ترجع الكاتبة اللبنانية بالقارئ إلى لبنان في نهاية القرن التاسع عشر بدايات القرن العشرين متتبعة مصير بطلتها وردة المسلمة وعلاقة حبها المجنون ببشارة مدرسها المسيحي الفقير، وما عانته من عذاب في تشبثها بحبيبها ومحاولتها الهرب وسجنها. ومن خلالها حكايتها سنتعرف على تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة.

وَردة شاه (رواية)

رجـاء نعــمة

حكايا  المسافرين
إلى عالم رضية المشرّع على الحكايات، تدخل "وردة شاه"، لتسافر مع مربيتها في رحلات فريدة إلى بلدان بعيدة وتتوقف طويلاً في اسطنبول حيث كانت البداية. ففي منزل أحد الوجهاء تم اللقاء التاريخي بين جدها تاجر الحبوب "سيدي مدنات"، الآتي من بلاد القوقاز، وأبيها عزمي إسماعيل القادم من بيروت. ثم وبعد ذلك  توثقت الصلة بين الرجلين على نحو سمح للتاجر بأن يقول لصديقه السفير:

ـ طالت عزوبتك يا صاحب السعادة، هل ستمضي بقية عمرك في حداد على صاحبة العصمة، زوجتك؟ رحمها الله، لابد أنها كانت امرأة فاضلة. إنما آن الأوان كي تجدد حياتك. ما رأيك أن أزوجك ابنتي؟ شابة جميلة وابنة مدارس؟

ابتسم عزمي إسماعيل وقال لصاحبه:

ـ ولم تزوج ابنتك الشابة لكهل مثلي؟

ـ لمَ؟! لأطمئن عليها. منذ متى كان الشيب يعيب الرجال؟ وأين سأعثر لها على زوج مثل سعادتك؟ أحسن الهوانم تتمني أن تكون من نصيبها! ثم إنه ليس غريباً على أب مثلي أن يفكر بمستقبل ابنته. يأمل لها أن ترتبط بصاحب خلق كريم وتنعم بالرفاهية التي نشأت عليها. من الواضح أننا بدأنا نفقدها! منذ أن أخذ بعض الموتورين من الروس ينكلون بمسلمي القوقاز وأرواحنا وأملاكنا باتت عرضة للهلاك. وأنا، حين عمت الفوضى هربت أسرتي إلى حلب. ابنتي وعمتها كانتا في طريقهما إلينا، فلجأتا إلى منزل تاجر روسي نبيل الخلق لي به صلة عمل. ولما هدأت الأحوال أعادهما إلى اسطنبول.

وبتحبب سأل عزمي إسماعيل جليسه:

ـ لولا ظروف التنكيل والهجرة، هل كنت ستوافق على إعطائي ابنتك؟

ـ بالطبع أوافق! سيكون من حسن طالعها أن تصبح زوجة رجل مثل سعادتك. حين تقول له، سيدي وتاج رأسي، تخرج الكلمات من جوارح قلبها. ما أتعسها امرأة تتفوه بهذه العبارة من باب المراوغة!

ـ كلامك يا صديقي يثير الغرور، أدعو الله أن يجنبني إياه. لكن قل لي، هل ابنتك تشبهك في الخلقة والأخلاق؟

ـ تشبهني وتشبه أمها. حظك أيضاً يا سعادة السفير سيكون طيباً معها. فتاة مطيعة ونشأت في أفضل المدارس.

ثم، وبعد برهة صمت أضاف: "وأظن أنها جميلة".

وقال السفير:

ـ كما فهمت يا صديقي أن الخانم ابنتكم تعيش مع عمتها؟

ـ نعم. أختي، أنعم الله عليها بزوج ثري، لكنها لم تُرزق بأولاد. فاستأذنتني أن تجعل ابنتي وريثة لها تعيش معها وأنا وافقت. أرسلتها إلى المدرسة الألمانية في اسطنبول. لكنها، في الإجازات، تأتي بها إلينا. إن وجدت نفسك مهتماً يمكنك مقابلتها. اسمها بوران.

كان بإمكان سيدي مدنات أن يزوّج ابنته من دون أن تقابل الرجل الذي اختاره لها، شأن آباء كثيرين غيره. إنما في مثل هذه الظروف، كان من الصعب عليه أن يفعل. يكفي أنها ستنفصل عن وطن دبت فيه الفوضى وعائلة تشتت ولا أحد يعلم متى سيلتئم ثانية شملها. كما أن للقاء ضرورة أخرى. إن كان هو كأب معجباً بما لديه، فلا بد أن يتأكد أن ما لديه يُعجب السفير عزمي إسماعيل.

في شريط خيالها، الذى يزداد غواية بما ترويه المربية رضية، سترى وردة أمها بوران تتحضر لمقابلة عريسها، وعمتها تلبسها قميصاً أبيض هفهافاً وتنورة طويلة تبرز جمال قوامها. وعلى وجهها سترمي البرقع البني الشفاف الذي سيزيد عينيها النجلاوين فتنة. سترافقها العمة إلى صالة الاستقبال. ستدخل مضطربة وتجلس بجانب والدها، لا تجرؤ على النظر مباشرة إلى الزائر، وإن كانت بطريقتها الخجولة ستتمكن من رؤية وجهه. طالب اليد سيقع في سحرها منذ اللقاء الأول! تلزمه سنين طويلة لينسى حركة كفها الصغيرة وهي ترفع عن وجهها البرقع فيما هي تخفض رأسها إلى الأرض. نعم،  كشفت وجهها بناءً على طلب والدها، "فمن أحكام الإسلام، يا ابنتي، أن يرى الخاطب وجه عروسه". في تلك اللحظة تمنى السفير أن تغدو هذه الشابة من نصيبه.

من ناحيتها، ستنبهر
بوران بزوج المستقبل، في بذلته الأميرية ذات الصدر
المطرز والنياشين والبنطال الضيق. وسيدهشها سؤال لم تتحضر له، ألقاه عليها: رأيها في الزواج من رجل يكبرها، له أبناء وبنات؟

ورغم حيائها ستجيبه بما يرضي غروره ، فيتخذ في الحال قراره: لن يغادر هذا المنزل إلا بعد أن يطلب يد هذه الشابة التي فطنتها تضاهي جمالها. أياماً سيقرأ ووالدها "الفاتحة" وتغدو بوران رسمياً خطيبته. سيشهد منزل العمة بهجة الحركة التي كانت هذه تحلم  بها منذ مجيء ابنة أخيها. التاجرات الجوالات بالبقجة، اليهوديات منهن واليونانيات، تسامعن بالخبر، وتسابقن لعرض البضائع: مطرزات، حرائر وكتان. سيطلب عزمي إسماعيل من أشهر الصاغة أن يأتوا بما لديهم لتنتقي العروس ما تريد. وحين سألها عن أمنية تريد تحقيقها لم تتردد بالقول: زيارة "البازار الكبير". لطالما سمعت بهذا البازار الذي يتحدث بتاريخ اسطنبول والذي يضم مئات الشوارع والحواري، آلاف المتاجر، ويعمل فيه عشرات الآلاف من الحرفيين والتجار. وأخبرها والدها أن رحالة من صقلية جاء خصيصاً ليتعرف على كل زاوية في هذه السوق ويتوقف عند كل دكان ويتحادث مع كل رجل. أمضى سنتين يطوف في دروبه نهاراً ويدون ملاحظاته في الليل. كما لزمه سنة أخرى لكتابة مؤلف يليق بهذا الممر العظيم والأكثر أهمية في البلاد للتبادل بين الشرق والغرب. ولم ينس الرحالة أن يذكر في كتابه  التاجر "سيدي مدنات" الذي جعله يكتشف خبايا وزوايا ما كان سيكتشفها هو بمفرده. في شوارعه ذات القناطر البديعة، وتحت القباب المزخرفة تسير بوران الآن مع أبيها وعمتها. كيف لن تهوى الرجل الذي أخرجها من جدران العزوبة إلى رحاب الدنيا.

***

بعد أسابيع، باشرت الأسرة وصهرها السفر إلى بيروت. وبين باخرة في البحر وعربات في البر، لم يعرف المسافرون الملل. رسمياً، وبعد عقد القران، غدت بوران زوجة عزمي إسماعيل. يستقلان العربة التي خُصصت لهما والتي  تتيح نوافذها الزجاجية رؤية الخارج، والأب والعمة في عربة أخرى وخلفها تسير تلك المخصصة للأمتعة. سارت العربات طويلاً بين الأناضول وبلاد الشام. وخلال الرحلة كان السفير يشرح لعروسة أشياء، ويحدثها بذكريات وتجارب عاشها في تلك البلاد. نزلوا في محطات كثيرة وتوقفوا للمبيت في عدد من الفنادق. بوران وعمتها تتقاسمان الغرفة والعمة تتولى مسئولية المصاغ الذي ستلبسه ابنة أخيها يوم العرس والذي سيغدو ملكها مدى الحياة، تورثه بعد ذلك لابنة لها أو كنة، إن أذن الله بذلك.

العربة تتابع السير باتجاه حلب. عند تخومها اقترح الباشا المبيت في نُزل لتستريح العروس وتدخل على أمها وهي في أحسن حال. سيهمز السائق جوانب الأحصنة لتسرع. جلبة الخيل وقعقعة الحوافز ستلفت الأنظار وتجعل الناس يتساءلون، وهو يزف إليهم النبأ الذي في أول الأمر لم يفهموا منه شيئاً. ولولا تباشير وجهه، لأقلقهم أن يسمعوا بفتاة لا يعرفونها، هي ابنة المهاجر اليهم حديثاً سيدي مدنات. الجيران قبل أهل الدار علموا بالخبر. في دخول العروس قبيل المساء، كان كثيرون قد وقفوا على جانبي الطريق. وأطل آخرون من وراء الشبابيك والمشربيات لرؤية موكب مكوّن من أربع عربات، يقلّ ابنة التاجر الشركسي وعريسها. اثنتان منها تنبئان برفعة مستوى صاحبها، والأخريان بكرمه وقدرته على البذل.

الأم التي، في تلك الآونة، اعتادت شتى ضروب المفاجآت، أحست بأن طارق الباب يحمل هذه المرّة ما يدخل البهجة إلى القلب. مثل أن يكون سيّد البيت قد عاد. لكن الخيال، لم يشطح بها إلى ذاك الحد الذي ترى فيه ابنتها قادمة مع عريس لها مميّز! المفاجأة ستنسي العائلة مرارة الاقتلاع وتمضي فترة تسودها بهجة ظنوها غدت من تراثهم المنصرم.

***

في بيروت سيُقام العرس الكبير الذي ستنتقل بعده العروس إلي جناح الزوجية. دامت الاحتفالات ثلاثة أيام وثلاث ليال، بدّلت فيها العروس زيّاً بزي. في اليوم الأول لبست الفستان الذي ترتديه بنات التركمان يوم زفافهنّ وعلى رأسها وضعت "الطرطور". الفستان، كما يبدو لِوردة شاه في الصورة، مطرّز بخيوط تقول رضية إنّها من الحرير ذي الألوان، ومن الذهب والفضّة. في الصورة التي تقف فيها بوران، يبدو التطريز كاملاً ويُغطي الصدر حتى الخصر. "كردان" الذهب، الهنديّ الصنع، ينزل من رقبتها إلى منتصف صدرها، وعلى رأسها وحول الطرطور تضع التاج المرصّع باللؤلؤ والياقوت. عزمي إسماعيل في هذه الصورة يجلس على المقعد. الزيّ التركماني غريب وفاتن ورغم هذا تفضّل عليه وردة الفستان الأبيض الدانتيل الذي صُنع في فرنسا، والذي لبسته بوران ثالث أيام الفرح، ومعه عقداً وأقراطاً من الفلمنك، تزيدها فتنة لا تقلّ عن فتنة مَن تقف أمام صورة أمها تتفرّج.

قبيل مغادرتهم اسطنبول، الشيء الوحيد الذي طلبته بوران من الرجل الذي سيغدو زوجها، هو أن تأخذ معها خادمة من بني جنسها. كلام نقله أبوها إلى صهر المستقبل. وهذا أجاب:

ـ سنمر في البازار الكبير في زقاق الجواري، سنلقى منهن الكثيرات.

هكذا وقع الخيار على "جلنار".

وصلت هذه مع الوسيط، شاحبة، هزيلة الأطراف، ترتعش. ألقى السيدان عليها نظرة إشفاق وعلى الوسيط نظرة لوم. لم يُخفَ على هذا ما فكر فيه الرجلان، فابتسم وقال:

ـ المسكينات، كلهن يخرجن من السوق خائفات من المصير الغامض الذي هنّ ذاهبات إليه! بضعة أسابيع وتتغير. اشتريت منهن المئات، وحين أقابل الواحدة منهن بعد ذلك لا أكاد أتعرّف بها. وعبدتكم جلنار هذه، برعايتكم ستغدو أقوى من فرس. ها... تكلّمي يا جلنار.

ارتبكت الجارية واحتارت في ما تقول: هل تُني على كلام الوسيط فتدخل متاهات المجهول، أم تزعم ما يؤكد مخاوف الرجلين وترجع إلي السوق؟ وحين ركبت العربة، وسمعتهما يتحادثان بمسألة، فهمت من بعض كلماتها التركية، أنّها تتعلّق بزواج، اضطربت. وصارت عيناها تنتقلان بينهما مثل رقّاص الساعة: زوجة أيّ منهما ستكون؟

فَطِن سيدي مدنات إلى ما يدور في رأس الجارية، فشرح لها القصد من مجيئها: سترافق عروساً من بني جنسها، إلى مدينة في بلاد الشام تُدعى بيروت، لتصبح خادمتها الخاصة. وطَمأنها إلى أنها ستكون بالحفظ والصون مع الخانم سيدّتها ومع عائلة زوجها الكرام. حين قابلت جلنار سيدّتها الشابة، ذات الوجه المرحّب الضحوك، شكرت ربّها وبدأت تصدّق شيئاً مما قاله الوسيط: حظّها مع هؤلاء الناس، الذين من الواضح أنهم من ذوي العز والكرم، سيكون طيباً. الكلام ذاته الذي قالته بوران لنفسها حين دخلت منازل آل إسماعيل. منازل من طراز عرفته، مكوّنة من طبقتين، تتقدّمها قناطر عالية مزخرفة. قمريات الزجاج الملّون التي تعلو الواجهات تمنحها إلفة تبحث عنها منذ أن غادرت اسطنبول. وازدادت الإلفة حين شرح لها زوجها توزيع المنازل:   لكلّ أسرة بيتها. وهذا لعزمي اسماعيل. يُسعده أن تُعيد بنفسها تنظيمه، ليغدو بيتها هي، بوران سيدي مدنات، زوجة عزمي إسماعيل.

الحكايات التي تسمعها وردة شاه من سيدات العائلة، تقابلها حكايات أخرى تتناهي إلى علمها من رجاله، ولاسيّما من أخويها نور الدين وشوكت. يروون تاريخ آل إسماعيل وتاريخ مجيئهم إلى بيروت. كان ذلك حين اقترح الصدر الأعظم أسم جدها "سليم باشا إسماعيل" لتولي مهمّة سيشهد العصر عليها: إنهاض بيروت. مدينة جار عليها الزمن وصار مجدها من مقتنيات الورّاقين، وغدت أشبه  بقرية غارقة في العفن والأمراض. التجار الأوروبيون يخشون المرور بها، والدول تحسب ألف حساب قبل أن ترسل الجند إليها. تخشى أن يلتهم الطاعون زهرات شبانها، كما حدث لعساكر نابليون في حملته على عكا. وسليم باشا الذي سافر ورأى بلدان أوروبا والبلقان، أعجبه أن يُختار للمهمة الصعبة. سُيخرج هذه المدينة من واقعها البائس. سيُعيد إليها مجدها الروماني بحلّة عثمانية أوروبية، ترفع رأس الخلافة أمام قريناتها على الضفة الشمالية من البحر المتوسط. والابن عزمي إسماعيل، سيتابع الإنجازات التي بدأها أبوه. إن كان ذاك قد شرع فيها وتعداد المدينة بضعة آلاف، فهو سيعمل ليرى بيروت وقد بلغ سكانها مئات الآلاف. سيمتد عمرانها من أطراف الحقول إلى المرفأ. ستتابع نهضتها، وكما اسطنبول ستغدو مركز غواية. ستتحوّل، عن واقعها العفن إلى مدينة شرقية غربية، تشرّع أبوابها البحرية والبرية وتستقبل  ما يأتيها من وراء البحار. الرخام الفاخر من إيطاليا والقرميد الأحمر من فرنسا. بضائع كثيرة يراها الناس للمرّة الأولى سيتهافت عليها الوجهاء والميسورون. سيقيم فيها الفرنسيون الفبارك، ليبدأ منها طريق الحرير، وتمتلئ سهولها وهضابها بأشجار التوت ويرقان دود القز. ستتنافس الأمم الأقطاب عليها. كل أمة تريد أن تجد فيها موطئ قدم وتترك بصمة. سيتدفق عليها المهندسون والمبشرون من أطراف الدنيا: كاثوليك فرنسا وبروتستانت إنكلترا وإنجيليو أمريكا، ليصبح لكل من هذه الملل أبناء محليين وجاليات. إنجيليون، لوثريون وغيرهم. ملل يسمع بها الناس للمرّة الأولى، ستدخل في منافسة مع موارنة الجبل وأُرثوذكس العاصمة ومسلمي الخلافة. ستنعم البلاد بهبات المتنافسين. مدرّسون وأطباء يفتحون المدارس والجامعات ويقيمون المراكز الصحيّة والمستشفيات. يأخذون طلاّب العلم واللاهوت من بلدان الأطراف إلى العواصم. ستنتقل القنصليات الأجنبية من الجبل وفلسطين والشام إليها، لتغدو هي المركز. سيرن اسمها في أرجاء آسيا وأوروبا! وفي غمرة نهضتها سيأتيها، زائراً، إمبراطور ألمانيا غليوم الثاني، ليشهد في خطبة تاريخية، بأن بيروت غدت درة على تاج الخلافة العثمانية. درة على شرق البحر المتوسط. كيف لا يكون أبناء عزمي إسماعيل، نور الدين و شوكت مزهوين: أنظروا إلى برج الساعة، يقول شوكت وإلى الأبراج التي انتشرت في مدن السلطنة، كلها تنطق بلسان العصر: نعم، ما عاد تحديد الوقت رهن الحدس فقط  أو أذان المؤذنين. صار للزمن قيمة تُحسب بالثواني. السلطة العثمانية أعزّها الله، تمسك المجد من طرفيه: الدين والدنيا. والمصرف العثماني الذي شارك أبونا عزمي إسماعيل في تنظيمه. كان عليه أن يبذل جهداً كبيراً لإقناع الناس بإيداع أموالهم في مكان بعيد عن متناول أيديهم. وجهوداً أكبر، ووساطة مفتي الديار، ليقبل كثيرون بفكرة الفوائد، على أنها من حقهم وليست مال "حرام" كما يزعم البعض.

*  *  *  *

انتظرت بوران طويلاً قدوم وردة شاه إلى الدنيا. سنوات مرت على زواجها حتى كادت تيأس، لولا أنها ذات صباح من أيام الخريف، أفاقت متعبة من صداع يمسك برأسها وغثيان ينهش معدتها ودوار لم يمكنها من بلوغ الحمّام. أنهضتها جلنار من على الأرض وأعادتها إلي سريرها فيما بدأت النسوة يتوافدون للاطمئنان عليها. وثرياّ حين علمت بما جرى قالت لها:

- "حامل يا زوجة أخي. حامل"!

مالت الشابة برأسها إلى هذه الناحية وتلك، فيما ابتسامة واهنة تعيد اللون إلى وجهها الشاحب:

- " لا تخبروا الباشا قبل أن نتأكد".

قالت، وإن كان الحدس يؤكد لها أنّ في أحشائها أنثي. وحين زَفّت البشرى إلى زوجها طلبت منه أن يختار لابنته الاسم، فقد رأت واحداً من تلك المنامات التي لا تخطئ. ابتسامة واسعة ارتسمت على وجه الرجل الذي بدأ غير مصدّق أذنيه. وبعد برهة قال: علينا أن نفكر ملياّ باسم يليق بابنة تأتي على عطش.

لهفة الأبوة التي أبداها عزمي إسماعيل، أكدت لأفراد العائلة المكانة المميزّة التي سيتخذها وجود الطفل الآتي إلى الدنيا، ذكراً كان أم أنثى. في الصباح التالي لولادة وردة أمر بذبح الأضاحي وتوزيعها على الفقراء الذين أخذوا يتوافدون. وطلب إرسال المؤن إلى بيوت المحتاجين الذين تأبى عليهم كبرياؤهم المجيء. وأغدق على الأم الشابة هدايا تذكّر بالتي أغدقها عليها في زواجها. وفتح الصالون الكبير في الطابق الأرضي لتقبّل تهاني الرجال، كما فُتحت الصالونات في الطابق العلوي للسيدات. وجاءت عائلة بوران من حلب لمشاركة آل إسماعيل الفرحة.

الأب الذي رُزق ابنة بديعة من امرأة بديعة وهو في الخمسين، لحظة دخل ووقع بصره على الرّضيعة في حضن أمها، سعادة الدنيا كلها لاحت على وجهه. سارع إلى نسخة القرآن الكريم، التي خصصها لأسماء ذريته، وخط في أسفلها: "وردة شاه"، أمها بوران، وُلدت عند الفجر، الساعة الرابعة من أول تموز، بيروت 1897. دوّن هذا ثم رفع بصره إلى أعلى الصفحة ليطالعه اسم ابنه البكر "نور الدين". ومن جوارح قلبه هتف: "الحمد لك يا رب على ما أعطيت".

ظُهر اليوم التالي للولادة، لبس أفخر ما عنده، تعطّر ونزل. استأذن ودخل على بوران. كانت بعد "حمام الخلاص" والداية، قد خصّبت جسمها وشعرها بماء الأزهار التي جُمعت من الحقول خصيصاً لهذا اليوم، تبدو في أبهى حلّة يشتهيها زوج، والمولودة في أحلى صورة يتمنّاها أب. فكيف لا ينحني ويطبع قبلة على جبين هذه وتلك؟

فعل هذا ثم اعتدل. وجيء له بالمقعد فجلس وحوله وَقفت نساء العائلة. وبصوت منفعل قال:

- سيكون اسمها وردة شاه.

ابتسمت بوران، فيما بادرت الداية إلى القول:

ـ مبارك عليها هذا الاسم الجميل. أمدّ الله الباشا بالصحة والعمر الطويل لتحيا وردة في العزّ الدلال.

وراحت الحاضرات يباركن، مستغربات أن يكون سيّد البيت علي هذا المدى من الانفعال! عيناه تلقيان على المولودة إشفاقاً أدعى إلى البكاء؛ وابتسامته، إذ يلتفت إلى بوران، تقارب الضحك. فيض من الرّقة يتدفق من تقاسيم هذا الرجل العنفواني! وشَرعن في إقامة الترتيبات. تهنئة أرادها الباشا استثنائية، ستدوم أربعين يوماً، تضاهي تلك التي تُقام عند ولادة ذَكَر طال انتظاره. نعم، ففي خلد الأب الكهل، أنّه بعد وفاة زوجته الأولى، انتظر طويلاً قدوم الشابة وابنتها لتؤنساه ما بقي له من سنين. 

كلّ زائر جاء للتهنئة كان سيرى الكتاب الكريم مفتوحاً على طاولة صغيرة مصدّفة وتطالعه الآية الكريمة: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". وعلى طاولة تماثلها في الجهة المقابلة سيجد نسخة أخرى منه، مفتوحة على غلافها الداخلي وقد خُطت فيها أسماء ذريّة عزمي إسماعيل التي أضيف إليها أسم وردة شاه.

وصار عزمي إسماعيل بعد عودته من العمل يلازم البيت. ولا يخجل من أن يلازم غرفة زوجته ليتفرّج على المولودة وهي ترضع. أو يحملها بين ذراعيه لتتجشّأ. يفعل هذا سراً. وإن شعر بوطء قدم سارع إلى وضع الرضيعة في حضن أمّها. لكن  رقابته الذاتية على سلوكه ما لبثت أن أُصيبت بالوهن، فصار يندفع إلى طفلته غير آبه لاستغراب السيدات ولا لارتباك جلنار التي تهبّ لتأخذها منه كي لا ترمي قيأها على سترته.

ـ اتركيها تفعل. سُترات الدّنيا كلّها لا توازي ظفر قدمها الحمراء.

بوران تستسلم لدعابات زوجها، وتضحك حين يبدأ يناغي الرضيعة زاعماً أنها، مغمضة العينين كجرو القط، تستجيب لمناغاته! لا تعلم أنه يتمنّى أن يحملها إلى مجلسه ليشهد أصدقاؤه كم هي تشبهه وكم تشبه أخاها نور الدّين. بوران، تخشى استهجان الرجال والنساء، والقول إن الباشا المهيب، فقد سلطة الأمر والنهي على نفسه: فشقيقاته يمازحنه. ثريا تسأله عن لون عيني أبنته ملك، وعن صافيناز، متى لاحظ أنّها حميراء؟ ويجيبها هو بابتسامة واثقة أنه ما من حبّ أبوي يفوق حبّ عزمي إسماعيل لبناته. وتضيف الخالة آمنة: "إلاّ حب رسول الله صلي الله عليه وسلّم لابنته فاطمة الزهراء".

منذ أن تجدّدت أبوّته ما عاد عزمي إسماعيل يتحمّس للأسفار، كما في السابق. بل يبتكر شتى الحجج ليعتذر. كلّف الآغا "عابدي" السفر مرّتين إلى الشام، وأرسل الأفندي عز الدين نائباً عنه إلى الآستانة. وخطر له أن يستقيل من السلك ويتفرّغ لأبوّته. كم عمل وسافر وواجه المشقات. كاد أن يستجيب لمزاج رغبته لولا أنّ ابنه شوكت جرؤ وقال:

ـ يا سعادة الباشا ما زالت العائلة بحاجة لوجودك في الدولة. مَن لا سند له فيها لا مكانة له على أرضها.

انزعج الكهل من ملاحظة ابنه:

- البركة فيك يا شوكت، قال له. ضبّاط الجيش العثماني في أُمرتَك! إلامَ تطمح؟ قائد جيش تريد أن تكون أم وزير حربية؟

ـ سامحني يا أبي. لا أفكر بنفسي بل بأخي الصغير نظمي، وبأولاد أخي نور الدين، لا يزالون في أوّل الطريق.

". كتم الأب غيظه: "ما أبعد شوكت هذا عن نور الدين. هذا، وُلَد من بطن أمّه متمرّداً"!  ثمّ وبعد صمت أجاب:

ـ يا شوكت، أمدّ الله بعمري لأربّي الصغيرة في العزّ الذي نشأتم عليه. لكن... إذا ما حدث لي مكروه فالبركة فيك وبأخيك نور الدين.

