هل كان بإمكان حراك الشارع العربي أن ينجحَ، في بعض بلدان الربيع العربي، في إسقاط أنظمتها لولا التدخلُ الأجنبي؟ وهل كان بإمكان قادة تلك البلدان المَعْنيين بذلك الحراك التخلي عن كرسي الرئاسة، أمام إصرار شعوبها على رحيلهم، دون حاجة إلى ضغط خارجي؟ وهل العاملُ الخارجي هو الذي حسم في أمْر إسقاط أنظمة الاستبداد في بعض بلاد الربيع؟ تلك جملة من الأسئلة التي أثير حولها نقاش واسع بين المتتبِّعين والمحللين، داخل الوطن العربي وخارجه كذلك، وكانت إجاباتهم عنها غير متطابقة، مع ملاحَظة أن أكثرها متفقٌ على الإقرار بدور التدخل الأجنبي في إسقاط الأنظمة المُطاح بها في المنطقة العربية مؤخراً، وهي الفكرة التي نؤيّدها نحن، كذلك، استناداً إلى وقائع وحقائق عدة.
لم يكن يَتصوّر أحدٌ منّا أن يُبادر رئيسٌ من رؤساء العرب، الذين أُسْقِطوا مِنْ على كراسيهم التي ألِفوها عقوداً من الزمن، بالتخلي عن ذاك المنصب، بطريقة هادئة سلمية، أمام توالي الاحتجاجات الجماهيرية التي جعلت من إسقاط أنظمتهم غايتها الأساس؛ لأنهم، عَملياً، لم يؤمنوا بمبادئ الديمقراطية، ولم يتشبّعوا بقيَمها المُثلى؛ من قبيل احترام الإرداة الشعبية بإقامة انتخابات نزيهة بعيداً عن التزوير، والتداوُل السلمي على السلطة، وقبول الانتقاد البَنّاء. لذا، لم تكن الاستحقاقات المنظَّمة، على عهدهم، تمر في أجواء ديمقراطية لكثرة ما يشوبها من تزوير لإرادة الناخبين، ومن سُلوكيات أخرى لا تمتُّ إلى الديمقراطية بصِلةٍ بقدر ما تكرّس الاستبداد والتسلط والفساد... بل كان النظام القائم يبيح لنفسه رُكوب كل الوسائل لإقرار النتيجة المرسومة سَلفاً، وبذلك لم تكن العملية الانتخابية سوى إجراء شكلي للإيهام بكونه سائراً في مسار العملية الديمقراطية، مع ما يوفره له ذلك من مكتَسبات مادية ومعنوية. وتجرّأت بعض الأنظمة على المِساس بنصوص دساتيرها بما يضْمن لرأس النظام الترشُّح – وبالتالي الفوز – لولاية رئاسية أخرى، والاستمرار في التربُّع على كرسي الرئاسة إلى حين مغادرته إلى مثواه الأخير. وعمل بعضها كلّ ما وَسِعها الجهد لتوريث العرش ونقله من الأب إلى الابن وَفق إجراءات وترتيبات جرى الإعدادُ لها، بتواطؤ مع أطراف أخرى... لهذه الأسباب، كان صعباً – بل مُستحيلاً – قبول الرئيس ترْك منصبه، بعدما ألفه و"رَبّى عليه كَبِدَه"، وقبول انتقاله من أسرته إلى أيٍّ كان، علماً بأنه لم يأتِ إلى منصبه ذاك، ولم يخلد فيه، بطريقة ديمقراطية، بل إن أكثر أولئك الرؤساء جاءوا إلى الحُكم بانقلابات ودسائس! وكان تشبُّثهم بأهداب السلطة غريباً؛ بحيث إن منهم مَنْ أبدى الاستعداد لتصفية كل المعارِضين المُناوئين، ولتحويل البلد إلى "جَمْر" نظيرَ استمراره في الزعامة والقيادة، متعلِّلاً بما قدّمه من خِدْمات وتضحيات لتحرير الوطن وبنائه والرقي به، وبشرعيته لتولي منصبه ذاك! ونستحضر، في هذا السياق، معمر القذافي، الذي كان لا يتوانى