كنتُ اسمع بأن هناك، هدايا إلكترونية، يتبادلها البعض في عالم أصبح قرية صغيرة، وهذا الامر يُحسب للتكنولوجيا التي قامت بتقريب البعيد، وشدت من آواصر الود، وتلك حالة ايجابية، تستحق التقدير.
ومؤخراً، وصلتي هدية إلكترونية من صديق شاعر عزيز طال فراقه، كانت على شكل ديوان جديد صدر له. الشاعر هو عدنان الصائع المغترب عن العراق منذ العام 1993 والديوان حمل اسم ملفت للنظر هو {و} ..!
صحيح ان القراءة الالكترونية، متعبة لمن هم بأعمارنا، لكن الصائغ كبلني بطوق القراءة اللذيذة لديوانه الذي صاغ كلماته بشعرية، جديدة، في تناغماتها، وفي فكرتها، ومثلما قيل ان المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، جاء الديوان بصغار الكلمات، هاشاً، باشاً، مكونا نسيجاً لوحده، لا يشارك فيه احدا، ولا يقبل مشاركة احد فيه، وقد تسنى لي معرفة الصائغ، عن قرب حين كان عضوا في اللجنة الثقافية لنقابة الصحفيين العراقيين، فيما كنتُ رئيساً لها، ولو سمحت لذاكرتي بالحديث، لقالت دون تردد ان عدنان الصائغ، انساناً سهل النفس، منبسط السريرة، بعيد النظر، وانني اشبهه بقلم الرصاص، تـَبريـه العثرات ليكتب بخط أجمل، وهكذا حتى يَـفنى القلم، فلا يبقى بعده إلا جميل ما كتب، وديوانه الذي قرأته لمرتين في يوم واحد، هو نتاج لذلك القلم المبروء، بعناية فائقة، وهو ايضا، مثل نحلة تأكل طيبا وتضع طيبا، فقد كان حياديا في طروحاته في اجتماعات اللجنة المذكورة، إلاّ بقولة الحق؛ نقاشاته اتسمت بثقافة عميقة، كما تميز بفرادة تجربته الشعرية الغضة في سن مبكرة. وبرزت قصائده كعنوان لانتماء واحد وهوية بارزة.
وقد اختار في العقدين الاخيرين، النشر في الخارج، لاسيما بعد سفره في العام 1993 الى الأردن للمشاركة في مهرجان جرش، واثناء تلك المشاركة عزم على عدم العودة للوطن، لكنه قبل المغادرة اصدر ستة دواوين في بغداد خلال تسع سنوات فقط، اولها ديوان "انتظريني تحت نصب الحرية" وآخرها "غيمة صمغ". ويبدو ان اختياره للنشر في الخارج بعد غربة دامت حتى الآن 20 عاماً جاء لشعوره بأن وطنه الام، منسيّ في زحمة الحماقات اليومية من بشرٍ لا يمتون بصلة لما نصبو إليه من حياةٍ كريمة.
ديوان الوجع!
ولعلي أعيد قولي الذي كتبته في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1984 في الصفحة الثقافية للملحق الاسبوعي لجريدة "الثورة" البغدادية، وانا مطمئن جداً لرؤاي المبكرة لهذا الشاعر، حين ذكرتُ نصاً "ان شاعرية الصائغ كالنهر، كلما ازداد عمقه ... قلّ ضوضاؤه، لذلك لم نلحظ في قصائد ديوانه (انتظريني تحت نصب الحرية) إلاّ ما يريح النفس، ويضفي اليها الصفاء.. انه شاعر متفانٍ في سبيل الإبداع، خرج الى ما وراء ذاته، بعيداً في عمق الحياة .. ارجوكم سجلوا اسمه في اذهانكم ودفاتركم". وكانت نبؤتي في مكانها الصحيح، ولم يخذلني الصائع!