متمرّد! إنما والحق يقال كان هذه المرّة على حق. فالفرص النادرة لا تأتي لمن هو خارج حساباتها. في تلك الآونة وصلته برقية من الصدر الأعظم، تُعلمه بأن إمبراطور ألمانيا،غليوم الثاني، سيزور السلطان برفقة زوجته، ثم يتوجه إلى بلاد الشام ويمرّ ببيروت. والباب العالي يمنح عزمي إسماعيل، الذي يعرف الألمانية، شرف المرافقة وحضور مراسم الزيارة في اسطنبول.

أدرك السفير المحنّك مغزى الزيارة. إزاء جشع الإنكليز في الشرق وسطوة الروس في البلقان، يحاول الألمان تعزيز مكانتهم في بلاد المسلمين. والسلطان الداهية عبد الحميد يعجبه هذا التودّد. إلى أن يتحقق المشروع العظيم الذي بدأه سلفه عبد المجيد سيوهم الأطراف كلّها بصداقة مع "دولة بني عثمان" لا تتزعزع! نعم، سلفه عبد المجيد كان على حق! لا بدّ لتركيا أن تستنفذ كلّ الوسائل لتماشي الغرب في التقدّم.

امتلأ عزمي إسماعيل حماسةً لمرافقة الإمبراطور في زيارة ستتحدث بها الأمم. الزيارة التي سيمضي بقيّة حياته يفتخر بتتويجها مهماته، وبثمرتها التي فاقت كل تّصوّر. في عودته وقبل أن يصل إلى بيروت، كان نور الدين قد عُين مستشاراً فوق العادة بين الآستانة وبلاد الشام. وشوكت رقُيّ وصار رئيساً للجنة الارتباط المشتركة بين تركيا وألمانيا، وغدا "صاحب العزّة" "الميرلاي" شوكت عزمي إسماعيل. مَن يمكنه الوقوف بوجهه إن غدا يوماً "صاحب سعادة" مثل أبيه؟

 الزيارة تلك، ستملأ جعبة السفير بما يفتن سامعيه. يحكي لهم كيف تدفقت الجماهير من كلّ صوب لتحيّي نصير الخلافة الألماني. وكيف وقف الإمبراطور أمام ضريح السلطان صلاح الدين هاتفاً بالوعد الذي سار على كل شفة ولسان: "إنّي صديق السلطان الخليفة وجميع مسلمي العالم إلى الأبد". ويحكي عزمي إسماعيل أشياء...عن قصر "ضولمة بهجة"، الذي أراده السلطان عبد المجيد معلماً يضاهي ما بناه ملوك فرنسا والنمسا. الوفد المرافق استُقبل في أجمل قاعاته، صالون "التشريفات". أكثرها اتساعاً وأبّهة. تحيّرك أعداد الأعمدة التي ترتفع عليها الجدران، حتى ينبئك المرافق بأنهّا ستة وخمسون!
ولفرط ارتفاع  السقف ، تبدو منمنمات جوانبه مثل دانتيل مشغول. أما "الثريا" التي تتدلى منه فهي تزن الأطنان. في منتصف القاعة سلالم من مرمر وكريستال تزيغ البصر، حتى ليلتبس الأمر على الرائي فلا يميّز الصاعد عليها من النازل. التفاصيل التي سيحفظها سكان البيت، وخاصة رضيّة مربية وردة شاه، عن ظهر قلب. تفاصيل تتجاوز قدرات خيالها وتعفيها من مهمّة التخيّل و الابتكار.

*  *  *  *

في صغرها، كانت وردة تطلب من مربيتها أن تفتح الصفحة العسلية التي دُوّنت فيها الأسماء، بخط قويّ جميل هو خط أبيها عزمي. وكانت تلك تتمثل رغبتها. إنما قبل ذلك، عليها أن تغسل يديها وتَبُسمل، كما يجدر بكل مسلم أن يفعل، ليكون "طاهراً" عندما يمسك الكتاب الكريم. ستساعدها رضية على القراءة، رغم أن هذه لا تعرف من اللغة المكتوبة شيئاً. وردة تشير بإصبعها إلى الكلمات فتردّد معها: وردة شاه، أمّها بوران. ولدت عند الفجر، تموز 1897.

وتسأل وردة، لمَ أسم محمود غير مسجّل في الصفحة. ورضية تشرح لها أنّ أبناء وبنات أبيها عزمي إسماعيل فقط سُجلّت أسماؤهم فيها. أما محمود فهو أخوها بالرضاعة. رضعتْ وإياه الحليب.

ـ وأين سجّلتم أسمه؟

ـ سجّلناه على ورقة. كتبنا: محمود أمهّ رضيةّ. أبوه رجب، راح إلى الحرب ثم انقطعت أخباره. لكن لابد أن نسجلّه ذات يوم في خانة رجب.

ـ لكن رجب مفقود. مات.

ـ وإن يكن... تبقي صفحته مفتوحة!

ـ مفتوحة؟ إلى متى؟

ـ إلى يوم القيامة. ثمّ إن العلم عند اللّه وحده ولا شيء يؤكّد أنّ رجب مات. كثيرون بعد غياب سنوات عادوا. من يدري لعلّه سيطرق الباب ذات يوم ويدخل. لسماعها ذلك، ترنو وردة إلى الباب الذي، ذات ليلة، سيطرقه المحارب المفقود.

رضيّة كعادتها تبدو لوردة غير متأكدة مما تقول. مرة تزعم أنها ستسجل اسم محمود في مصر ومرّة تقول إن قيده سيكون في حمص. حكاية معقدة لا يُعرف لها حرف من طرف!

ـ يا حبيبتي، أنا نفسي لا أعرف. قديماً، كانت الحياة سهلة. لا دفاتر ولا أوراق ولا وجع دماغ. ثم قرّرت الحكومات النظام الجديد.

*  *  *  *

عائلة رضيّة وزوجها جاءت من مصر. ولمجيئهم، كما تقول، علاقة بقائد يُدعي إبراهيم باشا، كلّفه أبوه محمد علي الذهاب إلى بلاد الشام لينشر فيها العلم والثقافة. وجد هذا ترحيباً من أمير لبنان، بشير الشهابي، ومن ولاة كثر من بلاد الشام. لكن، وبعد حكم دام ثماني سنوات، تغيّرت الموازين، والدول التي ناصرته انقلبت عليه فامتثل وانسحب. كثير من العائلات ذات الأصول المصرية، حين غادر قائدهم، فضّلوا البقاء. مصطفي، والد رجب، سكن في حمص فقُيّد في سجلات سورية، لذا أخذوه إلى الحرب. أما أخوه عبد المولي فرجع إلى مصر. هكذا بات للعائلة فرعان هنا وهناك. المسألة التي حاول نور الدّين أن يشرحها لرضيّة، جعلت عقلها يشتغل مثل رقاص الساعة. خلاصة الأمر، كما قال الأفندي، أنّه من الأسهل تسجيل محمود في حمص. هناك، له معارف كثر في دوائر الحكومة. إن ذهبتْ إليها فسيعطيها رسالة لشخص أسمه "مملوك آغا"، يساعدها في حلّ المشكلة.

*  *  *  *

رضيّة، تحمد الله الذي هداها إلى القرار الصواب وجعلها تلتحق بآل إسماعيل. لولا ذلك لكانت ستعيش وتموت دون أن تعرف، ولو بالسماع، أحداثاً ترقي إلى مصاف الخيال، أبطالها سلطان وزوجته، وإمبراطور وزوجته، وباشا علّق له خليفة المسلمين بنفسه النياشين. لولا ذلك لما كانت ستمارس هوايتها في سرد القصص بثقة وبتلك الطريقة التي تبهر بها عاملات المنازل. ولولا "جلنار" لزعمت أنّ كلّ ما يمت إلى أسرة الباشا قد حدث إبان وجودها لديهم. لولا خشيتها أن تتدخل تلك الجارية الملعونة لتكذيبها... لذا تكتفي بالمراوغة. تلخبط الأزمنة. تقدّم أشياء وتؤخّر أشياء. تضيف وتنقص. وينتقل انبهار المستمعات إلى وردة فتسأل عن معنى كلمة "شاهنشاه".

حيث جاءت رضية إلى منزل آل إسماعيل كان لوردة بضعة أشهر. في بحثها عن مرضعة لابنة أخيها اهتدت "ثريا" إلى هذه المرأة ذات البنية الطويلة الممتلئة. كانت رضيّة على وشك أن ترفض العرض. فبدل الالتحاق بعائلة معينّة، كانت تُفضل عملها الذي لا يلزمها بشيء. لكن كلام "ثريا" جعلها تقبل إرضاع الطفلة بصورة مؤقتة لحين أن يعثروا على مرضعة أخرى. لحسن حظّها أنّهم تأخروا في العثور.

وتذكر رضية أنّها أوّل ما وضعت وردة على ثديها فاض الحليب. يا سبحان الله! فاض لبن يشبع أربعة أطفال من ثديها، هي التي كانت تخشى أن لا يكفي لبنها ابنها محمود.

لسنوات عاشت وردة وأخوها محمود مثل توأمين. يتنشقان الهواء نفسه ويرضعان ذات الحليب. ينعمان بأنفاس رضيةّ ويرتعان في فيضها العاطفي. يلعبان في سرير وردة الذي تغطيه ناموسية من التول، يحلو لهما أن يشدّا أطرافها الدانتيل وينزعا شرائط الساتان ويعلكاها رغم تأنيب رضيّة. ويراهما عزمي إسماعيل فتدمع عيناه للأخوةّ الفريدة. اتركيهما يلعبان، يقول لرضية.

حيث بلغ محمود السادسة من عمره، جاء عمّه عبد العزيز ليأخذه كما سبق أن أخذ أخاه سعيد. ثم وبعد مفاوضات، أقنعه نور الدين بأن يترك الصبي لأمّه. من حسن حظّها أنّ العمّ استجاب. سعيد يكبرها بسبع سنين وكان من المستحيل عليها أن تلعب وإياه، لكن كيف كانت ستستغني عن اللعب مع محمود؟ ما إن تلمحه تركض إليه. صحيح أنه يقوم بشقاوات تزعجها، يقذف العصافير بحجارة "النقيفة"، ويشدّ القطط من ذيلها أو يقرصها في ظهرها، لكنّه لطالما أشفق على تلك المخلوقات الضعيفة، وأحضر لها الطعام وسقى اليمامات ماء. ثمّ إنه هو من يقرّر إذا ما كان الجرو ذكراً أو أنثى. وصحيح أنّه ذات مرةّ لعب "مشنقة"، لكنّ فنونه في ابتكار المغامرات  مدهشة ولا يضاهيه بها أحد. يتشقلب واقفاً على كفيه ويجتاز ممرات الحدائق متحدّياً أياً كان أن يحذو حذوه.

لم يخطر لوردة، أنه سيأتي يوم تكفّ فيه عن اللعب مع محمود. كان في ودّها أن تتزوّجه ليعيشا معاً طول العمر، برعاية رضيّة، بالثبات والنبات ويخلّفان الصبيان والبنات. لكن رضيّة، لسماعها هذا، تعتدل قامتها وتبتسم كأنّها ستوافق، لكنها لا توافق. بل تؤكد لها استحالة ذلك.

ـ يا حبيبتي، لا يجوز لأخ بالحليب أن يتزوج أخته.

ـ لكن يجوز أن تلعب معه بالقفز على الحبل؟

ـ طبعاً يجوز.

يجوز، لكن لعبة القفز على الحبل، تغيظ محمود إذ تشغلها عنه فلا تنظر إليه وهو يتشقلب، بل تبدأ تردّد الأناشيد التي يتلازم إيقاعها وإيقاع القفز. وفي المرّة الأخيرة، زادت من كيدها له بقولها إنها ستقاطعه تماماً وستدعو هَنيّة ابنة الخالة مرام للّعب معها. إزاء التهديد انتزع منها محمود الحبل ليريها شيئاً أفضل من القفر الأبله: سيريها اللعبة الخطيرة، لعبة المشنقة، التي لم ترها في حياتها من قبل والتي لم تسمح آثارها النفسية عليه وعلى أمه بأن ينال عقابه بشأنها في الحال. كان عقاباً بأثر رجعي.

 بعد مرور أسبوع على الحادثة التي كادت تؤدي إلى كارثة، نهضت رضيّة من الفراش بوجه متجهّم وشعر منكوش! التجهّم الذي جعلها تشبه الغولية التي تحكي عنها الحكايات، أو "المجنونة" التي يحّذرون الناس منها، أفزع وردة. خاصة أن رضيّة كانت تحمل بيدها الحبل الذي منذ تلك الحادثة حرّموا عليهما اللعب به.

ماذا تنوي أن تفعل يا ترى؟

ـ أين محمود؟ سألتها رضيّة بصوت مبحوح.

ـ راح إلى غرفة العم سليمان.

وبالغضب الذي تنضج به هيئتها ركضت رضيّة. وخطر لوردة أن تلحق بها لتحمي أخاها من شرّ مستطير. لكنّ رضيّة كانت أسرع منها. اقتحمت غرفة العم سليمان وهجمت على ابنها، وبالحبل الذي جعلته فتلتين راحت تضربه. العم سليمان منع وردة من التدخل فهو نفسه حاول ولقي نصيبه من اللسعات الكاوية. رضيّة تضرب محمود، وتشتم الساعة التي جاء فيها إلى الدنيا، وتندم أيّ ندم على أنّها لم تتركه يرحل مع عمّه الذي كان سيعرف كيف يربيّه. وردة تبكي وتستعطف مربيتها فيما تلك مستمرّة بالضرب وبالشتائم، ومحمود بالصراخ. يقسم بالله وبالنبيّ أنّه لن يفعل هذا ثانية. ويقسم ذاك القَسَم الذي يلجأ إليه حين تعييه الحيلة: "التوبة. وغربة  أبويا رجب، التوبة". ورضيّة لا تستجيب لقسمه بل تتابع الضرب وتشتم لعبة المشنقة وتهدّد محمود إن عاد وفعل فستعلّق له هي بنفسها المشنقة وترتاح.

*  *  *  *

ذاك النهار، حين هدّدته وردة بأن تقاطعه وتلعب مع قريبتها، قفز هو قفزته البهلوانية التي تعرفها، وأقسم لها على أنه سيقوم بشيء لم تره في حياتها من قبل. لفّ الحبل حول رقبته وعقد طرفه وعلّقه بالشجرة وهوى بجسمه في الفراغ. بعد لحظات، حين رأته وردة يصيح ويقوم بحركات هائجة محاولاً التقاط الغصن ثانية، طنّته يمزح. لكن، ووجهه صار بنفسجياً مثل حبّة الخوخ، وصراخه مثل ثغاء الماغز، ساورها شك بأن شيئاً ما رهيباً يحدث له، مثل الذي يحدث للمشنوقين. وبأعلى صوت ممكن لطفلة راحت تستغيث. العم سليمان، كان أوّل المغيثين. أسرع إلى حمل محمود ورفعه، فيما أقبل رضوان وفك الحبل عن رقبة الصبي. أنزلاه عن الشجرة أزرق الوجه، واهن النَّفس كأنّه سيفارق الحياة.

هرول سكان البيوت على نداءات الاستغاثة وفي طليعتهم رضيّة. وإذا رأت ابنها ممدّداً بين الحياة والموت في حضن العم سليمان، ورضوان ينفخ في أنفه وفمه، صارت تلطم وتّصيح بحليمة. يا حليمة أحضري الماء. ماء يا حليمة ماء. وفي الحال حضر سطل الماء وأفرغته رضيّة على رأس ابنها. وهذا، فتح عينين زائغتين وتنهدّ وأخذ نفساً عميقاً. النَفَس الذي لم يميّز الحاضرون، إذا ما كان آخر أنفاس الحياة أم بداية جديدة لها.

كانت تلك المرّة الأولى التي تشرب فيها وردة، من "طاسة الرعب" التي يسقون منها المرعوبين كي لا تقف قلوبهم من هول الصدمة. والمرّة الأولى والأخيرة التي تشهد فيها لُعبة المشنقة. المشنقة التي ذاع صيتها قبيل ذلك حين تمّ إعدام "ثلاثة جياع ومثقف" في ساحة الحريّة وسط بيروت.

*  *  *  *

ظلت وردة ترفض سفر مربيتها، إلى أن وعدتها هذه باصطحابها. طبعاً إذا ما وافق نور الدين. وصارت تتخيّل نفسها ممسكة بيد رضيّة من ناحية وبيد محمود من ناحية أخرى، متجهةً معهما إلى المرفأ. سيصعدون إلى الباخرة العملاقة التي تسمع بها، والتي يتجاوز حجمها منازل آل إسماعيل الثلاثة. سيمضون في البحر يومين قبل أن تتوقف بهم في واحدة من أجمل مدن العالم: الإسكندرية. سينزلون ليتفرّجوا على إحدى عجائب الدنيا السبع. سيلفّون في شوارع رائعة ويلتقون أناساً من كلّ الأجناس. سُمر مثل الأرض وبيض مثل الثلج، عيونهم زرق مثل البحر أو خضر مثل ورق الشجر. يونان، فرنسيون، طليان وإنجليز، كلّهم هجروا بلادهم وفضلوا العيش في الإسكندرية. "يا حبيبتي سنمشي على شاطئ أطول عشر مرّات من شاطئ بيروت، قبل أن نصل إلى المنارة التي يبحث عنها كلّ سائح. وبعد ذلك سنواصل السفر. الباخرة ستنزل في ممر مائي ضيّق لتدخل بعد ذلك في "بحر النيل". يلزمنا ساعات طويلة لنصل إلى القاهرة، "أم الدنيا".

رضيّة حين تتحدّث عن بلدها، ترفع رأسها وتعتدل كتفاها. تنفخ صدرها وتأخذ نفساً عميقاً ثم تتنحنح لتبدأ تقول ما تريد قوله، وتفتخر بأشخاص. محمد علي باشا، الذي أرسل ابنه إلى بلاد الشام هو صديق الملك نابليون بعينه! أسماء وألقاب كثيرة تلهج بذكرها رضيّة أغربها حاكم عظيم أسمه "الخديوي"، أضاف بحراً إلى بحر. "كانت تلك يا حبيبتي أرضاً خلاء، أمر العمال والفلاحين من الريف والأطيان أن يحفر كل منهم حفرة يبلغ طولها طول جسمه. ولمّا أنهى آخر عامل عمله تدفقت المياه. وفي غمضة عين اختفت اليابسة إلى الأبد! يا سبحان الله، واتصل البحر بالنهر!".

"منذ أن بدأوا العمل والخديوي يحضّر لافتتاح القنال. بنى القصور لينزل فيها الضيوف، وأجملها قصر خاص بالمملكة الفرنسية أوجيني لتستحلي البقاء عنده. لكنّ القدر يا حبيبتي لم يمهل. الخديوي هذا مات قبل أن يدشّن البحر الجديد بسبعة أسابيع وسبع ساعات وسبع دقائق بالضبط!َ لكن الحياة لا تتوقف. جاء خديوي آخر وأقام احتفالاً ما بعده احتفال، حضره الملوك والأباطرة والسلاطين وكلّ العظماء. لم يبق عظيم في العالم إلاّ حضر. من فرنسا وإنكلترا. من بلاد السند والهند والصين، كلهم جاءوا ليشهدوا الحدث الذي لا سابقة له سوى ما قام به سيّدنا موسي عليه السلام. سيدنا موسي يا حبيبتي..."

ـ يا رضية، ماذا جري للملكة التي أحبّها الخديوي؟

ـ يا حبيبتي، الملكة المسكينة عرض عليها الخديوي الجديد أن تكون محظيته فرفضت. ولشدّة حزنها على حبيبها أصابها مرض، وعادت إلى بلادها خائبة يائسة وظلت هكذا حتى ماتت.

*  *  *  *

لا تذكر وردة متى بدأت رضيّة تحكي لها ولمحمود القصص الخارقة التي تبرع في سردها. ما تعرفه أنّ تلك كانت مخصصة للسهرة. بعضها ممتع مثل حكاية علي بابا والسندباد وبساط الرّيح والشاطر حسن... وبعضها مخيف، يجعل أوصالها ترتعش، مثل حكاية الغولية، التي تطرح ثدياً هائلاً على هذه الكتف وآخر على تلك، تنتظر من يمرّ بها ليقع في حبائلها، إن هو أخطأ الإجابة أو عجز عن فك اللغز.

وحكاية الأفعى العملاقة "الحنش" التي تسكن في تجويفات المغاور ومستودعات البيوت، والتي لا تؤذي إلاّ من يفكر في أذية أولادها.

وحكاية العفريت الذي يخطف العجائز.

وديك الجنّ الذي يصطاد الصبيان.

والساحرة الشمطاء التي تحتال علي الفتيات لتأخذهنّ إلي أعماق الغابة المظلمة حيث تأمرهنّ بالنوم مئة عام.

وحكاية "النداهة"، التي تفوق فظاعتها أيّ شيء آخر. "النداهة" أو الجنّية التي تنده على قرينة لها من بنات البشر، تغررّ بها ولا تتركها إلاّ بشق النفّس. أو تساكنها إلى الأبد فلا يعود لأحد قدرة على أن يخرجها من روحها. لذا لابدّ من اتقاء شرّ المخلوقات تلك، وشرّ الأفكار التي توسوس بها في صدور النّاس. لا شيء يطردها مثل الطريقة التي درّبتها عليها رضيّة: إذا ما هجستْ لها فكرة "شؤم"، من تلك الأفكار... أن تهتف بسم الله الرحمن الرحيم ثلاث مراّت، وتمسك بآية الكرسي المعلقّة في رقبتها. لسماعها ذكر الله تفرّ هذه المخلوقات العابثة وتختفي تحت سابع أرض.

كان من شأن هذه القصص أن تصيب محمود بالرّعب اللذيذ، ووردة بالخوف الفظيع الذي يخطف النوم من الجفون، فتتكوّم على نفسها خاصة أنّ محمود يزعم لها، في سواد اللّيل، أنّه هو الجنْ الأحمر الذي سيخطف روح أخته وردة شاه. فتندفع هي وتتمسك برضيّة، عاجزة عن صدّ المشاهد من خيالها، عجزها عن مقاومة الاستماع في اليوم التالي إلى الحكايات ذاتها، وإلى إضافات يجود بها خيال مربيتها ذات القامة الشاهقة والصدر العالي. عجباً! كيف تتحوّل هذه، من أمّ تقدّم لولديها النصائح العاقلة في النهار، إلى مخلوقة أخرى تلبس أدواراً في الليل أو تَلبسها أدوار، فتغيّر من إيقاع صوتها وتعابير عينيها وحركات كفيها، ويتداخل في حكيها كلام مفهوم بآخر غير مفهوم. ألفاظ غريبة على ألسنة مخلوقات عجيبة تغدو رضيّة واحدة منها. على الرغم من أنّ هذه لم ترَ مسرحاً في حياتها، بل سمعت به، من نور الدّين أفندي، فيما كان يتسامر مع زائريه، ومرّات من زوجها رجب. كان هذا يحكي لها عن عروض جوّالة شاهدها في حلب: ممثلون ومهرّجون يقومون بأدوار لا علاقة لها بشخصيّاتهم الحقيقية. حتى يُمكن للطّيب أن يغدو شريراً والفقير أميراً والرجل امرأة. سبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر. يصعدون إلى مرتبة من خشب أكبر من التي تجلس عليها العروس يوم عرسها، ويبدأون بالتمثيل. يشخّصون حكايات وكأنها من الواقع. واحد يصعد وآخر ينزل كما أمرهم أن يفعلوا شخص ابتكر المشاهد من عقله الشيطاني. من المؤكد أنّه تعلّم حرفته من الأجانب. روايات تجعل المشاهدين يشهقون بالبكاء أو يقهقهون بالضحك.

يا سبحان الله!

*  *  *  *

بين الحكايات ومرادفها في الواقع، ظلّت مكانة جلنار مدّة طويلة مبهمة في خاطر وردة. تسمع من هنا وهناك أشياء تفهم بعضها، لكن معناها الكلي يبقى عصياً على الفهم. مثل الحديث عن طالع السعد الذي رافق هذه الجارية منذ أول يوم وقعت عليها عين الوسيط في سوق الجواري. أخرجها منه ليفتح لها باب الجنّة في منزل آل إسماعيل. من يعلم ما ينتظرها بعد ذلك؟ فالتغيّرات التي بشّر بها هذا فاقت كلّ تصوّر! جلنار، وقبل مضيّ سنة علي ملازمتها بوران، تبدّلت هيئتها حتى لما عادت هي هي. طالت قامتها وعلا نهداها وغدت مليحة الوجه شامخة الرأس ومن تحت منديلها تتدلّي ضفيرتان لوّحت طرفيهما أشعة الشمس ببريق أشقر. وحدث أن لمحها رضوان، أحد المشرفين على أملاك العائلة، فبهرته جارية يضاهي بياضها بياض الحليب، وحمرة خدّيها الورد الجوري وعيناها لون الشهد! استعطف الباشا أو يزوّجه بها، وأبدى استعداداً لأن يبقيها في منزل سيّده، مكتفياً هو ببعض الأيام. يأخذها ليلة الخميس ويعيدها إليهم صباح السبت.

في خَلَد رضوان أنّه، في زواجه بالتركمانية التي تشبه سيدّتها، كأنّما يتزوج أختها. أختها، لولا أن عوادي الزمن التي تفرّق بين البشر، قد تدخّلت لتجعل من هذه سيّدة ومن تلك المسكينة جارية تُباع في سوق العبيد. وليس غريباً إنْ هو تزوجّها أن ينجح في تحريرها، وتشعر هي بقيمة ذاتها، وتَنْسى ويَنْسى الآخرون السوق الذي خرجت منه.

لم يكن حلم رضوان في غير مكانه.

فعزمي إسماعيل، الذي هو أكثر كرماً وتقوى من أن يترك الجارية بلا زواج، أو أن يفرقّها عن زوجها، وجد الحلّ الملائم، فأسكن الزوجين في أحد ملاحق البيت في الحوش. كان ذلك قبل أن ينجبا ويغدو رضوان مسئولاً كبيراً في أعمال آل إسماعيل، وينتقل مع عائلته إلى مسكن خاص بهم غير بعيد. حين ولدت وردة كانت جلنار لا تزال في منزل سيّدها. كان ابنها الأكبر خالد قد بلغ السابعة. ورغم مسئولياتها بادرت إلى مساعدة بوران وصارت في ما بعد تعاون رضيّة في رعاية الطفلة. كانت ستفعل أيّ شيء امتناناً للفتاة التي كان مجيؤها إلى العالم سبباً في خلاصها من العبودية. بعد ولادة وردة استدعاها الباشا هي وزوجها، وبحضور أفراد العائلة، قال: وفاءً للنذر الذي أخذته على نفسي في تلك الليلة... أنت منذ اليوم حرّة. وأولادك أحراراً أيضاً وسائر نسلك. كلّهم أحرار إن شاء الله إلى يوم الدين.

ثم أمر لها بمبلغ من المال تعويضاً عن سنوات العبودية التي أمضتها عنده. وخيّرها بين أن تستمر في عملها معهم بأجر يُتفق عليه، وبَين أن تتفرّغ لعائلتها أو لعمل آخر.

