سُئِلتُ يوما: "ألا يمكن أن تكون في السلفيّة علامات إيجابيّة؟" أجبت: بَلى، يمكن، أن تكون فيها علامات مضيئة عندما تلقي عِصيّها وتترك سواطيرها وخناجرها التي تشهرها في وجه الشعب التونسيّ اليوم، ولم يألف ذلك منها ولا من غيرها، وعندما يقبَل السلفيّ أن تكون زوجته غير محجّبة ولا منقّبة، وعندما أرى المحجّبة والمنقّبة تتزوّج الواحدة منهما غير السلفيّ وغير المتديّن، وعندما أرى المرأة غير المحجّبة ولا المنقّبة تحبّ سلفيّا وتختاره زوجا ورفيقا، وعندما يعود السلفيّون إلى حضيرة المجتمع فيَزورون ويُزارون من غير جماعتهم، وعندما أراهم جميعا مع باقي أطياف المجتمع في الفضاءات العامّة وفي الشوارع وفي المناسبات والحفلات، ولمّا أرى السلفيّ يدافع عن حقّه في العلمانيّة..
حينها، فقط، أتيقّن من زوال عقدة العوْرة عن رفيقي، ومن أنّ هذا المجتمع التونسيّ صار حداثيّا متعدّدا وأنّ السلفيّة ظاهرة صحيّة تدعّم التنوّع والاختلاف والحريّة والديمقراطيّة. ولا أحد سيرتجف حين يمرّ بجانبه سلفيّ. السلفيّة ليست شرّا كلّها، وإن علق بها كثيره. هكذا أعتقد. السلفيّة واقع نعاينه لم نختره ولكنّه جاء إلينا، فأقام بيننا. وأعتقد أنّه علينا أن نتعامل معه.
لِم لا تستعيد الكتابة دورها الاجتماعيّ؟ إنّ لهذه اللحظة شروطها، وعلى الكاتب والمثقّف أن يؤدّيا دورهما الاجتماعيّ إلى جانب دورهما الإبداعيّ والفكريّ والثقافيّ. أعتقد أنّنا في حاجة إلى هذا الدّور اليوم. ألا نرى مجتمعنا مهدّدا بالعنف والانقسام والتعادي والتصادم بسبب "نظريّة التدافع"؟ فعلى الكتابة أن تستردّ دورها الاجتماعيّ المقاوم. من هنا كانت رسائلي2 هذه إلى "رفيقي السلفيّ" والتي غايتها الإشهاد والتّأريخ والنقد والحوار والحجاج والجدل.
هل لنا فضاء آخر نتعايش فيه غير فضاء المجتمع؟ وهل لنا وطن آخر نحبّه ونصونه ونفديه غير هذا الوطن؟ إذا تعثّر التواصل بيننا في المجتمع وحلّت القطيعة بين أبناء الوطن فسيكون للسّاسة الفضل الكبير في ذلك. ولكن لن يفلت الكاتب من المسؤوليّة أيضا. فلا وقت للفرجة.. لا وقت للحياد.. لا وقت للوقوف خلف النافذة.
من هنا كانت فكرة هذه الرسائل التي دأبت على كتابتها ونشرها على صفحتي بموقع التواصل الاجتماعيّ "فايسبوك" تحت عنوان "رسائل إلى رفيقي السلفيّ" (épȋtres à mon ami le Salafiste). فتوالدت في أقلّ من شهرين؛ من 18 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2012 إلى 13 ديسمبر/ كانون الأوّل 2012. ولم تتوقّف. ولم تهدأ. ولم تكلّ. وكانت كلّ رسالة تستدعي رفيقتها. وكلّ فكرة تنادي شقيقتها.
وفي الوقت نفسه، كان أصدقاء الرسائل يتزايدون ويتابعون ويحلّلون وينقدون ويعمّقون الأفكار ويوحون بغيرها ويقترحون، بل يطلبون. ولا يمكن أن أبخس أصدقائي وصديقاتي حقّهم عليّ ولا فضلهم على الرسائل. فقد شاركوني كتابتها بنقاشهم وتحفيزهم الذي لم يفتر أبدا. أذكر من بينهم خاصّة علياء رحيم والعربي بن ثاير ومصطفى الغريبي وليلى الحاج عمر وعبد اللطيف إدريسي ومرتضى العبيدي وثريّا بن ثاير وماهر عبد الرحمان وناجي الغربي وعبد الكريم بنحميدة وحاتم بن رجيبة والأمين البوعزيزي ولطفي المسعودي وابتسام خليل وكمال الصلعاني وكريم فارح ومصطفى العلوي وآسيا الحاج سالم وخليفة يحيى. وليعذرني كلّ من لم أذكر اسمه.
أعتقد أنّ تجربة الرسائل كانت ممارسة راقية للكتابة التشاركيّة التفاعليّة. فهل تمكّنّا من تحقيق هدفنا باستثمار فضاء التواصل الاجتماعيّ المفتوح فايسبوك بشكل مفيد؟
كما لابدّ من الإشارة إلى أنّي أعتقد أنّ رفاقي السلفيّين هم ورقة من ورقات الإسلام السياسيّ لتحقيق طموحاته الاستخلافيّة التي لم يُخفِها أبدا. وأنا لا أريد لرفيقي أن يكون ورقة في أيدي أيّ طرف كان! لذلك أرى أنّه علينا، نحن، العلمانيّين والديمقراطيّين والحداثيّين جميعا، أن نجد منفذا مفيدا نستردّ من خلاله رفاقنا السلفيّين وألاّ نتركهم نهبا للانتهازيّة السياسيّة. أعتقد أنّنا لم نختر الطريق الأصوب حين اكتفينا بالتشهير برفيقنا السّلفيّ وإدانته واستهجان سلوكه. فهذا يخدم الخصوم ويقدّم لهم خدمة مجّانيّة. فلكأنّنا رفضنا السلفيّين وقلنا لهم اذهبوا مع المجيّشين الطّامعين في الاستحواذ على السّلطة استحواذا نهائيّا. وأحذّر من أنّ رفيقي قد يسير في اتّجاه آخر لا نريده جميعا! ولعلّ عقال هذا الاتّجاه يفلت من الجميع بمن فيهم حلفاء رفيقي فتكون الطامة الكبرى!
