تشتبك الكاتبة بنص الوصمة البشرية" لفليب روث، لتقيم حكايتها النقدية معه، تشير للمواضع الدلاليّة فيه، وتسلط الضوء على المسارب المؤدية للقول الروائي حول مجتمع يغرق شخوصه في تراجيديا الاستلاب الهوياتي حيث تتحكم بهم نمطية متعاليّة كما لو كانت القدر الإغريقي.

الوصمة البشرية

سحر عبد الله

من مقدمة الرواية المترجمة:

"أوديب: ما طقسُ التطهر كيف يؤدى؟
كريون: عن طريق نفي الإنسان، أو التكفير عن الدم بالدم"
(سوفوكليس، أوديب الملك)

 

لا أريدُ لهذه الرواية أن تنتهي كان لسانُ حالي منذ عشرة أيام وأكثر وأنا أقرأ رواية "الوصمة البشرية" لفيليب روث الملقب بشيخ الرواية الأمريكية الحديثة. لا أريدُ لهذه الحميمية السرية -أن تنقضي- والتي تشكلت منذ أول سطر مع شخصيات الكتاب، بخاصة البطلين الأساسين فيها كولمن سيلك وفونيا فيرلي.

كولمن سيلك الأكاديمي اللامع الشهير، مدرس الكلاسيكيات في كلية أثينا، والمولع بشكسبير وبالإغريقيات الكلاسيكية، يطوي حياته كلها سره الأهم والأوحد والذي بنى عليه سيرته العملية كلها، يطويه معه بعد أن يطلع فونيا الشاهد الوحيد على أيامه الأخيرة. ويموتان معاً مع السر.. سر أنه يهودي ملون (أو أسود) خمسون سنة من عمر كولمن سعى بكل حرفية الملاكم الذكي والتقني البارع أن يجعلها بقعة معتمة بالنسبة لزوجته وأولاده قاطعاً أي علاقة له مع أمه وإخوته. سيرة حياتين منفصلتين تماماً بناء على قناعة شكلها ربما بعد صدمة عاطفية أولى حين تركته الفتاة بعد أن تعرفت على أهله وعرفت أصله مسيحياً كرجل أبيض، الأمر المفارق والمؤلم الذي سيوصمه به أخوه والتر بأنه كان أبيضاً أكثر من البيض.

كولمن المتأثر بشخصية أبيه المتفردة، ذاك الأب المولع بدورهِ أيضاً بالكمال وبالدقة والأناقة، بلغة شكسبير والشعر والكلاسيكيات أيضاً. من يحرم على أولاده بأن ينادوا حتى الحيوانات بأوصاف محلية متل "بوبي ودوغي" بل عليهم أن يسموا الكلب ويحددون لونه وسلالته. الأب الهادئ الذي خسر تجارة مربحة لينحدر من صاحب محل بصريات محترم لبائع في عربة قطار، العربة التي سيسقط فيها يوماً ويموت.

يدور حوار مذهل في دراميته وحزنه بين الابن كولمن وأمه المُحبة، الممرضة العصامية التي شقت مجدها المهني بعرقها وجهدها وتميزها، لتصبح أول رئيسة ممرضات ملونة بتاريخ المشفى. تقول له الأم سأفعل يا كولمن كل ما تريده مني، سأزورك إن أردت كجليسة أطفال سأقبلُ أولادك كما تريد، وإن طلبت مني أن أوافيك في حديقة ما في زمن ما لأشاهدك فقط، وأنت تصطحب أولادك للحديقة لأراهم فقط يلعبون سأفعل، لكن هل ستفعل أنت ذلك يا عزيزي كولمن؟

كولمن الذي حرق أوراق سيرته وماضيه كلها فعل ذلك قال لأمه المنكسرة والمكسورة بابنها: "أريد أن تنسِ أن لك ابناَ". ويغادر.

الأم التي سيقتلها هذا الانسلاخ أكثر من أي شيء في حياتها، تبقى أسيرة صور كولمن الطفل، الفتى، الملاكم الهاو الشديد الشبه بأبيه بكل شيء بالتصميم وبالدقة بالذكاء الخ إلا في أمر واحد لا يشبهه وهو التمسك بالأسرة، بل ناقضه بشكل مغرق في التطرف والألم. انسلخ عن الأسرة. تقول الأم بألم "كنتَ رافضاً وعنيداً في كل شيء منذ طفولتك يا عزيزي، حتى أنك لم تقبل الرضاعة من صدري".