الحكاية التي تُدهش الخادمة حليمة دهشة باعثة على السرور، وتسبب لرضيّة الضيق. إنْ كانت تكذب على الآخرين حين تتظاهر بعكس ذلك، فهي لا تكذب على نفسها. نعم، فهي تلوم السيد على فعلته والجارية على خطيئة الارتقاء الاجتماعي الذي فازت به. وتتوجّس من السطوة السحرية التي تتمتع بها هذه التركمانية البيضاء في نفس وردة. فالطفلة لا تتخيّل عزمي وبوران يرتعان في النعيم بدون عون الشابة التي أحضراها معهما من اسطنبول. الكلام الذي يصعب على الطفلة ترجمتها، تلتقط رضيّة جوهره. نعم تؤرقّها السطوة التي قد تمكّن الجارية من القفز ثانية في سلّم التراتب. كما في حكايات ألف ليلة وليلة! كم يحدث لابنة حطّاب أن تغدو أميرة ولجارية سيّدة ولعبد خصيّ أن يستولي على الحكم. سمعت من الشيخة حمدية أن عبداً من العبيد يُدعي "كافور"، عمل انقلاباً على سيّده. كان هذا رؤوفاً معه، حتى أنّه رفض أن يخصيه كما سائر خلق الله من العبيد. لكن الرأفة لم تجلب لصاحبها سوى الويل. صدق الشاعر الذي قال: "لا تشترِ العبد إلاّ والعصا معه إنّ العبد لأنجاس مناكيدُ". فكافور هذا انقلب علي سيده. قتله وتزوّج زوجته وجلس على كرسي الحكم مكانه. يقال إنه كان أسود اللون مثل الفحم أخضر العينين مثل الحشيش وكانت له نظرات تلقي الفزع في قلوب السباع!  عشرون عاماً ظلّ يفتك بالناس، يقتل ويعذّب ولا أحد يجرؤ علي الاعتراض. وجلنار هذه، صحيح أنها بيضاء، إلاّ أنّها من صنف العبيد واشتُريَت من السوق. ورضيّة لا تغشها الوداعة التي تُظهرها تلك للعائلة ولا الوفاء المزعوم. وتجد في الهدايا التي تحضرها للصغيرين مباهاة في غير مكانها. وتقف لها بالمرصاد. عمداً أم سهواً تقرصها بالكلام، بسؤالها أشياء عن حياة الشقاء التي عاشتها في سوق الجواري.

شيء أقوى منها يدفعها إلى هذا. فالحدس الذي يقفز على مراحل الزمن ويكشف النيّات الغامضة للتاريخ يلوّح لها بالمستقبل الرّائع لصديقتها اللدود. حاسة الشم الحيوانية التي تهدي القطة إلي رضيعها تقودها هي إلى ذاك الاحتمال: أن يأتي يوم تحقق فيه جلنار قفزة أخرى في منزل آل إسماعيل تتوّجها سيّدة من سيداتهم. ويخرج من صلبها أبناء وأحفاد يقيمون صلة الرحم بينها وبين عائلة تعود بالتوارث إلى أشرف الأنبياء. ماذا لو كانت تلك الملعونة تعمل في السرّ لتوقع الطفلة البريئة في حبائل ابنها حتى يأتي يوم تجد العائلة نفسها فيه، مرغمة على تزويجها له؟ كانت رضيّة تتمنّي لو أنّ وردة رضعت ولو مرّة واحدة مع خالد ابن جلنار لتحرّم عليه كما حرّمت على محمود.

وذات مرّة همست في أذنها: نازلي تريدك لحفيدها.

ـ حفيدها؟ نعم، رشاد.

لسماعها ذلك، تلبور في ذهن الطفلة كرهها لعمّتها نازلي. كيف تتزوّج رشاد وهي بالكاد تعرفه؟ وعليه تفضّل أن تبقي في البيت وتلعب مع محمود وتنام قرب رضيّة وتدرس مع نور الدين وتعزف البيانو مع كاميليا. بل تُفضل أن تتزوّج محمود لولا أن رضيّة مستمرة في عنادها! تلوح بإبهامها ورأسها. تزم شفتيها وترفع حاجبيها لتقول: مُحرّم. إخوة بالرّضاعة، لا يجوز!

*  *  *  *

في مهبّ  العصر
 حين أهلّ القرن العشرون، كان سكان البيت الكبير هؤلاء، جميعاً قد بلغوا سنّ الرشّد. مَن حالفه الحظ منهم وَأْخذت له صورة، أو مَن لم يحالفه بعد. جميعهم، ما عدا وردة ومحمود. تزوّج منهم من تزوّج وسافر ومن سافر للعلم أو العمل. وكان بعضهم قد مات. هذا ما تعرفه وردة جيّداً. رجب أبو محمود لا صورة له. ولا أحد يعرف هل ما زال حياً يُرزق أم أنّه كما تراءى لها في ذاك المنام الذي اهتزْت له أوصالها.

غير أنّ قصص الدّنيا لا تقتصر على تلك البائسة. ففي تلك الفترة كانوا، في ديوان نور الدين، يلهجون بما يُدخل البهجة إلى النفس: عصر جديد له أسم غريب هو "القرن العشرون"، سيفتح صفحة جديدة في التاريخ، يضع حداً لبؤس الحروب التي سادت طويلاً.

كان على وردة أن تنتظر سنوات ليبدأ مغزى الكلام عن الزمن المخملي يتناهي إلى إدراكها. تعرف أنّ الحياة منحتها ذاك الحظّ، أن تشهد انتقال العصر إلى آخر سيكون بلا شك من أعظم العصور. من أكثرها إسعاداً للبشر، و إلا لما كان سيُعرف باسم "الزمن الجميل"! و إلا لما انتظروه في بلدان أوروبا بتلك اللهفة واستقبلوه بالاحتفالات. يقال، ذُبحت النعاج والخراف وسألت الخمور أنهاراً، ودار الرجال سكارى في الشوارع. ومن كانوا من ذوي العلم حملوا المناظير وصعدوا إلى سطوح البنايات. حدّقوا بالسماء يراقبون التحولاّت التي قد تطرأ على الكواكب والأبراج. سهروا حتى الفجر. وزعم الكثيرون رؤية تغيرات ستظهر آثارها عما قريب. الشهب ستتدفق على الأرض وتحرقها، عندئذ ستكون الساعة.

ولعلّ أباها،عزمي إسماعيل، هو أيضاً حمل المنظار الذي يحتفظ به نور الدين، ولعلّه أمسك بيدها وصعد إلى السطح ليريها أشياء. لا بل من المؤكد أنه قد فعل لكن لا صورة تدل على ذلك.

بعض الشبان في بيروت ساروا ليلاً وفي أيديهم المشاعل. المسلمون منهم يكبّرون والمسيحيون يتلون الصلوات ليسوع ومريم. والشيخ في اليوم التالي، من على منبره في الجامع ألقى الخطبة مكذباً الأقاويل. القيامة لا تقوم إلا حين يأذن بها الخالق. وفي مجلسه الخاص ذكر أن الأيام القادمة ستكون بلا شك أسوأ مما مضي. نعم، فهو كما العارفين بالأمور، ولا سيّما المسنّين، وبالنظر إلى ذاكرة أثقلتها الأحداث وحكمة أكسبتهم إياها التجارب، كانوا أقل تفاؤلاً: "كم ذاق الناس اللوعات من سفر "برلك" وفقدان الأبناء وترمّل النساء ويتم الأطفال وتفشّي الأمراض وغموض المستقبل. ما العصور منذ فجر التاريخ، منذ قابيل وهابيل، إلاّ سلسلة اقتتال. وما هذه المنطقة من العالم التي قسم الله لهم أن يولدوا فيها ويموتون، سوى من المناطق الضعيفة التي كانت ولا تزال مطمعاً لكل طامع. ما من غازِ في التاريخ إلاّ حاول غزوها. منذ ارتحششتا الفارسي، الذي، على استباحته مدينتهم، فضّل أهل "صيدا" إشعال النار فيها وتَحوّلوا معها إلي رماد... إلى رمسيس المصري ونبو خذ نصّر البابلي ويوليوس قيصر الروماني وغيرهم كثيرين احتلوا هذه البلاد. حكموها وتحكّموا بأهلها وأرزاقها قبل أن يأتيهم الفتح العثماني. لهؤلاء جميعاً كانت الغايات ذاتها: جمع الضرائب من الأطراف لإنفاقها في العواصم! الكلّ يصبو إلى التفوّق والمجد. الكل يتنافس على الحروب والبذخ. وبعضهم إذا شطح فاق كلّ تصوّر! مثلما فعل "عبد المجيد" حين قرّر بناء قصوره. أوقع خزينة الدولة في الإفلاس تحت وطأة الفوائد، كما فعل الخديوي توفيق في مصر. يا لهؤلاء! يقترضون من جيران اليوم لينافسوهم أعداءً للغد! والعثماني اقترض من أوروبا يضاهي قصره ابنتيها. بأطنان الطلاء من الذهب، ومئات من الحجرات وآلاف من الحريم والموظفين والخدم. صَنع من كلّ شيء اثنين.. اثنين. وإن سُئل عن السبب أجاب: "خوفاً من المسّ بوحدانية الله"! وحده البيانو الذي أرسله نابليون هدية له، شذّ عن القاعدة. ما الذي غَيْر الغطرسة يدعو الحكام إلى ذلك؟! ومَمَّ يشكو قصر "توبكاي" ليقرّر المتغطرس استبداله؟ توبكاي الذي يضم سيف الإمام علي وآثار لدعسة الرسول عليه السلام، فضلاً عن جمجمة يوحنا المعمدان، والذي بناه أعظم الفاتحين. منْ سقطت بين يديه أعظم الحضارات. إنّما لا ملك يدوم إلى الأبد! الإمبراطورية العثمانية هذه التي عاشت أكثر من ستمائة عام، قد شاخت ونخر السوس عظامها، وهي الآن في طورها الأخير تحتضر. ستندثر، كما أندثر آل فرعون ومملكة الإسكندر ذي القرنين.

كان على الكثيرين أن يبذلوا جهداً ليتخيّلوا يوماً لا تكون الخلافة العثمانية هذه، الممتدة في أطراف الأرض والمتوغّلة في جذور الذاكرة، موجودة! يوم لا ينشد فيه أبناؤهم التلامذة للسلطان عبد الحميد أو محمد رشاد أو من سيأتي بعدهما، ولا يدفعون فيه الضرائب للجباة، ولا يعانون اضطهاد الولاة ولا يُساق شبابهم عنوة إلى الحروب. لا تُلقي فيه الخطب العصماء على المنابر مناديةً بحياة الخليفة وباستمرار الخلافة إلى يوم الدّين. ويقول بعضهم في سرّه: فَلتولَّ.  لقد آن لنا نحن العرب، بعد أربعمائة سنة، أن نتطلّع إلى مستقبل آخر غير الخضوع لبني الأتراك. وهؤلاء أيضاً آن لهم أن يستريحوا من بطش من يزعم أنّه ظلّ الله على الأرض. مَن يرمي بالشبّان أحياء في الدردنيل والبوسفور. يُقال، يربطونهم بسلاسل الحديد ويتركونهم يغرقون، وتتكفّل تلك بألاّ تطفو جثثهم على الضفاف. يقال، إنّ زوجة سفير النمسا، كانت وإياه مدعوة إلى مائدة السلطان عبد الحميد. وإذ قُدّم لهم السمك امتنعت. ألا يعجبك السمك؟ سألها السلطان مجاملة، فأجابت: يعجنبى كثيراً السمك إنما أخشى أن يكون هذا قد تغذى بجثث شبانكم في المضايق.

*  *  *  *

نور الدين، ورغم إدراكه سلبيات الحكام، كان هو أيضاً يغبط نفسه: أن يكون شاهداً على قدوم القرن الجديد. إذا ما كان الثامن عشر على ذات المدى من التنوير، والتاسع عشر على هذا المستوى من التقدم، فما بالك بالعشرين؟ يغبط نفسه على أن الزمن جاد بنهضويين كبار، أمثال الأفغاني والشدياق واليازجي. مفكرون يحتكمون إلى العقل. يعون الفروق ولا يتوقفون عندها. هي لهم، منابع ثراء لا حجة تمييز. يلزم الكثير من أمثالهم لإنهاض الأمم. وهو يطمح لأن يحذو حذو هؤلاء. حين أنهى تعليمه في مدرسة الحكمة، اقترح عليه والده دخول "الشاهانية" للعلوم الإدارية، أو الكلية الحربية في اسطنبول، فوقع اختياره على معهد الحقوق. إذ لا يرى نفسه ضابطاً يخوض الحروب مهما علت رتبته، ولا موظفاً وراء مكتب مهما ارتقى في السلم. في نفسه توق عظيم لإحداث التغير الذي يبدأ بالوعي والإطلاع. ها هي سكك الحديد تمتد في بلدان أوروبا وآسيا امتداد الشرايين في جسم الإنسان. خطوطها تغري بالسفر، كما تغري به البواخر. كلها وسائل تختصر المسافات بين البحار وإليابسة. تسهل رؤية بلدان ينطق ناسها وعمرانها بلسان التاريخ وأحلام المستقبل. فلينطلق. فليحيا عصره ثم يقرر أين يُرسي المركب.

هكذا، وبعد تخرجّه من مدرسة الحقوق، اتجه إلى النمسا ليتابع دراسته. وبين العاصمتين وخارجهما دأب على السفر. يحلو له أن يركب القطار ويتوقف في المحطة التي تغريه بالنزول. وإذ خشي الأب على أبنه أن يمضي شبابه في حافلات القطارات، مكتفياً بكتابة مقالات ينفق عليها أكثر مما تنفق عليه، توسط لدى صديق له في الباب العالي، وعُين نور الدين مستشاراً فوق العادة. مهمة، على صعوبتها، تتفق وهواه. يعجبه أن يغدو وسيط تفاهم بين شعوب الإمبراطورية. بين عرب وأتراك وبلقان: يعجبه أن يسعى لنزع فتيل الحروب التي تدمر ما بذلت السلطنة في بنائه. السلطنة التي يقلقه تراجعها أمام بلدان أوروبا الصاعدة ويرى في توثيق الصلات بالأطراف من ضرورات الخلاص. الأطراف هذه، غدت مطمعاً للطامعين. يقال إن السلطان الداهية عبد الحميد، لانشغاله بالحفاظ على الحدود، نأى عن شؤون الداخل. عيونه تراقب جموح روسيا نحو البلقان، وسطوة إنكلترا على مصر والجزيرة العربية وفلسطين، واحتلال فرنسا شمال أفريقيا، وإيطاليا ليبيا. يقال إنّ كل ذلك اضطره إلى تعطيل الدستور وتسليم أمن البلاد إلى الصدر الأعظم. وغضّ النظر عن الولاة. لكن هؤلاء تمادوا في التسلّط والفساد والتنكيل، وأطلقوا اليد لرجال "العين الخفية". لابدّ لجيل آخر من تسلّم الحكم وكسر الطوق الذي ضربه هؤلاء حول الخليفة.

وحين وقع الانقلاب على السلطان عبد الحميد بعد حكم دام أكثر من ثلاثين عاماً، استعاد نور الدين ثقته بالخلافة. صحيح أنه لا يرى في السلطان الجديد "محمد رشاد" رجلاً فذاً، ويقال إنه أبله، لكن العودة ثانية إلى الدستور، والتعديلات التي حدثت تُؤذن كلّها بعصر جديد. بوركت نهضة هذه الإمبراطورية التي أصابتها كبوة! انتهى العصر الظلامي ليبدأ عصر النور. عصر الأحزاب والجمعيات وانتشار المدارس. مبادئ الدستور لا تختلف بشيء عن مبادئ الثورة الفرنسية. مواطنو السلطنة باتوا جميعاً على قدم المساواة، مهما اختلفت أديانهم وألسنتهم وطبقاتهم. الناس في كل البلاد سيفوزون بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها سكان العاصمة الأم. لن تُعزّز لأنك تركي أو تُقصى لأنك عربي. ابن لهذه السلطنة أنت وستُفتح لك الأبواب. فالآستانة بدأت تستعيد بحق معناها الأصلي: "دار السعادة".

*  *  *  *

وردة، أيضاً تغبط نفسها، إذ لا تتخيّل لحياتها زمناً آخر لم تكن المدارس فيه موجودة، لا للبنات ولا للصبيان. تسمع بمعلّمين يجمعون الأولاد تحت الشجر في البريّة، أو شيوخ وشيخات يدرّسون القرآن واللغة العربية في أماكن تُسمّي الكتاتيب. نساء عائلتها اللواتي سبقنها إلى هذه الدنّيا، درسن في الكتّاب أو في البيت، لدي مدرّسات عربيات أو تركيّات. القارئات منهن يزهون بأنفسهنّ، أما من تعرف الكتابة فلها شأن مميزّ. وكم تأسف لأن أختها ملك لم تلتحق بالمدرسة. يا للعجب! ملك لا تكبر ليلى كثيراً فلمَ الفرصة أتيحت لهذه دون تلك؟! لا تقنعها الحجج...فهذه  جعلت من ملك أسيرة البيت كالمسنات! أسيرة النمط الذي تمقت. نمط يبدو فيه المنزل أشبه بسجن والحياة دائرة مغلقة، مملّة وبلا أفق. تختلس فيه النسوة النظر إلى العالم من وراء المشربيات ذات القواطع الهندسيّة الجامدة التي تُصمّم خصيصاً للحريم! وهي تمقت كلمة حريم، التي تلخبط رأسها: حريم حرم، محرّم محروم! تمقت هذه العبارات التي تتردد كثيراً علي ألسنة الناس. ولعلّها تمقت "الحريم" أيضاً: تمقت ارتباكهنّ حين يتناهى إلى الواحدة منهن صوت رجل، وإسراعها إلى الاختباء أو تسوية غطاء الرأس. وكانت تكره زيّ النساء. البرقع الذي ترميه المرأة على وجهها والملاءة السوداء التي تغطي جسمها من الرأس حتى القدمين. تستغرب كيف ترى النسوة دربهنّ! كيف لا يتعثرن في المشي والبرقع قاتم وسميك إلى هذا الحد! وتشفق على أختها ملك التي تلبس مثيله. ملك، شابة في البيت وعجوز في الطريق! حين تسير مع الأخريات ويملأ الهواء تنانيرهنّ الطويلة الواسعة، يبدون لها مثل صفّ من الأشجار تتلوّى في أماكنها.

رضيّة شرحت لها ذات مرّة أنّ المنديل هذا صُنع خصيصاً لكي ترى المرأة من خلاله دون أن تُرى. وبرهاناً على ما تقول، أحضرت لها برقعاً ربطته على جبينها وأسدلته. ضحكت وردة كثيراً للتجربة. قهقهت. كانت تلك تجربتها الأولى مع البرقع. الأولى قبل أن ترميه ثانية على وجهها حين ستلبس بإرادتها الزىّ "الحريمي" الكامل الذي تمقته. ستفعل ذلك، في السادسة عشرة من عمرها، تنكّراً، وهي تقوم بما سيشغل المدينة ردحاً طويلاً من الزمن.

*  *  *  *

كاميليا، وحدها من نساء العائلة، لا تلبس هذا الزيّ. حين تخرج تكتفي بغلالة خفيفة على رأسها من الدانتيل أو الحرير الشفاف، و"كاب" واسع على كتفيها يصل إلى الوسط. زيّ كاميليا يضع الحدّ في خيال وردة بين الأزمنة، وكذلك الشمسيّة ذات الأطراف الدانتيل التي تحملها لتردّ عنها أشعة الشمس. وردة شاه تشكر القرن العشرين الذي سهّل السفر وأتاهم بهذه الشابة الأجنبية، وإلاّ كانت مشيئة العمّة نازلي ستنتصر. حين أتمّت الثانية عشرة، تحدثّت نازلي بضرورة تحجيبها، فبنات جيلها المسلمات سبقنها إلى ذلك. والسيدة عائشة أم المؤمنين كانت في مثل سنها، متزوجة وتلتزم فروض الإسلام. وكادت نازلي تستدعي الخياطة وتطلب إليها شراء الأقمشة واللوازم  للوافدة الجديدة إلى رعيل الملتزمات بأصول الدين. لحسن حظها أن نور الدين تدخل وأوضح لعمته وجهة نظره: الحجاب هذا ليس من فروض الإسلام الخمسة، مثل الصلاة والصوم. ما هو سوى تقليد ساد طويلاً في معظم أنحاء العالم. تلبسه النساء بصورة أو بأخرى، مسلمات كن أم غير مسلمات. وهذا الزي الأسود بالذات مستحدث، ولا أحد يدري كيف نشأ في المدن بين طبقاتها العليا، قبل أن يعم وتعتمده نساء جميع الطبقات. أنظروا إلى الأرياف اليوم، على مسافة ساعة من ركوب الخيل، لن تروا امرأة تلبسه، إلا إذا كانت تستعد للنزول إلى المدينة. ثم إن نساء المدن من شتى الملل، مسيحيات ويهوديات يغطين رؤوسهن أو يلبسن "الإزار" الأبيض. ما الذي جعل المسلمات يتحولن عنه إلى الأسود ؟ لا أحد يدري.

بعد انقضاء سنة على ذلك، ووردة تزداد طولاً وأنوثتها بروزاً، استبقت كاميليا الأمور وأحضرت لها من خزانتها غطاء للرأس من الموسلين الأزرق وآخر أبيض تنسجم ألوانه وزي المدرسة. ولما اتخذ حجابها طابعة النهائي، دأبت على النزول مع كاميليا إلى السوق لتنتقي بنفسها ما تريد. من يلمحها، في عبورها طريق المدرسة، في زيها المبتكر وشمسيتها المطرزة التي أعطتها إياها تلك، كان يظنها شابة مسيحية من طائفة الروم الأرثوذكس المتأصلة الجذور في رأس بيروت. وإذ يسألون يُحكي لهم عن تأثر الفتاة بآراء أخيها الذي جاب العالم، وبتقاليد زوجته ذات الأصل الأسباني.

يُحكى أن اسمها في الأصل "كلاوديا". وبالنظر إلى صعوبة اللفظ، أطلق عليها زوجها أسم "كاميليا". قدوم هذه إليهم يتراءى لوردة كأنما حدث اليوم. العم سليمان يفتح الباب الخارجي على سعته والعربة تدخل الحوش وتتوقف. ينزل منها نور الدين ويعطي يده لتتكئ عليها الشابة، وتبين ذراعها وقدمها ذات الحذاء الصيفي الرشيق. وحين نزلت بدت الشابة القادمة من وراء البحار، في أبهى حلة عروس تدخل على عائلة زوجها لأول مرّة.. ستتلكأ الشابة أمام الباب قبل أن يلح عليها نور الدين بالدخول. وعبرت الممرات بخطى متمهلة بين أحواض الزهر والشجيرات، والنساء داخل البيت ينتظرنها. وحين وطأت الدار فاح في الجو عطر خفيف دافئ ما لبث أن صار في خلد وردة "عطر كاميليا".

بعد تلك الزيارة، سافر العروسان في رحلة كانت وردة تسمع بها أول مرة: شهر العسل الذي دام شهرين. في عودتها حملت لها كاميليا الكثير من الهدايا: ملابس. قبعات من القش للصيف، وأخرى من الجوخ للشتاء. إضافة إلى اللعبة التي تجاوزت فتنتها تصورات الخيال! هذه غير التي صنعتها لها خياطة سنية. هذه، بفستانها الطويل الفضفاض المزيّن بالدانتيل، وشعرها البني المجدول
في ضفيرتين، وعينيها اللامعتين، تبدو كما لو كانت طفلة من
لحم ودم! كانت تلك أول لعبة تختار للعبتها أسماً. الاسم الذي
ضحك له أخوها نور الدين، "كلاوديا". تلفظه هي بغنج وبنطق أسباني سليم.

أعطتها زوجة أخيها اللعبة وانحنت تقبلها، فأحست بكيانها كله يتنشق عطر الشابة البديع. ورنت إليها منبهرة و كاميليا أيضاً ترنو إليها بانبهار. وردة مفتونة برؤية عروس ساقتها حكاية عجيبة من بلاد بعيدة، وكاميليا مأخوذة بالشبه الغريب بين أخت وأخ يكبرها بأكثر من ربع قرن! ما عينا الطفلة سوى نسخة لما سُحرت به منذ لقائها الأول بنور الدّين!

يوم انتقلت كاميليا إلى المنزل، والعمّال يحضرون الأمتعة، والعمّ جورجي يعطي التعليمات، وقفت وردة تتفرّج. أشياء كثيرة كانت تسمع بها للمرّة الأولى. بيانو. فونوغراف. أسطوانات. كما ولأول مرة كانت ترى امرأة تملك هذا الكم من الكتب والمجلات . ودفاتر مملوءة الصفحات، وأغراض أخرى: صناديق مرصعة بالأصداف وأخرى مطعمة بالنحاس والعاج. وصندوق كبير من الخشب المحفور.

الصناديق على اختلافها ملأى بثياب فُصلت لقوام الشابة الأهيف، ستعلقها هذه في الخزانة الموبيليا التي صنعها النجار بطرس خصيصاً لها: فساتين وتنانير واسعة طويلة مزينة بالدانتيل وقمصان مطرزة وأخرى مشكوكة بالخرز والكريستال. وأحذية ذات كعوب عالية وإكسسوارات وحقائب يد، وملاقط شعر، فضلاً عن قمصان النوم وثياب داخيلة من حرائر يخفق لها القلب. مطرزات، ومشغولات آنية من الصين والهند وبلدان أوروبا. وزجاجات عطور صغيرة مرصوصة في علب خاصة بها. زجاجات متماثلة الأشكال متنوّعة الألوان ومختومة بالشمع، يقال إن مَن حضّرها هو العم جورجيو نفسه. فقد  أراد لعطر ابنته الوحيدة أن يكون مميّزاً عن عطر أي امرأة أخرى.

قبالة هذا "الجهاز" وقفت وردة منبهرة! لا عجب، فسيدات العائلة اللواتي عُرفن في بيروت بحسن الذوق والملبس، انبهرن به! جهاز استغرق إعداده سنوات، ليعبر عن حب أب ابنته. عن رغبته، في أن تدخل مسقط رأسه "بجهاز"، يفتن عائلة العريس الذي سيختاره لها. وما دار في خلده أنّ القدر سيضع في دربها رجلاً مثقفاً من علية القوم، لن يرفع شأنها في نظره كثيراً أو قليلاً، ما ستُحضره معها إلى بيت الزوجية.

يوم اكتملت الترتيبات، جلست كاميليا إلى آلتها تعزف ووقفت وردة إلى جانبها تتفرج وتصغي. أنامل كاميليا رقيقة ناعمة تّعبْر مفاتيح سوداء وعاجية تتصاعد من ملمسها موسيقى عذبة . وتمنت وردة لو كان في مقدورها هي أيضاً أن تعزف. وإذ سألتها كاميليا بالإسبانية شيئاً، فهمته علي الفور وأومأت بالإيجاب. أجلستها علي الكرسي الصغير وتركتها تدوس بأناملها المفاتيح. ثم شرعت في تدريبها. كان ذلك أول درس لها في البيانو وأول عبارة تفهم معناها بالإسبانية. اللغة التي ستخلق بينها وبين زوجة أخيها عالماً خاصاً، تتدفق منه الحكايات والأحلام والصور. صور تُظهر كاميليا في "بوينس آيرس". في إحداها تستند إلى درابزين الحديقة وعلى رأسها قبعة واسعة. تساءلت وردة كثيراً عن مغزى هذه القبعة التي تزيّنها باقة زهر صغيرة، والتي ما من امرأة تعرفها في الواقع تضعها على رأسها ولا حتى كاميليا نفسها؟!