ولنعد الى ديوانه (و) وكان من المناسب تسميته ديوان (الوجع أو المواجع) فالشاعر يبدو فيه ثملاً بذكرياته .. بأصدقائه .. بصبابته، في تلك الثمالة، تشابكت عند الصائغ أغصان ذكرياته، بورودها واغصانها، بأشواكها المدمية، بحنين طاغ الى أمكنة وشخوص ظلت هاجساً تدق في ذاته، كونها عالمة بتفاصيل كل كينونته، اولى قصائد الديوان كتبت بمسك وآخرها بعنبر! حيث عنون القصيدة الاولى بـ "العراق" وهل لديه غير العراق؟ كتبها في 21/1/2006 ببريطانيا، قال فيها:
عندما الأرضُ؛ كوّرها الربُّ، بين يديهِ
ووزّعَ فيها:
اللغاتِ
النباتَ
الطغاةَ
الغزاةَ
الحروبَ
الطيوبَ
الخطوطَ
الحظوظَ
اللقا...
والفراقْ
وقسّمَ فيها:
السوادَ
العبادَ
البلادَ
البلايا
الوصايا
الحواسَ
الجناسَ
الطباقْ
اعتصرتْ
روحَهُ
غصّةٌ
فكان....
العراقْ
***
قصيدة هذا اسلوب كتابتها، وهو اسلوب جُبل الصائغ على ان تكون كافة قصائد الديوان على شاكلته، كأنني اراه يقول إنه اسلوبي ... هو طريقتي الخاصة في اختيار الالفاظ وكتابة القصيد. وهنا اقول، ان الاسلوب هو خلق مستمر، خلق الالفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الالفاظ، فليس المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، إنما هو مركب من عناصر مختلفة يستمدهما الشاعر من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه، وتلك العناصر هي الافكار والصور والعواطف ثم الالفاظ المركبة والمحسنات المختلفة. وقد مسك الصائغ خيوط اسلوبه بروية وثقة. وأثبت ان الشاعر المجيد هو المنتمي الى روح الكون، يختار خيارات الطبيعة في التلقائية، في التجدد والتنوع والتغيير، والمفاجأة والتناقض، والهدم والبناء.
ويبدو ان بغداد، قلب العراق ظلت هاجسه، فأنشدها بقصيدة أسماها (كأس) وضع هيكلها وفكرتها قبل الاحتلال بعامين في مدينة "مالمو" في السويد، يستشعر قارئها ان الشاعر نسيّ ان مساحة الحنين والحنان والحب عندما تتسع وتكثر، تكون تماما ككثرة الماء للزهور، تخنق وتميت، لكن الصائغ، لا اعرف كيف استطاع الخروج من خرم تلك الابرة بنجاح، فحول تلك الكثرة الى وله محبب، فلنقرأها:
في الحانة
كانتْ بغدادُ،
خيوطَ دخان
تتصاعدُ
من أنفاسِ الجلاّسْ
وأصابع عازفةٍ، سكرى،
تتراقصُ بين الوترِ المهموسِ،
وبين الكأسْ
وإلى طاولتي، يجلسُ قلبي
ملتحفاً غصتَهُ
يرنو ولهاً للخصرِ المياسْ
ووراء زجاجِ الحانةِ أشباحٌ تترصّدني،
تُحصي حولي الأنفاسْ
وأنا محتارٌ
– يا ربي –
أين أديرُ القلبَ؟
وأين أديرُ الرأسْ؟
***
في ما خفي في هذه القصيدة، احسُ ان عدنان الصائغ المغترب، يناجي قارئه، بانه لم يعد يمتلك موضعا لقدميه ليقول: هذا وطني، ولم يستظل سقفا ليقول: هذا بيتي، فحبه لبغداد ساح في خياله، وادار رأسه الى ما لانهاية.
والمتابع لما يسّطره المبدعون من كتاب وشعراء وفنانين في الغربة، يلمس أنهم مرهفو الحس بشكل عجيب ومتّقدو الخيال، مشّبوبون بالعاطفة، ويتمتمعون بخاصية فطرية صلبة، تلتقط حوداث ومصائب وطنهم، وتسجلها بعيون متنبّهه ونظرة ثاقبة، وملاحظة كاشفة، تبّصر الجميع بمعنى الحياة وغاية الوجود، وتنفذ في دقة وعمق إلى جوهر الأشياء.
