يعود بنا الباحث العراقي، وهو يضع نظره على خرائب الحاضر، للحديث عن تفاصيل يصر المجتمع الدولي تجاهلها، وشكلت الكيفية التي مورست للتبرير الحرب على العراق، وتقنيعها بسلسلة من الأكاذيب والمصطلحات من مثل "الحرب الاستباقيّة" و"الحرب الوقائيّة".

حرب الخطيئة النازفة

مهنّد العزاوي

يتجاهل المجتمع الدولي ومنظومة الإعلام الغربي وبيوت الخبرة الأجنبية، جسامة حرب الخطيئة التي أقدمت عليها إدارتي بوش وبلير لغزو العراق، ويوصفها القانون الدولي بجريمة ضد الإنسانية وممارسة إرهاب القوة خارج إطار الشرعية الدولية بلا مبررات ومسوغات قانونية، وفاقت البصمات الرقمية البشرية والمالية تكاليف حروب القرن الماضي، وتسلقت تلك الخطيئة المرتبة الأولى في الوحشية والهمجية واللصوصية، وأشاعت الانتهاكات العابرة للقيم والقانون والإنسانية اجمع.

كان قرار غزو العراق خاطئ بكافة المقاييس وقد تخطى قيم الكلفة المردود وغامر بأمن العراق وشعبه والمنطقة وشعوبها، وجعل من العراق بلد ممزقا متخم بالمليشيات الطائفية وفرق الموت وتجار الحروب والطوائف وإقطاعيات السجون الوحشية، وأضحى شعبه وقوداً لتجارة الامن القومي الوحشية الوافدة مع الغزو، والتي تقتات على قانون الإرهاب المصنع أميركياً والموظف إيرانيا لبسط الهيمنة الشاملة على العراق، وتخطت ذلك لتزرع الفوضى النازفة في الجوار العربي الذي تلتهب رقعه بالتغلغل الطائفي الهدام للدولة ومؤسساتها.

حرب الخيار الخاطئ

تؤكد قواعد شن الحرب الدولية والتي تسمى حرب الضرورة ضمن فلسفة الحرب العادلة على أن تكون الدولة القائمة بالحرب في حالة الدفاع عن النفس، أو عند الاحتكاك العسكري، أو تطور المنازعات الحدودية لتماس حربي يتطلب الحسم، أو خروج دولة ما عن الشرعية الأمنية الدولية، أو ممارسة إرهاب القوة من قبل دولة مارقة، أي استخدم القوة خارج إطار الشرعية الدولية، أو عند غلق أحد الممرات البحرية والتي تعد أعالي البحار وتعيق التجارة الدولية والمصالح الاقتصادية، أو دعم دولة ما للإرهاب وتحكمها بتنظيمات إرهابية لتمارس البلطجة الامنية ضد دول بعينها وتتخطى المصالح الدولية، وجميع تلك المبررات لتنطبق على العراق ليكون مسرحاً لحرب الخطيئة التي انتهكت القانون والقيم والسياسية والحربية والإنسانية، ولعل أبرز المبررات الكاذبة لشن الحرب على العراق كانت امتلاك العراق اسلحة دمار شامل يستطيع استخدامها خلال 45 دقيقة من إصدار الأوامر.

صناعة الأكذوبة
روجت وسائل الاعلام الغربية والأميركية سيل من التصريحات ومقالات الرأي العام والبحوث الموجهة عن خطر امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ليهيكل الرأي العام الأميركي والدولي ويضلله عبر تضخيم التهديد، والمبالغة في شيطنة النوايا، والتأكيد على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل رغم نفي المختصين لوجودها، وقد وثقت أكثر من 66 تصريح رسمي لإدارة بوش وبلير تؤكد امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وفي محافل دولية ومحلية، وكان من المفترض وفقاً للعقلانية وخطورة شن الحرب أن يناقش ملف العراق دولياً ومن قبل دول دائمة العضوية ومؤسساتها العاملة، وأجهزة المخابرات والاستخبارات العتيدة مثل الـ سي أي ايه واف بي أي وآم 16 وفقا لثلاث محاور وهي:

