في مثل هذا اليوم وُلد العلامة المصري عبد الرحمن بدوي (الفيلسوف، الأديب المؤرخ، المحقق، المترجم، المؤلف) كان عبد الرحمن بدوي أُمّة بالفعل اضطلع بأعباء جسام، منذ بدء طلبه للعلم، فمن نوابغ الفكر الأوروبي أظهر لنا صورًا لم نكن ندري عنها شيئًا في عالمنا العربي من قبله، فمن نيتشه إلى هيجل إلى شوبنهاور إلى كانت إلى شبنجلر، ومن أفلاطون إلى أرسطو إلى أفلوطين، ومن ابن رشد إلى ابن عربي إلى ابن سبعين، ومن الحلاج إلى البسطامي، إلى رابعة العدوية إلى الغزالي، ومن التراث اليوناني إلى الحضارة الإسلامية، ومن الرواية إلى القصيدة إلى الدّيوان إلى المسرحية، ومن موسوعة الفلسفة إلى موسوعة المستشرقين، ومن الحور والنور إلى مرآة نفسي إلى سيرة حياتي ومن المعنى الصوفي في حياة النبي إلى تاريخ التصوف في الإسلام إلى شخصيات قلقة إلى تاريخ الإلحاد في الإسلام!
ومن مصر إلى أسبانيا إلى بيروت إلى فرنسا إلى الكويت إلى ليبيا حتى ينتهي المطاف في مصر، ويرقد الجسد الذي عانى التّرحال شرقًا وغربًا في تراب اشتاقته أجزاؤه وإن زهد صاحبه في ضجر أهله ودنياهم.
وُلد الدكتور عبد الرحمن بدوي فجر الأحد ٤ فبراير سنة ١٩١٧م ويقول هو عن لحظة ميلاده، بادئًا سيرة حياته المنشورة في بيروت: بالصدفة أتيتُ إلى هذا العالم، وبالصدفة سأغاُدرُ هذا العالم! وآيةُ ذلك أنه لو لم تتطاير ورقةُ وتتساقط على الأرض فينحني والدي لالتقاطها، لكان قد ودّع الحياة في ذلك اليوم من شهر أكتوبر 1913؛ فقد استأجر أحد خصومه قاتلاً جاء إلى حيث يجلس في بيت العمدية في مساء ذلك اليوم، ثم أطلق عدة رصاصات في اتجاهه، وفي هذه اللحظة عينها تطايرت هذه الورقة الرسمية، التي كان يراجعها (وهي من أوراق المحكمة الشرعية)، فانحنى لالتقاطها، فلم يُصب الرصاصُ إلا الطرف الأعلى من العمامة واستقر في باب كان خلفه. وصاح الله حيّ! .. وواهمٌ جدًّا من يظن أن أن ثمّ ترتيبًا أو عناية أو غاية. إنما هي أسباب عارضة يدفع بعضها بعضا فتؤدي إلى إيجاد من يوجد وإعدام من يعدم.
في مقدمة عبد الرحمن بدوي لديوان العبقرية العالمية جوته يقول: كان جيته يعاني حالة نفسية عنيفة، وصفها هو نفسه بهذا الوصف حيث قال: "شعرت شعورًا عميقًا بوجوب الفرار من عالم الواقع المليء بالأخطار التي تهدده من كل جانب في السر والعلانية، لكي أحيا في عالم خيالي مثالي أنعم فيه بما شئت من الملاذ والأحلام بالقدر الذي تحتمله قواي".
وقد فرّ بدوي بنفسه أيضًا من عالم الكلام والقيل والقال والشهرة والأضواء إلى عالم أرحب؛ إذ تحدثك سيرة الرجل العظيم عن عقل دؤوب التفكير والنشاط والإبداع، تحدّثك أيضًا عن راهب اختار أن يلزم صومعته يُحدّث ذاته وإلهه بما شاء، يصرخ أحيانًا، يسخط أحيانًا، يبتهل أحيانًا، يُناجي أحيانًا، يمحو ويثبت ما يشاء، ودون اتحادٍ أو حلول يرى نفسه إلهًا! تماما كما وصفه حسن حنفي بقوله: كان يرى نفسه الله في عُلاه!
