مات الشاعر توفيق صايغ أو “الكركدن المحاصر” كما سمَّاه الكاتب الفلسطيني عيسى بلاطة يوم الأحد في 3 كانون الثاني 1971 داخل المصعد وهو في طريقه إلى منزله في بيركلي بكاليفورنيا، في تمام العاشرة مساء. وكالة “يونايتد برس” نعته كشاعر عربي مرموق ومحاضر في جامعة كاليفورنيا ورئيس تحرير مجلة “حوار” سابقاً، وعزت وفاته إلى ذبحة قلبية.
اللافت اليوم، وبعد مرور أربعة عقود على رحيله، أن موته الملتبس ما زال يسبق سيرته وشعره، فأكثر ما يُكتب عنه أنه مات في المصعد (كأنّ في ذلك مجداً ما). الأمر الآخر أنّ عشرات المقالات والآراء دُوِّنت حول تلقِّي مجلة “حوار” أموالاً من وكالة الاستخبارات الأميركية. بمعنى ما، توفيق صايغ “نجم” في موته الملتبس، وفي أموال مجلته الملتبسة، وهو أكثر وضوحاً في هاتين القضيتَين، بينما هو غامض في شعره، وقد همّشه مقرَّبون منه في الستينيات، فلم يحظَ باهتمام النقد والنقاد مقارنة بزملائه من الشعراء. تأخَّر الحديث عن شعره وشخصيته بشكل جدّيّ، ولئن كُتبت عنه مقالات بقلم جبرا إبراهيم جبرا وسعيد عقل وخليل حاوي ومارون عبود، لكنها ظلَّت بعيدة عن محاولة تفسير الشاعر وتقريبه إلى أذهان العامة. في هذا الإطار يذكر الشاعر العراقي سامي مهدي عبارة لافتة في كتابه “تجربة توفيق صايغ” أنّ أول ما يُفاجئنا حين نذكر توفيق صايغ هو “النسيان”. فلم يكد يمضي زمن قصير على وفاته حتى كاد يصبح منسياً نسبياً. إذ نجد أدباء وقراء كثراً معجبين بشعر السيّاب والبيّاتي وأدونيس ودرويش ونزار قباني، في حين يندر أن نجد معجباً بشعر صايغ، فإن وجد هذا النادر مرةً فسرعان ما نكتشف أنه لم يقرأ هذا الشاعر قراءة حقة، بل تأثر قليلاً أو كثيراً بما أشاعه عنه، في حين من الزمن، بعضُ أصدقائه، وخصوصاً من هم موضع ثقة مثل جبرا إبراهيم جبرا وسلمى الخضراء الجيوسي. والآن، وبرغم وجود الكثير من الدراسات عن صايغ إلى جانب صدور مذكراته بخط يده ومراسلاته مع الروائي السوداني الطيّب الصالح (نشرها محمود شريح) إضافة إلى مراسلاته مع الشاعر العراقي سركون بولص (نشرها الشاعر عبد القادر الجنابي في موقع “إيلاف”)، وهناك كتاب عن تجربته لسامي مهدي، وكتاب للشاعر والناقد العراقي عباس اليوسفي بعنوان "شعر توفيق صايغ: دراسة فنية"، ودراسة لزهرة حسين بعنوان "أصداء نيتشه وييتس في شعر توفيق صايغ"، نقول مع ذلك إنّ مكانة صايغ في عالم الأدب العربي المعاصر "لا تزال موضع نقاش".