حيازة السلاح
اذا ناقشنا عامل حيازة العراق لسلاح دمار شامل أو نووي كما اكدته ملفات المخابرات البريطانية ودائرة رئيس الحكومة طوني بلير عبر خبير التلاعب اليستر كمبل مسؤول الدعاية الشخصي لبلير ودعمته بقوة إدارة بوش ودوائر المخابرات المركزية الأميركية لشن الحرب، فلابد من قراءة واقعية للقرار المثير للجدل والعابر للعقل والمنطق، حيث أكد العراق عدم امتلاك سلاح نووي أو حتى نواه برنامج نووي، وكانت اسرائيل قد ضربت عام 1981 المفاعل النووي العراق بشكل منفرد ودمرته بالكامل واعترف العلماء العراقيين بذلك، وكان الوضع الاقتصادي العراقي فظل الحصار والتفتيش ما بعد 1991 ليمكن من أن يتقدم في ملف يحتاج إلى مليارات الدولارات لتكوينه، وليمكن لأي عاقل ان يجزم أو يشتبه بوجود برنامج نووي عراقي، وقد أرسل البيت الأبيض بعد اجتياح العراق فريقًا من ألف مفتش للبحث عن أسلحة الدمار الشامل إلا أنه أيضًا فشل في العثور على أي من هذه الأسلحة الممنوعة.

نشر هانز بليكس بعد الحرب كتابا تحت عنوان "العراق الأسلحة التي لا يمكن العثور عليها" دافع حتى النهاية عن ضرورة استمرار عمليات التفتيش في العراق وكان مفتشو الأمم المتحدة الذين كلفوا بالبحث عن أسلحة دمار شامل في العراق تحت إشراف الدبلوماسي السويدي السابق هانز بليكس بين نهاية 2002 وبداية 2003 دون أن يجدوا شيئا قط وعارض بليكس التدخل العسكري الذي أطلقه الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير في 21 مارس 2003 بذريعة اسلحة الدمار الشامل التي يفترض أنها كانت بحوزة الرئيس العراقي السابق صدام حسين

الاستطاعة الحربية
يناقش في قرار تجريد القوة مسالة الاستطاعة الحربية بعد أن يتحقق مبدأ الامتلاك ويثبت وجود السلاح حقاً لدى هذه الدولة، وفي العراق رغم عدم وجود أسلحة دمار شامل ومنظومة الحرب الأميركية تعلم ذلك، ولكن السياق العقلاني والبراغماتي يناقش هل يستطيع العراق استخدام تلك الأسلحة والجميع يعلم أن العراق لن يستطيع مكننة الحرب ونقل المتفجرات وتجزئة القدرة الحربية الاستراتيجية كقوة تستطيع الوصول الى العالم في ظل:

- الهيمنة والمراقبة الفضائية المستمرة على فضاء العراق طيلة عقد كامل

- المظلة الجوية الدائمة فوق سماء العراق من قبل طائرات التحالف

- تقطيع أوصال العراق بخطوط حضر الطيران شمال وجنوب العراق مما يجعل مساحات الاطلاق صعبة المناورة والتحضير والإطلاق

- خط الصدع الحربي المحاط بالعراق عبر البوارج والقطع البحرية التي تغطي العراق كهدف محتمل عند الضرورة القصوى.

- انشغال العراق بحروب العصابات التي تديرها إيران عبر حدودها.

- تشتت القدرة العسكرية العراقية إلى تنظيمات عسكرية بأسلحة خفيفة كبديل أمني عن الجيش العراقي المتخم بأسلحة معادة وقديمة لتواكب التطور الحربي العالمي.