في ترديد أنه "ملك ملوك إفريقيا، وعميد الحكام العرب"، وأنه – في الوقت نفسه – ليس رئيس دولة حتى يتخلى عن هذا المنصب الذي طالبه به الثوار، بل كان يعدّ نفسَه زعيم ثورة، وباني النهر الصناعي العظيم، ومهندس "الكتاب الأخضر". ولما خرج الليبيون، عن بكْرة أبيهم، يهتفون بإسقاط نظامه، جَنّ جنونُه، وحرّك أرْتالاً من الدّبّابات والطائرات والراجمات والجنود لدّكِّ بنغازي دَكّاً، ومحْوها مِنْ على الخريطة، ولو لم يُستدْعَ حلف الناتو، ولو لم يتدخلْ، سريعاً، لإيقاف ذلك الزحف الانتقامي لكان أمر بنغازي، والشرق الليبي عموماً، مختلفاً تماماً! فبفضل هذا التدخل، وبفضل الحظر الجوي المفروض على الطيران الحربي الذي كان القذافي متحكِّماً فيه، خفّت حِدّة تهديد النظام، وشلّت قدراته الحربية بصورة ملحوظة، وتقوَّت – بالمقابل – شوكة المعارضة والثوار، واتسعت دائرة الاحتجاج الشعبي إلى أن عمّت ليبيا كلَّها، بما في ذلك طرابلس. وهذه صورة واضحة عن أهمية الدور الحاسِم للقوات الأجنبية في إنجاح الثورة الليبية، وإنهاء فترة حكم الديكتاتور الراحل بعد أن ألقى عليه القبض، في وضْع مُزْرٍ للغاية، ثوار مصراتة!
ولا يَستبعد متتبِّعو الحراك الشعبي الذي شهدته، مؤخراً، بلدان تونس ومصر واليمن حضورَ أيادي قوات خارجية، إقليمية ودولية، في إنهاء الأنظمة فيها عبر الضغط عليها بطرق مختلفة. ففي تونس، لم يغادر بنعلي منصبه، فارّا إلى حيث يستقر الآن، إلا بعد تلقيه أوامرَ بالتخلي عن منصب الرئاسة سلمياً، قبل أن يجد نفسَه مُرْغَماً على ترْكه بتدخل مؤسسة الجيش أو أي جهة أخرى تملك السلطة لذلك، لاسيما وأن الدول الغربية، التي طالما أيّدته وأبْدَت رضاً عن سياسته وتوجهاته، طفِقت تغيّر موقفها – شيئاً فشيئاً – حين اتضح لها اتجاه مؤشر الصدام العنيف الحاصل بين الشعب والنظام الحاكم. وفي هذا المساق، أكد جون غيسنيل (المخابرات السرية الفرنسية) – في حوار مطوَّل أجراه معه الصِّحافي آلان شويت، ونُشر عامَ 2011 في كتابٍ من 360 صفحة، بعنوان "في قلب المصالح السريّة: التهديد الإسلامي .. طرق خاطئة ومخاطر حقيقية" – أن أجهزة المخابرات والدوائر السياسية في الغرب كانت على عِلمٍ مسبّق بثوارت الربيع العربي، بما فيها ثورة الياسمين، ولكنها لم تُخْطر الأنظمة هناك بذلك؛ لأنها كانت ترغب في حصول تغييرات سياسية في المنطقة. ولم تنحَزْ، أيضاً، إلى صف تلك الأنظمة في صراعها مع شعوبها. ويستشهد على كلامه هذا بأن بلدان الربيع العربي عرفت، في أوقات مضت، حراكات وانتفاضات ومحاولات انقلابية جابهتها أنظمتها الاستبدادية بعنف منقطع النظير، ولم يتحرك الغرب وإعلامُه لإدانتها وإيقافها، بخلاف ما حدث اليوم. فقد شهدت تونس، مثلاً، كما يقول غيسنيل، أحداثاً دموية، تفوق حدة بعضها ما حصل في الربيع التونسي الأخير، خلال سنوات 1969 و1978 و1980 و1984، قمعتْها السلطات بوحشية، دون أن يتدخل الغرب لإيقافها.