تكتب سلمى الخضراء الجيوسي بأنّ لهجة توفيق صايغ الخفيضة وأسلوبه الشعريّ البعيد عن البطوليَّة لم يجتذبا الكثير من الاهتمام بين معاصريه. وحتى اليوم، مع أنّ ثمة اتجاهاً حداثياً أصيلاً أخذت خطاه تثبت بهدوء مع مطلع الثمانينيات، فإنّ النقاد الذين يحاولون الكتابة عن الحداثة لم يركزوا على هذا الاتجاه الحداثي الجديد ولا على تجربة توفيق صايغ الأكثر تبكيراً، ولم تحظَ أعمال صايغ بعد بما تستحقه من مكانة في تاريخ الشعر العربي. تضيف الجيوسي: أدرك توفيق صايغ أنه ضحيّة عصره لا بطله، فعبَّر عن الاغتراب والمعاناة اللذين فرضهما الشعر المعاصر من داخل الوطن ومن خارجه على حياة الفرد. إن تجربة صايغ المُبكّرة ذات أهميّة بالغة في تطوير الشعر العربي باتِّجاه الحداثة لعلاقته بالتجارب الجديدة؛ فقد كتب شعراً شمولياً في عهد الشعر الوطني وشخصياً في عصر التوجُّهات الجماعية، وفردياً في فترة سادتها الأزياء والأنماط. كان صايغ مستوحداً، متفرِّدًا وضحية يهيم في أجواء كثيرة، وشعره كان أفضل مثال على حداثة مبكرة تمَّ بلوغها بسبب صفات الشاعر الخاصة المتمثِّلة في الرؤية والأسلوب.
توفيق صايغ، المولود في سوريا والناشئ في فلسطين ولبنان والمنتمي إلى عائلة من الروَّاد في التاريخ والاقتصاد، وهو الشاعر المتفرِّد في الحداثة العربية، برغم ذلك لم يُكتب لقصائده الانتشار، تتراوح تجربته الشعرية بين ذلك الصوت الذي يحمل رسالة مسيحية إنسانية، وبين ذلك الشاعر المعنيّ بخلاصه الشخصي خصوصاً بعد وقوعه في الغرام اللامتناهي. والراجح أنّ "مسيحيّة" صايغ الشعرية جعلته أكثر هامشية في النسيج الثقافي العربي. ففي إحدى مقابلاته يقول سركون بولص: "إنّ النقاد العرب أهملوا توفيق صايغ بسبب رموزه المسيحيّة. ذلك أنّ الشعر القومي كان سائداً آنذاك وحتى وقت قريب إلى أن جاء الشعراء الجدد وأزاحوا هذه المومياء من صفحات الجرائد والمجلات وهذا شيء إيجابيّ وجميل. أنسي الحاج كان يمتلك منصَّة رائعة وهي دار النهار لذلك لم يكن يحتاج إلى شيء من أحد. لكن توفيق صائغ مرَّ بتجربة ماحقة ولذلك فقد قُتل كشاعر وإنسان فيما بعد وهذا عيب على النقاد والشعراء العرب، فهو شاعر عظيم كرَّس نفسه للشعر الحقيقي. قد يكون غريباً قليلاً، لكن كلّ شعر عظيم يبدو غريباً أول الأمر إلى أن تألف أُذناك إيقاعاته، وإذا دقَّقت رموزه وكان لك صبرٌ كبيرٌ كدارس للشعر، لغُصتَ في الرموز التي تكشف لك أموراً عميقة. فتوفيق صايغ ليس مسيحيّاً بالمعنى الضيّق. إنه متصوُّف، وروحاني، وباطني، يكتب قصيدة عميقة عن الحبّ أو الأضحية أو فكرة القربان وهو بهذا المعنى فلسطيني، لكن على مستوى الفلسفة والباطنية والتصوُّف، وهذه أشياء عميقة وغنيَّة في شاعر مثل توفيق صايغ".