ويبدو ان الزمن صار عند الشاعر في هذه القصيدة، شيئاً ليس مثل ما عند الآخرين، تجمدت فيه الدقائق، وغدت مثل ساعات باردة، رتيبة، ويدب الصقيع فيها حتى تبدو اياما قاسية رهيبة، والاسبوع الذي يبدأ يكاد لا ينتهي والسنة التي تطل برأسها تسقط فوق الصدور عقوداً، بالغة البرودة والرطوبة والعفونة والتآكل.. لذلك فان هذا الشعر صدر عن نبض اللحظات الحياتية، والحياة تحتاج الى لغة نابضة والى جرأة من الشاعر في تعامله مع نسيج الكلمة، وهو ليس نسيجاا مبنيا على تراكيب معينة، وإنما حقائق انسانية، وشعور ذاتي مستوحى من الموضوعية. وهنا يقول مناجياً قصيدة له:
أغافلُ حزني..
وأمضي إليكِ
على كِبَرٍ
ضيّعتنا البلادُ
فتاة النعاسِ
فتاة الأناناسِ
.........
ما أثقلتني الحقائبُ
بلْ أتعبتني الرغائبُ
لي غربتانِ؛
فكيفَ تمدينَ، بينهما، الجسرَ
كي نلتقي..؟
.......
.. وبينهما - بيننا
مرّتِ الذكرياتُ، سراعاً
ومرَّ المحبون...
مرَّ الخليّون
مرّ القطارُ إلى آخر النأي والناي
وانطفأتْ شمعةٌ، عند زاويةِ الحان
نكرعُ كأساً، وننسى
ونكرعُ أخرى، ونأسى
....
هلْ فاضتِ الروحُ
أمْ فاضتِ الخمرُ
- سيّان -
.........
حيناً،
يمايلنا الرقصُ
حيناً، تميلُ
على ساعديَّ
وحيناً،..
- على غفلةٍ -
تلتقي شفتانْ
ماذا يقولُ البيانو؟
وماذا يقولُ لي الخصرُ!؟
ماذا تقولُ القصيدة...!!؟
***
والشعر عند الصائغ، استعداد واجتهاد وقريحة، واهم ما لمستُ فيه دقة الاحاسيس، والقدرة على التقاط الجزئيات الموحية من مجرى الحياة الواقعية، ساعياً الى خلق نسق شعري متكامل. والأمل الذي يملأ قلبه، وهو أمل بمثابة نور أقوى من كل الجراح والمصاعب وضربات زمن الاغتراب وفراق الوطن، وبعيدا عن الشعور الإنساني، الذي نعيش، أجد أن الشعراء المغتربين، والصائغ احدهم، يجدون ان الشعر في الاغتراب شبيه بالشعر الحقيقي في كل مكان، عطاء دائم وإنتاج وإرسال وتأثير وخلق وإبداع. إنه عملية تصوير وتغيير وتوعية وهدم وبناء وتجديد وتطوير وإثراء .. لا عملية احتواء وامتصاص للرؤى المختلفة، ويبدو ان الحياة علمت الصائغ بان يجعل قلبه مدينة، بيوتها عراقية، فأعطى قصائده نمطاً ملؤه حب العراق.. حين فتح عينيه للأحلام و الطموح.. فغداً يوم جديد!
وتلك حالة تحسب له، فصدق مع نفسه ومع الآخرين.
• الوطن وحكمة الحياة
وأنا، اشاطر رأي الصديق د. عامر هشام الصفّار في قراءته للديوان عندما أجمل النظام الدلالي لديوان الشاعر الصائغ في موضوعيين رئيسيين هما: الوطن والإنسان، وفلسفة وحكمة الحياة. ويشير د. عامر في قراءته لموضوعة "الوطن والانسان" بالقول: "لا يعدم القاريء ملاحظة الدلالة الأولى .. الوطن والإنسان في قصائد الديوان.. فكيف يتجلّى الوطن للمبدع الفنان في منفاه أو غربته..؟ وكيف تنظر للوطن من بعيد..؟ وحتى أنت فيه.. مغترب مطارد.. كل هذه المشاعر سجلتّها قصائد (الواو) التي كُتبت كما تدّل التواريخ المذكورة في ذيل كل قصيدة، على مدى يزيد على عشر سنوات وفي بلدان العالم المختلفة: الأوربية والأميركية والشرق أوسطية وغيرها.. دلالة المنفى والتجّول في أنحاء هذا العالم.. وهو ليس تجوال السائح بالرغبة الإنسانية، بل هو جزء من اضطرار المنفييّن عن أوطانهم".