رضيّة تزعم أن القبعة يلبسها الأجانب لترد عن رؤوسهم حرّ الشمس. لكن فتنة القبعة التي تلبسها كاميليا والتي تلقي ظلاً على جانب من وجهها، تتجاوز في خيال وردة مسألة الشمس والحر والبحر، وتذهب بها إلى أبعد من هذا كله. لقبعة كاميليا سحر يفوق الاحتمال. مثل شيء يصعب الإمساك به. بل ويستحيل! استحالة يتساوى فيها الشوق والألم. استحالة الإمساك بعزمي إسماعيل وبوروان في الصور. أو الإمساك بعطر كاميليا الذي ينفذ إلى روحها والذي تتمنّي لو كان في وسعها امتلاكه ولو مرّة واحدة في العمر.

*  *  *  *

يحزّ في نفس نور الدين أن القرن العشرين، على وعوده، قد أنزل به من تلك الضربات ما يصعب احتماله أو نسيانه. فالواقعة التي جرت في العصر الحميدي البغيض والتي سترافق روحه مدى العمر، شقتّ العائلة في محورها ودفعته هو أيضاً إلى الهرب من لبنان بعيداً عن جواسيس "العين الخفية".

وردة، من ناحيتها، لم تسمع بالواقعة دفعة واحدة. بل تناهت فصولها إلى علمها عبر جمل متقاطعة، شأن الفاجعات التي عبثاً يحاول الكبار إخفاءها عن الصغار، فيجدون أنفسهم مندفعين سهواً للتحدّث بها، وهؤلاء متلهفين إلى الإصغاء. ورغم هذا تتمني وردة لو يُمحى من رأسها ذكر ما جري وكان لها من العمر بضع سنين.

أشيع في المدينة أن حكماً بالإعدام صدر بحق بعض الأشقياء المتهمين بأفعال نهب وقتل. وذكرت الصحف أن تنفيذ الحكم بات وشيكاً. ونشرت أسماء المتهمين في بيان صادر عن الوالي حول "هؤلاء المجرمين الذين يعيثون فساداً في الأرض، ويهدّدون أمن السكان. أعدادهم تتزايد يوماً عن يوم. هؤلاء سيلاقون بئس المصير ليكونوا عبرة لكل من تسوّل له نفسه الإخلال بأمن السلطنة". من بين المتهمين لم تعرف وردة سوى واحد فقط: قريبها شوقي.

*  *  *  *

في ليلة من ليالي تلك الحقبة المظلمة، سمعت مرام والدة شوقي زوجها في الغرفة المجاورة يشهق بالبكاء. هبت من فراشها تسأله عما به فرأته يستعد للخروج. ما الذي يدعوه لمغادرة البيت في مثل هذه الساعة والفجر لم يطلع بعد؟

- أرجوك يا مرام دعيني. قلبي يكاد ينفجر في صدري.

ـ يا سيد الرجال، أفعل ما تشاء. إن كان الخروج يفرج شيئاً من الهم، فلم لا؟ لكن أين ستمشي والدنيا ظلام؟

ـ إلى الشاطئ. لا تقلقي سآخذ القنديل.

المرأة التي، منذ شهور، باتت الأحزان غذاءها وغذاء زوجها اليومي، امتثلت الطلب. راحت تشعل له القنديل فيما الهواجس التي لا تبارح فكرها تشكك في كلامه. ولما عادت تبين لها أنه خرج. أسرعت إلى النافذة لتجد أنه بدل النزول إلى البحر، يسير في الاتجاه المعاكس المؤدي إلى الساحة! وضرب برأسها السؤال الرهيب: ماذا يحضرون لابنها شوقي؟

الاحتمال أفقد الأم صوابها، فاندفعت تلحق بزوجها كاشفة الرأس حافية تصرخ بأعلى صوتها، تنادي الجيران أن يلحقوا بها. نداء أيقظ النائمين، فأسرعوا إلى النوافذ ليروا زوجة الأفندي صالح أبو شوقي تركض كاشفة حافية. في هذا أمر لا ريب أمر خطير، أقلّه الجنون.

ـ وأكثره؟

ـ أبنها شوقي!

يقولها الناس ويسارعون إلى الخروج. النسوة قبل الرجال لبين نداء الأم. هُرعن إلى الساحة قبل أن يعلقوا الشاب الحر على حبل المشنقة. فقط لأنه جرؤ وكتب. نعم، واجه الوالي بما لا يقوى الكبار عليه. كيف لهذا أن يستهين بالأمر، وهيبته من هيبة السلطنة والسلطان؟

وتذكر وردة أن رضية، في ظلام الليل، صحت من النوم مع من صحا. وأن سائر السيدات بدأن في العتمة يلبسن تأهباً للخروج. وأن رجال البيوت الثلاثة أيضاً خرجوا. لم يبق سوى هي ومحمود ورضيّة. وهذه تروح وتجيء بين النافذة والفراش باكية تضرب صدرها وتردد: استر يا رب، يا رب أستر. سألتها وردة عما يحدث فطلبت رضية منها، ومن محمود، أن يرفعا أذرعهما إلى السماء ويدعوا الله أن ينقذ أبن خالهما شوقي: "يا رب أنقذ شوقي أبن خالي من حبل المشنقة. يا رب أنقذ يا رب...".

وردة تعرف جيداً كلمة "الحبل"، إنما تعجز عن فهم كلمة "المشنقة". وإن كان معناها الفظيع يتراءى لها ليصيبها بألم في الأحشاء، خاصة وأن محمود، لم يتمكن من ترديد العبارة إلا مرة واحدة، ارتمى بعدها في الفراش ودس رأسه تحت المخدة وطفق يشهق فيما أسنانه تصطك وجسمه يرتعش تحت اللحاف.
كان هذا قبل أن ينهض راكضاً خارج الغرف ليتقيأ في الدار
قبل أن يصل إلى الحمام. كانت رضيّة منشغلة بتنظيف المكان، حين غمرت وردة نفسها باللحاف ونامت، فيما مغزى الكلمة الرهيبة يتأرجح في رأسها. وفي صباح اليوم التالي أفاقت لتجد أفراد العائلة يبكون. رجالاً ونساء يبكون ويتساءلون: أين هو الآن نور الدين؟

*  *  *  *

كان نور الدين في الآستانة حين ألمح له رئيس الديوان أن أحد شباب بيروت متهم بإجراء اتصالات مع الفرنسيين لتشكيل جمعية سرية تناهض الدولة العثمانية. ولما سأل عن أسم الشاب، سمع الجواب الذي سيصيبه بالذهول. ما المتهم سوى أبن خاله شوقي!

ـ هذه وشاية، صاح، تهمة زور. هذا ابن خالي. أعرفه ولا لبس في ولائه، لا للسلطنة ولا للسلطان.

ـ لكن، أبن خالك يا حضرة الأفندي بالغ في طيشه. كان يحتاج لمن يسهر على أنشطته. الأخبار تؤكد اتصاله بالقنصلية الفرنسية وإيواءه الفارين من وجه العدالة.

ـ الفارين من وجه العدالة؟ مَن مِن هؤلاء الفارين تقصد؟

ـ بعض المسيحيين المناوئين للسلطنة والمتصلين بالدول الأوروبية.

ـ هل يمكن أن تفصح أكثر يا حضرة الباشا؟

ـ إن كنت مصراً على معرفة الاسم، فمن بين هؤلاء الخائن "بطرس الفاضل". أظن  تعرفه.

نور الدين، لسماعه الاسم ارتبك. فالذي ساعد بطرس الفاضل على الهرب ليس شوقي. وبعد لحظة صمت قال:

ـ يا حضرة الباشا، ابن خالي لا شأن له ببطرس الفاضل، فهو لا يعرفه. بطرس كان زميلي في المدرسة وقد جاء إليّ يوماً لأتوسط له لديكم لتبرئته من وشاية. ولفرط ما كان خائفاً طلب المبيت عندي فأذنت له. لم يكن متهماً ولا فاراً. وبعد مبيت ليلتين اعتذر وانصرف. ثم سمعت بعد ذلك أنه هرب إلى مصر. فما شأن شوقي بذلك؟

ـ نور الدين أفندي، نسيت أن تذكر أن الهارب لم يكن بمفرده. ثم قل لي... بعد أن غادرك الخائن مع ابنته الصغيرة، إلي أين تظنه توجه؟

ـ يا حضرة الباشا أفهم من كلامك أنك تحقق معي! تتجسسون على مستشار يؤدي عمله بأمانة. 

ـ أمانة تجاه من؟

ـ تجاه الحق. لكن لا بأس... ما سمعته من الخواجة بطرس نفسه أنه سيقصد أحد الأديرة.

ـ وطبعاً لم يصل. الحكاية باتت معروفة. المتهم يلجأ إلى أحد الوجهاء المسلمين، ومن ثم إلى دير، وبعد أيام يراه الناس في الإسكندرية أو نابولي أو مارسيليا. عجباً لم هؤلاء جميعاً قبل الهرب يمرون بأحدكم؟

ـ لأنهم لا يجدون من يحميهم ضد ظلم الولاة.

- هكذا إذن! عائلة إسماعيل صارت تأوي المتآمرين!

ـ لا بل تؤوي الخائفين.الرجل غريب. بعد عودته من المهجر وجد نفسه بلا عائلة فلجأ إلي. أنت تعرف القانون أكثر مني. تريدني أن اعتبره خائناً وأثبت عليه التهمة وهو لم يمثل أمام قاض بعد؟

ـ لا. أريدك فقط أن تكون حذراً يا حضرة الأفندي.

حين وصل الجدل إلى هذا الحد، طلب نور الدين
مقابلة الصدر الأعظم. وهذا أحسن لقاءه وأكد أنه سيسعى
لإنقاذ الشاب البريء. قبل أن يصل نور الدين إلى بيروت كان الإعدام قد نُفذ!

هزته الواقعة.

استبدلوا التركي بالعربي!

يقطعون رأس القط لإخافة النمر. كان الناس على حق: في ترهات البطش يستبدلون القوي بالضعيف، والغني بالفقير والمجرم بالبريء. وفي الانتقام يزجون بالحر مع الشقي! وأنت
يا نور الدين، فيما هم يفعلون، كنت منشغلاً بتقديم الصورة الزاهية للسلطنة في المحافل! على من كنت تكذب يا نور الدين؟ وكيف بعد اليوم ستجرؤ على النظر في عيني خالك صالح؟ 

*  *  *  *

العقاب، ذاك النهار، أدّى إلى عكس مبتغاه. لحقت النسوة بالسيدة مرام. والرجال والشبان، بلا اتفاق اتجهوا إلى الساحة. حدس الأم هو الذي قادها إلى المكان، ولهفة الآخرين دفعتهم للحاق بها. المدينة تسترحم الوالي، لعله في اللحظة الأخيرة يعفو. لعل بارقة عدل تُضاء. لعل قلب الظالم يرق قبل أن يلتفت الحبل حول عنق الشاب البريء.

لن يصل أحد من هؤلاء إلي قلب الساحة. فالعساكر ببنادقهم والخيالة بجيادهم سدوا المنافذ. الناس يصعدون إلى سطوح البيوت ويخرجون إلى الشرفات. خالة شوقي حاولت كسر الطوق والنفاذ إلى حيث نُصبت المشانق، لكن الجند صدوها، فصاحت لعنة الله على الظلم والظالمين. وردّد الجمع: لعنة الله على الظلم والظالمين. ومرام أيضاً حاولت كسر الطوق لكن العساكر أبعدوها كي لا ترى ما لا يجوز لأم أن تراه. أغمي عليها وحملوها إلى أحد البيوت. الأب رغم انهياره، صعد إلى سطح بيت قريب، وحيّا أبنه الذي سيتشهد بعد لحظات: إلى رحاب الجنة يا ولدي. إلى رحال الجنة يا حر يا بريء.

وشوقي هتف بأعلى صوته.

بريء.  ليعلم الناس أني بريء. فليسقط الظلم. إلى الجحيم يا وإلي بيروت. إلى الجحيم أنت والسلطان عبد الحميد.

كانت تلك كلمات الوداع. علا بعدها صوت المؤذن في الجامع العمري بعبارة "الله أكبر". وضربت الأجراس في كنيسة القديس جاورجيوس. ثم راحت مآذن المدينة تنادي الله أكبر، وأجراس الكنائس تقرع من أعالي الأشرفية إلى ساحة الحرية وباب إدريس حتى أطراف رأس بيروت. العويل في محيط الساحة يختلط بالزغاريد، بالهتافات: آويها يا شوقي يا سيد الشباب. إلى الجحيم يا والي بيروت. إلى الجحيم أنت والسلطان عبد الحميد.

ولعلع الرصاص في الفضاء، فيما استمر الهتاف الذي من شأنه أن يقود الرجال إلى المصير الماثل أمامهم. أصوات الرصاص وصراخ الجماهير هيجت الأحصنة فراحت تصهل رافعة قوائمها إلى الأعلى. وتمرد أحدها ورمي الضابط من على ظهره. والجند كثفوا إطلاق النار. وحين سدد قائدهم فوهة بندقيته إلى الرؤوس، بدأ الناس يفرّون متراجعين إلى الشوارع الداخلية. يتابعون الهتاف بسقوط الوالي والسلطان.

كان من شأن تلك الحادثة أن تضرم النار في النفوس. من بيروت إلى القدس، ومن البقاع إلى دمشق وحلب. أخبار المظاهرات والاحتجاجات وصلت إلى مسامع السلطان. وما كان في وسع هذا، والوضع دقيق ودول أوروبا تتربص، أن يطالب الوالي بمزيد من البطش. هكذا، تهدئة للنفوس، أمر بعزله.

نور الدين، بلا تردد قدم استقالته. بعد الاستقالة فقط صار يحق له زيارة خاله. راح إليها متهيباً خجلاً. انحنى ليلثم كفه. لكن وقبل أن يتاح له شرف لثمها كان الخال قد سحب يده. تماسك نور الدين وجلس. ثم طلب مقابلة السيدة مرام وخاله أجاب:

ـ مرام مريضة ويستحيل عليها مقابلتك. وأنت كيف حالك يا نور الدين؟ سمعنا أنك وقت الحادثة كنت في الآستانة وقابلت الصدر الأعظم؟

ـ صحيح. والصدر الأعظم طمأنني وأعطاني وعداً أكيداً بالعفو عن شوقي.

ـ غريب! تمتم الخال.

ـ فعلاً غريب. وأنا احتجاجاً على ما جرى قدمت استقالتي.

ـ وأنقذت روحك. حسناً لنفسك فعلت!

صدمته العبارة فتهالك على المقعد غير مصدق ما سمع. لابد أن يدافع عن نفسه! أن يقول شيئاً. أن يجلي الملابسات. لكن خاله نهض وغادر الدار إلى الداخل، وعاد حاملاً عريضة كبيرة من الورق الأبيض، لم يشك هو لحظة في أنها عريضة التهم التي عُلقت على صدر شوقي عند تنفيذ الإعدام. بلا كلام، أشار خاله إلى إحداها: "إيواء الفار من العدالة المحكوم بالإعدام الخائن بطرس الفاضل".

فهم نور الدين القصد!

الأحداث المتقاطعة هذه جرت على نحو، وخاله يقرأها علي نحو آخر. يلزمه قوة إلهية تقنع خاله ببراءته! يلزمه دهر من السنين... وسمع خاله يقول ساخراً:

ـ بارك الله بشهامة الرجال! خاصة من كان منهم علي غير استعداد لدفع ثمنها!

نعم، طوال حياته سيحمل وزر ما حدث.

تحامل على نفسه ونهض، وفي نيته أن يعود. غداً وبعد غد. بل وفي كل يوم سيأتي ليشرح موقفه. خاله رافقه إلى باب الدار، وهناك طلب إليه أن لا يأتي إليهم ثانية، لا هو ولا أي من آل إسماعيل!

خرج مهزوماً. انكفأ على نفسه. وفي استقباله المعزين كان يمضي الوقت صامتاً، أشبه بميت حي، يحادث طيف شوقي وطيف خاله ويحاور نفسه: عائلة إسماعيل هذه باتت بلا مكانة ولا دور. الخلافة تتهاوى أكثر مما يخيل إليه! كلما ضعف الحكام بالغوا في البطش. وهو، أبن العمة بات منشطر الروح. نصفه التركي مسئول عما حدث لنصفه العربي. ليس وحده من سيحمل الوزر. أخوه اليافع نظمي سيحمله أيضاً.  بات من المستحيل أن يزوجه خاله صالح الحفيدة التي وعده بها. حتى وإن كانت ستبقي بلا زواج، لن يعطها لابن الأتراك نظمي. هكذا وبصورة نهائية تمت القطيعة. والملامة التي قرأها نور الدين في عيني خاله صار يقرأها في عيني أخيه حين يلقاه. يشيح نظمي بنظره أو يسارع إلى الانسحاب. وخطر له أن يفاتحه بالمسألة لكن أخاه يتهرب. وفي اللقاء الأخير انتهز الفرصة وقال:

ـ أفهم حزنك يا أخي، ولعل الخال بمرور الوقت سيهدأ، وتعود الأمور بينكما إلى مجراها.

ـ لا أظنها ستعود.

ـ ألهذا الحد جعلك اليأس تتخلّى؟

ـ أنا لم أتخلَّ. أخي هو الذي فعل ذلك.

ـ أخوك؟

ـ نعم. المستشار تخلّى عن أبن خاله.

ـ حتى أنت يا بروتوس؟!

ـ نعم. بروتس، أخوك الأصغر، الذي أغفلت حسابه، يريد أن يُعلمك شيئاً آخر.

ـ تفضل.

ـ يجب أن تعلم أني أنا أيضاً تخليت.

ـ تخليت؟

ـ نعم. منذ تلك الحادثة، تخليت وإلى آخر العمر عن ولائي العثماني.

ـ أكاد لا أصدق ما أسمع!

ـ وأنا أيضاً لم أصدق أشياء كثيرة سمعت بها.

ـ لكنك عدت وصدقت.

ـ نعم صدقت.

ـ إذن قل لخالك إنك تخليت؟

ـ قلت له فلم يصدقني.

ـ كلنا يا أخي في المحنة متساوون، فلا أحد منا بات يصدق أحداً.

ووجد نفسه يتمتم: حين تقع العروش ينفض من حولها الناس. وقال لأخيه:

ـ حسناً! قل لعزمي إسماعيل أنك تخليت.

ـ رحم الله الوالد؟

نعم، أقرب الناس إليه يصدق الأقاويل! ماذا في وسعه أن يفعل؟

ووجد بعض العزاء في التعبير. كتب مقالة مؤثرة عما حدث عنوانها: "إعدام ثلاثة جياع ومثقف". نشر المقالة باللغة التركية في صحيفة معارضة في اسطنبول، وبالعربية في "لسان حال". وصار يكتب ويحذر الباب العالي من خطر التفكك إذا ما تمادت الحكومة في سياسة البطش الذي جاوزت أخباره بلدان العالم.

جرأة مقالاته جعلت والي بيروت يوقف الصحيفة أسبوعين، ووضعت نور الدين في دائرة الضوء، مكشوفاً لجواسيس "العين الخفية". ونصحه المقربون بالسفر. وبعد تفكير فضل الذهاب إلى مصر. ودُعي أكثر من مرة إلى الآستانة فاعتذر. اعتذر عن قبول أي منصب، في زمن ترتبط به المسئولية بالقتل. فليس هو الأهل للحكم علي الأرواح. ولا أحد في الدنيا أهل لذاك. ارتكاب ما حرمته أديان السماء: القتل. "لا تقتل". " لا تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق". وهيهات لعقل الإنسان القاصر المورّط بالشهوات وسلطان المجد والمال... هيهات له أن يبلغ جوهر الحق.

وتقرّب من اللبنانيين الهاربين وصار يتردد إلى مجالسهم ومجالس المفكرين والرواد. وغدا مقصوداً من كل باحث عن خفايا ما يجري في البلاد. وهناك التقى الشيخ محمد عبد وغيره من النهضويين. وفي رحلة له إلى باريس التقى أعظم شعراء عصره: أحمد شوقي.

*  *  *  *

منذ دخولها المدرسة، أبدت وردة شاه شغفاً بدروسها وميلاً للإتقان بلغ حد الهوس. وغدت مثالاً للدارسات، لم يعكر صفاءه طوال أعوام سوى تلك الحادثة الغريبة التي جرت بينها وبين زميلتها "أسماء". الحادثة التي على أثرها طُردت الفتاة النجيبة من المدرسة.

لا أحد، في البدء، تمكّن من فهم ما جرى. كاميليا ورضيّة حاولتا معرفة السبب، فلم تلقيا من وردة جواباً سوى دموع تلمع في العينين، وشهقات تقف في الحنجرة، وغضب ترتعش له شفتاها ويُترجم بجملة واحدة: هذه الشريرة - التي تأبي أن تلفظ أسمها - ستبقى عدوتها مدى الحياة. مدى الحياة لن تلفظ أسماً صار من المنجسات!

جل ما تمكنت العائلة والإدارة من معرفته أن "أسماء" عيّرت وردة بمسألة ما، وأن التعبير أفقدها صوابها، فما كان منها إلا أن بصقت بوجهها وهجمت عليها هجوم نمرة استفزت. وقبل أن تتمكن "أسماء" من اتخاذ استحكامات الدفاع، كانت وردة، يساعدها طول قامتها في السيطرة على الموقف، قد سحبت عدوتها من شعرها وكادت تهوي برأسها إلى الأرض، لولا أن "نبيهة" و "روز ميري" تدخلتا لتفرقا بين البنتين المتنازعتين. لكن "إكرام" اندفعت تنتصر لوردة التي لها فضل كبير عليها! فمنذ بضعة أشهر وهذه تكتب لها مواضيع الإنشاء مجاناً! إكرام لا تعرف أن الإعفاء من "الرسوم" إنما تم بفضل نور الدين. حين علم الأخ بالمورد المالي الإضافي لأخته أنّبها، وأفهمها أنها تغش مرتين: مرة لأنها تكتب بالنيابة عن زميلتها، ومرة لأنها تفعل ذلك لقاء المال.

ـ "من الآن فصاعداً سأكتب لك مواضيع الإنشاء مجاناً"، قالت وردة لإكرام:

كيف لن تتدخل هذه لنصرتها؟

وفي لحظة التحكم بالموقف، تناولت وردة المحبرة ورشت ماءها على رأس "أسماء" مما جعل نبيهة وروز ميري تفران، وهذه تتجه إلى الحمام لغسل رأسها، ومن ثم إلى الإدارة للشكوى. على الرغم من تدخل نور الدين وتعهد كاميليا، طُردت وردة من المدرسة. لازمت البيت أسبوعين. ولولا الصديقة الوفية إكرام لما أعيدت إليها ولما فهم أحد سبب ما جرى.

حين تأكد لتلك إصرار مسز سكوت على طرد وردة شاه، طلبت مقابلتها. وراحت تخبر المديرة  ملابسات الحكاية. وبين لغتين نطقت بهما المحامية الصغيرة، وحماسة بالغة لإنقاذ زميلتها، لم تفهم مسز سكوت من الحكاية شيئاً: هناك احتفال كبير ورحلة في الترامواي. وهذه مسألة معروفة. وهناك وردة شاه وثياب اشترتها لها كاميليا من سوق الطويلة. مفهوم. وهناك أميرة أسبانية وقبعة وشمسية من الدانتيل حاولت المتحزبات لأسماء انتزاعها.

عجباً!

فالمديرة لا تتذكر أن أي أميرة، أسبانية أم غير أسبانية، حضرت ذاك اليوم الاحتفال. وإذ بدت لها الحكاية أشبه بمغامرات ساندريلا منها بدفاع تلميذة عن زميلة لها، التفتت إلى الناظرة يُسرى. وهذه بدورها طلبت من إكرام أن تخبرها الحكاية ثانية، بهدوء وباللغة العربية. وهكذا أتضح أن كل ما جرى كان سببه تدشين الترامواي.

كانت المدرسة قد قررت أن تأخذ تلميذاتها، إلى الافتتاح المهيب الذي سيحضره رئيس البلدية وأعضاؤها، إضافة إلى وجهاء المدينة. وسيحضره بالطبع ممثلو الشركة الفرنسية التي نفّذت المشروع والمهندسون الألمان الموجودون في بيروت لإقامة مشاريع أخرى. فضلاً عن حضور والي الشام وممثل السلطان نفسه الذي جاء من اسطنبول خصيصاً لذلك. في خطبته أشاد الزائر المهيب بمن كان له الفضل الأكبر في نهضة بيروت: سليم باشا. خلال مأدبة الغداء، انتهزت مسز سكوت الفرصة لتخبره أن حفيدة سليم باشا هي من تلميذاتها اللامعات. وإذ أبدى الزائر اهتماماً، استدعت المديرة وردة لتسلّم عليه. في اليوم التالي، كانت رحلة الترامواي. وبتلك المناسبة، حررت إدارة المدرسة التلميذات من الزي الموحد وسمحت لهن أن يلبسن الثياب المفضلة لديهن، على أن يحملن علم المدرسة ويلوحن به من النوافذ تحية للجماهير.

لحظة أقبلت وردة بقبعتها وملابسها "الإيكوسية" ، و"السكربينة" اللماعة السوداء ذات الربطة الجانبية والزّر، اشتعلت الغيرة في قلب أسماء.  كيف ستبدو تلك أمام الوجهاء والأجانب أفضل منها؟ بل لكأنها واحدة منهم؟ وكيف يأتي ممثل السلطان على ذكر جدها دون غيره من وجهاء المدينة؟ وكيف تستدعيها المديرة دون غيرها لتعرفه بها؟

راحت أسماء إليها وسألتها:

ـ من أحضر لك الملابس والقبعة؟

ـ "كاميليا".

ـ من ألبسك إياها؟

ـ ماما رضيّة.

ـ ومن ضفر جدائلك؟

ـ ماما رضيّة.

ـ ماما رضيّة؟

ـ نعم.

ـ كذابة.

قالت هذا، ثم انتحت بصديقاتها نبيهة وروز ميري وسعدى وأسرت لهن بشيء ورحن يضحكن ويتهامسن: كذابة! أمها ليست رضيّة. فهي لا أم لها!

وحاولت روز ميري ان تنزع القبعة عن رأس وردة، وأن تخطف أسماء الشمسية من يدها. وقهقهن فيما سعدى الغيورة تقول: "ومن تظن نفسها، أميرة أسبانية؟"

تلك كانت الحادثة الوحيدة التي شذت عن سلوك وردة ونبهت الدراسات إلى ما يمكن أن يبدر عن هذه الفتاة الوديعة الناحلة إذا ما عُيّرت بتلك المسألة. وردة، لفترة طويلة، لم تغفر لأخيها موقفه: أن يُضطرها للتصالح مع عدوتها، ويطلب إليها أن تلفظ اسمها وتقلع عن فكرة النجاسة والطهارة. لم يدر أن تلك الشريرة عيّرتها لما لا يجرؤ أحد في الدنيا علي تعييرها به: وفاة ذويها: بوران وعزمي إسماعيل.