ولم يختلف الحال كثيراً حِيال ما جرى في مصر، التي أجْبِر رئيسها السابق محمد حسني مبارك على التخلي عن السلطة، رغم ما صدر عنه من تهديدات وتطمينات ووُعود بالإصلاح وبتقديم تنازلات، ولكن الجماهير كانت قد قرّرت مواصلة النضال إلى أن يسْقط النظام والاستبداد. وما كان من القُوى الكبرى، في نهاية المطاف، إلا تأييد الثورة، ومطالبة الرئيس بترك منصبه سلمياً من خلال جملة تصريحات صدرت من واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم النافذة. وفي اليَمَن، أرغم رئيسه السابقُ على التوقيع على المبادرة الخليجية، وعلى تلبية أوامر الأطراف الخارجية المتدخلة، رغم طول مدة مراوَغاته وتلكؤاته غير المُجْدية أمام إلحاح الثوار على إسقاط نظامه مهما كان الثمن.
إذاً، من الحقائق المشتركة بين الثورات العربية، التي تمكّنت من الإطاحة بأنظمة الاستبداد فيها، كما يقول الباحث المصري جميل مطر، "أن دوراً أجنبياً كان موجوداً، أو حاول أن يكون موجوداً في عملية الانتقال في معظم الحالات. لا أذهب (والكلام دائماً لمطر) إلى حدّ تأييد الآراء التي تعتقد أن هذا الدور الأجنبي بدأت ممارسته قبل نُشوب هذه الثورة أو تلك، ولكني أقرأ في وثائق وتصريحات عديدة ما يؤكّد أن نية التدخل كانت قائمة، وبعضَ الترتيبات للانتقال كانت جاهزة. وأستطيع أن أقول إن هذه النية وتلك الجُهوزية هما من صَميم حقوق الدول العُظمى، التي دأبت على تقديم مََعُونات اقتصادية أو عسكرية، واعتبرت دائماً أن هذه المعونات، فضْلاً عن كونها في حد ذاتها نوعاً من التدخل المُحبّب والمرغوب في شؤون الدول المتلقّية للمعونات، فإنها أيضاً حافزٌ كافٍ للتدخل في أي وقت، ولو للمُحافظة على عائد هذه المعونات ومراقبة إنفاقها".
وليس بالضرورة أن يتخذ التدخل الأجنبي في ثورات الربيع العربي صورةً مباشرة؛ كما حصل في الحالة الليبيّة حين تدخلت طائرات حلف شمال الأطلسي ، وشرعت في قصْف مواقع قوات النظام، وتدمير آلياته الثقيلة، التي لم يكن بمقدور الثوار، ذوي الإمكانات الحربية المتواضعة، مواجهتها والتصدي لها. وإنما قد يتخذ صوراً أخرى غير مباشرة؛ من قبيل تدريب المحتجّين، في الثورات غير السلمية، وتوجيههم وإطْلاعهم على خطط النظام وتحرّكاته وتموْقُع آلياته، وتسليحهم بأنواع مختلفة من السلاح. ولعل هذا الضرْب من التدخل هوالمُراد بما أسْماه سميث (A. Smith) "اليد الخفيّة". يقول أحدُ النشطاء المغاربة مؤكّداً حضور هذه الأخيرة في الديناميات الثورية العربية الحالية: "ما وقع، ويقع، في عالمنا العربي من ديناميات احتجاجية لا تسقِط عنه فكرة "اليد الخفية". لكنّ المقصود ليس اليد الخفية المتحكمة، وإنما اليد الخفية كما سمّاها آدم سميث؛ أي التي تؤسس للقوانين، وتنسحب إلى الخلف، تاركةً الفرصة للدينامية بأنْ تطوّر ذاتها بذاتها، وتفرز بعدَ ذلك ما ينسجمُ مع إمكاناتها الذاتية الاجتماعية". (عزيز إدامين)
ومن نافلة القول تأكيد أمْر يبدو بديهياً جدّا في هذا الإطار، وهو أن تدخل الدول الغربية لا يكون مجّانياً، بل تحْكمه مصالحها الشخصية. وبقدر ما تكون مصالحها كبيرة في أي منطقة، ومكاسبُها المنتظرة مضمونة ووافرةً، تكون مبادرتها بالتدخل أسْرع؛ مثلما يحصل، تماماَ، حين تشعر بأن مصالحها هناك مهدّدة. ولعل هذا ما يفسّر، إلى حدّ ما، تدخلها في ليبيا الغنية بالنفط، الذي كان يتحكم في تسْويقه القذافي بمِزاجه المعروف، وعدم تحمُّسها، بالمقابل، للتدخل – بالصيغة نفسِها – في اليمن، رغم أنه كان مصدر تهديد لسُفنها ولوجودها هناك مراراً؛ لأنه – فيما يبدو – فقير مقارنة بليبيا، وأسفرت حساباتها عن أنّ ما تكسبه من تدخلها قد لا يوازي ما تخْسَره. والغرب، دائماً، يتعامل بمنطق الربح والخسارة في كل تحرُّكاته، ولا شيء يقدّمه لأبناء الأمة الإسلامية "رغبة في سواد عُيونهم"؛ كما يُقال. بل إنه حين يفعل ذلك، فلِمصْلحةٍ مضمونة بالنسبة إليه. وبقدر خسائره – وتكاد تكون مادية حصْراً – يكون حجْم الفاتورة التي على البلدان أداءَها في أعقاب انفراج الأزمة، ورحيل النظام. وشُعوب هذه المنطقة نفسُها واعيةٌ، تمامَ الوعي، بهذه الحقيقة. ولكنها لم تبادر بطلب ذلك التدخل المؤدّى عنه – أتحدّث هنا تحديداً عن حالة الثورة الليبية – إلا بعد اضطرارها إلى ذلك حين وجدت نفسها بين واحدٍ من خِياريْن؛ فإما أن ترضَخ وتطلب هذا الدعم، وإما أن تُجْهض ويتعرض متزَعِّموها والمُشاركون فيها لأقسى العقاب والفتك.
