الذي لا شكّ فيه هو أنّ انهيار أنظمة الاستبداد في تونس ومصر وليبيا واليمن كان انتصارا عظيما لإرادة الشعوب. والذي لا شكّ فيه أيضا هو أنّ أيّا من تلك الأنظمة لم يهدّدَ وجودَها على نحو جدّي حزبٌ أو جماعة على امتداد عقود.. كانت تملك من أدوات البطش ما تدكّ به شجاعة هذا الحزب أو تلك الجماعة. والذي لا شكّ فيه أيضا هو أنّ حملات الاجتثاث التي طالتْ المعارضين بمختلف ألوانهم وتعدّد مشاربهم لم تهتزّ لها الجماهير العريضة بالغضب والاستنكار. وهذا أمر ينبغي استخلاص العِبر منه في هذه المرحلة غير العاديّة من تاريخ بلدان 'الربيع العربيّ'. ولكنّني أعتقد بأنّ العِبر لا تُستخلَصُ إلاّ متى ملك الفاعلون السياسيّون الجرأة الكافية للإجابة عن هذا السؤال: لِمَ نجحتْ قارورة بنزين التهمتْ حياة شابّ يدفع بعربة خضار للاسترزاق في إشعال فتيل الثورة التونسيّة ولم تنجح عذابات المساجين السياسيّين والتصفياتُ السياسيّة المجانيّة واغتصابُ النساء وخطابات التهييج سنين طويلة في حفز الشارع على الانتفاض على صمته وسلبيّته؟.
ثمّة بالتأكيد أزمة عميقة بين الشعب والمتحزّبين. وغير كافٍ القولُ لتبرئة الذمّة إنّ الاستبداد أفسد الحياة السياسيّة وأدخل الرعب في الوجدان الجماعيّ فانكفأ الناس عن الاشتغال بقضايا الشأن العامّ. هذا صحيح. فسياسات الاستبداد قطعتْ كلّ طريق أمام نشوء حالة سياسيّة تعدّديّة. ولذلك لم تستطع دولة الاستقلال في البلدان العربيّة منذ نصف قرن أو يزيد أنْ تُنتِجَ ثقافة سياسيّة مدنيّة وأن تستجلب مَناويل في الحكم خارج النمط 'الجملوكيّ' اللّقيط (للأمانة العبارة لسعد الدين ابراهيم). ولكنْ، ثمّة مسألةٌ غالبا ما يقع التعتيم عليها أثناء نقد الواقع السياسيّ العربيّ. وهي مكانة النخبة المثقّفة والأدوار التي كانت تنهض بها. وإسهاما في تجلية الأمر نقول: لم تتكوّن في هذا السياق التاريخيّ نخبة عضويّة تتبنّى مهمّات الدفاع عن قيم العدل والكرامة والحريّة. فالمثقّف العربيّ إجمالا لم يحترف الفعل الثقافيّ باعتباره فعلا تغييريّا. لا نقصد الأفراد. فثمّة بالتأكيد أسماء لامعة في دنيا النضال. وعدم الاعتراف لهؤلاء بالفضل أمر مُعيب. ما نعنيه هو غياب الانخراط الطوْعيّ والجماعيّ في اتّجاهات أو مدارس أو إيديولوجيّات تتزعّم عمليّات الاحتجاج وتقود الشارع وتنير الدروب.
استطاعت بلاطات السلاطين أن تشتريَ ذمّة الثقافة وأنْ تجعلها على أبوابها تحرس مقاماتها وتسبّح بحمدها. نقرأ لمفكّرين وجامعيّين مشهورين ومغمورين أدبيّات تذكّرنا بتاريخ أدب الملوك، ونشاهدهم في المناسبات الرسميّة على الأرائك مزهوّين بقربهم من السلطان. ونراهم يُكَرَّمون بالقلائد والنياشين. هو ذا 'العقل العالِم' حين يخسف بنفسه الأرض التي كان ينبغي ألاّ يبيعها مقابل منصب أو مال. وللتدقيق نقول: إنّ الغالب على هذا 'العقل العالِم' انتسابُه إلى ثقافة الأصل فيها أنّها عَلمانيّة ديمقراطيّة، ليبراليّة أو يساريّة. وههنا المفارقة. وههنا أيضا مركز محنةٍ من أشدّ محن المشهد الثقافيّ. قد تجد إنْ نقّبْتَ في أعماق هذه المفارقة تفسيرا: الدولة الوطنيّة وقد جاءت على أنقاض الاستعمار سعى زعماؤها إلى وصْلها بأنموذج الدولة القوميّة في أوروبّا وشدّها إلى بعض الأسس التي قامت عليها: القطع مع نظريّات الحكم التي سادتْ التاريخ العربيّ والإسلاميّ ونشر الوعود الكبرى حول التنمية والتقدّم والعقلانيّة وتحرير المرأة... ويبدو أنّ أعدادا عديدة ممّن تخرّجوا في الجامعات الأوروبّية وتأثّروا بمباهج الحياة العقليّة والسياسيّة هناك رأوا أنّ في دعمهم لحكّام الدولة الوطنيّة دعما لمسار التقدّم في بلدانهم. وحصل في البدايات نوع هو أشبه ما