• بانوراما الذاكرة
غير اني اجد ان مطولته التي حملت اسم (صعاليك حسن عجمي ايضاً..) هي التي جسدت رؤاه الشعرية، ففيها استنطاق فلسفي، للحياة، إذ اننا لو عشنا لذواتنا فقط، فإن الحياة تبدو قصيرة وضئيلة، أما عندما نعيش لغيـرنا فسوف تـُصبح الحياة طويلة وعميقة، وهنالك فرق كبيـر بيـن مَنْ يمسحُ دموعك، وبيـن مَنْ يُبعدك عن البكاء، وعنـدما تـُغلقُ أبوابُ السعادةِ أمامنـا قد تُفتَحُ أبوابٌ أخرى للسعادة، ولكننا لا نشعـُر بها، لأننا نمضي وقتنـا في الحسرة على الأبواب المغلقة. وفي هذه القصيدة اسماء لكثير من الادباء من الذين يؤمنون بأن الفرق بين اغنى الاغنياء، وافقر الفقراء يوم جوع وساعة عطش، لقد مزج الصايغ في قصيدة صعاليكه بين الفصيح وترنيمات فولكلورية، عبر فيها عن فهم واع لسيرورة حكايته الشعرية. فماذا جاء في (صعاليك حسن عجمي؟) و"حسن عجمي" لمن لا يعرف معنى العبارة، هي مقهى شعبية في شارع الرشيد ايام سعده، يؤمها الادباء والشعراء والفنانين، وقد باتت قبل ان تضمحل، مثل كثير من الاشياء الجميلة، لا يمكن لدارس الادب في العراق إلاّ ان يقف عندها.
يقول الصائغ في صعاليك حسن عجمي أيضاً:
يمضي الغروبُ سريعاً، في القطار العابر إلى ستوكهولم.. وأنا ما زلتُ أطقطقُ أصابعي وأيامي، في انتظارِ مَنْ تجلسُ جنبي، لتفتحَ حقيبتها وتريني صورةَ جان دمو، مضطجعاً على الساحلِ الإسترالي، يقرأُ "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"...
بينما مفتّشُ الحدودِ يحدّقُ في وجهي ليرى تقاسيمَ "النفط مقابل الغذاء"،
و"الأرض مقابل السلام"..
أو...
"كلُّ شيء من أجل المعركة"..
و"يا ليل، يا عين"..
وأنا أتأرجحُ؛ بينهمُ، في مطارات العالم
مشرداً، بلا وطن ولا حبوب نوم
وحدهُ كزار حنتوش بأيامه الناحلة، يقعي على بيضةِ أحلامه، وينتظرُ أن تفقّسَ عن قطارٍ ينقلهُ إلى بودابست، أو ديكٍ يبيعهُ في "سوقِ الغزل"، أو قصيدةٍ في مديحِ الخراب..
واكتفى حسن النوّاب بشرب "بُطْل عَرْق" مغشوشٍ، لوحده، احتفاءً بغيابنا المبكّرِ. ساحلاً وراءَهُ خمسَ مُعَدٍ فارغةٍ ووطناً من دبابيس..
ما الذي تأكلُ الشعوبُ المحاصرةُ - أثناءَ المجاعاتِ - غيرَ خطبِ قادتها..
تزحفُ أعمدةُ الكهرباءِ ورائي، مديرةً ظهرها
والمدينةُ تزحفُ أيضاً،
ومديريةُ الأمن،
والنصوصُ
والشتائمُ،
وأغاني وحيدة خليل:
"ماني صحت يمه أحا جاوين أهلنه
جاوين أهلنه..