*  *  *  *

في مهب الغرق
لن يخطر في بال كاميليا أن أحداً من آل إسماعيل يعرف تفاصيل حياتها في الأرجنتين، أو شيئاً عن رحلتها إلى مارسيليا. فهي أكثر حياء من أن تتحدث بذلك. وبطبيعة الحال لا يمكن لزوجها أن يفعل. جلّ ما يعرفه هؤلاء، أن نور الدين أحبها وهي مالت إليه وحين طلب يدها لتكون زوجته قبلت رغم معارضة أبيها. غير أنها، بعد مرور سنوات على زواجها، ستكتشف كاميليا أن هناك من عرف أشياء وأشياء عن حياتها السابقة على انضمامها إلى آل إسماعيل.

وردة أيضاً، كان يخجلها أن تسأل زوجة أخيها عن أشياء، مثل مرض أمها مارتا، وخطبتها لشكري التي دامت سنوات وانتهت إلى لا شيء. فكيف لو كان السؤال يتعلق بالحب الذي نشأ بينها وبين نور الدين على سطح الباخرة؟! لأمد طويل ظلّت هذه القصة تطارد خيالها. وعندما بدأت تكتب يومياتها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، ورغم انشغالها بالحب الذي أخذ عليها روحها، ملأت وردة صفحات كثيرة تتعلق بحكاية الغرام تلك. ولعل كلمة غرام لم تكن موجودة في قاموس فتاة مثلها، ولا في القواميس المعلنة لكبيرات السن في محيطها. ولا كلمة "عشق" الأفظع منها. اللهم سوى أن تكون قد ذُكرت همساً والتقطتها أذنها. فأكثر ما يمكن قوله في وسط عائلي محترم، هو كلمة "محبة". أما الكلمات الأخرى المخلة بالحشمة فكانت وقفاً على ألسنة الرجال، والهامشيين منهم بشكل خاص. يسوقونها في أجوائهم غير البريئة. مثل بيوت "العالمات" التي يرتادونها، وأمام خليلة وقعوا في هواها.
أو في المقاهي التي بدأ انتشارها وشدّة إقبال الشبان عليها يُزعج نور الدين.

لعل وردة لم تسمع بهذه الكلمة في حياتها الواقعية. ولا حتى في المدرسة حيث يمكن لبعض الفتيات المتمردات أن يعبثن بالكلام! لكن خيالها المتعطش، لابد وأن صوّر لها، ولو بشكل غامض، محنة العشق التي مر بها أخوها والتي لم ينقذه منها سوي تضحية زوجته سنية والتوسل إليه للزواج بمن شغفت بها روحه. وردة، مهما زعمت نساء العائلة، لا تقيم وزناً لتضحية سنية. إذ تبدو لها كمن يهب شيئاً لا يملكه.

وحدها كاميليا تملكه.

 وحدها من بينهن عرفت الحب الذي يمنح أهله مذاقاً لا يعادله في الدنيا مذاق. الحب الذي دفعها إلى البحث عن دفاتر المحبوبة كاميليا. منذ أن خطرت لها الفكرة بات من الصعب عليها أن تقاوم. وظلت تبحث إلى أن عثرت على الدفاتر مرصوصة في قعر الصندوق.

كانت الدفاتر قد شدت انتباهها منذ قدوم كاميليا إلي البيت. في البدء ظنتها كراريس مدرسية تحتفظ بها العروس الشابة على سبيل الذكرى. وحيث أشارت كاميليا ذات مرة، إلى "يوميات" درجت على كتابتها في المساء، تناهت لوردة رائحة الأسرار وتشوقت لقراءتها. وتساءلت إذا كان ما ستفعله يُعتبر سرقة. لا. في خلدها أنها تستعير الدفاتر خلسة، فتقرأها لتعيدها إلى مكانها وتستعير غيرها، على غفلة من صاحبتها. الأمر الوحيد الذي تنبهت إليه كاميليا هو تقدم وردة في اللغة الأسبانية. في حينه، ازدادت إعجاباً بها وبشرت نور الدين. وصارت تعيرها بعض الكتب والمجلات الأسبانية. وكذلك صار يفعل العم جورجيو. كان حين ينزل من الجبل يمضي وقتاً طويلاً في المطالعة مع وردة. كما أوصى أحد المسافرين فأحضر لها قاموساً باللغتين الإنكليزية والأسبانية.

حيث أتمت الخامسة عشرة، كانت وردة شاه قد أنهت قراءة الدفاتر. وفي عبورها فصول الرحلة بين الأرجنتين وفرنسا وصولاً إلى بيروت، كانت قد أتقنت لغة كاميليا، وغدت متحضرة تماماً لكتابة اليوميات التي حفظت بعض مقاطعها عن ظهر قلب. وكان الهدف الذي سعى إليه نور الدين قد تحقق! فأخته برعت في ما كان يخطط لها أن تبرع فيه! لا تنقصها جماليات العبارة ولا شغف المعايشة لتكتب عن حكاية جرت في باخرة تفوق مساحتها بيوت آل إسماعيل الثلاثة وحدائقها. تزحف على سطح الماء حاملة مسافرين جاءوا من أطراف الدنيا. مسافرون كادوا، لولا رحمة القدر، أن يقضوا غرقاً جميعاً، ومن بين هؤلاء نور الدين وكاميليا.

*  *  *  *

في إحدى رحلاته إلى مارسيليا التقى نور الدين الفتاة وأباها العائدين من الأرجنتين إلى لبنان. وهو، ما كان سيعير هذا اللقاء العابر في الفندق أية أهمية لولا أن الصبية تشبه فتاة أخرى رآها لا يذكر أين، إنما من المؤكد أن تلك تركت أثراً قوياً في نفسه!

وفي المساء خرج كعادته يتمشي في شوارع المدينة. ووجد نفسه يتساءل عن هذه الفتاة وأبيها اللذين سمعهما يتحادثان بالأسبانية. وبالعربية أحياناً، وبلهجة ذكرته باللهجات السائدة في جبال لبنان. وسمعه يناديها: كلاوديا. وهي تجيبه: بابا جورجيو. واضح أنها تفهم لغة أبيها وإن كانت تتكلمها بلكنة أجنبية وكلمات مكسرة. مهاجر يعود إلى وطنه مع ابنته، كما بات يحدث لبعض الميسورين، حين تبلغ فتياتهم سن الزواج. ترى، أين سبق له أن رأى شبيهتها؟!

واستغرب هو نفسه اهتمامه بالعثور على الجواب! صحيح أن الفتاة ذات جمال أخاذ، إنما هذه ليست أول مرة يقابل فيها شابة جميلة في رحلاته الكثيرة بين أسبانيا وأوروبا.

وبعد أيام، التقى في البهو والد الشابة، وكان برفقة "جان جاك رو" صاحب الفندق. بادر هذا الأخير وسلّم وأجرى التعارف بين الرجلين. وفي اليوم التالي غادر نور الدين الفندق وركب الباخرة المتجهة إلى بيروت، ظناً منه أن ذاك التعارف كان اللقاء الأول والأخير. وكانت مفاجأته الأولى، أن يلمح من قمرة الكابين، الفتاة وأباها يقفان مع المسافرين. بعيد دخولهما الباخرة غابا عن ناظريه. وجلس هو في البهو يقرأ. وما لبث أن تناهى إلى حسه عطر خفيف يشبه عطر الفتاة تلك. التفت فانحنى الأب يحييه.

وردّ هو التحية بأجمل منها، فيما ألقت عليه الشابة نظرة خاطفة، فيها من الحياء قدر ما فيها من فضول. وعطرها بعيد مرورها ترك أثراً ناعماً كما لزهر طبيعي. وداخله شعور بأن الرحلة، بوجود هذه الشابة وأبيها ستكون أكثر بهجة مما كان يتوقع. ثم، وبعد ذلك، تجاوزت الملابسات كل تصور، لتؤكد له أن الأقدار دبرت لهما، هو وهي هذا اللقاء. لا لشيء إلا لرغبتها في مداعبة أبن آدم واختبار صلابته في منعطفات العمر وتقلبات الظروف.

أبحرت الباخرة من مرفأ مرسيليا عند الثانية بعد الظهر. وفي المساء، أثناء تناوله العشاء، رأى نور الدين الرجل قادماً، إنما هذه المرّة، بمفرده. نهض وسلم عليه ودعاه إلى طاولته، ودون تردد لبى الدعوة. وهكذا في مكان استثنائي، ومناخ صيفي يُغري أكثر الناس تحجراً بالاستسلام إلى دفق المشاعر، جلس الرجلان يتناولان العشاء ويتبادلان الأحاديث، فيما كل منهما منشغل بأفكاره. المهاجر يخطط لعودة مع ابنته إلى أرض الوطن. ونور الدين يأمل أن تنضم هذه إليهما، لتأنس وإياهما بهذا الليل الخلاب. النجوم تلمع في السماء غاوية رشيقة. البحر ساكن سوى من موجات صغيرات تهدهد السفينة . نجمة الشمال تحدق بالمسافرين. وسمع نور الدين والد الفتاة يقول:

ـ الإنسان، مهما ابتعد تبقى النجوم رفيقة دربه.

كلام فيلسوف!

ماذا يفعل هذا الرجل في الحياة يا ترى؟ وقبل أن يتسنى له سؤال جليسه عن أي شيء، حدث ما لم يكن في الحسبان! قطع مكبر الصوت صفاء الجلسة ليذيع بالفرنسية أشياء! ورغم أن جورجيو فهم تماماً ما أُذيع إلا أنه سأل بلهفة:

ـ ماذا يقولون؟ ماذا يقولون؟

ـ يقولون؟ عجباً... يقولون إن الباخرة لسبب طارئ ستعود أدراجها إلى ميناء مارسيليا.

ـ يا إله السموات!

قال الرجل هذا ونهض، فيما نور الدين يحاول أن يطمئنه.

ـ ليس خوفي على نفسي بل علي ابنتي، قال جورجيو.

ـ اذهب إليها. وسأذهب أنا إلى قمرة القيادة لاستفسر.

القبطان، رغم انشغاله، بدا مستعداً لطمأنة المستشار. لكن المشكلة يا سيدي، أنه أمامنا أكثر من ست ساعات إبحار في باخرة يهدد عطلها بأعطال أخرى. نحن في سباق مع الوقت. ومثلك أتمنى أن تنتهي الرحلة على خير ونتبادل التهاني بالسلامة في أرض المرفأ.

نور الدين لم يفقد الأمل. إنما، في لحظات خاطفة وكافية لتسرب الأفكار العبثية إلى سطح الوعي، رهبة كبيرة كان تستولي على روحه . من تلك التي تذكر أبن آدم بترهات الحياة وجهله بما يخبئ له القدر، كأن يشهد نهاية حياته على نحو مأسوي. فالباخرة وسكانها هي الآن في رحمة قوى لا سلطة لأحد عليها. رحمة أهواء البحر والريح والسماء وأهواء المصادفات. عدا تلك اللحظات الرهيبة، كان يخامره شعور بأن وعداً إلهياً بالنجاة قد أُعطي لهؤلاء المسافرين وهو من بينهم. المحنة ستنقضي والباخرة ستصل إلى شاطئ الأمان، وسيتبادل المسافرون التهاني التي تمناها القبطان. يتبادلونها على الرصيف ذاته الذي غادروه  بالأمس.

عند الفجر، فتح صاحب الفندق عينين واسعتين لرؤيته المسافرين الثلاثة عائدين ولم يمضِ على مغادرتهم الفندق إلا ساعات! سينزلون ثانية لديه لحين استبدال الباخرة المعطلة بأخرى أبحرت من ميناء نيويورك ولا تزال في عرض المحيط.

ـ متى تصل؟

ـ بالتأكيد بعد أسبوعين أو ثلاثة.

*  *  *  *

كان نور الدين، مستعجلاً العودة إلى بيروت، إلا أنه استعذب البقاء. لطالما أغراه صديقه جان جاك بزيارة معالم المدينة وما من مرة وجد الوقت الكافي ليفعل. وجورجيو، بعد اطمئنانه إلى النجاة، استعذب هو أيضاً تجديد الإقامة في الفندق. يخامره ذاك الشعور بأن القدر الذي يُعنى بالطيبين من أبنائه، قد وضع في دربه هذا الرجل إبان ظرف هو في أمس الحاجة به لأمثاله. نعم، فهو لم يكن أقل منه فضولاً واندفاعاً لتوثيق الصلة. حتى أن الشابة نفسها صارت تلاحظ ذلك. فوالدها يوحي لها أن تلبس "بعضاً من قطع جهازها"! أمر قلما كان يحدث في السنتين الأخيرتين في بونس آيريس. وإزاء دهشتها شرح لها أبوها القصد: الباخرة، يا ابنتي، كما الفندق، هي أولى المحطات التي يعبرها الناس في سفرهم إلى المكان المنشود. كثيرون تغيرت مصائرهم في محطات مثل هذه. لذا، فمن الحكمة أن يبدو الإنسان في رحلاته على أفضل صورة يمكنه أن يقدمها عن نفسه للآخرين. وبرهاناً على رأيه الحكيم ذكرها جورجيو بصداقته مع صاحب الفندق وكيف بدأت في الارجنتين.

الصبية التي فهمت بصورة غائمة موقف أبيها، لم تتمكن من الإمساك بجوهر السبب الذي يدعوه لاتخاذه. لكن حدسها ينبئها بأن انشغال أبيها بأن تبدو ويبدو هو أيضاً في أفضل حال، له علاقة بالرجل الأنيق الوسيم الذي تعارفا به. الرجل الذي، في نزولهم من الباخرة، ساعدهم في تدبير شؤونهم: أمر بإحضار العربات وكلف الحمالين نقل أمتعتهم من الباخرة إلى الفندق. ترى، ما الذي يبغيه والدها من هذا المسافر؟

لا تدري!

وإن كانت الأيام ستؤكد على أن العبارة التي قالها الأب بشأن الرحلات ومحطاتها لم تكن بليغة وحسب، إنما كانت أشبه ببوصلة سحرية قادت المسافرين الثلاثة إلى مصائر لم يخطر لأي منهم آنذاك  إمكانية بلوغها.

*  *  *  *

المهاجر اللبناني الذي صقلت الأعمال التجارية في الأرجنتين موهبته في التعامل الاجتماعي، لم يفته منذ قدومه إلى الفندق، أن يلاحظ رجلاً أنيقاً يقيم في جناح خاص ويزوره أشخاص لا يقلون عنه أناقة وهيبة. حين ينزل إلى البهو يسارع كبير الموظفين، بل ومسيو جان جاك نفسه، للترحيب به وسؤاله وضيوفه عما يريدون. هو أيضاً من ناحيته، ما كان ليولي اهتماماً خاصاً بهذا الرجل لولا أنه سمعه يتكلم العربية مع زائر أقبل عليه مرحباً بالعبارات التقليدية، وبلهجة أقرب ما تكون إلى لهجات بلاد الشام. ثم حين جرى التعارف بينهما تأكد ظنه بأن الرجل من بيروت. من يكون هذا يا ترى؟ وماذا يفعل على وجه التحديد؟

إنه من كبار مستشاري وزارة الخارجية العثمانية، قال له جان جاك : "رجل من علية القوم، درس في اسطنبول والنمسا، يتقن الألمانية ويتكلم فرنسية رفيعة. إنه من نُدرة اطلع على أمهات الكتب في الآداب العالمية والفلسفات، القديم منها والحديث:

ـ يا صديقي جورجيو، لكم تذيب الثقافة الفوارق! رجل كهذا يُشعرك بأنه مثلك. وأنه يمكن لشعوب الأرض أن تغدو واحدة. المستشار هذا يعيد إليك بعض الثقة بالإمبراطورية المريضة. إن كان لديها الكثيرون من أمثاله، فقد يمكنها ثانية النهوض".

ـ لهذا الحد!

ـ نعم. وأنت يا صديقي جورجيو قل لي، ما أخبارك؟ وما هي مشاريعك في أرض الوطن؟

تنهد جورجيو وقال:

ـ يا صديقي، أعود إلى وطن غادرته قبل خمسة وثلاثين عاماً، كسائر في حقل زئبق. لا أعرف ماذا آلت إليه الحياة هناك؟

ـ لا تشغل بالك، الحياة كريمة والفرص تأتينا من حيث لا نتوقع. حسناً الآن خطرت لي فكرة. سأعمل على توثيق صلتك بهذا المستشار. اتصالاته واسعة. ولعائلته أعمال أكثر منها سعة، لن تضيق بمواهب رجل مثلك.

في ظروف أخرى، كان جورجيو سيخجل من التودد لأحد على هذا النحو الانتهازي. لكن عندما يكون للمسألة علاقة بابنته، فهذا شأن آخر. منذ أن دخلت كلاوديا سن المراهقة أيقن أنه سيكون وحده مسئولاً عنها. وليس غريباً حين يزوره ملاك الموت أن تكون وحدها ممسكة بيده. ثم وبعد أن جرى لها ما جري مع خطيبها... وأصيبت بالصدمة التي كادت تكون قاتلة، صار له الحق، كل الحق، بأن يغدو انتهازياً. لا، لن يدع أبنته تغرق في المحنة التي لغطت بها عائلة "شكري". أي الآلام ذاقت هذه الفتاة المرهفة حين لاكت الألسن حكاية أمها، لتزعم أن الابنة لابد أن تسير على خطي من أولدتها لتنتهي مثلها في عالم المجانين؟ الاحتمال الرهيب الذي جعله يصغي لنصيحة الطبيب ويرحل. فالصبية بعد أن توارى خطيبها لاذت بأعماق ذاتها. امتنعت عن الكلام والطعام. هكذا باع كل شيء وصعد مع وحيدته إلى الباخرة.

غير أنه طوال الرحلة من بوينس آيريس إلى مارسيليا وهو يجري الحسابات: ما أحضر معه من مال غير قليل. لكنه غير كاف ليمضي بقية حياته بلا عمل، ويدخر منه قسطاً دسماً لزواج كلاوديا. زواج يسعدها ويداوي الجرح الذي ضربها في الصميم بسبب نذل توارى عن المدينة قبل الخطبة بأيام. لكن الأحلام لا تتحقق لمجرد أننا نحلم بها. عليه أن يدخل قوياً مرفوع الرأس هذا القادم مع ابنته من بلاد الاغتراب. عليه أن يفتح بيتاً ويغدق. سيأتون ليروا ما أحضرت معها من "جهاز". ويخمنوا قيمة الدوطة التي ستضيفها إلى مال زوجها. من كان له غرض من زيارته أم من لم يكن. كلهم سيأتون ولو للفرجة أو التلذذ بالسماع. إذ يخيل لهؤلاء أن كل مغترب عائد من وراء البحار يرجع حاملاً معه الثروات. وما دار في خلدهم أن بعض المغتربين لا يجد في المهجر اللقمة النظيفة التي كان يجنيها في أرض بلاده.

*  *  *  *

نور الدين، كما لاحظ هو نفسه، بات ينفعل للقاء الشابة! وينتظر بفارغ الصبر ظهورها، أو حتى ظهور أبيها بمفرده. يا للعجب أن يغدو مراهقاً وهو في الأربعين. ينجذب إلى شابة لا يعرف عنها شيئاً. ولعلّ كلمة "انجذاب" لم تعد كافية لوصف ما بات يشعر نحوها! ما الذي تبغيه يا نور الدين من هذه الشابة الصغيرة؟

لا شيء. ترهات طيش يلم بالرجال وهم في طريقهم إلى الكهولة. لطالما سمع بقصص مثل هذه تُحكى عن رجال تتخلي عنهم قوة الإرادة. لكن لا. ليس هو من أولئك. وما تلك سوى مشاعر اقتحمت وحدة مسافر، ولن تلبث أن تتوارى حيث يصل هذا إلى مكانه الأصلي. مثلما ونحن مستغرقون في النوم تقتحمنا أحلام لا تلبث أن تتبدد لحظة اليقظة!

مطمئناً لهذه النتيجة، اتخذ نور الدين قراراً قاطعاً بفصل أحلام تعابث خياله، عن واقع يتحكم هو بمقاليده. استعاد ثقته بسلوكه وحريته في التعامل مع المهاجر وابنته، أو التحادث بشأنهما مع صديقة جاك رو.

كلا الرجلين، وجد في تأخر الرحلة، تدخلاً خارجاً عن إرادته شاءه القدر إمعاناً في إذكاء أحلام لا يتحمل هو مسؤوليتها. الظروف هي التي تدفع في طريق ما، يراه نور الدين شاقاً غير آمن، فيما يعتبره جورجيو درب الأمان بعينه. استرخى واستعاد طبعه المرح. وانعكس مزاجه على جلساته مع صديقيه حتى غدا نديماً مميزاً يسعيان إليه. في هذه الفترة الاستثنائية، يمكن القول إن العائدين إلى الوطن، قد وقعا في سوء تفاهم فريد! وإنه إذا ما أتيح لهما أن يستسلما إلى ترهات الأحلام ويطيرا على أجنحتها إلى أقصى حد متاح لها في عالم الواقع، لاعتبر كل منهما أن لقاءاته تلك تتصف بخصوصية بالغة! فالمستشار يتسامر مع والد صبية فُتن بها منذ اللقاء الأول. وهو يكتفي بذلك! أما جورجيو فهو الآن يوطد صلته بشخص نافذ سيقدم له الدعم - أو فرصة العمل- في أرض الوطن. شخص له في السياسة والرياسة كما يقولون، لن يضيق بصديق جديد مر وإياه بواحدة من تلك الكوارث التي كادت تودي بهما لولا تدخل القدر. تجربة مثل هذه سُتسجل كل منهما وإلى آخر العمر، في ذاكرة الآخر.

أما صاحب الفندق، فالمسافة التي تفصله عن أحلام صديقيه جعلت منه قارئاً ممتازاً لها. حين دخل عليه المسافرون الثلاثة عند الفجر تراءى له المستحيل في صيرورته إلى الممكن: إنه دخول عائلة واحدة تبدأ معاً مشوار حياتها.

تحقيق الحلم، بالنسبة لجورجيو، ورغم التوتر، يستدعي انتظاراً لا يخلو من العذوبة ولا ينكده الإحساس بالذنب الذي ينغص على نور الدين أحلامه. مشكلة المهاجر لا تصب في تلك الدائرة الصعبة. مشكلته، هي فقط مع التوقعات، ومدى استجابة جليسه للمشاريع المفترضة التي لا يكف هو عن رسمها وإعادة رسمها في خياله. مشاريع جعلته يصم أذنيه عن العرض السخي الذي يقدمه له جاك رو: يا صديقي إبقَ في فرنسا. أعرض عليك ما لم أعرضه على أحد من قبل. نعم، يغريه بأن يغدو شريكاً، ويفتحا معاً فندقاً آخر يستلم  مسؤوليته. لكن شيئاً أقوى منه يجذبه للعودة إلى مسقط رأسه.

بمرور الوقت، صار جورجيو يستمتع بالتسامر مع المستشار وصاحب الفندق خارج توقعاته النفعية. ولولا  قلقه على كلاوديا من شدة انصرافه عنها، لصار يمضي أوقات فراغه كلها مع هذين الصديقين الظريفين. يستمتعان بأحاديثه وينفعلان بالحكايات التي يقصهّا عليهما. لا ريب في أنهما قرءا أشياء عن تاريخ لبنان. عن أول جمهورية نادى بها فلاح لبناني شجاع، يُدعى "طانيوس شاهين"، تأثر بأفكار الثورة الفرنسية فقاد "عامية" انتهت بمقتله ومقتل عائلته. وسمعا طبعاً عن المذابح التي جرت في أواسط القرن الماضي بين الدروز والمسيحيين، وعن مثيلات لها جرت بين هؤلاء والمسلمين في الشام، وعن شخصية عظيمة، عبد القادر الجزائري، ساهم في حماية الآلاف من المسيحيين الهاربين... إنما قراءة الحكايات في الكتب هي غير الاستماع إلى شاهد عيان يرويها. مستمعاه يصغيان بشغف إليه وهو يسهب في الوصف، كيف هربوا من بطش المتعصبين. كيف شاهدوا بأم العين الشبان يذبحون ويذبحون. كيف لجأوا مع من لجأ إلى مدن الساحل المسلمة مثل صيدا وصور وطرابلس. وكيف استقبلهم وجهاؤها ومشايخها ومطارنتها، ودبروا لهم أمور السكن والمعيشة، قبل أن يستقروا حيث انتهي بهم المطاف.

يُسهب في الوصف حتى يُنسي نور الدين التفكير بالصبية وشبيهتها التي تعاند الظهور من كوإليس الذاكرة.                              

وجورجيو ما فتئ يقول لابنته:

ـ البسي يا صغيرتي وانزلي. بدل أن تسجني نفسك في الغرفة خذي كتاباً واقرئي في صالون الفندق.

عجباً!

لم يلح عليها بأن تعرض نفسها كأنما لطالب يد؟ من الواضح أنه معجب بالمستشار إنما من غير المعقول أن يفكر بتزويجها له: مسلم. متزوج. ولديه أولاد. لذا فهي تعجز عن فك لغز الإشارات المتناقضة التي تصدر عن أبيها، خاصة أن تلك التي تفلت من المستشار واضحة كعين الشمس. فهذا الدبلوماسي المتمرس، حين يراها يرتبك. وإن ضبطته مستغرقاً في تأملها أسرع إلى غض البصر. وها هو يدعوها مع أبيها لحضور الأوبرا. ما مغزى هذه الدعوة ؟ وهل تخفي شيئاً آخر غير ظاهرها؟

*  *  *  *

في إحدى الأمسيات، وبعد أن انفضت جلسة الأصدقاء، شعر نور الدين بأنه غير راغب في النوم. خرج يتمشى في شوارع مرسيليا حتى وصل إلى البولفار العريض الذي يقع فيه المسرح الكبير. وطالعته صورة لممثلة ذكرته بأشياء: في رحلته السابقة إلى النمسا، دعاه السفير العثماني لحضور افتتاح واحد من أهم المسارح التي شيدت في فيينا احتفالاً بقدوم القرن العشرين. وكان إنجاز المسرح تأخر عن موعده مما زاد في شوق الناس لحضور ما سيعرض في افتتاحه: أوبرا رائعة هي "غادة الكاميليا"، لموسيقار عظيم يدعي "فيردي"، ضجت بعملة الصحف وجاوزت أصداؤه حدود إيطاليا إلى سائر بلدان أوروبا.

لم يكن نور الدين قد شاهد من قبل ما يُسمّى بالمسرح الأوبرالي. دخله معجباً بحماسة الجمهور ليخرج منه مفتوناً،
لا بموسيقي فيردي وحسب، وإنما أيضاً بصوت السوبرانو وأدائها اللذين حولا حكاية بسيطة إلى عمل أوبرإلي عظيم! الآن وهو يعبر الرصيف المقابل للمسرح، ويرى رسم السوبرانو، يفطن إلى أن الشابة، أبنة جورجيو، تشبه لحد كبير تلك الفنانة التي سحره غناؤها. بل لكأنها هي "غادة الكاميليا"، لا ينقصها سوى أن تفتح فمها وتصرخ بالحب المجروح!