يسوع ابن الانسان
ولم تكن نزعة صايغ “المسيحانية” وليدة الصدفة، فهو كان ابناً لأبوَين تلقَّيا تعليماً دينياً في المدارس التابعة لبعثة تبشيرية أميركية كانت تعمل في شمال فلسطين، حتى أصبح الأب قسَّاً بروتستانتياً، وأصبحت الأم مُدرِّسة في إحدى مدارس البعثة. وخلال دراسته الجامعية كتب بحثاً بعنوان “التوراة كأدب”، وبقي في هذا المسار أو المحور. وربّما من يقرأ المقرَّبين منه يعرف سرّه في الانغماس المسيحاني-التوراتي كأيديويوجيا وليس مجرَّد رموز. يقول جبرا إبراهيم جبرا في هذا الخصوص عن صايغ وشعره: "كان إيمانه المُترع حتى ذلك الوقت بنزعة دينية مسيحية قوية، يكفي لأن يدفعه إلى مقاومة كل من يختلف معه مقاومة عنيدة". ويضيف جبرا: “إن نزعة صايغ المسيحية القوية كانت تتغذى بتشبُّهه، عن وعي أو دون وعي، بالمسيح، لأنه أيضاً ابن طبريا وابن الجليل". وصايغ كبروتستانتي مؤمن، كان ينشد الخلاص الديني وليس الخلاص الاجتماعي، وكان معنياً بخلاصه الفردي وليس خلاص الآخرين، لا سيما بعدما دخلت حبيبته "ك" حياته. والواقع أنّ اللجوء إلى الطيف المسيحي في الأدب كان حاضراً بقوة لدى الكثير من الشعراء اللبنانيين والعرب، بدءاً بجبران خليل جبران صاحب "يسوع ابن الإنسان" الذي تعامل فيه مع المسيح على أنه مصلح اجتماعي متسامح، وصولاً إلى أنسي الحاج الذي ابتدأ بديوان "لن" المتمرِّد وانتهى بـ"الرسولة" المؤمن، وقد تحوَّل إلى شاعر خلاص بالمعنى المسيحيّ
وللمسيح وقعٌ خاص في شعر توفيق صايغ، يختلف عن بعض زملائه، فهو ليس رمزاً، كما عند بدر شاكر السيَّاب في قصيدة "المسيح بعد الصلب"، مثلاً، بل هو ابن الربّ بحسب ما يستنتج سامي مهدي، وهو الفادي والمُخلِّص، وعليه أن يؤمن به ويحبّه أكثر مما يحبّ أياً من أهله وذوي قرباه، وراقَ له أن يُعطي لعلاقته بالمسيح شكلاً خاصاً هو شكل العلاقة بين الصيَّاد وطريدته؛ فالمسيح الصيَّاد وصايغ الطريدة، وطبَّق صايغ هذا على علاقته بحبيبته، فما هو إلا صيَّاد، وما هي إلا سمكة انتشلها من اليمِّ. ثم طوَّر صايغ هذا الشكل من العلاقة فجعل الطرد متبادلاً، بينه وبين المسيح، وبينه وبين حبيبته، وعلى أساس هذه الفكرة، أي الطرد المتبادل، بنى قصيدته الطويلة "بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن" مستفيداً من أسطورة مسيحية شاعت في القرون الوسطى، وهي أسطورة الكركدن والعذراء. وأعتقد أنّ الباحثة زهرة حسين هي أفضل من عالج هذه القصيدة في دراستها "أصداء نيتشه وييتس في شعر توفيق صايغ"، إذ تقول: "توفيق صايغ، بين كلّ الشعراء العرب، أكثرهم رفضاً للمساومة على تجاربه في مضمار الشكل الشعري، وأكثرهم وعياً وإيجازاً في التعامل مع الأسطورة، سواء أكانت كلاسيكية (يونانية رومانية) أم شرق أوسطية، وأكثرهم قدرة على دمجها في تكوين شعري مدهش، فقصيدته "بضعة أسئلة" نموذجية في عبورها الثريّ للثقافات، فهي تحمل من جهة، رؤيا فلسفية للذات الشاعرة بوصفها نمطاً بدئياً للمثقف كمنشد مُخلِّص من الانحطاط، وتعرض من جهة ثانية متضادات نغمية (بولوفونية) تتواجه وتسمع سوية، السخرية والشفقة معاً وهما تتنافران وتتكاملان. أساس هذه القصيدة الفلسفي وفرته فلسفة نيتشه القائلة بالثنائية في صميم الوجود، أما أساسها الجمالي فوفره إلى حدٍّ ما ييتس بالربط بين ثلاثية البطولة/ الفعل/ المعرفة بموضوعة الخلاص الآخروي الجماعي (ربط التجربة الشعرية بالتجربة الدينية). في الجانب الفلسفي تقوم فكرة الوحدة والاكتمال، أو الخلاص، بالمعنى الديني على وحدة النقائض. وهي هنا وحدة النزعة المثالية والنزعة الدينيوية اللتين يُرمز إليهما عند نيتشه بالنزعة الأبولونية والنزعة الديونيسوسية. ومع أنّ القصيدة تبدو للوهلة الأولى مُرتَّلة بصوت واحد هو صوت المتسائل أو السّارد، إلا أنّ ثلاثة أصوات في الحقيقة تتحدَّث فيها وتتنافر وتتصارع، صوت الكركدن (وحيد القرن) الشبيه بصوت المبعوث المثالي، وصوت العذراء الدنيوي، وصوت السّارد نفسه".
