بات معروفاً أن تنظيم «القاعدة» يستغل المناطق التي تعاني من «ضعف أمني» وتراجع سيطرة الدولة لكي يفرض وجوده، ويمارس «ســـياسته». فعل ذلك في العراق واليمن ومنطقة الصحراء الأفريقية، وغالباً ما يقال إنه هــو الذي «حرّر» هذه المناطق.
في العراق التحق «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» بـ «المقاومة» بعد أكثر من سنة، وكانت أميركا أعلنت أنه أتى لمقاتلتها، واعتبرته الخطر الأكبر على رغم أن المقاومة العراقية كانت توجه إليها ضربات قوية، ولم يكن التنظيم قد وصل. وأظهرت أن الصراع في العراق صراع مع «تنظيم القاعدة» بالتحديد. ما فعله التنظيم هو تفجير صراع طائفي، حيث بدأ بتفجيرات ضد «الشيعة»، وبإعلان الحرب على «الشيعة الرافضة»، هذا أولاً ثم ثانياً، أعلن تأسيس دولة العراق الإسلامية في المناطق «السنّية» التي باتت تفرض سلطة جعلت «السنّة» يثورون ضدها، وأن تتحوّل بعض قوى المقاومة إلى «التحالف» مع الاحتلال للتخلص من عبئهم. وهو ما أدى إلى ضعف المقاومة و«انهيارها».
في سورية، ظهر اسم «جبهة النصرة» مع التفجيرات التي قامت بها السلطة في كفرسوسة بعد أشهر من الثورة، وكان متعارفاً عليه أن هذا الاسم يستخدم لتغطية هذه العمليات، ولكن بعد خمسة عشر شهراً من عمر الثورة بدأ الحديث عنها، وباتت تظهر الآن كأنها القوة الأولى والأهم. ولقد تموضعت خصوصاً في المناطق التي فرضت الثورة على السلطة التراجع عنها.
لا شك في أن هؤلاء «الجهاديين» لم يأتوا للنهب كما يفعل بعض من يقول إنه من «الجيش الحر»، وهم مدربون جيداً بعدما جرى تأهيلهم في باكستان لمواجهة السوفيات، وبعد ذلك للتوظيف في مناطق مختلفة في العالم. وكثيرون منهم يريدون «الجنة» فقط، وهم بسطاء يتلقنون الفتاوى من «شيوخ» ربما لا يعرفون من الدين شيئاً، ومن يتابع هذه الفتاوى يلمس مدى التحريف الذي قاموا به لكي يخدم توظيفاً سياسياً مباشراً. لكن كل ذلك ليس هو فقط «جبهة النصرة»، حيث يجب لمس مشروعها الذي جعل دور «تنظيم القاعدة» التي هي فرع منه يمارس ضد ما يقول إنه يسعى إليه، أو بالأدق يقال إنه يسعى إليه.
أول مسألة تظهر هنا أن المنطلق الذي يتأسس على أساسه الصراع الذي يخوضه هو منطلق «ديني»، أي الصراع في إطار الانقسامات في الدين وانطلاقاً من الدين. والدين هنا لا يعني الإسلام بل يعني منظوراً معيّناً له مصاغاً من قبل «فقهاء» سابقين عبر تفسير «فقهاء» راهنين. فيتلخص الإسلام كله في فرع ضيّق انعزالي ومتطرف، بالتالي لا يعود إسلاماً، ويتناقض في مفاصل أساسية مع الإسلام. فمثلاً ينقل عن ابن قيم الجوزية أنه قال إنه ما دام الدين عند الله الإسلام فيجب أن يكون الإسلام هو الدين على الأرض، الأمر الذي يجعل الأديان الأخرى موضوعة في باب الكفر، على رغم أن القرآن أقر كل أهل كتاب. وعلى رغم أن آية أخرى تؤكد أن من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
هنا، تصبح الأولوية تتحدد في الإسلام في مواجهة الأديان الأخرى. ثم يجري الانتقال لتأكيد أن «التفسير» الملتزم به من قبل هؤلاء اعتماداً على بعض الفقهاء، هو الإسلام الصحيح وليس من إسلام غيره. ليصبح الأمر هو: الالتزام بالفهم المطروح من قبل هؤلاء أو العقاب الشديد. وهذا يفتح على صراع كبير مع «السنّة» أنفسهم، لأنهم يساقون إلى ممارسة شديدة الضيق والتعصب والتخلف، بالتالي يتحدد الصراع هنا في «السلطة» التي تريد إدخال الشعب في بابها الضيق.
