان فقد اعتبر في كلمته أن ثمة صداقة تربط إبداعه بالمكان الذي يذهب إليه عارياً من الأكليشيهات متحررا من الأحكام المسبقة. ف"دفتر العابر" ذهاب حر نحو الآخر في محاولة لاستشراف علاقة جديدة بين الأنا والآخر عبر الشعر ومن خلال القصيدة. فالذات بالنسبة له لا تكتمل إلا بالآخر. ولهذا كان الذهاب نحو الآخر أهم محركات الخلق الشعري في "دفتر العابر". وليس عبثا أن انطلقت مغامرة "دفتر العابر" من خلال ورشة فنية جمعته بالفنان التشكيلي الفرنسي ايتيان إيفير اشتغلا فيها معا على تيمة السفر. وخلال الورشة التي دامت شهرا كاملا ربح الفرنسي ثلاثين لوحة تشكيلية، فيما ربح ياسين عدنان مشروع هذا الديوان الذي اشتغل عليه لأربع سنوات متتالية.

     من جهة أخرى، اعترف ياسين عدنان الذي يشتغل منذ 2006 معدا ومقدما لأهم برنامج ثقافي حواري في التلفزيون المغربي أنه شخص مهنتُه السؤال. فالسؤال لديه أهم من الجواب. والسؤال بالنسبة له ليس نصف الجواب فقط بل هو 75 في المائة من الجواب. لكن ما يقض مضجعه هو أننا نعيش اليوم في زمن عربي لا تشغله الأسئلة بقدر ما يطمئن لاجترار الإجابات المكرُورة حتى ولو كانت متسرعة أو ملفقة. هذا القلق جعل ياسين يتوقف مطولا عند إشكالية انعدام السؤال لدى الشعوب العربية: "فنحن نمارس في المغرب مثلا السياسة والثقافة والفن والرياضة والهندسة والاقتصاد والإعلام والتربية لكن من دون أسئلة، ونتحرك في كل الاتجاهات من دون أسئلة حقيقية. بل أحيانا نتواطأ على السؤال بأن نلوك أسئلة "غلط"، لذلك نكبر جميعاً في هذا البلد قبل الأوان. ففي المحافل الشبابية بل وفي المدارس نفسها قد نفاجئ بيافعين وشباب في عمر الورد عوض أن يتركوا الأسئلة تتفتح داخلهم تجدهم قد عُبِّئوا بإيديولوجيات ومواقف شحنهم بها آخرون، ما جعل بعضهم يتحركون في الشارع تماما مثل "قنينات غاز" يمكنها أن تنفجر في أية لحظة. لهذا علينا أن ندافع جميعا عن التلميذ والطالب والجمهور الشاب ليستعيد لياقته، لأنه من العار أن نواصل السير باتجاه المستقبل ونحن على هذه الحال: شعوب يحكمها اليقين والدوغمائية. لهذا بالضبط يعتبر ياسين عدنان أن دور المثقف اليوم هو أن يفسد على المجتمع خموله الفكري المريح واطمئنانه الكسول إلى أجوبته اليقينية بالأسئلة الشائكة.

أما بالنسبة للكتابة، فقد حرص ياسين عدنان على التأكيد على أنه لا كتابة بدون قراءة. وهو يتعجب من تزايد أعداد الكُتّاب وممتهني الحرف في البلاد العربية لكن دون أن يسندوا انتماءهم لعالم الأدب والشعر بالقراءة. فعندما تصير صديقا حقيقيا للأدب، قد يفرحك النص الجميل حتى لو كان مُوقّعا من اسم لا تحبه. فصاحب"مانيكان" بدأ يلتهم قراءة الكتب في خزانة والده رجل التعليم منذ طفولته الأولى، معربا عن إحساسه بالشفقة على الأطفال الذين ولدوا في بيوت ليست بها مكتبات. والمكتبة قد تكون مجرد رفٍّ يتيم في شقة صغيرة؛ لكن الأهم هو فكرة المكتبة نفسها التي يجب أن تترسّخ في أذهان أرباب الأسر وفي وجدان أطفالهم. فمن المخجل اليوم أن يفتح المغربي باب بيته أو شقته للضيوف ولا يضايقه غياب رفّ كتب في بيته. فنحن نستغني عن الكتاب ونستغني عن الشعر والأدب وبعد ذلك نتساءل من أين جاءنا كل هذا العنف الذي بدأ يتكرّس يوما بعد يوم داخل المجتمع خاصة مع الجيل الجديد من الجرائم التي  بدأت تزحف علينا. أيضا توقف ياسين عدنان عند الفقر المدقع للتعبير في الشارع المغربي حيث ضعفُ القراءة وضمور الخيال جعل لغة المغاربة في الشارع تضيق وتزداد فقرا يوما عن يوم.  