صورة المشهد السياسيّ الاجتماعيّ في تونس هكذا أراها: الانتهازيّة السياسيّة بكلّ وجوهها تحرّض وتشحن، والسلفيّ ينفعل وينفّذ، ونحن نشتم وندين ونستفظع. ومع أنّي متيقّن من أنّ رفاقي السلفيّين نافذو البصيرة (Des Perspicaces) ثاقبو الفكر وإن تأجّل تعبيرهم عن ذلك، فإنّي أنبّه إلى أنّ سيناريو ماكرا لئيما يعدّ لهم. سيكونون حطب المعركة السياسيّة القادمة في تونس.
وعليّ أن أشير إلى أنّ السلفيّة ليست فقط في الشوارع بين الشباب الطيّب المستلب المدمغج أو المفتون بالموضة الوهّابيّة، وإنّما السلفيّة موجودة في صدارة المشهد السياسيّ التونسيّ. فنحن نرى الكثير من المسؤولين المتأسلفين من وزراء ونوّاب تأسيسي وقادة أحزاب. ونسمع خطاباتهم السلفيّة الوهّابيّة. ونرى حتى منشآت عموميّة تأسلفت وتوهّبت بتخطيط. وهذه ليست تونس!
أنا، إذن، أحاول أن أغيّر المنهج. والغاية هي استدراج رافضي السلفيّة إلى تغيير منهجهم في التعامل معها، بالدرجة الأولى، ولِم لا استدراج السلفيّين إلى ما لا يحبّه الخصوم حاملي مخطّط الهلال الإسلامي من اسطنبول إلى الرّباط، استدراجهم إلى ما نتقنه نحن؛ الحوار والتمدّن.
"رفيقي السّلفيّ" ليس ذاتا مدنيّة بعينها، بل هو ذات رمزيّة. هذا اختيار في الكتابة عبره تنقال الأفكار وتثار. ربّما أشعر ببعض العطف عليه. ولعلّي أتعامل معه أحيانا كشخصيّة أدبيّة. وهذا يعود إلى طبيعة النصّ/ الرّسالة. فهو ليس خطابا سياسيّا. وأذكر أنّ "غارسيا ماركيز" حدّثنا في مذكّراته أنّه بكى بحرقة يوم أنهى كتابة رواية "خريف البطريق". سألته زوجته "مرسيدس" وهي ترى دموعه المدرارة: هل مات الجنرال؟ أجابها: نعم، مع أنّ الجنرال يمثّل شخصيّة الحاكم العسكريّ الظالم الشرّير المستبدّ.
من وراء هذه الرّسائل، بحثت عن الدّرب الثالث.. الثالث المرفوع خارج دوائر الاستقطاب. عثرت على صيغة الرّسائل هذه، فهل تفيد؟ لعلّها تفيد. وإذا لم يهتمّ، أحد فيكفيني اللّهو مع الكلمات. أليس أفضل من اللهو مع أعداء الكلمات؟
إنّ منطلق هذه الرسائل هو الوعي بخطورة هذه المرحلة التي أرى فيها وطننا مشرّعا على الاحتمالات جميعها. وإنّ مفتاحها هو النّقد. ونقدي الذي أمارسه دائما هو النقد الإبداعي، وكنت قد كتبت فيه كتابا3. أمّا غاية الرسائل فهي توطين الحوار الاجتماعيّ السلميّ المدنيّ وتخفيف حدّة التوتّر والاستقطاب السياسيّ العنيف والتنبيه إلى خطورة اللعب بالنّار.. فإنّي أرى بِركا من الدماء..!
ولا يمكن أن أغلق هذه المقدّمة دون أن أعبّر عن بالغ شكري وامتناني وعرفاني لرفيقتي وسندي وقارئتي الأولى هاجر الحاج يحيى على صبرها عليّ وثقتها في قلمي، وللصديق الدكتور عزالدين النّاجح أستاذ التداوليّة اللسانيّة واللسانيّات النفسيّة بالجامعات التونسيّة على حماسه البالغ للرّسائل، أوّلاً، وعلى تشجيعه وتقديره لكاتبها، ثانياً، وعلى تجشّمه عناء مراجعة مخطوطها، ثالثاً، وعلى تفضّله بكتابة تقديم لها، رابعاً.
(عاشت تونس حداثيّة تقدميّة متنوّعة)
الهوامش
1- مصطفى القلعي، رسائل إلى رفيقي السّلفيّ، دار صامد للنشر والتوزيع، تونس، فيفري/ شباط 2013.
هي أربعون رسالة. ويقع الكتاب في 200 صفحة من الحجم المتوسّط.
2- مصطفى القلعي: النقد الإبـداعي، كتابة محاورة للمشهد الثـقافيّ العربيّ المعاصر، دار الورّاق للنشر والتوزيع، الأردن، ط 1، جانفي/ كانون الثاني 2013.
(كاتب من تونس)