ويقرّ مفكِّرو الغرب ومثقفوه أن تدخلات قواتهم العسكرية، في أيٍّ من دول العالم، لا تكون مجّانية، ولا بداعي محبة شعبها محبةً خالصة لا تشوبها أطماع، بل تقترن بمصالحَ شخصيةٍ، وبثمار، على اختلاف ألوانها، ينتظر الغرب قِطافَها عاجلاً أم آجلاً، وإنْ حاول الظهور بمظهر مَنْ يتدخل لأغراض إنسانية. فهذا تودوروف (T. Todorov) يؤكد، في كتابه "Les ennemis intimes de la démocratie"، أنه "على امتداد التاريخ، استندت أغلب التدخلات العسكرية على هذه الحالة شبْه الأخلاقية. لكن يظهر أنها ميّزت خاصةً المسيحية السياسية الغربية. الخُطاطة ذاتُها: حين الفعل يُعْلنون عن مقاصدهم الكونية والأخلاقية؛ بحيث يتعلق الأمر بتحسين قدر الإنسانية، أو أحد جوانبه؛ ممّا يؤجّج الحَماسة، ويذلّل – بالتالي – كل العَراقيل من أجل تنفيذ مضامين مشروعهم... فتراتٌ بَعْدُ، سنة أو قرن، سنلاحِظ أن الهدف الذي يزْعم الكونية لم يكن واحداً، بل يناسب بالأحْرى المصالح الذاتية لمَنْ تبنَّوْه."
وبخُصوص الثورة السورية الجارية، التي لن تُحْسم بعدُ لصالح أي طرف، وإنْ كانت التقديرات ترجّح أنّ كِفّتها ستؤول، حتْماً، لصالح الثوار، لاسيما وأنّ بوادر تضعْضُع النظام الأسدي بدأت تلوح في الأفق. فبعد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من أوربا وأمريكا، وبعد إمْعانه في تجاهل طلبات الجامعة العربية والأمم المتحدة وباقي الجهات القاضية بإيقاف قتل المَدَنيين، وبعد انتقال الثورة السورية إلى طور العمل المسلّح، بدأت الدائرة تضيق حول نظام بشّار، رغم مبادراته المزعومة بالإصلاح التي لم تجد آذاناً صاغية لدى المحتجّين الذين لن يقبلوا بما دون إسقاطه ومقاضاة رموزه المتورِّطين في جرائم القتل والفساد والاستغلال البَشِع. الأمر الذي جعله يقدّم أقصى ما يستطيع من تنازلات، ويُبْدي الاستعداد لمناقشة كل القضايا مع المعارضة؛ بما فيها تلك المتعلقة بالرئيس، والتي كانت، فيما قبْلُ، خطّا أحمر! فقد أعلن قدري جميل؛ نائب رئيس الحكومة السورية، في لقائه بموسكو، مؤخراً، بوزير خارجية روسيا سيرغي لاﭬروﭫ، أن دمشق مستعدّة للجلوس إلى طاولة التفاوُض مع قوى المعارضة، لمناقشة كل المسائل العالقة بين طرفي الصراع في سوريا، دون استثناء؛ بما في ذلك استقالة مُحْتمَلة للرئيس بشار إذا أسْفر عنها التفاوض. وفي السياق نفسِه، قال علاء الدين بروجردي؛ رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، في تصريح صحافي، خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق حيث التقى عدداً من المسؤولين السوريين، بينهم بشار الأسد، إن الحُكومة السورية مستعدّة، مبدئياً، للاجتماع مع المعارضة، إنْ قبِلت وقبلت، كذلك، الدول الداعمة لها، لإيجاد مخْرج سياسي للأزمة السورية، تحت رعاية إيرانية! ولكن هيهات هيهات أن تقبل المعارضة بذلك بعد الحصيلة الثقيلة جدّا من الضحايا في صفوفها، وبعد أنْ شرّد النظام مئات الآلاف الذين اضطروا إلى مغادرة وطنهم ليكونوا لاجئين في دول الجِوار. إن المعارضة مصمِّمة على أن تمضيَ إلى نهاية الطريق في خيارها الثوري، وعلى أنْ تحقق كافة مطالبها التي لا تكاد تختلف عن مطالب باقي ثورات الربيع العربي.