وكما العُقد الدرامية الشكسبيرية التي لا بُد أن يكون لها موازِ في الحياة، كولمن الذي قصمت العنصرية روحه باكراً، فشق طريقه كما ارتأى، لمعَ كما أراد وتمنى بل وصل لأكثر ما توقع له والدهُ. أصبحَ عميدَ الكلية الفذّ، الشخص الذي لا يمكن أن لا يُحدِث تغيراً حوله في المكان والبشر. سيعينُ كولمن أول شخص أسود في القسم ليصبحَ محاضراً، الدكتور كولمن هذا سيستقيل من الكلية ويترك مجداً هائلاً لأنه تم الإيقاع به زوراً بأنه عنصري؟ أي سُخف وهراء؟ يتذمر كولمن.. مخاطباً زملاؤه في الجامعة والأصدقاء وأسرته. أيعقل أن تتم محاكمتي باتهام طالبين بأنهما شبحين، كانت عبارة أشباح أو spooks ـتعبير له دلالة عنصرية وخاصة للزنوج؟؟ لقد قلت ذلك لأني لم أرهما منذ بداية الفصل ، كيف لي أن أعرف أنهما شخصان أسودان أو زنجيان؟ كولمن المطعون بأعمق نقطة في روحه، النقطة، التي وازت حياته وكبريائه الذي لا يُمس، يستقيل كي يحفظ ذاك الكبرياء لنفسه على الأقل، ولمن يصدق حكايته.

يا للمفارقة سيتسقيل البروفسور كولمن لتستلم منصبه أكثر النساء غيرة منه ونقمة، دولفين روكس الفرنسية المثقفة، خريجة أرفع مدراس فرنسا الأدبية، سليلة العائلة الأرستقراطية التي كرهتها وقررت هي بنفسها التمرد والهجرة لأمريكا فهي كشخص تم تلميعه وتمريره عبر مطهر الثقافة الفرنسية لا تقبل أن تكون أقل تمرداً من كاتبها المفضل كونديرا. هي أكبر من تلك القيود والتأطيرات ستذهب إلى أمريكا لتصنع مجدها بيدها. فرنسية شابة بسيرة ذاتية مؤثرة، مفارقة ثانية. كولمن هو من قبل أوراق اعتماد دولفن في الجامعة. دولفن الآن هي من يراجع أوراق اتهام كولمن بأنه عنصري. كولمن الذي لم ير فيها أكثر من فتاة زائدة الثقة بالنفس تتعالى على إظهار شفغها الجنسي به. سيكون من الممتع قبولها في أثينا.

هذا المنعطف الخطر في حياة كولمن سيكون ثمنه باهظاً. ستموت زوجته بجلطة. ليعتبر كولمن بأن موتها كان قتلاً صريحاً من الجامعة والمجتمع. أيةُ مهانة؟ يصرخ كولمن عبر مقاطع كثيرة في الرواية، قائلاً لجاره الكاتب "لقد قتلوا آيريس.. كانوا يودون قتلي لكنهم أصابوها بدلاُ عني". آيريس الفنانة الجريئة والمشاغبة والقوية، لم تجد شيئاً أكثر أهمية من أن تكون بجانب زوجها في محنته هذه رغم خلافاتهما الشديدة وتنقاضاتهما العميقة، فتقف معه حتى الموت. يقول كولمن لجاره: "يجب أن تكتب عني كتاباً، سيكون من السخيف أن أقول كل هذا عن نفسي".

في هذ الدوامة النفسية والعاطفية والاجتماعية، تظهر فونيا فيرلي، مزيجُ الملاك المُعذَب والشيطان المُنتقِم من كل شيء حتى نفسها، تظهرفي حياة كولمن لتصبح تعويض الحياة السابقة، التي حارب بكل طاقاته لأن ينجزها. سينسفها كولمن سيلك مع فونيا، ولأجل فونيا وبسببها. سيموت حتى مع فونيا، انتقاماً من مجتمع لا شيء فيه من الحياة إلا الدعاء والزيف والرياء. يقول كولمن في وصف عشيقته فونيا(ص315): "فونيا هي غير المتوقع. مضفورة شهوانياً مع غير المتوقع. والأعراف والتقاليد لا تُحتمل. المبادئ الحاسمة لا تُحتمل. التواصل مع جسدها هو الشيئ الأوحد، لا شيء أهم من ذلك، وصلابة استهزائها بكل شيء، متناقضة حتى النخاع. التواصل مع ذلك الالتزام بأن تخضع حياتي لحياتها ولنزواتها، لنزوات حياتها، تهربها من واجباتها، شذوذها، الاستمتاع بتلك الشهوة البدائية. خُذ مطرقة فونيا واضرب كُل الأشياء المؤبدة ، كل المسوغات الرفيعة وحطم كل شيء لتشق طريقك نحو الحرية. الحرية مم؟ من المجد الغبي في أن تكون على صواب. من المناداة التي لا تنتهي بالشرعي. الانقضاض على الحرية في الواحدة والسبعين، الحرية في أن تترك العمر ورائك- معروف أيضاً بهوس الجنس في الكبر". وقبل حلول الظلام، الكلمات الأخيرة في "في الموت في فينيسيا، العالم المصدوم الجدير بالاحترام استقبل أخيراً خبرَ موته" لا ليس عليه أن يحيا مثل شخصية تراجيدية على أي نحو"

