ماذا يعني جبران في أدبنا العربي. الرجل الذي طالما أُخذ عليه انه لا يتقن العربية ولا يحسن سياستها حقق ثورة في الكتابة العربية، ثورة بمقدار ما تتسع العربية للثورات أو بمقدار ما تكونه ثورة في الكتاب العربية، غيّر جبران الأدب العربي وأنشأ كتابة جديدة، يمكننا أن نقابله بسابقيه ومعاصريه لنعرف أن جبران خليل جبران الذي لم يكن منطلقاً في الخطابة أو التفصح أو الجزالة. كتب بدون هذه جميعاً، أي أنه لم يبن للكلام طابقاً صوتياً يعلوه ولم يترك الكلام يتمحك ويتحنك من حاله ولم يقم له ديباجة خاصة ولم يطلقه على رسله ولم يهتم بالطنين والرنين الصوتين ولم يطلب الدوي ولا الترسل والتفنن ولا الاستطراد البلاغي. سعى جبران ليكتب ما يمكن أن نسميه كتابة طبيعية، أي كتابة بلاغتها وإيقاعاتها وتراكيبها لا ترزح فوق القول ولا تفتعله ولا تتخطاه. إنه الكلام الذي لا يخطب، أي لا يحقن الكلام بقوة صوتية ويلغمه من الداخل، ليس هناك طبول في أدب جبران ولكن ليس هناك أيضاً طبول جوفاء ترخم الكلام وتفخمه.
ليس هناك أيضاً مطارق ولا صنوج، الأرجح أن ما استطاع جبران أن يفعله هو محاكاة بين طبقات النفس وطبقات الكلام، محاكاة تخرج منها بأن يلامس الكلام الصوت والإيقاع ويبدوان معاً ثنائياً متكاملاً فنسمع إيقاع الكلام ونبرة وداخليته ولحنه في آن معاً. لما كان الأسلوب الجبراني يظل قيد الاعتراف ويظل في البوح، أي أن الكلام يفرج عما تكتبه النفس وعما يخامرها في داخلها، فإن الإيقاع هو أيضاً إيقاع البوح والاعتراف، إيقاع مخاطبة ومساره وبث وإفصاح وتفريج، أي أن الكلام ينهض بالعزلة والانفراد والتسار. يمكن أن ننسب لجبران أن شاعريته هي هنا، هي في هذا الكلام الذي يبوح من طبقة غائرة في النفس. هي في هذا الكلام الذي هو صوت النفس ونبرها وإيقاعها. صوت هادئ خفيف متساوق متسق دافئ ترجيعي لاهف يتقطر مشاعر. لنقل أن الصوت الذي يسمع بها الشخص نفسه ويكلم نفسه ويحاورها. لنقل أن هذا الكلام لا شبه له في العربية. قد نجد في كتابات التوحيدي معاناة شبيهة وقد نجد لدى الرجل يأساً أكبر واحباطاً أكبر ولقمة أكبر لكن أدب التوحيدي يقول ما يقوله بلسان الحقيقة وبعنف الواقع. التوحيدي الأديب الكبير لم يعثر على ما عثر عليه جبران أي ما نسميه شاعرية النفس. التوحيدي يكاد ينفجر وهو يلقي شواظيه وحممه ونيران غضبه وسخطه ونقمته. أما جبران فله في كلامه مع نفسه صعيد آخر. إنه في حوار مع نفسه إنه في كلام دافئ رقيق حالم شفاف الغموض شفاف الخيال، إنها النفس وقد وجدت كلامها ووجدت إيقاعها ووجدت رجعها ووجدت تلهفها ووجدت لغتها وبلاغتها وصورها، أي أنها النفس وقد وجدت شعريتها، لنقل أن أدب جبران هو شعرية النفس وهذه شعرية لم يكن لها من قبل نظير في الأدب العربي فهذا الحديث الداخلي الهادئ الشفاف الموقع المسترسل الحنون الخالي من التفصح والتحنك والدوي والفحولة والجزالة هو ما لا نظير له في الأدب العربي، فجبران يعثر على طبقة من النفس شفيفة وغائرة، عميقة وظاهرة، وجبران يعثر على طبقة من النفس لها رجعها ومداها ومساحتها وتساوقها واسترسالها، انه يعثر على طبقة يمشي على مدها وصعيدها، أي انه يجد هذه الطبقة ويجد كلاماً وهمساً وبثاً وبلاغة وإيقاعاً وخيالاً ناعما وغموضا جذاباً وشفافية موحية، أي انها يعثر على منطقة من الإيحاء والنبض والتكوكب والسريان والمخيلة. هي هذه المنطقة التي نسميها تجاوزاً شاعرية النفس.