يمكن القول، بحسب زهرة حسين، إنّ قصيدة "الكركدن" هي قصيدة إخفاق الذات الشاعرة (رمزُها وحيد القرن) في تحقيق إنجاز بطولي تراجيدي أصيل غير مسبوق. وتقوم القصيدة على قصة أسطورية تروي سعي وحيد القرن إلى العذراء، ومقاومته لكل أشكال الإغراء، وينتهي هذا السعي بالوصول إليها، تلك التي يستريح إليها ويستسلم، فتُسلِّمه إلى الصيَّادين الذين يُمزِّقون جسده، ويأخذون قرنه الذي يُستخدم في علاج العقم عند النساء والرجال. هذه الأحداث تؤدّي دور المعادلات الموضوعية لكلّ ما يعتمل في القصيدة من مشاعر وعواطف، أو للفكرة الميتافزيقية. واللافت أنّ صايغ اختار أسطورة الكركدن المغمورة والتي ليس لها في وجدان القارئ العربي وثقافته ما يُمهِّد له سُبُل تلقيها والتفاعل معها، مسلماً كان أم مسيحياً.
على أنّ القضية التي عالجها صايغ في شعره هي قضية مسيحية خالصة، وهي قضية "الصراع بين البراءة والتجربة"، وهي ليست بجديدة، فلطالما عُولجت في الفكر الغربي المسيحي وأدبه، وحتى في الشعر اللبناني خصوصاً ديوان "أفاعي الفردوس" لالياس أبو شبكة. وليس للمسيحيّ المؤمن مثل صايغ، إلا أن يرضى بقدره ويصبر صبر أيُّوب، ذلك لأنّ صورة أيُّوب في "التوراة” ماثلة أمامه وهو يؤكّد لإلهه براءته ويُعبِّر عن تذمُّره"، مقعد/ ولا أهل لا بيت حَسْدا/ كسيح ولا مسيح”.
مثل هذا العبارات تُذكِّرنا بعبارات بدر شاكر السيَّاب الذي كان مجايلاً لصايغ، الذي يقول: "كسيحٌ أنا اليوم كالميِّتين/ أنادي فتعوي ذئاب الصدى في القفار/ كسيحْ/ كسيحٌ وما من مسيح".
يقول الشاعر محمد علي شمس الدين إنه لأول وهلة تظهر مشابهة بين مقطع صايغ الشعري ومقطع السيَّاب. لكن التدقيق يُظهر فروقاً أسلوبية وميثولوجية بين النصَّين، والأدقّ ثيولوجية. فنصّ صايغ أكثر قرباً من الأصل التاريخي والثيولوجي للعبارة من خلال ذكره "بيت حَسْدا"، وهو أكثر انطلاقاً وحرّية في العبارة عن تراجيديا المقعد بلا مسيح أو رجاء بالشفاء، ثم هو نصّ غير موزون، ومن حيث هو مرسل، فهو أكثر تنفُّساً وحرّية في العبارة. وما يجمع السيَّاب إلى صايغ، خيطٌ من اليأس الديني تجاه تراجيديا الجَسَد. فكلا الشاعرَين كسيح، وكلا الشاعرَين فاقد لمسيح المعجزة، الذي يُشفي الأكمه والأبرص والأعمى ويقول للكسيح: قم فيقوم، ويقول للميت: انهض فينهض.