- اكذوبة استخدام العراق لأسلحته خلال 45 دقيقة يعد ضرب من الخيال، ويرتقي للمزحة، وتسطيح لعقول الاخرين في ظل مراقبة العراق ليل نهار بأحدث الطائرات والأجهزة الالكترومعلوماتية، ومحاط بأساطيل وبوارج حربية، وقوات على حدوده، وسيادة جوية قل نظيرها بالتاريخ، وتستطيع أن تنقض على أي سلاح يعد للانطلاق في مرحلة التنقل وليس أثناء الانطلاق والتحضير وكم جردت من أسلحة الدفاع الجوي.

- الحصار الاقتصادي الخانق.

- عدم تمويل الالة العسكرية لعقد كامل بعد عام 1991.

- هروب العلماء والنخب التخصصية لظروف المعيشة القاهرة وكذلك الترغيب الغربي.

- الجيش العراقي من جيوش العالم الثالث ولم يرتقي الى مصاف الجيوش الذكية أو جيوش العالم الأول ليكون تهديداً خصوصاً بعد تجريفه عام 1991.

النوايا السياسية
لمعرفة النوايا السياسية بشكل واضح تجدها في الاستراتيجية الشاملة للدولة، ويمكن الاستدلال عليها من شكل النظام والخطاب السياسي والسلوكيات المعتمدة على الاستطاعة الحربية، ولم ينوي العراق استخدام القوة المنهكة بالحروب مرة اخرى بعد اجتياح الكويت وإخراجه منها بالقوة العسكرية، وقد دفع فاتورة تلك الخطيئة السياسية والعسكرية أضعافاً مضاعفة وليزال، ويمكن أن يبرر قانون الحرب فلسفة "الحرب الاستباقية" التي تمنع حدوث خطر وشيك الحصول، ويختلف معه الكثير لأنه يبرر إشاعة ثقافة الحروب وعدم قراءة الردع على أساس الرسائل الصلبة، إذن كيف يقدم بوش وبلير بفلسفة جديدة ضمن ما أطلق عليه ريتشارد هاس حرب الخيار الخاطئ على غزو العراق، باستخدام مصطلح "الحرب الوقائية" الذي لم ينظر لها عسكرياً إلا في عقلية بوش الباحثة عن حرب ليحقق نصراً وهمياً يعزز مكانته في البيت الابيض، بعد أن فاز بالرئاسة بشكل مثير للجدل وبنسبة متدنية، وبالتالي حتى مع شيطنة النظام العراقي ورئيسه فإن نواياه لن تتحقق في ظل فقدان عاملي الحيازة للسلاح والاستطاعة الحربية وبذلك لا مبرر لتضخيم التهديد والمبالغة في التأثير على زعم نوايا لم تتحقق بالأصل.

تخطى قرار الغزو الخاطئ كافة المحاذير الاستراتيجية لما يتمتع به العراق من مزايا وخصائص تتعلق بالأمن والسلم الدولي، ومكانته في معادلة التوازن من جهة، ودوره في التوازن العربي الاقليمي من جهة اخرى، وفي جرد سريع لكلفة الحرب التي أرهقت الاقتصاد العالمي وأنهكت الاقتصاد الاميركي بـ 2.2 تريليون دولار حسب آخر دراسة أميركية والخسائر البشرية وإنهاك القدرة العسكرية وظهور لاعبين جدد على المسرح الدولي مع المردود السياسي والاقتصادي والأمني والمعنوي للعالم والولايات المتحدة، سنجد أن قرار غزو العراق "خطيئة استراتيجية" يمكن وصفها بحرب المغامرة العابرة للنسق الدولي والقيم القانونية والإنسانية، نعم إنها الخطيئة التي يرفض الجميع الاعتراف بها ويجعلهم يمارسون الهروب إلى الأمام تارة بالتعتيم والتضليل الإعلامي، وتارة أخرى بتجاهل مضاعفات الخطيئة الزاحفة إلى الجوار العربي والتي تنذر بانتشار الظواهر الطائفية المسلحة وهدم الدول وصعود الطائفية المسلحة إلى السلطة وارتكابها الفضائع بمباركة دولية كي لا يعترفوا بالخطيئة النازفة.

 

(كاتب عربي من العراق)