من هنا، يتضح أن النظام السوري آخِذٌ في الترنُّح، وأن صبْر قواته بدأ ينفد (ونسجل، هنا، كثرة الضبّاط والجنود المنشقّين عنه طَوال الأشهر الماضية)، وأن انهياره نتيجة راجحة؛ كما يؤكد ذلك، أيضاً، كثيرون، وتظلّ المسألة مسألة توقيت فقط. ولولا الدعم الذي يُلاقيه ذلك النظام من أطراف معروفة لكان أمْره في "خَبَرِ كان" منذ مدة. كما أن الحلّ السياسي للأزمة السورية، التي تعد اليوم من أسْوإ الأزمات الإنسانية في العالم بأسْره؛ كما قال مارك بارتوليني مديرُ مكتب مساعدات الكوارث الخارجية في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، بات مُسْتعصياً وغير مرحَّب به من المعارضة الساعية، الآن، إلى توحيد صُفوفها في إطار حكومة موحّدة مؤهلة لقيادة المرحلة الانتقالية. والحلّ العسكري لإنهاءِ تلك الأزمة غير متحقّق بعْدُ؛ للـﭭيتو الروسي والصيني الداعم للنظام، ولعدم تحمس الأمريكان للدخول في مزيد من بُؤر التوتر في العالم، ولاعتباراتٍ أخرى ترتبط بها المصالح الأمريكية، علاوة على الملف النووي الإيراني. وثمة أطرافٌ أخرى تنادي بحظْر جوي على سوريا، وبإقامة منطقة عازلة على حدودها مع تركيا، وبدعْم قويّ للمعارضة المسلحة، دون استبعاد اللجوء إلى خيار التدخل العسكري إذا اقتضى الأمر ذلك. وما فتِئت هذه القوى تطالب بشّاراً بالرحيل، وبسحْب قوات الجيش والشّبّيحة من الشوارع، وتُحذره من مغبّة تصدير أزمته إلى دول الجوار، ولاسيما إلى جارته الغربية التي شهدت، في الآونة الأخيرة، اشتباكاتٍ بين مُوالين للنظام الأسدي ومؤيِّدين للثورَة، في طرابلس (باب التبّانة وجبل مُحْسن). وكانت مخاوفُ قد انتشرت مؤخراً بخصوص إمكان لجوء النظام إلى استخدام السلاح الكيماوي المَحْظور، ضد المحتجّين والمسلحين، إذا استشعر قرْبَ نهايته المحتومة. ومن المعلوم أنه يفقد السيطرة، الآن، على أجزاء مهمّة من التراب السوري، وأن قواتِه وكتائبَه المُدجّجة بشتى صُنوف السلاح والعتاد الحربي تكبّدت خسائرَ بالغةً على أيدي المعارضة، فيما يُعرف بـ"حرب الشوارع" أساساً. وانشقّ عن الجيش العربي السوري، كما ذكرْنا سابقاً، الآلاف من الجنود والضباط الذين شكّلوا ما يسمّى "الجيش السوري الحُرّ". وإن الاشتباكات بين هذا الأخير والجيش النظامي دائرةٌ في سوريا كلِّها، بل وفي دمشق نفسِها وأحيائها؛ ممّا يؤكّد أنه لا مكانَ آمِن هناك!