بعد ذلك، ما عاد في وسعه رؤية الصبية بمعزل عن السوبرانو. وخطر له أن يدعو صديقيه جان جاك وجورجيو لحضور العرض. وإذا بجورجيو يعتذر. يا صديقي، يصعب عليّ ترك ابنتي بمفردها في الليل.

ـ يمكنها أن تأتي معنا، قال جان جاك. مناسبة طيبة لأدعو زوجتي إذا ما سمح صديقي المستشار بذلك.

وقال جورجيو بحماسة:

ـ وفرصة تتعرف بها ابنتي بفن عظيم، إذا سمح الأصدقاء بذلك.

ها هي الدنيا تفرد أجنحة الغواية لأبنائها!

لا يدري أتفعل هذا لإسعادهم أم لإقلاق راحتهم؟ ليس هو من سعى. الظروف هي التي شاءت أن يقضي برفقة الشابة ساعات في مناخ رومانسي فريد، سينشد فيه السوبرانو والتينور فصول حب جامح ومستحيل.

*  *  *  *

دخلت كلاوديا المسرح مبهورة. إنها المرة الأولى التي تدخل مسرحاً مثل هذا.  كانت، في الأرجنتين، قد شاهدت عدداً من الفرق الجوالة التي تنصب خشبات في أرض خالية، تغطيها ستارة فاقعة الألوان، حين تُرفع يظهر مهرّجون، أو رواة يحكون القصص. أو ممثلون يقومون بأدوار تتعلق غالبيتها بالحب والبطولات. ولطالما صحبت كلاوديا أمها المسكينة. فمشاهدة هذه العروض كانت تترك في روح المريضة أثراً أطيب من الذي تتركه المهدئات. لكن الخشبات المتواضعة تلك غير هذا المسرح الذي شاده كبار معماريي فرنسا وزيّنه أعظم فنانيها. وهي، كلاوديا، تدخله الآن، في مطلع القرن العشرين، مع نخبة من نساء ورجال العصر في مارسيليا! فكيف لا تكون على هذا القدر من الانفعال؟!

لابد أنها لمحت الإعلان وصورة السوبرانو، غير أنها لم تنتبه للشبه. كل هذا يتراءى لها مثل مشهد في منام سيتضح لها في ما بعد حين تصحو. والآن تتابع تقدمها متهيبة، مبهورة، يحيط بها والدها والآخرون. نظرها يسبقها للفرجة على التحفة المعمارية التي تسير هي الآن تحت قبتها! للفرجة على القاعة وشرفاتها تمتلئ بالقادمين. رجال ببذلات رسمية وسيدات في أبهى ملابس وحلي وزينة. ولعلهم، بعد أن جلست بين والدها ومدام "رو"، قد وزعوا عليهم كتيب العرض الذي يحمل صورة السوبرانو، لكنها كانت منشغلة بتأمل السقف والأعمدة والرسوم والنقوش التي تزينها والتي تفوق روعتها كل ما سبق أن رأته. وبعد قليل ستطفأ الأنوار وترفع الستارة، وتخرج الممثلة إلى الخشبة، لترى نفسها وجهاً لوجه أمام مخلوقة تكاد تكون توأمها. إنها السوبرانو ذاتها التي شرعت تؤدي دور "غادة الكاميليا".

أربكها الشبه!

وظنت نفسها، للوهلة الأولى، واهمة. وإذ دنت منها مدام "رو" وسألتها همساً كيف تكون هي نفسها جالسة معهم وواقفة على الخشبة في آن واحد، ابتسمت. وارتاحت في مقعدها مأخوذة بالمشاهد وبالأغاني التي تخرج من جوارح السوبرانو، فيما كانت تتساءل إذا كان المستشار نفسه سيلاحظ الشبه؟

الأمر الذي كان يعبر خاطر نور الدين، إنما ليعيد إليه الشعور بالذنب! أن يعبث بمشاعر شابه لم تخبر الحياة، يرجعها أبوها إلى الوطن ليعثر لها على الزوج الملائم؟ يلوم نفسه على ما قد يحدث قبل حدوثه: فالشابة التي دخلت المسرح دخول أميرة وحولها حاشيتها، ستخرج منه قبل انتهاء العرض منهكة، وعلى حافة الإغماء. و "الحاشية" تقدم لها العون لتوصلها إلى العربة التي ستقلها إلى الفندق. هناك سيُغمي عليها وهي تهذي بقصة غادة الكاميليا قبل أن تشاهد خاتمها المأسوية!

*  *  *  *

كان من نتيجة ما حدث لكلاوديا إبان العرض، أن جورجيو كره المستشار. وهذا ازداد فتنة بالشابة، وصاحب الفندق اعتقاداً بأن شيئاً ما قد يحدث بين هذا وتلك.

كلاوديا في إغمائها صارت تهذي بالشابة المريضة وتسأل عما حل بها، وبابا جورجيو يطمئنها بأن الخاتمة كانت لابد سعيدة. ستُشفي من مرضها وتتعرف برجل يحبها. شهم شجاع ولا يخضع لمشيئة الآخرين.

*  *  *  *

كان نور الدين خلال العرض،قد لاحظ اضطراب جورجيو!
فهذا أمضى الجزء الثاني ممسكاً بيد أبنته كأنما ليشد أزرها، مما جعله يتساءل إذا ما كان في الأمر لغز يفسر له الالتباس في تعبير الشابة: وجهها الضحوك هو في آن معاً مرآة حزن عميق.

*  *  *  *

مدام "رو" فسرت انهيار كلاوديا بالشبه العجيب بينها وبين الممثلة. شبه أدخلها في حالة التوحد التي يُحكى عنها، لتشعر بأن ما يجري لغادة الكاميليا إنما يجري لها. هكذا راحت تسعل. ومع التصعيد الدرامي تفاقم سعالها حتى كادت تختنق.

*  *  *  *

جورجيو، بعد أن تحسنت أحوال ابنته صار يقول لها الحقيقة: إنه يجعل نهاية الدراما. لكن من المؤكد أن المستشار يعرفها، إذ سبق له أن حضر العرض. وحين أيقن من شفائها صار يمازحها بالقول: "اسألي المستشار"، ليقينه من استحالة أن تفعل. وهي إن جرؤت بعد ذلك وقامت بما قامت به، فلأنها استسلمت للدوافع التي تسيّر فتاة خُذلت هي أيضاً وضُربت في الصميم أمام الملأ، وفي أشد المواضع إيلاماً: مشاعر الحب.     

*  *  *  *

في اللقاء الذي تم بينها وبين نور الدين، عصر ذاك اليوم، على سطح الباخرة، وجدت كلاوديا نفسها تنفذ قول أبيها بالفعل. في ذاك اللقاء، قبيل الغروب، والذي ستبقى ذكراه ماثلة مدى العمر في مخيلة كل منهما، سيتبادل محبوبان فُطِرا على الكتمان، الأحاديث. ستجرؤ هي وتسأله عن مصير "غادة الكاميليا". سيراوغ هو قبل أن يجيب:

 ـ المرضي يشفون إن هم أرادوا ذلك. إلا إذا ما تدخلت ظروف قاهرة وأعاقت شفاءهم.

ـ وماذا عن الشابة؟ هل اعترضتها ظروف كهذه؟

بعد تردد قال:

ـ حين نصل إلى بيروت، اسمحي لي يا آنسة، أن أقدم لك نسخة من الرواية. كتبها ألكسندر دوماً الابن. هكذا تقرئين بنفسك تفاصيل ما جري. لكن...

ـ لكن ماذا؟

ـ سيبقي هناك شيء ناقص في الرواية.

ـ شيء ناقص؟ ما هو؟

ـ حكاية متفرّجة غدت أسيرة سوبرانو تكاد لفرط الشبه، أن تكون توأمها.

أما مسيو جان رو، الذي أتاح له عمله أن يرى ما رأى من  قصص الحب العجيبة، فقد خطر له وهو يرافق نزلاءه ثانية إلى المرفأ، أن بوصلة الزمن التي تقود المسافرين إلى جهات غير متوقعة قد تؤدي بالمستشار وكلاوديا إلى سرير الزوجية. وأن جورجيو الذي يجد مثل هذا الزواج الآن من ضروب المستحيل، لن يلبث أن يوافق عليه، ليعتبره ضربة حظ لم يكن يتخيل أن الدهر سيمن بها على ابنته التي يعبدها.

*  *  *  *

في خروجه من الباخرة، نزل نور الدين درجات السلم
بنفس حزينة، قلب فارغ وعقل منهك. لا عزاء له سوى أن
الرجل وابنته سيسكنان، ولو في الأشهر الأولى، في البيت الذي عرضه عليهما، والذي جعله مضافاً لزائريه المقربين. وسوى
وعود يعطيها لنفسه، بأنه لن يلبث أن يمسك بزمام الأمور. وبعد اطمئنانه إلى استقرار ضيفيه، صعد إلى عربته وأمر السائس بالانطلاق. حوافر الحصان تضرب الأرض بقوة يعرفها ورتابة جديدة عليه. يحاول معالجة أفكاره،  فيدرك أن القدر الذي لاطفه كثيراً إبان الرحلة، يهدد في خاتمتها بأن يرميه في حلبة مصارعة تتلاعب بها الأهواء.

*  *  *  *

في الوصول إلى البر، كانت التحضيرات الروحية اللازمة لتتويج قصص الحب بالنهاية السعيدة، قد بلغت أوجها. لم تمض شهور على ذلك، حتى كانت كلاوديا قد تزوجت الرجل الذي اختار لها الاسم بنفسه. أما التدابير العملية فكان لها شأن لا يقل غرابة عن سوء التفاهم الذي حاك الرجلان خيوطه في عرض البحر.  فزوجة المستشار جاءت بنفسها تطلب يد الشابة لزوجها!

للوهلة الأولي صُعق جورجيو للطلب!

لا ريب في أن السيدة هذه مجنونة. في إصغائه إليها تشكو حال زوجها التي جارت عليه المشاعر، يزداد قناعة بذلك: يا خواجة جرجي، الأفندي لا ينام الليل، ولا يزاول نشاطاً في النهار. انطوى على نفسه غير راغب بطعام ولا شراب، بل غير راغب بشيء. نور الدين هو عماد العائلة، فماذا يحل بنا  لو  تركناه ينهار؟

مجنونة بالطبع!

كان جورجيو قد سمع بقصص مثل هذه تحدث لدى المسلمين، وما خيل له أنه سيجد نفسه ذات يوم طرفاً في إحداها! والطرف الآخر طالبة يد، لا تعدو كونها زوجة الرجل بالذات! وسمعها تقول:

ـ ليس نور الدين أول الرجال الذين يتزوجون على زوجاتهم، ولن يكون آخرهم. إن كان لله في خلقه شؤون جعلته يحلل للرجل أن يجمع أكثر من زوجة في آن واحد، فلأنه سبحانه وتعالى أعرف منا بطينة البشر.

سيكون جوابه لا بالتأكيد.

يقول هذا في نفسه فيما المرأة تحاول إقناعه بأن فرصة مثل هذه لا تُفوت! الفتاة ستحيا مثل أميرة. وهي، سنية، ستكون لها بمنزلة الأخت الكبرى. نعم، أسرة واحدة وزوجتان، أحداهما فعلية، هي ابنتكم كلاوديا خانم، والأخرى ستحتفظ بحقوق الاسم والأمومة وتتخلى عما يبقى! اسمح لي يا خواجة جورجيو بمقابلة الشابة لأؤكد لها بنفسي ذلك.

تؤكد لها هذا بنفسها؟!

لكن، ماذا لو لم تكن المرأة مجنونة بل طرفاً حاذقاً في لعبة غير شريفة؟ وماذا لو كان المستشار، منذ البدء يخطط للعبة مثل هذه؟ زواج المسلمين، ليس كما لدى المسيحيين، قدسياً أبدياً لا يفكه سوى الرب. بل هو زواج على ورقة طلاق كما يُقال. أفكار جورجيو تكاد تُخرجه عن طوره، فيصيح بوجه زائرته ويطردها. والسيدة التي فطنت إلى ما يدور في رأس الرجل، بادرت إلى طمأنته، بأن ارتباط نور الدين بكلاوديا خانم، سيكون أبدياً، وسيدوم بإذن الله مدى حياتها وحياة الأفندي على هذه الأرض. وإن شاء الله، ستنجب له بنين وبنات يصبحون إخوة أحباء لمن أنجبت هي من قبل.

وخطر لجورجيو أن يجاهر بأفكاره، فيقول لطالبة يد ابنته،
إنه من وجهه نظره كمسيحي، يجد طلبها مثيراً للعجب! وكمؤمن، يجد أن زواجاً مثل هذا... وكاد يتفوه بالعبارة:
"أشبه بالزني"!

كاد... لولا أنه تعقل وسكت.

كان موقنا أنه سيرفض، وأن كلاوديا بدورها ستستنكر وتتهرب من مقابلة المرأة التي تطلبها ضرّة لها. غير أنه حين سألها رأيها وأجابته ذاك الجواب الذي نزل عليه كالصفعة، أدرك أن أبنته واقعة في غرام المستشار، وأن أوان المناورة للتأثير عليها قد فات:

ـ ما رأيك يا كلاوديا بامرأة تطلب يد فتاة لزوجها؟

ـ بابا جورجيو، عن أي امرأة تحكي وعن أي فتاة؟

ـ عن زوجة المستشار. جاءت عصر اليوم تطلب يدك له. ما رأيك بطلب مثل هذا؟

ـ بابا جورجيو... إذا كان المستشار سيهرب ليلة الزفاف، فلن يكون هو الزوج الذي أبحث عنه.

*  *  *  *

غريب  في  الدار
لمعت وردة  في المدرسة، وبرزت موهبتها الكتابية باللغتين العربية والإنكليزية، مما جعل المديرة تنقلها إلى مستوى أعلى من الذي كانت فيه،  الأساتذة يتحدثون بتلميذة موهوبة، في تحويل الأفكار إلى قصائد، وفي ابتكار عوالم لا تشبه المألوف. حتى أنهم يستمتعون هم أنفسهم بما تكتب. من يدري، لعلها ستغدو يوماً ذات شأن في عالم الأدب؟ مثل جورج صاند في فرنسا، جين أوستن في انكلترا وقدرية حسين في مصر. شهادات تسعد نور الدين وتدعوه لأن يمنح أخته الفرصة التي منحها الشيخ ناصيف اليازجي لابنته التي غدت شاعرة معروفة في مصر وبلاد الشام. وفي معرض اهتمامه بالأمر أطلع نور الدين على المنهاج الذي تقدمه المدرسة الأمريكية لتلميذاتها، وكاد يندم لأنه لم يُدخل وردة شاه مدرسة فرنسية تعادل كفاءتها مدرسة الحكمة التي تعلم هو فيها. وفي بحثه اكتشف أن مدارس البنات تعاني عموماً من ضعف. فبرامجها التي تؤهلهن ليصبحن ربات بيوت مميزات، هي فقيرة لجهة الآداب، وأشد فقراً لجهة الفكر والفلسفة. مثل هذه لن تؤهل أخته للمستقبل الذي يتمناه لها. المبدعون في الأدب ليسو كذلك لمجرّد حذق في الكلام، بل لثقافة تتجاوز العادي ورؤية عميقة تهز خمول العقل.

بحث نور الدين عمّن يمكنه مساعدة أخته، فأشار عليه ناظر مدرسة اليسوعية، بمدرس متمكن أسمه بشارة. نشأ في لبنان ثم سافر إلى أمريكا الجنوبية وعاد منها. والده من مدرسي اللغة العربية الذين تبحروا في الشعر والفلسفة، والشاب نفسه، إلى جانب الفرنسية يتقن لغتين تعرفهما وردة: العربية والأسبانية. مثقف لامع، يقوم بترجمة أمهات الكتب إلى العربية، وبفضله بدأ الناس يعرفون مفكرين عظماء مثل منتسكيو وروسو وفولتير. والشاب هذا، هو ابن عائلة كريمة. الدروب إلى الكنيسة حفظت خطوات أمه وأبيه، وأخته نذرت نفسها لخدمة الرب والمحتاجين.

الجلسة الوحيدة التي جرت بين نور الدين والمدرس بشارة، كانت قبيل استلام هذا مهمته. تبادلا فيها الآراء حول عدد من قضايا الساعة: تطور العلوم التي بدأت تغير وجه العالم. نظرية دارون ومسألة النشوء والارتقاء التي يميل نور الدين إلى الاقتناع بها. الحديث طمأن الأخ إلى سعة إطلاع المدرس ومرونة رؤيته. مثقف، تنعم نفسه بالإيمان ويجنح عقله نحو الشك، فيحاول العثور على مصالحة جميلة بين الدين والتفكير العلمي. إذا كان هو، نور الدين، غير أكيد من إيمانه ولا يمارس الفروض إلا في ما نذر، فالله كما كان يقول أبوه لم يهد روحه بعد. لكنّه يغبط من ارتاح إلى اليقين. وانتقل بهما الحديث إلى أطماع الدول الأوروبية في الخلافة. بشارة لا يري خوفاً من فرنسا التي، في أرضها نشأت أنبل الأفكار وقامت أعظم الثورات. وإذ ذكره نور الدين بما جرى في الجزائر وغيرها من بلدان المغرب العربي، أكد له بشارة أن احتلالاً مثل هذا لن يدوم. فالفرنسيون متململون. لا يعجبهم إرسال أبنائهم إلى الحروب، فكيف لو خرجت هذه عن مبادئ الثورة التي تنادي بها والتي عما قريب ستغيّر وجه العالم؟!

*  *  *  *

لم يلق دخول المدرس منزل آل إسماعيل ترحيباً من أهله. وما سكت عنه الرجال وهم يهزون رؤوسهم، كان يخرج على ألسنة النساء:

ماذا دهى رب العائلة ليسمح بهذا؟!

ومنذ متى كان الرجال الغرباء يدخلون البيوت لغير مقابلة أسيادها أو تأدية الخدمات لهم ؟! الكوارث غالباً ما تبدأ على هذا النحو. تنفذ من ثقب يصيب السد المنيع، ينخر فيه على غفلة من أهله، فلا يدرون إلا لحظة انهياره. الهواجس تدور حول المس بالشرف. لا يجرؤن على المجاهرة بذلك، فالظن في الدين إثم. وهو من الأمور البغيضة لدى نور الدين، فكيف لو كان الأمر يتعلق بأخته الصغرى وكان من تجرأت عليه واحدة من الدار؟ لكن المخاوف التي لا تخرج على الألسن تظهر على الوجوه. على الجباه التي تُقطب ساعة تدخل وردة وتسلم على المدرس. على الشفاه التي تُزم والعيون التي تتحجر. كلها تموه إنما لتفضح ما لا يمكن  تخيله!

نازلي، في زيارتها نساء العائلة بعد الظهر، تكتشف أن ما يؤرقها يؤرق هؤلاء. ملك وحدها تبدو مطمئنة: إن كان أخوها قد اختار عن عمد مدرساً مسيحياً فلأن فارق الدين كفيل بإحلال المستحيل بين أي شاب وفتاة. ومهما يكن... لا يمكن لمسلمة أن تفكر برجل من غير دينها. كلام يبدو لكاميليا ضرباً من السذاجة، ولنازلي أيضاً. "ليس لأن المدرس نصراني، تقول، بل لأنه غريب ويدخل الدار كأنه واحد من أهله. يجلس مع بنت العائلة ساعات يتحادثان بالشعر والفلسفة. وهل يُخفى على عاقل ما تجاهر به هذه المواضيع وما تُبطن من ممنوعات؟ الفلاسفة هؤلاء يشكّون بكل شيء ، حتى في وجود الخالق عزّ  وجل.

وتدخلت الخالة آمنة بالقول:

ـ لك حق يا نازلي، إن كان سيدرسها الشعر والفلسفة، فلا بد...

ـ وماذا سيدرسها إذن؟ القرآن الكريم؟! معروف أن الشعراء، في غالبيتهم، متهتكون ويجاهرون بالمحرمات.

ـ معقول؟

ـ طبعاً. يُخبرني زوجي عبد الرحمن، أن شاعراً يُدعي أبو نواس، عاش منذ أكثر من ألف سنة، كان شغله الشاغل التغزل بالخمرة وبالنساء. لا يفعل هذا في الخفاء امتثالاً للقول الكريم، "وإن بُليتم بالمعاصي فاستتروا"، بل مجاهرة، فيقول:

"ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر

ولا تسقني سراً إن أمكن الجهرُ".

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله! تقول الخالة أديبة. وكيف يكون شاعراً من يخرج من فمه كلام مثل هذا؟

ـ ومنذ متى كان يوثق بالشعراء؟ ألا تسمعين بالمثل القائل "إن الشعراء إخوة الشياطين؟" وأن بعضهم كان يتعزل بالغلمان؟!

ـ بالغلمان! يا رب أشفق علينا وعلى ذريتنا فلا تشق لنا عاقبة
أو ولداً!

ـ هذا لابد آخر زمان، قالت الخالة نسب. فمن مؤشراته إنكار المسلم دينه. ستقوم القيامة. يوم يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه. وتلهو المرضعة عمن أرضعت. يا رب عفوك ورضاك. يا رب أغفر لنا سماع ذلك وأجعل مرقدنا ومرقد أحبائنا الجنة.

تحاول كاميليا أن تطمئن الحاضرات بالحجج ...لكن كلامها يؤدي عكس مبتغاها. "فالأجنبية تسعى إلي أن تغدو وردة شاه مثل بنات أوروبا، لا قدر الله. صحيح أنها اندمجت في العائلة وصارت كأنها واحدة من البيت، إلا أنها أجنبية وكاشفة. وحسب عقد الزواج لا تزال على دينها، مسيحية. ويقال كانت في بلادها تذهب وأبوها وأمها إلى المسارح.

ـ معقول؟!

- طبعاً.

- وربما إلى السينما، قالت نازلي؟

-السينما؟!

- نعم. يقال إن الناس، رجالاً ونساء يجتمعون، في صالة معتمة لا نوافذ لها ولا مصابيح، تُعرض فيها صور لأشخاص يتحركون.

ـ يتحركون؟

ـ هكذا يقال!

ـ لا أحد يؤكد إن كانت الأطياف التي تمر أمامهم صوراً أم أناساً حقيقيين. فهم يتبادلون الحديث ويتشاجرون ويضرب الواحد منهم الآخر أو يقتله!

ـ يا ساتر يا رب!

- وكيف يتحرك الأشخاص إذا ما كانوا صوراً ؟ لعلهم من لحم ودم وأصحاب السينما يضحكون على الناس؟!

ـ الله أعلم! إنما لو كانوا كذلك لَسُمعَت أصواتهم. يقال تراهم ولا تسمعهم. مثل الجن! بسم الله...

وأكدت نازلي أن السينما تُظهر النساء والرجال في أوضاع، يا إلهي، مثلما يحدث بين الأزواج في غرف النوم! بل وأكثر.

ـ العياذ بالله!

ـ ويقال، والعهدة على الرّاوي، إن المتفرجين في الصالة، يقلدون الصور. الرجل يأخذ صاحبته في حضنه ويتبادل وإياها القبل والناس يتفرجون على بعضهم البعض!

ـ أعوذ بالله من الشيطان!

ـ هكذا يُقال. ولعلمكم، فإن أحد التجار هنا وهو يوناني الأصل، يفكر بفتح سينما في بيروت.

ـ سينما في بيروت؟! وهل سيسمح الوالي بذلك؟ ماذا
لو بلغ الخبر أمير المؤمنين؟

مالت نازلي نحو الخالة نسب، همست في أذنها شيئاً وأطالت الهمس. وتلك شهقت وقالت: معقول؟

وهزّت نازلي رأسها أسفاً وتأكيداً على ما قالته.

تبدّلت سحنة كاميليا وسألت:

ـ بم الوشوشة يا عمتي؟ وما هو المعقول وغير المعقول؟

ـ لا شيء يا عزيزتي.

ـ بلي هناك شيء. أعرف بم توشوشين، لكن الخبر غير صحيح.

أنهت كاميليا جملتها، وخرجت منزعجة. التفتت نازلي إلى السيدات وقالت:

ـ تظنني ألمح إلى أن والدها نفسه يفكر بمشروع سينما. سمعت بذلك كما غيري. على ما يبدو أن نور الدين أقنعه بالعدول عن الفكرة، بعد أن أُشيع أن الأفندي نفسه شريك في المشروع.

ـ العياذ بالله! قالت النسوة واحدة تلو الأخرى:

وسألت صافيناز: هل السينما  للرجال فقط أم للنساء أيضاً؟

- للرجال طبعاً. وأول فيلم سُيعرض سيكون عن الحج إلى بيت الله الحرام.

وهتفت الخالة آمنة:

ـ هذا هو الكفر بعينه! المكان المقدس يُعرض في السينما، يتفرّج عليه المسلم وغير المسلم؟ وهل الكعبة الشريفة للفرجة؟

وسألت ملك:

ـ وما رأي أخي نور الدين بهذا؟

وعمتها نازلي أجابت:

ـ نور الدين حين كلمته لم يستنكر. قال إن غالبية الناس ترفض الجديد. حين ظهرت الصور، طالب البعض بتحريمها وهاجموا أول المصورين وضربوه. ولولا تدخل العقلاء، لقضوا عليه. هرب المسكين. ثم نقل محله من ساحة برج الساعة إلى الجميزة. ثم وبعد ذلك لم تبق عائلة في بيروت، مسلمة أو غير مسلمة، لم تستدع المصور إلى بيتها ليأخذ لأفرادها الصور!

*  *  *  *

كاميليا، في لحظات الصفاء، تجد نفسها هي أيضاً فريسة القلق. فالشابة الميّالة إلى العزلة غدت شديدة الانطواء. تتجنّب الجلوس معها كما في السابق. وإن فعلت فإنما لدقائق معدودات تعتذر بعدها لتذهب إلى غرفتها. ماذا لو كانت سيّدات البيت على حق وكانت وردة واقعة بالفعل في هيام المدرّس، وتجد في غرفتها ودفاترها ملاذاً وحيداً للبوح؟ عبثاً تحاول إخراجها من وحدانيتها. تستدرجها عبر الكلام عن الدروس إلى الحديث عن المدرس. غير أن صمت الشابة ذات الطبع الوحشي يجعلها تشفق عليها وتكف عن الإلحاح.

ولم يكن حدس كاميليا في غير مكانه.