ما كتبه شمس الدين أتى في سياق قراءته لكتاب "صخر وحفنة من تراب" للكاتب الفلسطيني عيسى بلاطة الذي أسَّس على سيرة صايغ الحياتية والشعرية والثقافية دراسته عنه، بادئاً من لحظة الموت المأسوية، صاعداً منها إلى الينابيع المُكوِّنة للشخص والشاعر. يعترف بلاّطة بأنّ مكانة صايغ في عالم الأدب العربي المعاصر "لا تزال موضع نقاش"، فهو شاعر استوحى كتابته من القيم الثقافية الغربية أكثر مما استوحاها من القيم العربية. وهو صاحب معاناة ما ورائيّة كمسيحيّ، لكنه متمرِّد ومُجدِّف وشخصاني. شعره حرٌّ متموِّج رقراق جارف ينفث من خلاله القوة الداخلية لألمه. ولتوفيق صايغ ثلاثة أقانيم في واحد: الوطن، الحبيبة، الله. والواحد هو الحب. لكن حواره مع هذه الأقانيم ليس مسطَّحاً بل مقعَّر ومعقَّد. فالحب (الخائب دائماً والمازوشي والمعذب- المرضي) يؤدّي به إلى الكراهية، والكراهية إلى الاغتراب. الحب عنده مشوَّه والوطن “تلاحق نار ونار” وتيه، هو على متن سفينة، وممنوع من النزول في أي ميناء. ووطنه ليس فقط فلسطين بل ثقافته العربية بكاملها. ثقافة مهانة. وطنه أكثر من سياسي. أما حبيبته التي تجسَّدت في "القصيدة ك" فآتية وعائدة من وإلى امرأة بعينها هي التي رمز إليها بالحرف K في معلَّقته. أما علاقته بالخالق (يسوع حيناً والله حيناً آخر) فمشوبة بضعف الطرفَين والسخرية من ذاته ومن خالقه، كلاهما مغلوب، كلاهما مقهور (وهو هو وطنه وحبّه) لذلك صرخ: "كسيح ولا مسيح".
كان لافتاً أن سامي مهدي يُركِّز في دراسته على أثر الديانة المسيحية والأدب الغربي في شعر صايغ، مُفنِّداً تجربته اللغوية ونظامه الإيقاعي البديل. ولكي يكون شعر صايغ مسيحياً، بالمعنى الحقّ، في رأيه، اتَّجه إلى "الكتاب المقدَّس" في عهدَيه القديم والجديد، وراح يستلهمه في كتابة شعره شكلاً ومضموناً. يقول توفيق صايغ: "وكنت أستفيق. أرتمي على قدمَي المسيح، أسقيهما بدموعي.. أمسحهما بشَعْر رأسي.. أحاول أن أُخضع ثورتي.. أُفلت زمامها من يدي.. بالصلاة بصوم أسبوع بكامله".
فـ"الكتاب المقدَّس" هو كتابه الروحي وتراثه الأدبي والمعنوي، ومادَّته ما تزال بكراً، لم يدرسها كما ينبغي حتى الشعراء العرب المسيحيون. ولذا كانت دراسة أدب "التوراة" ضرورة من ضرورات تأسيس مشروعه كما يستنتج سامي مهدي. يرى صايغ أنّ "التوراة فضلاً عن كونها كتابَ دين روحياً سامياً، سِفرٌ أدبيٌّ جليلٌ، لا تقلّ بعض أسفاره وأقسامه روعةً عن الكتب الأدبية الخالدة". ويقول إنه حين يكتب في موضوع "التوراة كأدب" فإنه يعني "قيمتها الأدبية وتأثيرها الثقافي من وجهة اللغة التي كُتبت بها أصلاً، لا اللغات التي نُقلت إليها والتي تكون القسم الأعظم من لغات العالم". في رأي صايغ "أنّ ما يُميِّز الأدب العبري (في "التوراة") هو هذا الخيال الشرقي الأصيل الذي يوصف بأنه ثاقب، مبدع، ومزوّق، فالخيال اليهودي لم يعبأ بالطبيعة، بل بالله مصدر الجميع".