جاوين"
أين أهلنا يا عبد الرزاق الربيعي؟
أين أهلنا؛ يا عيونَ المها،
يا فضل خلف جبر
يا حسن السوداني
يا آخر المحطات وأول الجنون، يا كريم العامري، يا لوركا، يا كريم راهي، يا ميثم التمار، يا غانم حميد، يا حميد قاسم، يا قاسم حول، يا قاسم العكاشي، يا شارع الرشيد، يا أبا نؤاس، يا باب المعظّم، يا علي عبد الأمير، يا محمد مظلوم يا الجوراني يا الحمراني، يالماغوط، يا اليوت، يا مقداد عبد الرضا، يا مقداد رحيم، يا مسجد السهلة، يا عريان السيد خلف، يا مقهى الزهاوي، يا صلاح نيازي، يا قبر الحلاج، يا طارق الكاريزي، يا شلال كلي علي بك، يا سوق المتنبي، يا عبد الستار ناصر، يا علاء جمعة، يا علي السوداني، يا علي يا وجيه يا علي بدر، يا تمثال السياب، يا بحيرة الثرثار، يا بوابة عشتار، يا فوزي كريم، يا غريب اسكندر، يا كريم كاصد، يا كلكامش، يا غادة، يا ملاك، يا ملك، يا ريم، يا ايمان، يا فيء، يا اينانا، يا نجاة، يا انخيدوانا، يا أمل يا الشلاه يا الشفيع يا البريسم يا الوالي، يا الوائلي يا الخطيب يا التلّال يا البحراني يا الطويل يا زبيبة، يا الحصيري، يا الصائغ عبد الإله يا محمد يا أحمد يا وجدان يا صبري، يا كعك السيد، يا بو بلم عشاري، يا حسين حيدر الفحام، يا بلاسم محمد يا جسّام يا حازم، يا جابر بن حيان، يا أخوان الصفا، يا معابد الوركاء، يا محمد لقمان، يا ليث الناصري، يا صندوق أمين البصرة، يا أثير محمد شهاب، يا فنادق الحيدرخانة، يا زقورات أور، يا سيروان ياملكي، يا أسد بابل، يا جعفر طاعون، يا جعفر أبو التمن، يا خان مرجان، يا حسن البياتي، يا البردوني، يا عبد الخالق الركابي، يا الكسائي، يا سان جون بيرس، يا بورخس، يا سالم يووي، يا روفائيل البرتي، يا ملوية سامراء، يا عبد الوهاب البياتي، يا شناشيل بنت الجلبي، يا نازك، يا بلند، يا قلعة كركوك، يا فاضل العزاوي، يا نصير شمة، يا حامد المالكي، يا أبا حنيفة، يا نصب الحرية، يا باسم قهار، يا محمود أبو العباس، يا عباس السلامي، يا عباس كاظم مراد، يا محمد عباس الدراحي، يا حسن ناظم، يا ناظم عودة، يا ناظم الغزالي، يا سعدي يوسف، يا نقرة السلمان، يا دير العاقول، يا ساعة القشلة، يا مدني صالح، يا جسر الكوفة، يا حسب الشيخ جعفر، يا أهوار الجبايش، يا الثور المجنّح، يا مكتبة المستنصرية، يا نواعير هيت، يا ابراهيم أحمد، يا صموئيل شمعون، يا أحمد الشيخ، يا بابَ الحوائج، يا...،
يا جواد الحطاب
يا طالب عبد العزيز
يا سركون بولص
يا فليحة حسن
يا مرزاب الذهب
يا..، يا..،
يا..
وما تبقى من الأصدقاءِ في مقهى حسن عجمي، اكتفوا بشربِ الشاي
وتبادلِ نصوصِنا المسرّبةِ..
وعلى الكراسي الفارغةِ التي تركناها منذ 1993
سأجلسُ في انتظارِ شيخوختي، التي ستعودُ - ذاتَ يومٍ - على عكازين
أو دمعتين
ساخراً من كلِّ ما مضى
وما........ سيأت
.................
يا وحيدة
يا وحيدة خليل
ما الذي بقيَ من هذا الوطن
بعد أن أفرغوه من العشبِ والثوراتِ والأغاني
قصائدهُ قاحلةٌ بعد أن خمدَ الجميعُ في بيوتهم، أو مقابرهم، وناموا..
شبابيكهُ صافنةٌ لا أثرَ فيها لصراخٍ أو نأمةٍ أو آهةٍ
أزهارهُ يائسةٌ في المحلاتِ
وساحاتهُ مقفرةٌ من المارةِ والعاهراتِ والصحف
يا وحيدة
وحيداً، أعلّقُ نهاري المبتلَّ على مسمارِ الحائطِ
وأجلسُ أمام المدفأةِ
أجفّفُ ثيابي وكآبتي، دونَ أنْ يطرفَ رمشي
أحتسي كوبي وأفكرُ بحياتي الأقل من زفرةِ قتيلٍ
والأطول من ليلِ أرملته
..............