منذ اليوم الأول الذي وطئ فيه بشارة عتبة البيت أدركت وردة أن انقلاباً لا رجعة عنه حلَّ في حياتها. كان يكفي أن يستهل الجلسة بعبارة، "أعرف نفسك بنفسك"، ليصيبها انبهار مثلما السحر يصيب نفوس المؤهلين لتلقيه من ساحر: "كل مخلوق عالم بالفطرة وما عليه سوى أن يُسأل ويسأل. يتأمل ويستنتج. لنفكر في الإنسان، هل هو كائن منقطع أم متصل؟

وحياتنا متى تبدأ؟

هل تبدأ لحظة ولادتنا؟ أو عبر من جاءوا بنا إلى الدنيا؟ أم أنها تبدأ قبل ذلك بكثير...عبر من مروا بها، منذ بدء الخليقة على الأرض وصولاً إلينا؟ إذا ما كان الأمر كذلك فما الموت إذن؟

أهو فناء، أم حقبة أخرى من الحياة، لا تنقطع عن الأولى إلا لتتصل بها؟ الفيلسوف العظيم سقراط، تجرّع السم بنفسه فيما كان يواصل حواراته مع تلامذته، فجاء موته حياة لأطروحات ستظل قائمة أبداً من بعده.

خرج المدرس تاركاً تلميذاته مفتونة، منهكة، مضطربة الروح. راحت إلى سريرها تستريح. لكنها ما لبثت أن نهضت إلى طاولتها ووجدت نفسها وللمرة الأولى تكتب رسالة إلى بوران.

*  *  *  *

لكن بهجة الحب التي عاشتها وردة في الفترة الأولى، بدأت تذوي، ويحل مكانها شعور بالوحدة حوّلها إلى فتاة صامتة مكتفية بنفسها وبغذائها الوجداني. وغدت أسيرة الساعات القليلة التي تنتظرها بشوق عظيم! تمضي ليلها ساهرة، مستوحدة إلا من الشجن. تبكي لانهمار المطر وينقبض صدرها لذبول الشجر، ومع صفير الريح تخشع. وفي سكون الليل يتناهي إلى سمعها صخب البحر وتتراءى لها أمواجه هائجة رمادية تتربّص بالسفن. تنهض من سريرها وتروح إلى النافذة تراقب إذا ما كانت منارة قريطم مضاءة وإذا ما كان هناك سفينة في عرض البحر تغالب الغرق. وفي الصباح تخرج مشياً إلى المدرسة حتى في أوقات المطر. تتمنى لو تطول الدرب، وتتابع السير نزولاً إلى وسط المدينة، صعوداً إلى الأشرفية ثم رجوعاً إلى تلال رأس بيروت. ليتها، تفعل هذا وروحها صارت تمقت المدرسة. تمقت جدرانها الصفراء وسورها الشاهق، وتضيق بأشجار الكازورينا التي ترتمي عليه، أو تلك الشاهقة من السرو التي تقف مثل رقيب أبدي وُضع في هذا المكان ليخلق فيه وحشة ما بعدها وحشة. تضيق بهذا كما بالقرميد الرابض على سطح المباني. ما إن تطأ عتبة المدرسة حتى يخطر لها أن تغادر. وإن دخلت انزوت في مكان ما في الملعب وأمسكت كتاباً تحاول قراءته. وأحياناً تغافل زميلاتها وتمضي الفرصة في قاعة المطالعة زاعمة للناظرة أن صداعاً يضرب رأسها. وأثناء الدرس، تستغرق في حمى مشاعرها واستذكار لقاءاتها مع مدّرسها. ومنهكة من إطالة السهر، يصعب عليها التركيز. يشرد ذهنها وتصغي في دخيلتها إلى أغنيات رومانسية تتحدث بالحنين والحرمان والشوق وفراق المحبين، فتغرورق عيناها بالدمع وتبذل جهداً كي لا تجهش بالبكاء! وتروح تراقب زميلاتها لتكتشف إن كانت إحداهن تشاطرها الحالة الرهيبة هذه. حتى إن نوال سألتها مرة بشيء من الاستغراب لم تنظر إليها هكذا؟ وإذ طلبت منها إكرام أن تساعدها في الكتابة عن رحلة قامت بها في الربيع الماضي مع ذويها إلى تلال بشامون، وجدت نفسها تجيب: "لدي صداع شديد". تركتها وذهبت إلى الحمام وفي روحها كدر رهيب. وهناك في شرنقة
وحدتها وجدت نفسها تتساءل: إكرام؟ من هي إكرام؟ ومن
هي وردة؟

وبدل العودة إلى الصف، غافلت الحارس وخرجت. راحت تمشي على غير هدى حتى ابتعدت. والصِّبية في الشوارع يرون ابنة المدرسة الأمريكية بزيها المعروف، تهرول إلى غير جهة محددة، ثم تتجه نحو الحقول، والتراب الأحمر يغطي حذاءها وجواربها. وخطر لهم أن يلحقوا بها لكن أحد المارة من رجال الحي نهرهم ومنعهم من ذلك. ظلت تمشي حتى جاوزت حدود المباني ووصلت إلى تلال "المصيطبة". دارت حول البيوت القليلة التي شيدت فيها ودخلت إلى بيت قيد الإنشاء وقفت دقائق في إحدى زواياه وقوف حيوان مذعور. وفي تلك اللحظة خطر لها أن توقف الدرس الخصوصي، وإلا فمصيرها الجنون! وارتاحت برهة لقرارها، وخرجت نساء المنازل يتفرجن عليها من خلف أباجورات النوافذ. وحين أُنهكت عادت إلى البيت لاهثة، عرِقة، منفوشة الشعر تغلي بالحمى. الحمى التي فسرت لكاميليا لغز فرارها، وبررت توقفها عن الدرس الإضافي.

بعد النقاهة، عادت وردة شاه إلى المدرسة منهكة الروح كما غادرتها. ولولا يقينها أن كاميليا مرت بهذه التجربة، وغيرها من الفتيات اللواتي قرأت عنهن في الروايات، كابدن الهوى، لظنت أن مرضاً أصابها لن يتركها إلا على شفير الهاوية. فهي وقبل أن تحين ساعة الدرس تضطرب من ذات الاضطراب الذي لا يحدث سوى لصريعي الهوى. وتنتقل العدوى إلى المدرس، فتعرق يداه ويلمع جبينه. وتمويهاً لاضطرابها، تفتح دفترها وتنشغل بالتدوين، بالإلية ذاتها التي يلقى بها بشارة كلامه دون تركيز.

ويحدث أن تدخل كاميليا لتسأل عن سير الدروس فيتناهى لها انفعال الشابين: وجه المدرس يعبق باحمرار شديد ووردة مخطوفة اللون، فتسارع إلى الخروج. تحاول تكذيب نفسها، لكن.. الشابة تزداد عزلة، وتواصلها مع سكان البيت يزداد ضعفاً. وهنت صحتها وتضاءلت شهيتها، وشحب وجهها وازداد ذبول عينيها. ولما عرضوها على الطبيب أمر لها بزيت السمك وكبد الغنم النيئ وبنظام غذائي صارم. كما نصحهم بأن يأخذوها إلى أماكن في البرية لتعرّض جسمها للشمس والهواء. هكذا أخذت النسوة يصحبنها في نهاية الأسبوع إلى البحر أو إلى الحقول. رحلات تبعث في نفسها الملل، فتمضي وقتها ساهمة لا تبادلهن الحديث بل تكاد لا تجيب عن أسئلتهن. تراقب الحقول: ممتدة رتيبة والأشجار صامتة ومتعَبة. السهول هي هي منذ أو وُجدت. يأتيها أناس ويغادرها آخرون وتبقى هي على حالها. يا إلهي: الغياب هو الحضور! نعم، في هذا الفراغ، غياب بشارة هو الحياة، ولولا ذلك لكان العدم. والشاطئ هذا غيره الذي كانت تلعب على رماله مع أخيها محمود. وهذا الرجل الذي يدعونه "الموحود" لا يفتأ يمشي على الرمال بكامل هندامه. أتراه عاشقاً مدلهاً يهيم على وجهه في بحث مستحيل عن محبوبة هجرته؟

السيدات لا يوفّرن مناسبة للوم رضية. خذلتها! وعدتها بأن ترجع ولم ترجع. ويتحدثن بالأمومة الحقيقية، فيما تتساءل هي عن الصور التي أخذت ذاك النهار لها ولمحمود ورضية. أين اختفت؟

في تلك الآونة تأكد لنساء العائلة الأثر السلبي "للعلم". فالبنت اليافعة صارت تتحدث بثلاث لغات، إضافة إلى الرابعة! تنتقل بينها مثلما تنتقل بين غرف البيت! مع السيدات تتكلم العربية ومع كاميليا الأسبانية وفي المدرسة الإنجليزية، ناهيك بشيء من التركية. في هذا ما يخلع أشد الأدمغة صلابة، فكيف لو كان دماغ فتاة؟ ولولا أن كثيرات منهن كن يتحدثن لغتين معاً لتأكد لهن صحة ما يسمعن به، من أن كل لغة تحتاج إلى شخص، وأن تعدد الشخصية مرض يحكي عنه الأطباء، قد يوصل الإنسان إلى الجنون. إن كان لا خوف من ازدواجية التركية والعربية، فمفردات هذه وتلك متأصلة في القرآن الكريم، فللغات الإفرنجية شأن آخر. صحيح أن نور الدين، وغيره ممن نشأوا في المدارس الأجنبية، يعرفون لغات كثيرة، لكن منذ متى كانت الفتيات قادرات على ما يقوم به الصفوة من الرجال؟

*  *  *  *

بشارة، تعويضاً منه عن أيام الغياب، صار يعطي تلميذته كتباً ومراجع، واجداً حرية أكبر في انتقاء نصوص كان سيربكه تدريسها إياها وجهاً لوجه. والتلميذة المتلهفة تمتثل، حتى وإن كان عليها أن تمضي ليلها ساهرة، تتبحر في المقولات.. معاني بعض من هذه يتضح لها ليبقى البعض الآخر غامضاً. تحاول إجلاءه على ضوء الكلام الذي تلقفته من أستاذها إبان ما كان حاضراً. لا تصدق إمكانية أن يتواجداً معاً في دنيا الواقع في المكان ذاته، ويتنشقا ذرات الهواء نفسها، فيما يتبادلان الأفكار: الإنسان ناقص بذاته يكتمل اكتمالاً نسبياً بالآخرين ومطلقاً بذات الإله إذا ما سعى ووصل!

وحين تتعب من ثقل الأفكار الفلسفية عليها، تشغل وردة نفسها بقراءات بسيطة مثل قصص جين أوستن، وروايات جرجي زيدان، أحضرها لها أخوها من مصر. وأخرى مترجمة لكتاب فرنسيين مثل "البؤساء" لفكتور هوجو، أو رحلات شاتوبريان إلى لشرق. وتعود إلى كتابها المفضل "دون كيشوت" لسرفانتس. علي ضوء المصباح، تتابع مغامرات البطل العنيد، في بحثه عن المطلق، وتتوقف طويلاً أمام مقطع شعري:

"قرار القدر الرهيب يقضي على إرادتي. إذا طلبت المستحيل حُرمت من الممكن".

أبيات تذكرها بالشاعر الروسي العظيم: بوشكين. إنه الأثير إلى قلبها. حزنه على محبوبته قاده إلى حتفه. ترى في خياره أمثولة وفاء تعوز الكثير من الشعراء. فهؤلاء كما تسمع، يتغزلون اليوم بواحدة وغداً بأخرى!  ماذا لو كان حبيبها من هذا النمط اللعوب؟

السؤال أفقدها صوابها، فوجدت نفسها تركض نحو الطابق العلوي وتتابع العدو على الدرج وصولاً إلى السطح. حسناً أن للسطح سوراً وأن لسوره رؤوساً هرمية وإلا كانت تسلقتها ودفعت بنفسها ووقعت من الدور الثاني وماتت انتحاراً بلا قصد. تراجعت إلى الداخل وهُرِعت إلى غرفتها. وفي الليل وجدت نفسها تخبط رأسها بضلفة الخزانة وتجهش بالبكاء. وفي الصباح لم تنهض من فراشها. وإذ دخلت عليها حليمة وسألتها عما بها، زعمت أنها مريضة. لازمت فراشها طوال النهار تحاول حبس دموعها واستعادة الهيئة التي ستمكّنها من مقابلة المدرس. وبقيت طوال الحصة عابسة تكاد لا تجيب على أسئلته. ثم وبعد ذلك طلبت منه أن تأخذ راحة لبضعة أيام دون أن تقدم لهذا التوقف أي تفسير.

كان لهذا الامتناع غير المخطط أو المفهوم أثره الرهيب في نفس بشارة، جعله يلوم نفسه على الجُبْن الذي يعزوه إلى قسوة أبيه. وما كاد الأسبوع الذي فرضته تليمذته ينتهي حتى جاء وفي نيته أن يفعل شيئاً، أي شيء، من شأنه أن يظهر حقيقة مشاعره! لكن كيف؟

هل حين يدخل يلثم كفها بحجة السلام عليها؟ هل يلمّح إلى عذاب الانقطاع وشوق المحبين؟ أم يتجرأ ويقدّم لها القصيدة التي تحمل لهفته وتحقق ما يعجز اللسان عن القيام به؟

وفي المساء قبل أن ينام، صلّى للأب الذي في السموات، وتضرع إلى السيدة العذراء أن تمنحه الشجاعة ليقوم بما يبرد قلب الفتاة الملتاعة. يتضرع كي تغفر له. فهو لا يغرر بطفلة، بل يتفانى في مشاعره تجاه راشدة تمر بأكثر التجارب نبلاً: الحب.

ستستجيب "السيدة" لطلبه. وسيسلّم محبوبته بيت القصيدة الذي يحمل لهفته: بلى، أنا مشتاق وعندي لوعةٌ ولكن مثلي لا يذاع له سرُ.

*  *  *  *

كاميليا، في رواحها ومجيئها أمام باب المكتب، يتناهي إلى سمعها، كما إلى مسامع سيّدات المنزل، الحوارات الدائرة بين المدرس وتلميذته. يلتقطن منها همسات تتعلق بالخلق والكون وواجب الوجود وممكن لوجود. كان من الصعب على المتنصتات، ما لم يجلسن خلف جدار الغرفة مباشرة، أن يفهمن ما يُقال. خاصة وأن كلا الشابين فُطرا على الحياء. الإيقاع يؤكد لكاميليا أنه إيقاع دروس. لكن، وحال وردة تتفاقم، صارت هي أيضاً تتساءل عن شيء يدعو فعلاً إلى القلق، ويضطرها كي تبوح به لنور الدين. عقلها ينفي لكن نفسها تشكك فيما لسانها يدافع أمام السيدات. الملاحظة الوحيدة التي أعطتها لوردة، هي أن لا تفرد شعرها أثناء الدرس، كما فعلت منذ أيام.

ويخطر لها أن تفتح مفكرة وردة فتخجل وتسارع إلى لوم نفسها: ما الخطر في أن تنجذب فتاة إلى شاب أو تقع في حبه؟ لن تلبث أن تُشفى كما شُفيت هي ونهضت من المحنة التي ظنتها نهاية العالم. ثم كيف تعكر على نور الدين حبوره؟ منذ أيام فقط التقى أستاذ الأدب الإنجليزي وهذا قال له:

ـ لأختك يا مستر نور الدين، موهبة نادرة. تتحدث بعوالم لا أدري من أين تنبع! لابد من الروح. أو، لعلّ ما يُحكي بشأن الحياة السابقة للإنسان، صحيح. أختك علي حداثة سنّها تصف عوالم بديعة كأنما عاشتها من قبل في حياة موازية.

الكلام الذي يُسر نور الدين يقلق كاميليا. حتى وقبل أن تنكشف لها منابع الإلهام التي يتحدث بها الأستاذ أو تقرأ صفحات كتبتها الصبية في عيد الأم. القلق الذي دفعها أخيراً إلى قطع الشك باليقين، والبحث عن مفكرة وردة، لتعثر عليها في الخزانة ملفوفة بمنشفة الحمام. نعم، إنما تقوم بما تقوم به لمصلحة الشابة.

في الصفحة الأولى من المفكرة قرأت عبارات لا تثير القلق، تتحدث عن الحياة والموت، خطتها المراهقة باللغتين العربية والأسبانية. إهداءات رومانسية إلى بوران، ذكرتها بتجربتها الأولى هي في الكتابة. وفي صفحة أخرى قرأت: "أحب السفر وتفتتني حكايا المسافرين". وفي تقليبها الدفتر وقعت على قصيدة باللغة العربية حاولت قراءتها. معاني الأبيات لا تتضح تماماً لها، إنما كلمات الحب التي تتكرر تستوقفها:

أحبك حبين حب الهوى

 

وحباً لأنك أهل لذاك

فأما الذي هو حب الهوى

 

فشغلي بذكرك عمن سواك

وأما الذي أنت أهل له

 

فكشفك لي الحجب حتى أراك

فلا الفضل في ذات ولا ذاك

 

لي ولكن لك الفضل في ذا وذاك

كاميليا لا تعرف أن القصيدة لشاعرة متصوفة عاشت منذ ألف وعدد من مئات السنين في العصر العباسي، اسمها رابعة العدوية. ولا أن بشارة هو مرسلها. غير أن كلمة الحب التي يطغى وجودها على الأبيات، وضمير المخاطب المفتوح الذي هو لرجل، فضلاً عن الخط الذي كُتبت به، يشير إلى أن انشغال الفتاة وأستاذها ربما يتجاوز الشعر. وقد يتجاوز مسألة العلم والثقافة. هل تخبر نور الدين؟

 وكيف، إن فعلت سيبدو سلوكها بنظره؟

في خضم حيرتها توصلت كاميليا إلى ذاك الحل: أن تفاتح زوجها بخطبة وردة لرشاد حفيد العمة نازلي. خطوبة تتيح للشابة متابعة الطريق الذي رسمه لها أخوها وتحميها في الوقت عينه من جموح المشاعر التي قد تلخبط مسيرتها.

في إصغائه إليها قطب نور الدين جبينه. وردة ما زالت صغيرة. ما الذي يضطره ولم تُنه دراستها بعد، أن يخطبها لشاب هو نفسه لا يستسيغه؟ سبق أن رفض كثيرين أفضل من رشاد. حتى ودون أن يُعلم أحداً كان يغلق الباب أمام طالبي اليد. لا سيما الذين تقصد عائلاتهم ناظرة المدرسة بحثاً عن شابة مميزة. وشرحت له كاميليا وجهة نظرها: شغف وردة في الإطلاع والمطالعة بلغ حد الهوس، وقد يُخشى أن ينسيها الدنيا. وردة تكاتب أمها وتلك أيضاً تكاتبها.

كيف عرفت ذلك؟

مصادفة، وقع بصرها على اسم بوران، ومدفوعة بالإشفاق قرأت ما يدل على أن المراسلات بين الأرض والسماء متصلة.

ـ يا إلهي، كل ما نقوم به من أجلها لا يعوّض؟

ـ لا شيء، يا عزيزي، يعوّض عن فقدان أم أو أب. لكن... لعل الخطبة تعيد إلى وردة شيئاً من الإقبال على الحياة.

*  *  *  *

قبل أكثر من عام، كانت العمة نازلي طلبت مقابلة نور الدين لتفاتحه بمسألة لم تكن تخطر في باله: أن تخطب وردة لحفيدها رشاد. احتار نور الدين في الجواب. فهو لا يستسيغ الشاب، ويجده مدعياً، لكن لعله سيعجب وردة. آنذاك قال:

ـ الفتاة يا عمتي ما زالت صغيرة. حين يكمل رشاد تعليمه تكون هي أنهت المدرسة. عندئذ نبحث المسألة بشكل آخر.

ورأى نور الدين في التأجيل فرصة لتبلغ وردة الثامنة عشرة، فتقرر مستقبلها بنفسها كما يجدر بأي فتاة في هذا العصر أن تفعل. كما وجد في التأخير فرصة ليدرس المسألة على نحو أفضل. ثقته بالشاب أضعف من أن تدفعه للاستعجال. ولولا أن رشاد من صلب عائلتي صالح وإسماعيل، ولامع في دروسه، لما وجد فيه الخصال التي يتمناها لوردة. تعاليه لا يُخفي علي أحد وكذلك كرهه العثمانيين. في المجالس يزايد على الأجانب في يأسه من السلطنة. ولا يتوانى عن تسميتها "الرجل المريض". فضلاً عن تبريره أطماع الأوروبيين. حلول هؤلاء في رأيه هو لمصلحة بلدان المنطقة. لعلّ حقده على إعدام ابن عمّه شوقي هو ما يدفعه إلي هذا الموقف، ولعله مع الأيام يتغيّر. إنّما من الصعب عليه هو الخال أن ينسي يوم جاءه رشاد بالخبر: نسفوا خطوط سكة الحديد التي تربط الشام بالحجاز! كما لو كان يزفّ إليه بشرى! الإنجاز الذي كلف الخزينة مئات الآلاف من مجيديات الذهب، واختصر المسافات بين مكة المكرمة والعالم، طار في مهب الريح!

ـ "مثل هذه الأعمال يا خالي شر لا بد منه. والأمير فيصل أبن الشريف حسين، هو من قاد العملية والبلاد بلاده.

ـ ولورنس؟

ـ الكابتن لورنس ضابط ارتباط سار بإمرة الأمير.

ـ لكن الإنكليز مراوغون ولن يفوا بالوعد. لن يرضوا بهذا ملكاً على العرب، ربما فقط على الحجاز.

ـ بداية حسنة. لا تزعل من يا خالي، العهد العثماني آخذ في الوداع.

ـ ليبدأ البريطاني!

ـ سيكون بالتأكيد أفضل منه".

وسمع كاميليا تسأله:

ـ ما بك يا زوجي العزيز تقلب كفك إلى هذه الناحية وتلك؟

ـ لا شيء! لعل الشاب مع الأيام يتغير قال لها! وفي نفسه قال، أشك بأنه سيتغير! حقده، وحقد والده! تصل الأخبار من دمشق بأن هذا الأخير يحث الحكواتية في المقاهي، علي إثارة المستمعين ضد الأتراك. في الظاهر يتحدثون عن عنترة بن شداد وعبلة، إنما لا يُخفي علي سامع أنهم يتحدثون بما يجري في الواقع. يقال إن والد رشاد بات يؤلف لهؤلاء الروايات. وأن الإقبال علي مسرحياته يزداد، والمقاهي تغص بالشباب الموالين لدعوة الشريف حسين. إثر المسرحية الأخيرة غداً حلم المملكة العربية في الشام علي كل شفة ولسان.

*  *  *  *

بعد مقابلة نازلي، طلب منها نور الدين إبقاء المسألة طي الكتمان، كي لا يشغل بال الصبية. غير أنه لا يدري لمَ، وعَمته تتأهب للخروج، نطق بتلك الجملة العرضية:

ـ يا عمتي، إن حدث وتزوجت وردة رشاد فلن تسكن مع أي كان، حماة كانت أم جدة. سيكون لها بيت مستقل، وميراثها كما تعلمين يؤمّن لها ذلك.

ضحكت نازلي وقالت:

ـ تخاف مني يا نور العين على من اعتبرها حفيدتي، وابنة أحب أخوتي إلي؟

بعد خروج العمة، لفتت كاميليا انتباه نور الدين إلى سوء التفاهم الذي قد يقع من جراء ترك المسائل غامضة وإخفاء الحقيقة عن وردة. قلب نور الدين كفه كمن يقول إن الأوان لم يحن بعد لأكثر من هذا.

ـ سبق وقلت لك رأيي. الشاب هذا، في الثامنة عشرة بدأ يرتاد بيوت العالمات، وفي التاسعة عشرة صار يقتني واحدة منهن، وفي العشرين فتح لها بيتاً. عمتي هذه خربت عقل حفيدها. كان يجدر بي أن أسألها عن المحظية روزينا، ماذا حل بها وماذا سيكون مصيرها في حال تمت الخطبة؟

ـ يا عزيزتي، ليس رشاد وحده من يقتني عالمة. هؤلاء الوافدات مع كل باخرة لأجل من يأتين؟!

هزّ نور الدين رأسه وهو يقول:

ـ شيء مؤسف أن تتدهور الأخلاق لهذا الحد!

*  *  *  *

بعد خروجها من بيت نور الدين، عاود نازلي  ذاك الشعور الذي قلما تصارح به نفسها: إنها لا تستسيغ هذه الفتاة. ولا ترى مبرراً لأن يصنع شيخ العائلة من يُتمها أسطورة فتغدو مدللة قلبه. ولا أن يصنع منها عزمي باشا معبودة تنسيه بناته وأبناءه. ولولا ميراثها، ولولا أن رشاد غارق في هواها حتى أذنيه، ولولا... لما وجدت في هذا الزواج تلك الفرصة الرائعة. حفيدها رشاد، تتمنيّ ابنة السلاطين أن يطلب يدها!

في عودتها إلى البيت وجدت نازلي حفيدها على أحر من الجمر بانتظار الجواب. كبرياؤها أبت عليها الاعتراف بالفتور الذي لمسته في موقف نور الدين، فاكتفت بالقول إن الخال يفضل تأجيل المسألة ريثما تنهي أخته دراستها، وتنضج بما يكفي لتحمل مسئولية الزواج. ولم تنس أن تذكر ما قاله لها عن بيت الزوجية وضرورة استقلال وردة.

ورغم انزعاجه من موقف خاله، تمسك الشاب بالجملة الأخيرة. واعتبر نفسه، رغم التأجيل، خطيب وردة. وشرع يخطط لتأثيث بيت الزوجية على الطريقة الأوروبية التي تروقه. والآن، بعد مرور سنة، يزداد تفاؤلاً بما جاءت تخبره به جدته.

كاميليا، من ناحيتها، سألت وردة رأيها بالشاب وهذه ارتبكت. بذلت جهداً للملمة أفكارها، ثم أجابت صادقة أنها لا تكاد تعرف رشاد. تسمع عنه من العمة نازلي، إنما، بالنظر إلى فارق السن، لم يكن من شلة البنات والصبيان الذين لعبوا في صغرهم معاً في حدائق المنازل. في السنتين الأخيرتين لمحته مرات قليلة في زياراته لنور الدين. وإذ طلبت منها كاميليا أن تقابله ولو مرّة واحدة، لم تجرؤ على الرفض. كيف ترفض شيئاً لا يُلزمها كما قالت كاميليا بشيء؟

هكذا تمت المقابلة بين الشابين. وردة، انزعجت من طول الزيارة ومن أحاديث رشاد المملّة التي زادتها طولاً. بذلت جهداً للإصغاء فيما هي تفكر في الورطة التي تلوح لها في الأفق. تفكّر بحيلة تخلصها، وهو يسهب بالحديث عن التغير الذي سيحل في البلاد. سيأتي حكام جدد ينهضون بشعوبها ويُدخلونها في قلب المدنية. ستغدو هذه كما أوروبا. والناس سيبدلون زياً بزيّ وعادات بأخرى. سيخلع الرجال الطرابيش والنساء الملاءات السوداء، وسيأكلون بطريقة متمدنة فلا يغمسون أيديهم معاً في الصحن ذاته. وحدثها بآداب المائدة، وبمسألة استخدام الشوك والسكاكين...

وذكرت له أن استخدم هذه الأدوات، إضافة إلى آداب المائدة هو، من صلب المنهاج المدرسي. التلميذات يتناولن طعام الغذاء في المدرسة حسب الأصول تلك. وأجابها رشاد بتلك العبارة التي أزعجتها: ممتاز، قال. يسعدني أن تكون شريكة حياتي متمرسة هكذا بالآداب الجميلة، وأن تجعل بيتنا مثالاً للآخرين. كما أزعجها أن يثني على حماستها للتعلم ودخولها المدرسة الأمريكية بالذات: يُقال إن الفتاة تتخرج منها سيدة بيت ممتازة، وسيدة مجتمع من طراز رفيع.