الحب عنده مشوَّه والوطن "تلاحق نار ونار" وتيه، هو على متن سفينة، وممنوع من النزول في أي ميناء. ووطنه ليس فقط فلسطين بل ثقافته العربية بكاملها.
وتوفيق صايغ بحسب دارسيه هو ابن "تيّار الأسطورة" الذي كانت بدايته مع ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لكتاب "الغصن الذهبي" لجيمس فريزر (1957)، ويستطيع القارئ أن يطَّلع على مئات القصائد التي استلهمت الأسطورة والمسيح في تلك المرحلة، كل شاعر يوظف الرمز بحسب توجُّهاته الفردية أو الأيديولوجية أو العقائدية أو الشخصانيّة. وبحسب الباحث والشاعر الفلسطيني علي الخليلي، فإنّ توفيق صايغ مسيحي لا بالمعنى اللاهوتي -مع أنه ابن قس- بل وفق رؤيا تُركِّز على فلسطينيّة المسيح ليصل إلى اللحظة الأوديبية من خلال علاقة المسيح بأمِّه، وكذلك علاقة الشاعر. وأكثر من كاتب وباحث وصف توفيق صايغ بـ"الفلسطيني الأوديبي المنكود"، لأنّ لحظة الخروج من طبريا ستظل تلازمه طوال حياته. وهو ما عبَّر عنه من خلال قصيدته "معلَّقة توفيق صايغ". وأخطر ما في هذه القصيدة، من ناحية اللاجئين، أنّ المشهد عند الشاعر لا يأخذ طابعاً سياسياً أو وطنياً بالمعنى العام للكلمة. بل هو يأتي تلقائياً من خلال كشف الحساب العاطفي الطويل بين الشاعر وأمِّه. فهو يذكر بسالتها وقلقها عليه وعلى أخوته، فيذكرها، أو يناجيها فيما يتذكر معها: "من غرز الوتد الجديد/ وغرس الشتلات وسقي الحبق/ من حث من أضرم الإيمان/ غير قلبك المنهك الصامد؟/ يوم تركنا الديار/ ولم نحمل معنا/ سوى الذكريات والمخاوف/ وقام بين الديار وبيننا/ سيف مديد عنيد".
لقد ترك التهجير الصهيوني للفلسطينيين عام 1948 ظلالاً قاتمة على حياة توفيق صايغ وإنتاجه الإبداعي الشعري؛ فهذا الشاعر مُتكتِّم في علاقاته، فهو لم يُطلعنا على اسم تلك الفتاة التي رمز إليها بالحرف "ك"، وكانت قصَّته معها شديدة الضغط عليه بحيث لم يشتدّ إحساسه بقسوة النفي من الوطن والحياة في الغربة، إلا عندما بدأت معاناته مع هذه القصَّة، ولم يتحوَّل إيمانه إلى شك صارخ ويأس من الخلاص إلا عندنا تفاقمت هذه المعاناة وتأزمت. فصار لا يملُّ الحديث الميلودرامي عن أحزانه وآلامه. لقد حوَّل صايغ علاقته مع "ك" إلى قصة ميلودرامية، بسبب تكوينه النفسي على ما يبدو. فهو يقول إنّ حبيبته كانت تغويه وتعذبه، وتتقن كلا الفنَّين وتتمتَّع بهما. والواقع أنّ قصَّته مع "ك" لا تزال غامضة، حتى ليشكّ البعض في وجودها. المهم القول إنّ صايغ كان يبحث عن خلاصه الشخصيّ من خلال "ك". واللافت أنّ أبرز فراغ في الدراسات التي كُتبت حول توفيق صايغ هو علاقته بالنساء، فهذا الأمر يحتاج إلى بحث خاص. كيف ولا والمقرَّبون منه يحاولون حذف الكثير من الأمور الخاصة!