اللقاء كان أيضا مناسبة ليستعيد ياسين عدنان بدايته مع مشارف البرنامج الثقافي الأسبوعي بالقناة المغربية. بداية جاءت بالصدفة حيث كان صاحب "دفتر العابر" يدرِّس اللغة الانجليزية في إحدى ثانويات ورزازات حينما اتصل به الدكتور محمد نور الدين أفاية صاحب "مدارات" ليدعوه إلى برنامجه الثقافي الأهم في مغرب التسعينات. وكان أفاية قد اطلع على مجموعة ياسين عدنان القصصية الجديدة "من يصدق الرسائل؟" الصادرة عن دار ميريت بالقاهرة. وهكذا وقَّع ياسين عدنان على حضور تلفزيوني استثنائي ومفاجئ من خلال تلك الحلقة ما حذا بنور الدين أفاية الذي صار فيما بعد أحد حكماء الهاكا (المجلس الأعلى للاتصال السمعي والبصري) وإدريس أولحيان مخرج برنامج "مدارات" الذي صار مديرا للإنتاج في التلفزيون إلى الاتصال به واختياره لاستئناف تجربة "مدارات". وهكذا جاء "مشارف" ليواصل مغامرة "مدارات" ثم ليصير البرنامج الذي يتابعه جمهور المثقفين والأدباء في المغرب باهتمام مساء كل أربعاء على شاشة القناة المغربية الأولى منذ 2006 حتى اليوم. واعترف ياسين عدنان بأن لديه شعورا مزمنا بالقصور عن متابعة كل ما يعتمل داخل المشهد الثقافي والأدبي المغربي، فبرنامج واحد لا يكفي ليتابع كل هذا الحراك الذي يعرفه المشهد الثقافي والفكري والفني بالمغرب. أيضا يحس أحيانا بالدونكيشوتية وهو يناضل من خلال "مشارف" من أجل الترويج للكتاب المغربي والدفاع عن القراءة في الوقت الذي لا تريد الدولة أن تبلور إستراتيجية جدية في هذا المجال. فمشكلتنا في المغرب هي أننا نريد إنجاز التنمية البشرية دون أن نراهن على الثقافة رغم أن هذه الأخيرة تبقى في صلب أي تنمية. وإذا كان ياسين عدنان قد انتقد غياب عادة القراءة لدى المغاربة، إلا أنه عاد ليحمل الدولة مسؤولية التخلي عن المجتمع المغربي فيما يتعلق بالقراءة العمومية التي تحتاج من الحكومة أن تبلور سياسة واضحة في هذا المجال لمضاعفة عدد المكتبات العامة في بلادنا وتعزيز رصيدها من الكتب. كما أكد على ضرورة إدماج الكتاب المغربي في المدارس والثانويات والجامعات ليتصالح المغاربة مع صورتهم ومع ذاتهم الثقافية، وأيضا لكي نبني بشكل مشترك كلا من الخيال والقيم، وإلا فلا يمكننا الحديث عن شخصية مغربية قوية وسوية خارج الأدب والفن والإبداع. وأخيرا دافع ياسين عدنان عن الشعر، وعن الحق في الشعر، وعن حقه كشاعر في المراهنة على القصيدة في الأدب والحياة منتهيا إلى أنه من خلال القصيدة نستطيع أن نرمم أعطابنا، ونتوازن داخلها.