لكن ما يهيمن على الرؤية هنا هو تضخيم «الصراع التاريخي» ضد كل الفرق والشيع الإسلامية، خصوصاً «الشيعة الرافضة». فـ «التناقض الرئيــسي» هو هنا بالتحديد، والمعركة الرئيسة هي فــي هذا الباب، وليس في أي مكان آخر. هذا ما جعل معركتهم في العراق تنحصر في «قتال الشيعة»، وفرض سلطة متشددة على «السنّة» كفروا بها. وهذا ما يمارسونه أينما حلّوا، لأن «ثقافتهم» مبنية على هذه الخلطة من الأفكار، التي تخفي تحتها ميل شباب للهروب من جحيم الأرض إلى «جنة النعيم». والتركيب الذي تشكّل فيه هذا التنظيم يساعد على ذلك.
لهذا، هم لم يصارعوا احتلال العراق، ولم يأتوا إلى سورية لإسقاط نظام استبدادي مافيوي، وأصلاً ليست لديهم معرفة بالسياسة. فـ«المعركة» هي من أجل «نصرة السنّة»، ولكن السنّة الملخصين بهم بالتحديد، الأمر الذي يحوّلهم ضد السنّة كذلك. فيصبحون عنصر إرباك و«تخريب» في إطار الثورة، كما كانوا في إطار المقاومة العراقية.
ما يغري في «جبهة النصرة»، وما يجعل «نظرات الإعجاب» تتطاير تجاهها، ويدفع كثيراً من «النخب» للدفاع عنها ورفض حتى نقدها، هو أنها تمتلك الأسلحة الأفضل والمال، والقدرة العسكرية، و«عفة اليد». فلا شك في أنها لا تحتاج إلى المال لكي تسرق كما يفعل بعض المحسوبين على «الجيش الحر»، ولا هي في حاجة أصلاً، ولديها من يريد الذهاب سريعاً إلى الجنة، ما يجعل لديها جرأة الاقتحام (على رغم أن الشباب السوري فعل ذلك منذ البدء). ولكن، هل هذه «الصورة الوردية» كافية لكي تصبح خارج النقد والتدقيق في ماهيتها؟
ربما دفع عجز بعض النخب لأن تعوّض المطالبة بالتدخل الإمبريالي بعد أن توضّحت استحالته، بقوة «قادرة» على إسقاط السلطة وجدتها في «جبهة النصرة»، بالتالي بتجاهل لتجارب «تنظيم القاعدة» وغض النظر عن مشروعها. لكن النتيجة إذا نجحت «جبهة النصرة» هي عكس هذه «الإرادة»، لأن فعل الجبهة يفتت ويفكك ويدخل في صراعات «هامشية» توهن الصراع ضد السلطة، وتدفع أقساماً مهمة من الشعب إما إلى التمترس أكثر خلف السلطة، وإما إلى رفض الثورة أصلاً، أو الميل إلى الدفاع عن مناطقهم ضد سطوة الأصولية المفروضة كسلطة «دينية». ففي المناطق «المحررة» يتصاعد الصراع مع هذه السلطة التي باتت تتدخل في كل شيء بدل أن تقاتل النظام، وتعمل لفرض محاكمها «الشرعية» وقانونها الذي يجعل كل فرد في تناقض معها.
لا نريد أن نكتشف خطر هذه المجموعة بعد أن تحلّ الكارثة.