فونيا الهاربة من شبح موت طفليها ومن زوج عصابي شبه مجنون من ضحايا جنود فيتنام العائدين للوطن والخاضعين لبرامج علاج هزلية مثيرة للغثيان، تتضمن إحدى مراحل العلاج ارتياد مطاعم آسيوين كي تتحرر عقلية الجنود العائدين من فيتنام من رُهاب الآسيوي. لس فيرلي يتهم فونيا بأنها سبب موت طفليهما باختناق ناجم عن حريق سخانة كهربائية. كانا يختنقان فيما تضاجع العاهرة، أي فونيا، عشيقها في السيارة. يهذي لس فيرلي: "قلتُ لنفسي: لماذا فقدتُ الشعور؟ قلتُ، لماذا لم أنقذهما؟ لماذا لم أقدر على إنقاذهما؟ ظللتُ أفكرُ في فيتنام في كل الأوقات. في كل الأوقات التي ظننتُ فيها أنني ميت. هكذا بدأتُ أعرف أنني لا أستطيع الموت. لأنني ميت بالفعل. لأنني متُ بالفعل في فيتنام. لأنني رجل ملعون ميت".

لم أكترث في تاريخ قرائاتي لتعريفات الرواية المتنوعة والمتعددة والتي على أية حال قد تؤطر وتضيق رحابة التلقي أكثر مما تساعد في مثل هذه الرواية "الوصمة البشرية" المعرفية بشكل أنيق غير مُبتذل من طرح أسماء ومدارس وأفكار باللغات والثقافات القديمة والحديثة يتدرج في مقاطع كثيرة لعرضٍ مختصرِ يخدمُ دلالاتِ ورودها بالنص وعلاقتها بالشخوص الأساسية ليمتد هذا الطرح من كلاسيكيات الإغريق لشكسبير وأدبيات عصر النهضة، الشعر الانكليزي والأمريكي مروراً أسماء علماء وأطباء معاصرين أيضاً.

الرواية الذاتية التي تنطلق من سيرة شخصية بحتة لترسم لوحة عريضة عامة لمجتمع يذوب في انحلال كليشهاته نفسها، وعلى الوجه المقابل والنقيض هي رواية عامة – رواية مجتمع – تفيض من ذوات شخوصها الذين يموتون عبر مشاهد الرواية من ميلادهم حتى دفهنم حقيقة كأموات في مقابرهم الضيقة، كيهود أو مسيحين.. لكلٍ صلاته.

بسخطِ هائل يعبر كولمن عن استيائه من المجتمع الذي عاش فيه كل هذه التناقضات التي كلفته حياته حين قرر أن يكون ما يريد: "قرن من الدمار لا يشبهه شيء آخر في هول واقعته وكارثيته على الجنس البشري- ملايين من الناس العاديين حٌكم عليهم بتحمل الحرمان فوق الحرمان، الوحشية فوق الوحشية، الشرور فوق الشرور. نصف العالم أو أكثر خضعوا للسادية المرضية بوصفها سياسة مجتمعية. المجتمعات كافة نُظمت وغُللت أعناقها بسلاسل الخوف من الاضطهاد العنيف، انحطاط حياة الفرد هُندس على نطاق لم يشهده التاريخ، الأمم تحللت واستعبدت بمجرمي الإيديولوجيا الذين سلبوا الشعوب كل شيء، الكتل السكانية أفقدت معنوياتها وبُتر الأمل فيها كيلا تكون قادة على النهوض من الفراش في الصباح بأدنى رغبة في مواجهة النهار. كل المحكات الشنيعة والمعايير البشعة حدثت مع هذا القرن وها هُم يحتجون بشدة على فونيا فيرلي".

أيها البشر الحمقى كونوا سعداء وكاملين، اتقنوا أقصى درجات الرياء والنفاق اغرقوا في الغائط الأخلاقي المتبذل والغير مكرر.

"الوصمة البشرية" رواية متاهة تنقلك من منعطف لمنعطف وكلما ظننت أنك وصلت تقذفك لبعيدٍ آخر بضربة حاسمة كضربات كولمن في حلبات الملاكمة للهواة، حيث كان يجهز على خصمه من حيث لا يتوقع، لتنتقل عبر كل شخصية لنقيضها أحياناً أو لمثيلها في أماكن أٌخرى.

من المهم القول بأن (المترجمة) الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت قد أبلت بلاء رائعاً في هذه الترجمة لكاتب مشهود له بصعوبة لغته حيث استخدم تقنيات متناقضة في هذه الرواية مزجت بين اللغة الرفيعة وبين اللغة العامية حيث وجدت المترجمة صعوبة لإيجاد مرادفات موجودة في القواميس الانكليزية البريطانية منها والأمريكية.

 

(كاتبة سورية)