وأمام استعْصاء الحلّيْن السياسي والعسكري، إلى الآن، في سوريا، تحوّل هذا البلد – كما يقول فيصل جلول – إلى "مسْرح للاحتراب الأهلي بين السوريين من جهة، واختبار للقوة، من جهة أخرى، بين القوى الدولية والإقليمية من الصعْب التحكم بمفاعيله وتداعياته إذا ما أخذْنا بعين الاعتبار الصراع العربي – الإسرائيلي، والملفّ النووي الإيراني، وتطورات ما سُمي بالربيع العربي". ويظل الخاسر الأكبر، في هذه الحالة، سوريا نفسها بما ضاع، ويضيع، منها من طاقات وبنيات ومقدّرات وعلاقات، ثم جامعة الدول العربية التي فشلت في احتِواء الأزمة السورية وإيجاد مخْرج لها، ثم هيأة الأمم المتحدة التي لم تستطع، بعْد، اتخاذ قرار حاسم للتدخل قصْد إنهاء أزمة ذلك البلد العُضْوِ فيها، وأحدِ مؤسِّسي الجمعية العامة بعد الحرب العالمية الثانية.
إن الثورة السورية تتلقى اليومَ دعماً خارجياً من بلدان إقليمية وغير إقليمية عدة، سياسياً وإعلامياً ولوجستيكياً، ومنها دول دعت، صراحة، إلى تسليح المعارضة وتمكينها من وسائل مواجَهة النظام. وبالتالي، فهي لا تقاتل وحيدةً. بل إن ذلك الدعم مصدر صُمودها إلى الآن. ولكن يبدو أن الدعم المقدّم لها غير قادر على الإسراع بإنهاء الأزمة، وحلْحَلة النظام القائم، وأن التدخل العسكري – وتكون كلفة فاتورته أثقل – وَحْدَه الذي يستطيع تحقيق ذلك، وإنْ كان صَعْباً للغاية؛ كما يؤكد الجنرال عاموس يدلين، رئيسُ شعبة الاستخبارات العسكرية السابق ومديرُ معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي؛ لضَخامة عدد جنود الجيش العربي السوري، وامتلاكه ترْسانة أسلحةٍ متطورة جدّا اشتراها من حليفته ومُمَوِّنه بالسلاح: روسيا، وتوفُّره على مخزون مهمّ من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
ويرى بعض الباحثين والمتتبعين أن الأوربيين، بمُفردهم، غير قادرين على وضْع حدٍّ للأزمة الدائرة رَحَاها في سوريا، وأن الولايات المتحدة الأمريكية وَحْدها المؤهّلة لذلك، ولكنها ما زالت، إلى الآن، مترددة وغير متحمِّسة للتدخل عسكرياً في سوريا، لعدة اعتبارات مرتبطة بمصالحها، واكتفت بدعم المعارضة بصيَغ أخرى من غير التسليح. يقول فيْصَل جلول: "إذا كانت الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد المؤهَّل تقنياً لخَوْض حرب خارجية، وإذا كانت تمْتنع عن التدخل لأسبابٍ اقتصادية وانتخابية وجيواستراتيجية، فضلاً عن الخسائر التي يمكن أن تتأتّى عن ذلك، وإذا كانت قد حَصَرت مهمتها في الملفّ السوري بتدريب المُعارضين ودعْمهم في تركيا، فإن الرهان على ضُغوط أو تهديدات عسكرية أوربية يصبح غير ذي جَدْوى؛ لأن أوربا ما بَرِحَت نَمِراً من ورق في المجال العسكري، وبالتالي ليس بوُسْعها خَوْضَ حرب ناجحة في سوريا، ما يعني أن هجوم التيارات اليمينية على فرانسوا هولاند من باب المُزايَدات المحكومة بالسقف السياسي الفرنسي الداخلي". ومجمَلُ هذا الهجوم أن سلفَه نيكولا ساركوزي كان أجْرَأ حين بادر بالتدخل في ليبيا، إلى جانب حُلفائه في الناتو.
ولا ريب في أن هذا التدخل سيُكلّف سوريا ما بعد بشار ثمناً غالياً، لو حدث مستقبَلاً! لذا، نجدُ عدداً من التيارات السياسية السورية ترفض هذا التدخل. وهنا يحقّ لنا، جميعاً، التساؤل: ما الحل، إذاً، في ظل تمادي النظام السوري في التقتيل والتدمير، ورفض المعارضة أي تفاوُض معه ما دام بشار رئيساً للبلاد، وفشل الحل السياسي؟!