لكن ماذا يكون الشعر إن لم يكن هكذا. ليس الغضب والاحتداد والعنف اللفظي هي الشعر، قد يكون الشعر تماماً نقيض ذلك. قد يكون الصراخ عكسه، لكن بدون أن نتأكد من ذلك، يخطر لنا أن الشعر نَفَس. أنه طبقة من الكلام ذات مدى وذات نفس وذات لحن. قد يجوز هنا أن نقول أن جبران خليل جبران شاعر وشاعر من نوع خاص في العربية، لا لأن جبران كان منذ البداية شاعر نثر، ولا لأن شعره في النثر يفوق شاعرية بكثير شعره في الوزن، بل قد يكون شعره في النثر دليلاً على أن شعرية النثر قد توازي شعرية الوزن. لا يمكننا أن نطلق على جبران إلا أنه شاعر. لقد سمي نفسه نبياً وحكيماً لأن الشاعر بالنسبة له لم يكن ليفترق كثيراً عن النبي، الاثنان يملكان ذات الاستشراف للحقيقة، والاثنان يملكان ذات النفاذ إلى ما بعد الواقع وبعد المرئي. لم يكن الشعر بالنسبة لجبران اختصاصاً وفنا للفن، لا بد أن الرجل الذي قرأ نيتشه وولت ويتمان والشعر الانكليزي الرومانطيقي كان يقرن الشعر بالاحتجاج، بل كان يقرن الشعر بالحياة. الشعر بالنسبة له كان في الغالب، سواء التزم بذلك أم لم يلتزم، طريقة حياة، بل كان بالتأكيد استشرافاً للحقيقة وإذا كان الشعر هو هكذا بالنسبة لجبران، جاز لنا أن نعدّ أقاصيصه وعوامله ورمله وزبده وبالأخص نبيه، جاز لنا أن نعد هذه جميعها شعراً، قد لا نعتبرها قصائد وقد لا نعدها قصائد لكنها طالعة من باب للمعرفة هو باب الشعر. لنقل أن الشعر كان بالنسبة لجبران هو هذه المعرفة، هو هذه الروح.
يمكننا أن نتوقف قليلاً عند نبي جبران والأرجح أن عنوان النبي يأسر أكثر من الكتاب الذي حاكى فيه جبران نيتشه زارادشت. هذه المحاكاة لم تكن بلا معنى. لم يكن مصطفى جبران واعظاً ولم يكن مصلحاً، ولم يكن بالطبع ناسكاً. مصطفى جبران لم تكن بضاعته الموت وما بعد الحياة كما لما تكن بضاعته الزهد والنسك وهجر الحياة. نبي جبران كان محله هذا العالم لا ما بعده وكانت الحياة موضوعه لا ما بعد الحياة ولم يكن الموت موضوعه ولا ما بعد الموت، جبران في النبي كان جدله قائماً على تقديس العالم، العالم بكل ما فيه، بخيره وشره، بجشعه وفضائله، بقسوته وعنفه ومحبته، العالم بكل ما فيه، حتى الجريمة، يبدو مقدساً في نظر جبران. لا نجد بالطبع ميتافيزيقا في نبي جبران، بل لا نجد فيه أي خلطة روحية، نبي جبران يبشر بالواقع ويبشر بالحياة ويبشر بالعالم ولا نجد عنده سوى الواقع والعالم والحياة. في النبي ينتفي جبران عن الميتافيزيقي كما ينتفي من الروحاني، لقد أعاده بليك إلى نوع من تقديس الوجود بكل ما فيه لكن نيتشه جعله يحتفل بالعالم وبالواقع وبالرغبة.
يغضب جبران الأول، يغضب في كتبه العربية، بل هو في كتبه العربية يعظ ويحاكم ويقرر ويجزم ويصلح. لقد كان في هذه الكتب نوعاً من رومانطيقي انكليزي. رومانطيقي لا يمانع في ان يتمثل بالشيطان ولا يمانع في ان يحطم الهياكل وان يشهر برجال الدين لكن جبران الثاني لم يكن رجل غضب، بل رجل مفارقة، لقد جعلته قراءاته الثانية يمتلك تلك القدرة النافذة على السخرية. جعلته يرى المفارقة ويشعر أن هذه المفارقة هي صلب الرؤيا. هي مفتاح الفكرة وهي أيضاً باب الشعر وبالقدر نفسه المدخل إلى السخرية التي تجعل كل حقيقة مقلوبة وكل حقيقة سوداء، والتي تجعل من السخرية ملح الفكر وملح الرؤيا. هكذا يتحول جبران في نصوصه الانكليزية إلى نوع آخر من الشعر، إلى شعر هو في أساس لعبة الفكر وفي أساس الاختلال الكوني وفي أساس اللاتناسب الذي يعم الواقع، واللانسجام الذي هو لعبة الفكر.
(عن السفير)