وأنت تقرأ لبدوي تشعر أنك سيد العصور، ترتحل متى شئت إلى أي عصر تشاء وإلى أي فن تريد، ترى القديم والحادث معًا في آن! حين يُحدثك عن أحد الصوفية القدامى – (الذي نُسب إليه أنه قال: لقد تحجّر ابن آمنة واسعًا بقوله لا نبيّ بعدي) ويذكر نقده للفلاسفة والعلماء من أمثال ابن رشد وابن سينا والغزالي من مثل: (الغزالي لسانٌ دون بيان، وصوتٌ دون كلام، وتخليطٌ يجمع الأضداد، وحيرةٌ تقطّع الأكباد! مرة صوفيٌ، وأخرى فيلسوف، وثالثة أشعري، ورابعة فقيه، وخامسة محيّر. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت، وفي التصوف كذلك، لأنه دخل الطريقَ بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك، وينبغي أن يُعذر ويُشكر لكونه من علماء الإسلام على اعتقاد الجمهور، ولكنه عظّم التصوف ومال بالجملة إليه، ومات عليه بحسب ما أعطاه كلامه وفهم من أغراضه) وتجده يؤمّن على كلامه ويتفق معه ويصف تحليله للغزالي بالتحليل العميق! ويزيد نقدًا على نقده تقف متعجبًا! إذ كيف يوافق ابن سبعين في قوله عن ابن سينا"مموه مسفسط كثير الطنطنة قليل الفائدة وما له من التآليف لا يصلح"ويراه وإن كان قاسيًا في كلامه إلاّ أن حكمه صحيح نافذ!
يفعل ذلك بدوي ثم يأتي من بعد ذلك ويؤلف كتابًا مستقلاً عن الغزالي يستقصي فيه ويدقق في نسبة كل ما كتبه الغزالي سواء المطبوع والمخطوط، ناهيك عن كتاباته المستقلة عنه وتحقيقاته لكتبه كفضائح الباطنية! وكذلك يفعل مع ابن سينا وينشر له عيون الحكمة!
إن الذي ترجم المقالات الهامة التي تتحدث عن الإلحاد في الإسلام وإنكار النبوات وكتب عن الشخصيات القلقة في تاريخ الإسلام، وترجم لنولدكه الذي كتب عن تاريخ القران، هو نفسه الذي كتب في الدفاع عن القرآن ضد منتقديه وفي الدفاع عن نبي الإسلام ضد منتقصي قدره، وبعث الروحانية الإسلامية بفضل تأريخه للتصوف وأعلامه وإظهار أعمال كبار شخصياته!
يظل كتاب "شهيدة العشق الإلهي" لرابعة العدوية مهما كُتب عنها مرجعًا من أهم المراجع التي تفصل بشأن هذه الشخصية الثرية صاحبة التجربة الفريدة من نوعها في الإسلام، والتي كانت سببًا في عصرنا للكتابة عن"الدين بصيغة المؤنث"! لا أزال أذكر مقطعًا كنت قرأته له في ثنايا تقديمه للعمل تظهر فيه ملامح من شخصية بدوي كما يُلفت النظر إلى سبب من أسباب التفرّد، يقول بدوي والاعتدال لا يمكن مطلقا أن يؤدي إلى التحول الحاسم، فهذه الانقلابات الروحية الكبرى إنما تقع دائما نتيجة لعنف وإفراط ومبالغة في الطرف الأول المنقلب عنه، فعنف إيمان القديس بولس كان نتيجة لعنف إنكاره للمسيحية، وعنف الحياة التقية لدى القديس أوغسطين كان لازمًا طبيعيًا لعنف الحياة الشهوانية الحسية التي حييها قبل تحوله إلى الإيمان.
إن الاعتدال من شأن الضعفاء والتافهين، أما التطرف فمن شيمة الممتازين الذين يبدعون ويخلقون التاريخ .
وما كان يمكن لرابعة أن تتطرف في إيمانها وحبها لله إلا إذا كانت قد تطرفت من قبل في فجورها وحبها للدنيا .من أعماق الشهوة العنيفة تنبثق الشرارة المقدسة للطهارة، ومن عمائق الإنكار والتجديف تنطلق الموجة التي تنشر الإيمان في الدنيا بأسرها؛ لهذا أدعو إلى التطرف المطلق كل من يريد أن يكون خالقا للقيم!
رحم الله بدوي فقد ترك لنا خلفه آثارًا قلّ أن نجدها اليوم، على الرغم من كثرة المؤسسات والمؤتمرات والمراكز العلمية في بلادنا العربية!