يكون بالشراكة بين الطرفيْن. غير أنّ الاتّجاه التسلّطي في الحكم وطغيان النفوذ الكاريزميّ على نفوذ المؤسّسة عمِلاَ على تحويل الشراكة إلى توظيف واستعباد. ولا ندري على وجه التحديد إنْ كان ذاك الجيل من المثقّفين العَلمانيّين الديمقراطيّين اللّيبراليّين واليساريّين قد رضي بالتوظيف واستطاب الخدمة في حِمَى السلطة أم أُكْرِهَ على البيعة والولاء، ولكنّنا نعلم علم اليقين أنّه تورّط وورّط: تورّط حين فكّ ارتباطه بالمبادئ التي رجع إلى بلاده يحلم بالترويج لها والدفاع عنها. فصار من 'الغشّاشين' يعرف الحقّ ولا يتّبعه، يشجّع على الباطل وينغمس في أوحاله. لقد وضع اللّبنة الأولى في مسار أزمة المثقّف الحداثيّ في التاريخ العربيّ المعاصر. ونَسَلَ من هذا الجيل نسلٌ سار على النهج الأوّل بل لعلّه تمادى أكثر فأكثر.. حتّى صدى الشعارات الآتية من تلك القيم ما عادتْ تعني له شيئا. وورّط البلاد وهي تتحسّس طريقا إلى التقدّم وبناء الإنسان الجديد في مهاوي التجديف بها نحو ثقافة الخنوع والتبعيّة والذلّ. كان يقايض على الصمت باستدراج الناس إلى مهرجانات التصفيق والنفاق. وانطفأت بسبب مباشر منه أو غير مباشر أحلامٌ عريضة في الحريّة والكرامة.
لم تتكوّن إذن نخبة تتحمّل مسؤوليّتها في تشييد المستقبل. ولذلك، لمّا هبّت الثورة خرجتْ من أجساد حَطّمها الاستبداد ومن حناجر ردّدتْ ما كان ينبغي للمثقّف أن يستبق غيره إلى ترديده. ردّدتْ شعارات تطالب بالحرّيّة والكرامة وبدحر الظلم والاستبداد. هتافاتُ الثورة أطاحتْ بالديماغوجيّين التعساء وبالمنظّرين للحاكم مدى الحياة وبالمتواطئين المحتالين ممّن يتخذون الثقافة حرفة في ولائم السلطان. ولا يمكن لمحلّل موضوعيّ إلاّ أنْ ينتبه إلى أنّ الثورة أدانت المثقّف العلمانيّ الديمقراطيّ اللّيبراليّ واليساريّ. أدانتْه قبل غيره أو دونه لأنّه كان، مُذْ كانت الدولة الوطنيّة، الجهةَ الحاملة للمشروع الحداثيّ والمكلّفة عبر إنابةٍ تاريخيّة بتحرير العقل والسلطة والمجتمع من المكبّلات. لكنّه لم يفعل. فقرّر الإنسان البسيط البعيد عن مدار المثقّف السلطانيّ أنْ يتحكّم في مصيره وإنْ بالتقرّب إلى الوطن بحرق الأجساد.
هذا المثقّف أدانته الثورة حين كانتْ ولم يكنْ رقما فيها. لقد ضيّع نفسه كما القيمَ التي ترنّم بها ذات يوم. وفي ما يُشْبه اللُّصوصيّةَ، ها نحن نراه يُسْرعُ إلى أرائك التلفزات منظّرا يصنع لنفسه دورا رساليّا وخطيبا ما حسبْنا أنّ لسانه الذي طواه في أعماق أعماق جوفه سيتمدّد طويلا طويلا يسرد على النظّارةِ دروسا في الفقه الدستوريّ وفي فنون الانتقال الديمقراطيّ وفي العدالة الانتقاليّة. ركب الموجة العالية دون طهارة من سيرة الصمت الجبان ومن خدمة السلطان وكأنّه يودّ أنْ يكون له في كلّ مقام مقال. ما كان بالتأكيد صانع المقام.. أيَّ مقام. كان مجرّد لاحق من جملة اللّواحق. والخوف كلّ الخوف أنْ ينجح في تسلّله إلى مراكز النفوذ فيعودَ إلى سيرته الأولى.
مأساة الأوطان لا تَعْظم بالاستبداد فقط، ولكنْ بـ'الشياطين الخُرْس' الذين لا يؤدّون أمانة المثقّف القدوة في الأوقات الصعبة: كلمة حقّ أمام سلطان جائر. لقد أخرجتِ الثورات العربيّة جحافلَ من المثقّفين من مَكامِنهم وجرّدْتهم من وظائفهم المهرجانيّة فاجتاحُوا على نحو مثير للشفقة ساحات جديدة لمهرجانات جديدة.
لَكَمْ تمنّيتُ أن أرى واحدا من هؤلاء المُجتاحين يملك قيراطا من الشجاعة فيعتذر باسم جماعته عن ملء مقعد من المقاعد الكثيرة التي يُدْعَونَ إليها اليوم بلا حساب. المثقّف الذي يسمح لنفسه بالعبور المجاني من مقام السلطان إلى مقام الثوّار ليس جديرا بالاحترام.
باحث واكاديمي تونسي عن (القدس العربي)