إن مثل هذا الرفض سَمِعْناه في حالات أخرى؛ كالحالة الليبية التي كان فيها معارضون للتدخل العسكري الغربي. ولا جدالَ في أن سبب هذا الرفض هو إدراكهم عواقبَ ذلك التدخل وتبِعاته وتكاليفه الجسيمة. ومهما كان الأمْر، فإنه يظل الخيار الوحيد المُمْكن أحياناً لتفادي "إبادة" قد يُقْدِم عليها النظام، في ظل عدم توازن القوة بين طرفي الصراع، ولتفادي سيناريوهات محتمَلة أكثر دَمَوية وتراجيدية! ولسْنا نقول إن التدخل الخارجي في بلدان الربيع العربي سيؤدي إلى إقامة الديمقراطية فيها .. أقصد الديمقراطية الحقيقية. فتجاربُ عديدةٌ سبقت تؤكد أن التدخل الغربي في الدول النامية والمتخلفة لم يُؤدِّ قطُّ إلى إقامة ديمقراطية، بقدْر ما كان عاملَ عرقلةٍ لها، سواء خلال مرحلة الحرب الباردة أو بعدها (مرحلة نظام القطْبيّة الأُحاديّة). فقد دعّمت الولايات المتحدة الأمريكية العسكريين للانقلاب على الحكومات الوطنية في بلدانهم، في عددٍ من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، ابتداءً من انقلاب الجنرال سوهارتو في أندونيسيا سنة 1965، وبينوتشي في الشيلي سنة 1973، وضياء الحقّ في باكستان سنة 1977، وغيرها من الانقلابات العسكرية، المدعومة أمريكياً، والتي لم تُفْضِ إلى بناء ديمُقراطياتٍ في تلك البلدان، بل ترتب عنها قيام أنظمة بوليسية مستبِدّة قمْعيّة تنضَح بالفساد. ومن الأمثلة الحديثة على استبعاد استهداف التدخل الغربي بناء الديمقرايطة في الأقطار المُتَدَخَّل فيها عسكرياً التجربةُ العراقية بعد 2003؛ ذلك بأن إعادة بناء الدولة ومؤسّساتها، في العراق ما بعد سقوط صدّام، والتي تمت تحت إشراف مباشر من "سلطة الائتلاف"، وبقيادة السفير الأمريكي بول بريمر، لم تؤدِّ إلى إقامة دولة ونظام ديمقراطييْن، كما وُعِد العراقيون قَبْلاً، بل إلى بناء سلطة على أساس نظام المُحاصَصَة الطائفية والعِرْقيّة. وقد سبق للِّسانيّ والمفكِّر الأمريكي، ذي الأصْل اليهودي، نوام تشومسكي (N. Chomsky) أنْ أكّد سَلبية أثر التدخل الأمريكي، في الدول الأخرى، على مسار بناء الديمقراطية، قائلاً: "حيثما كان تأثير الولايات المتحدة أقلّ، كان التقدّم على صعيد الديمقراطية أكبر".
وإذا كانت الكثرة الكاثرة تبالِغ، أحياناً، في تقدير حجْم التدخل الغربي ودوره الفاعل في إنجاح ثورات بعض بلدان الربيع العربي، فإنّ هناك مَنْ لا يروقه مثل هذا الرأي؛ لِما فيه من تبْخيسٍ ومن تقليلٍ لحجْم التضحيات التي قدّمها الثوار لإسقاط أنظمة الفساد والاستبداد في بلادهم، وتدشين مرحلة جديدة من الانتقال نحو الديمقراطية. يقول أحدُهم (وهو محمد العوني): "إن الادّعاء أنَّ ما يجري من تحوّل نحو الديمقراطية في العالم العربي مصْنوع في دوائر القرار الأمريكي والغربي هو اسْتِخفافٌ بحجم التضحيات التي قدمتها شعوبُ تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا... فنحنُ أمام دينامية ذاتية أصيلة منبعِثة من عُمْق المجتمعات العربية. ويمكن التصريحُ بأنّ الغرب اليومَ أخطأ في ما استثمره من ميزانيات من أجل هدفٍ لم يتحققْ، بل جاء بعكْس المَطلوب."