........
"يالواشي عاد ارتاح
واضحك بالفراق
حسبالك اترجاك
ولحبك اشتاق"
يا أنوار عبد الوهاب
يا عباس سميسم
يا دنيا ميخائيل
هذه الأقدامُ لن تتركني أستريحُ على رصيفِ وطن
هذا القلمُ لن يجعلني أهدأُ يوماً على دفترٍ أو نهدٍ أو وسادةٍ
....
أتذكرهم في جنوبِ القطب:
علي الرماحي، حميد الزيدي، حسن مطلك، ضرغام هاشم، عبد الصاحب البرقعاوي، عبد الحيّ النفّاخ، حاكم محمد حسن، اسماعيل عيسى بكر، الكريمين: المرعبي والذبحاوي...
أيةُ دمعةٍ
تركوها على شفاهنا المشقّقة، لا تسقطُ أو تجفُّ
أيةُ حياةٍ مرّةٍ..!
نلوكها باشتهاءٍ أجوفٍ،
بعدَ كلِّ حَسْوَةٍ أو قصيدةٍ..
أشعلُ شموعهم في ليلِ منفاي
سائراً؛ والحنين ينبضُ بين ذراعيّ
يستطيلُ شوارعَ تأخذني إلى هناك
مختنقاً بأجراسي المبلّلةِ كجيشٍ عائدٍ من الحربِ
وعلى كتفيَّ الهزيلتين تعبرُ الأممُ والأكياسُ والطبول..
منحني الظهر بحقائبي الثقيلةِ،
أرنو إلى الأثداءِ المندلعةِ من الثيابِ الضيقةِ
أضغطُ على الأردافِ المكوّرةِ في زحامِ الباصاتِ
وعرقي يغسلُ الأرصفةَ
أدخلُ البارَ
أدفعُ كآبتي عبرَ البابِ
كما يدفعُ النادلُ سكيراً لمْ يدفعْ حسابَهُ
أحلامي بالشعرِ تخنقها الشعاراتُ
وأحلامي بالبحرِ يأكلها الصيادون
وأحلامي بالثورة تصادرها الأحزاب
"ماني صحت يمه أحا جاوين أهلنه
ولف الجهل بالدار، وابعد ضعنه"
ما منْ شظيةٍ لمْ تمرّ بأضلاعي
ما منْ حجرٍ أو كتابٍ
لمْ أمسحْ غبارَهُ بسعالي
ما منْ زنزانةٍ لمْ تدلقْ فضلاتها على ثيابي وذاكرتي
ما منْ ثورةٍ مهزومةٍ
إلاّ وعلى راياتها المنكّسةِ بعضٌ من دمي ورمادِ حروفي
....
أصغي لخرخشةِ أوراقِ القصائدِ في جيوبي
وأبتسمُ أمامَ المتسوّلِ
منذُ عقودٍ لمْ أكتبْ عن عِقْدٍ أو وردةٍ
لمْ ألعقْ نهداً بلساني
لمْ أشمّ رائحةَ نهرٍ بين ثيابي
"حمّلتوا يا أهلي بليل والولف غافي
أسهر وخلة ينام نوم العوافي"
أيُّ وطنٍ! – يا إلهي – هذا الذي يطفو على النفطِ والمجاعات..
وعلى الحضارات والانقلاباتِ!
أيُّ وطنٍ؛ لمْ نرَ منه سوى السياطِ والصفّارات!
ومع هذا..
ما منْ مقصلةٍ، تمنعني من أن أحتضنَ نخيلَه وأنام
ما منْ مجنـزرةٍ، تمنعني من التمرّغِ على عشبه الناحل
ما منْ مخبرٍ، يمنعني من البكاءِ على صدرِ أمي المتغضّن
ما منْ رقيبٍ،
يمنعني من تدوين عويلي..
ما دام في جيبي ورقٌ
وحبرٌ
وأرصفة
ويذكر ان الشاعر عدنان الصائغ ولد في مدينة الكوفة، في العراق، عام 1955. عمل في الصحف والمجلات العراقية والعربية. غادر العراق صيف 1993. وتنقل في بلدان عديدة، منها عمان وبيروت، حتى وصوله إلى السويد خريف 1996 ثم استقراره في لندن منذ منتصف 2004.