استوقفتها كلمة "طراز" التي كانت تسمع بها أول مرة. الكلمة تعني بالتأكيد "ستايل" أو "ستاندرد" بالإنجليزية.

ـ توافقيني يا وردة شاه الرأي أليس كذلك؟

ـ أوافقك على ماذا؟

ـ على طراز البيوت. ما يزعجني في بيوتنا الطريقة التي يضع فيها الناس الكنبات. يصفوها الواحدة جنب الأخرى مثل جنود العسكر! سآخذك إلى منزل أصدقاء لي إيطاليين لتري كيف...كما أريد أن أُسمعك يوماً "الدانوب بلو؟".

ـ أسمعتني إياها كاميليا.

ـ ممتاز. وهلي تتدربين في المدرسة على الرّقص؟

ـ نعم.

ـ من ناحيتي، تعلمت الرقص على يد مدرّس إيطالي يعيش في منطقة الجميزة. من دواعي الأسف أننا لا نجد فتيات يرافقنا. بلادنا مازالت متأخرة. المتزوجة لا ترقص إلا مع زوجها، والعازبة إن رقصت مع شاب غريب اُعتبرت من الفاجرات!

*  *  *  *

لو قُيض لوردة أن تفصح عن حقيقة مشاعرها لقالت إن روحها تمقت هذا الشاب. وتمقت العجرفة التي ورثها عن جدته نازلي. وكاميليا، تلح عليها أن تقابله ثانية، فلقاء واحد لا يكفي للحكم على الأمور.

وزاد الطين بلة أنها في عودتها من المدرسة، عصر الجمعة، وجدت سيدات العائلة مجتمعات يتحدّثن عن مسألة ما. ولحظة دخلت عليهن سكتن. ثم قالت نازلي:

ـ أهلاً بالعروس. مبروك يا عروس!

ورددت السيدات:

ـ مبروك يا وردة شاه. إن شاء الله نراك قريباً على مرتبة العرس.أجلسي يا عروس.

ارتبكت وردة وجلست علي حافة الكنبة.

ـ خطبة ستطول، قالت نازلي. نور الدين اشترط أن تتم وردة الثامنة عشرة قبل الزواج، لمَ لا، الخطبة رباط أجمل من الزواج. سعادة بلا مسؤوليات! ليت زماننا وفّر لنا هذا! كانوا يطلبون يد البنت في العصر ويقرأون الفاتحة في اليوم التالي، وخلال أسابيع يجهزّون، ثم ينقلون العروس إلى بيت زوج لم تر وجهه من قبل.

- يا حسرتي على زماننا. كانوا يطلبون من العروس أن تغمض عينيها طوال حفلة العرس. العمة نازلي أول عروس في بيروت فتحت عينيها: "أريد أن أتفرّج على حفلة عرسي" قالت.

وراحت الحاضرات يتناوبن على استذكار فصول حياتهن:

ـ يا حسرة، أنا لم أقابل زوجي سوى بعد الزفاف. قالت الخالة نسب.

- ما من فتاة كان يسمح لها بمقابلة من سيكون زوجها قبل الزفاف، حتى وإن كان العقد معقوداً.

- حتى وإن كان قريبها وتعرفه من قبل. ما إن يطلب يدها، يصبح من العيب أن تراه!

ـ يا لتلك العادات!

- يا حبيبتي وردة شاه، أين كنّا في الماضي مما يجري الآن؟ حظكم رائع أن تعيشوا في هذا العصر. في زماننا حتى المسيحية، لولا الذهاب إلى الكنيسة، ما كانت ستقابل خطيبها.

وسألت الخالة نسب:

ـ ومتى نحتفل بخطبة عروستنا إن شاء الله؟

ـ ما رأي العروس؟ سألت نازلي، قبل نهاية السنة المدرسة أم بعدها؟

-أين هو العريس الآن ؟ سألت الخالة نسب

- بعد مقابلة وردة سافر إلى دمشق ليبشر أهله. ولعله سيمضي هناك بعض الوقت.

وابتسمت نازلي ورفعت حاجبيها بصورة مُلغزة ثم أضافت:

ـ والعروس أعطته إذن السفر. شبان هذا العصر
لا يزعلون خطيباتهم! أليس كذلك يا حبيبتي وردة شاه؟

من  منكم  رأى  وردة؟

ما كانت فكرة الهرب مع المدرّس تخطر لوردة قبل انتهاء العام الدراسي، لولا ذاك اللقاء مع سيدات العائلة التي تمنين فيه رؤيتها "عروس" على مرتبة العرس مع عريسها رشاد. العبارة التي أطاشت صوابها وخطر لها أن تنقلها إلى محبوبها بشارة. لكن كيف؟

لا تجرؤ على أن تخبره بها شفوياً خلال الدرس الأسباني. كان لسانها سُيعقد والأفكار ستتبخر والدم سينسحب من رأسها وتُصاب بالدوار. وهو من ناحيته، ومهما بذل من جهد، كان سيعجز عن الإصغاء. لذا رأت أنه من الأفضل أن تكتب. وحين سلّمته الرسالة، ولفرط اضطرابها، أدرك بشارة أن شيئاً بالغ الخطر يلوح في الأفق! أسرع يفضّ المغلّف ويقرأ ما سيربط لسانه ويجعله يردّد كلمة "مستحيل".

أنهى القراءة وخرج. المفاجأة غير المتوقعة والعبارات التي وردت في الرسالة عن خطبة لم يسمع بها وعن عرس قادم، وموكب تتقدمه سيارة الفورد، اتخذت في نفسه أبعاداً مدمرة، خاصة وأن وردة ذكرت في رسالتها أكثر من مرة اسم رشاد.

جنّ جنونه!

ومضى تائهاً في الشوارع، غير راغب في الوصول إلى مكان، مأخوذاً بذاك الاحتمال  الذي يضرم النار في الروح: أن تجلس محبوبته بالفعل على مرتبة العرس مع ابن عمتها الذي ذكرت في الرسالة أسمه.

ووجد نفسه يمر بحقول برية وحدائق مسيجة. سيظل يمشي وإن وصل إلى مالطا! ولم يتنبه إلا ونباح يعلو ويقترب والكلاب تلحق به. تعثر ووقع ثم بذل جهداً لينهض. جلس بين الأشجار يلتقط أنفاسه. وفي جلوسه القصير خطر له أنه لن  يرجع إلى البيت قبل أن يهتدي إلى الحل الذي من شأنه أن ينقذ حبيبته مما، كما قالت، تفضل الموت عليه!

نهض وتابع سيره. وإذ تجاوز التلال وبان له البحر، نزل قاصداً الشاطئ. وهناك جلس على الرمال. أضواء المنارة التي تهدي السفن الضالة تمر فوق رأسه وتدور. ومن بعيد لاحت له في عرض البحر سفينة متجهة إلى المرفأ، ولمعت في خاطره الفكرة التي ستبدد جنونه. إنه هو المنارة والسفينة في آن واحد. فإذا ما كان نور هذه يقود تلك إلى مرساها، فلا بد لعقله أن يهدي روحه إلى الحل. وإلا فمصيره ومصير محبوبته الهلاك. وتذكّر ما سمعه من صديق له، أن باخرة ستمر في ميناء بيروت لتبحر بعد ذلك إلى أمريكا. هكذا تبلورت فكرة الهرب وعلى الفور اتخذ القرار وقفل عائداً ولا يدري كيف وصل إلى البيت عند الفجر. اندفع إلى غرفته، تناول ورقة وريشة وجلس إلى طاولته يكتب لمحبوبته الجواب الذي سيغيّر حياتها وحياته. دوّن العنوان وسبيل الوصول إليه ومحطة الترامواي التي ينبغي أن تنزل فيها، إضافة إلى وصف الطرق الفرعية الأكثر أماناً والتي يُفضّل أن تسلكها. وفي المقابلة الأخيرة، سلّمها الرسالة: الباخرة ستمر يوم الأربعاء ببيروت وهي الفرصة الوحيدة للهرب إن كانت، كما هو نفسه، تشتهي أن يتحدا ذاك الاتحاد  الأبدي السامي الذي يجدر بكل محبي العالم أن يسمعوا إليه.

*  *  *  *

يوم الاثنين في الرابعة عصراً كانت وردة تصل من المدرسة. ترتاح قليلاً ثم تتحضر لقدوم المدرسة. لكنها اليوم تأخرت. لعل المدرسة "أليس" استبقت تلميذاتها لتعطيهن بعض المواد الإضافية. لكن والساعة تقارب الخامسة ووردة لم تصل، اقترحت ملك أن تذهب بنفسها إلى بيت قريبتها هدي لتسأل عنها. أما كاميليا، فلم يخطر لها احتمال الهرب، ولا أن تتفقد حقيبة السفر. لكن، والأفعال تسبق النيّات، أسرعت على الفور تتفقدها. وإذ  اكتشفت اختفاءها تراءت لها خطورة الموقف! ورغم هذا اكتفت بأن تقول لزوجها العبارة التي في أول الأمر لم يفهم من مغزاها القاتل شيئاً، ولم تبادر هي نفسها إلى شرح أبعادها. تقول إنها لم تجد حقيبة السفر "الهافان" التي كانت معها في شهر العسل. وذلك في اللحظة التي كانت ملك تضرب باب هدى لتسأل، وهذه تقدم الجواب الذي بدا لها غير قابل التصديق! وردة لم تأت إليها نهار الجمعة كما وعدتها لتدرسا معاً للامتحان، كما أنها لم تحضر اليوم إلى المدرسة! لعلّها ذهبت إلى الخياطة التي كانت تخيط لها في المدة الأخيرة بعض الملابس...كلام أذهل ملك، وأعادها إلى البيت والذعر البيّن على وجهها يمهد للخبر الذي سيرمي الهلع في قلوب الحاضرين!

*  *  *  *

ندم عظيم سيلحق بكاميليا بعد ذلك!

لو أنها في حينه أفصحت عن هواجسها لاستبق نور الدين الخطر قبل وقوعه! ستدرك كاميليا، متأخرة، أنها، رغم مضي عشر سنوات على إقامتها في هذه المدينة، لا تعي بعد الفارق بين ما هو غير مرغوب فيه، وما من شأنه أن يضرب عائلة في الصميم، ضربة لا مرادف لها سوى كلمة العار. الكلمة التي لم تستوعب هي مغزاها، والذي تراءي شبحها المخيف لسيدّات البيت منذ أن وطأ رجل غريب عتبته. أشياء كثيرة عرفتها كاميليا عن المجتمع الجديد الذي وفدت إليه  وعن حساسيات التعامل مع سكان البيوت الثلاثة، مكّنتها من الدخول إلى قلوب هؤلاء حتى غدت كأنها واحدة منهم. لكنها، وفي استسلامها لرفاهية الاحتمالات، غاب عن بالها الجوهر الذي لا يقبل أي احتمال. الجوهر الذي لم تقدّر هي خطورة المساس به: الشرف.

*  *  *  *

في غمرة قلقهم، خطر لأفراد العائلة المجتمعين في الصالونات أن تكون وردة، موجودة في مكان ما في أحد بيوت آل إسماعيل. إذ يحدث لها حيث تضيق بالجلوس في غرفتها، أن تتمشى في الحدائق أو تصعد إلى السطح تقرأ أو تلف على أقاربها. هكذا خرجوا، نساء ورجالاً وانتشروا في أرجاء الحوش الكبير، وراحوا يدخلون البيوت ليسأل الواحد منهم الآخر:

ـ هل رأيت وردة؟

ـ لا.

ـ من منكم رأى وردة؟

ـ أنا لم أرها.

ـ قد تكون في منزل أخيها شوكت.

ـ أو على السطح تقرأ.

وبدأت الهواجس توسوس لهؤلاء أن يكون اختفاء الفتاة مرتبطاً بحادث مأسوي أودى بحياتها! فالأشقياء من الفقراء الذين تزداد أعدادهم في ضواحي بيروت يوماً عن يوم، باتوا ينقضّون على المنازل. يستفردون بفتاة عزلاء يخطفونها ويشنّعون بها. مثل هذه الفظائع لم تقع بعد في بيروت، لكن، من يعلم؟ إذ ليس للأشقياء حدود، ولا عجب أن تقودهم الأطماع إلى اقتحام  العاصمة ذاتها!

أما مخاوف ملك، فقد اتخذت منحي آخر، تصورت فيه وردة مغمى عليها في زاوية خفية من زوايا الحديقة، تحت جب شجرة العليق أو غيرها من الأشجار. أو أن تكون غرقت في البركة.

في تلك الساعة قبيل المغيب، بدأ سكان البيوت المجاورة يتساءلون ما الذي "دهى" بعقل آل إسماعيل، لينتشروا هكذا، نساء ورجالاً، على السطوح وفي الحدائق بل وفي كل مكان، كأنهم يبحثون عن كنز! تساؤلات بدأت تنتقل من بيت  لآخر، تزيد الجيران حيرة وفضولاً. ملك راحت إلى بركة المياه المخصصة لري الحديقة ونزلت فيها. أبو سليمان قصد البئر، أزاح غطاءها وصار ينادي:

ـ وردة خانم، يا وردة خانم....

الصدى يُرجع النداء من أعماق البئر كما لو أنه آتٍ من آفاق بعيدة، حاملاً أسم الفتاة المفقودة:

وردة... خانم... وردة...

*  *  *  *

حملت وردة الحقيبة الجلدية التي اشترتها كاميليا في رحلة شهر العسل، وخرجت من بيت أخيها، وفي زعمها أنها تفعل هذا إلى غير رجعة. تسير في دربها مسرنمة مثل سائر في نومه. كان عليها أن تركب الترامواي لبضع محطات ثم تسير مسافة أخرى لتصل إلى بيت محبوبها وهي لم تكمل السابعة عشرة من عمرها بعد.

لو حدثوا وردة بالألم الذي سببته لرجال هذه العائلة الكريمة وسيداتها لما وجدت ما تضيفه إلى ذلك سوى التفكير في شقائها هي. والتفكير بالاضطراب الفظيع الذي يلازمها منذ شهور. والإحساس القاتل بالذنب الذي بدأ ينهش روحها منذ اللحظة التي اتخذت فيها قرار الهرب. تعرف هول المحنة التي تنزلها بأناس تحبهم، إنما ليس في وسعها شيء. فهي لا تقوم بما تقوم به طوعاً، بل تنفيذاً لمشيئته لا سلطة لها عليها. امتثالاً لصوت يأمرها بأن تفعل وهي تنصاع إليه بلا اعتراض. وربما كلمة اعتراض ليست الملائمة للحال الذي لبسها. فهي، منذ أن دخل أستاذها عتبة البيت، باتت أسيرة المشاعر التي ستلازمها طويلاً بعد ذلك. وفي سرها الآن تدرك مغزى ما كانت تسمع به حول المُسيَّر والمخيَّر من الأفعال، ليتأكد لها أنّ ما تقوم به هو من الصنف الأول. مسيّرةً اختارت الهرب، عاجزة عن التراجع أو التمهل أو اتخاذ أي قرار غير هذا اللاإرادي المعذّب الذي وجدت نفسها ماضية فيه.

لو حدثوها وحدثتهم لتبين أنها لم تكن أقل شقاء من أهلها الذين نزلت بهم محنة العار. والفكرة التي تراودها وهي في طريقها إلى دار حبيبها، كانت، إما أن يهربا بالباخرة التي ستصل خلال أيام، أو ينتحرا معاً بالسم فيخلّدا حبهما المستحيل إلى الأبد! وهي إن كانت تميل إلى الحل الثاني، فإنما حباً بأخيها نور الدين وزوجته كاميليا. صحيح أن أخاها سبق له أن وقع صريع الهوى، أنهار وأنطوى حتى كاد يمرض... وصحيح أن أباها لابد أن فقد سلطان الأمر والنهي هو أيضاً، حين قرّر أن يتزوج أمها بوران التي تصغره بعشرين عاماً. إلا أن عقلها رغم التشوش يعي الفوارق ويجسد لها الأثر المدمر لفعل تسدد به الضربة القاضية إلى عائلة تعبدها. من تلك الضربات التي تشق المحور وتهزم أمام الملأ في أشد المواضع حساسية: الشرف. ووفاء منها لأخيها نور الدين مرّت على الدكان واستفسرت عن سم الفئرن ، لكنها أجّلت شراءه ريثما تلقى حبيبها فيتخذا معاً قرار الخلاص.

*  *  *  *

كاميليا، بعد أن أعيت الحيلة النساء والرجال وخطرت لهم فكرة البحث عن ابنتهم خارج المنازل، خرجت عن صمتها. انفردت بنور الدين ولفتت انتباهه إلى سلسلة الإشارات، ومن بين تلك اختفاء الغطاء الصوف الأزرق الذي لا تفارقه وردة في النوم صيفاً شتاء...الإشارات التي تفضي إلى ذاك الاحتمال: أن تكون وردة  قد هربت مع مدرّسها. وعلى التوّ، توجه نور الدين مع أخويه، إلى محطة الترامواي، يستفسرون من سائقه إن كان، في جولاته، قد رأى فتاة مسلمة سافرة الوجه، أو إن كانت هذه قد ركبت القطار يوم الجمعة؟ ويسألونه عن الوجهة التي أخذتها يومذاك أو المحطة التي نزلت فيها؟

سائق الترام لا يفوته بالطبع أن يلاحظ وجود شابه فيه، فكيف لو كانت مسلمة؟ لكنّه في واقع الأمر، وللوهلة الأولي لم يفهم تماماً ما قيل له. أن تكون مسلمة وكاشفة الوجه، فهذا ما يسمع به أول مرّة! من أين له أن يعرف دينها إذن؟ وإذ شرحوا له القصد أخبرهم أن الكاشفات الوجه اللواتي ركبن معه يوم الجمعة كن ثلاث سيدات متوسطات السن، وشابة. جميعهن من النصارى، كما يشير إلى ذلك الحجاب الخاص بهن والأيقونات التي تتدلّي على صدورهنّ. ذاك المساء لم يلاحظ وجود مسلمة كاشفة، وإن كانت مسألة غريبة قد لفتته: ففي مثل هذه الساعة المتأخرة، كانت إحدى الراكبات ترتدي الزىّ الأسود المعروف، الذي يحجبها عن العين. والغريب أن السيدة تلك، نزلت في محطة "الفرير" لتسير في أحد الشوارع الفرعية وتتوارى خلف بيت مهجور. نعم، لفتته غرابة الموقف! أن تسير مسلمة، والشمس تتحضّر للغروب، في حارة النصارى بمفردها! وخطر له أن يوقف الترامواي وينزل ليلحق بها ويعيدها إلى الحيّ الذي يجدر بها أن تكون فيه في مثل هذه الساعة. أو يسألها عن مغزى سلوكها غير المألوف ويسألها إن كانت تحتاج إلى مساعدة؟ غير أنه عدل عن رأيه، إذ خطر له أن لا تكون المسافرة المحجبة، امرأة بل رجلاً تنكر في زي امرأة.  لعلّه أحد أبناء الوجهاء ممّن أُدرجت أسماؤهم في لائحة الإعدامات الأخيرة، قد تنكر للّحاق برفاقه الهاربين إلى مصر أو فرنسا. يقال إن باخرة ستصل. لا بدّ أن الفار المتنكر يرتب لسفر طويل، فليجأ إلى أقارب له أو معارف في الشطر المسيحي، ومن ثم يتابع فراره. لا ريب في أنّه من ذوي الجاه والنسب. تبيّن له هذا من الزاد الذي نسي قسماً منه في الحافلة. ومن نوعية الأطعمة وأقراص الكباب الصغيرة المتماسكة والمعدة بإتقان. إتقان غير ملهوف على الأكل، حريص على أن يضاهي شكله لذيذ طعمه. فضلاً عن الأجبان: القشقوان التركي والحلّوم القبرصي والأبيض النابلسي والبلغاري. بلى، من الجليّ أن الهارب يتحضر لسفر طويل، خاصة وأنه كان يحمل حقيبة جلدية كبيرة، بنية بلون التنباك، من الواضح أنها من الصنف الرفيع!

*  *  *  *

في بيت آخر من بيوت المدينة، يسكن زوجان في عمر الشيخوخة، يتجرّعان بهدوء مرارة اللوعة التي أصابتهما، فيما ينتظران ملاك الموت ليريحهما من آلام هذه الدنّيا التي ما عادت تساوي لهما شيئاً. في هذا البيت الذي يقع وسط حديقة ما عاد أحد يعتني بها، قالت نصرة لزوجها شكر الله إنها تشعر بخطى في الغرفة العلوية! خطى غريبة، كأن أحداً يلبس مشاية "ماريا" ويسير بها على الأرض، سيراً ناعماً خفيفاً مثل حفيف ورق الخريف في أرض الحديقة.

ـ عجباً، قال الرجل لزوجته، فنحن في الربيع!

ـ لكن حفيف المشاية يذكّر بسير ماريا علي ورق الخريف.

تقول المرأة هذا وترجو من زوجها أن يصعد ليرى. فهي، وإن كان ما تشعر به غريباً، متأكدة منه. يجيبها زوجها بأنه لا يسمع شيئاً:

ـ لعل فأرة عبرت المكان. يجدر بنا أن نفعل شيئاً كي
لا تسرح هذه القوارض المؤذية في غرفة ماريا.

ـ لكن ما أشعر به... أنصت، أنصت... ما أشعر به ليس فقط حفيف مشاية على الأرض، بل كأن روحاً آدمية عادت تسكن الغرفة. أنصت، أنصت، هل تسمع؟!

ـ باسم الرب. روح آدمية؟!

ـ هذا ما أحسّ به.

الرّجل الذي فقد منذ سنوات ثقته بسمعه، امتثل كلام زوجته وصعد السلّم وضربات قلبه تضج في قفص صدره. وما إن وصل وفتح الباب حتى فوجئ بما رمى الهلع في قلبه وجعله يتمتم باسم الأب والابن... فالرّوح الآدمية التي أحست نصرة بوجودها، يراها مائلة أمامه! بهيئة أنثى! حسناء في عمر الورود ذات شعر طويل ظهرت عليه في الغرفة المغلقة! الغرفة التي ما زالت تعبق بالموت، والتي لا أحد يدخلها منذ سنوات إلا لتنظيفها أو لضرورة قصوى. لكنّ الجالسة على حافة السرير تنبئه بغير ذلك. السرير الذي شهد وفاة اثنتين من أغلى مخلوقات الكون على قلبه: ابنته ماريا التي ماتت في جائحة الدفتيريا وهي في مثل سن هذه الصبية وبقدر جمالها، وأمه التي بعد أقل من أسبوعين قضت غمّاً على حفيدتها.

أبو بشارة، حين وقع بصره على الفتاة تتسرّح بهدوء، كأنما تؤدي عملاً مألوفاً في بيتها، ولفرط لهفته، خالها للوهلة الأولى ابنته، وقد أعادتها إليهم قوى خارقة مسيّرة بالشوق العظيم. خاصة أن هذه، في جلستها، تقرّب طاولة التسريح من السرير، تتأمل في مرآتها تماماً كما كانت تفعل ماريا. ولفرحته، كاد ينادي امرأته لتأتي وترى ابنتها! وإذ رفعت الفتاة إليه عينين زرقاوين بلون أعماق البحر، تأكد له أنّها غريبة عن الدار، تجلس في غرفة الموتى ولا أحد غير الله يعلم كيف دخلتها!

كان من المستحيل عليه أن يتكهن بهوية المخلوقة طارئة الحضور أو بعلّة مجيئها، وإن كانت تبدو له أوروبية. فهي تشبه ابنة القنصل الفرنسي الذي لمحها ذات مرة في الكنيسة. وكان قد سمع من بشارة بالأزياء الحديثة للأوروبيات. ملابس هذه وملامحها، أوحت إليها بأنها واحدة منهنّ، إلى أن فتحت فمها لتعلن بنفسها هويتها والسبب المذهل لوجودها في بيته! أنا وردة شاه خطيبة بشارة، قالت بلغة عربية ولكنة محلية. والعبارة التي غايتها إيضاح الموقف، زادته في واقع الأمر التباساً، فعاد يستفسر منها، فيما شفتاه ترتعشان كصوتها وهي تكرّر: - نعم خطيبة بشارة.

أن تخبره فتاة ذات حياء وعلى هذا القدر من الجمال والتمدن، أنها خطيبة أبنه، فهذا أدعي إلى الحبور! لكن، أن يكون ابنه مرتبطاً بفتاة من دون علمه، وأن تأتي هذه إلى بيته سراً وتجلس فيه جلوس أحد من أهله، فهذا ما ينذر بشيء خطير! هكذا، وبعد لحظات خاطفة من الغبطة بدأت تتراءى له الأبعاد الأخرى للنبأ لتصيبه بٍغَمًّ فظيع. كان عليه أن يبذل جهداً خارقاً ليهدأ روعه ويعرف هل هو إزاء فتاة مخبولة ساقتها إليهم الأقدار، أم أنّ لوثةً أصابت أبنه العاقل الذي أتم الخامسة والعشرين من عمره ولم يُعرف عنه حتى اليوم إلا السلوك القويم..  والفتاة تسأل في صيغة الجواب:

ـ وأنت؟ أبو بشارة، أليس كذلك؟

زوجته تناديه من تحت بصوتها الضئيل لتستفسر عمّا وَجَد.

"نعم، أبو بشارة". بشارة... هذا الذي عدا بعض الحماقات، لم يبدر عنه شيء يوحي بالخبل أو الجنون. كما لا يعهده فارساً مقداماً يطير على صهوة جواد ليخطف من أهلها، فتاةً تدل هيئتها الرهيفة وحقيبتها الأنيقة على أنّها من الذوات! ووجد الكهل نفسه يسأل الصبية مجدداً كأنما ليتأكد من صحة النبأ المعذَّب الذي سمعه للتوّ: خطيبة بشارة ؟

ـ نعم. أنا وبشارة مخطوبان.

ـ مخطوبان؟

ـ نعم.

ـ منذ متى؟

ـ منذ شهرين وخمسة أيام.

ـ وأين هو بشارة الآن؟

ـ في الدّير. قال سيسهر في المكتبة وينام هناك لينهي ترجمة المخطوطة التي بين يديه قبل السفر.

ـ قبل السفر؟ أي سفر؟

ـ سفرنا أنا وهو.

ـ أنتِ وهو مسافران؟

ـ نعم بالباخرة. كناّ سنسافر بعد غد لكن الرحلة تأجلت إلى الأربعاء القادم.

ـ تسافران الأربعاء التالي بالباخرة؟

ـ نعم. يقولون إنها سترسو الثلاثاء، والأربعاء يبدأ الناس بالصعود إليها.

ـ وإلى أين تسافران؟

ـ إلى الأرجنتين أو المكسيك. بشارة يفضل العيش في بلاد لغتها أسبانية. وفي الباخرة، كما فهمتُ منه، سيزوّجنا خوري. وكادت تضيف: وأيضاً يزوّجنا شيخ، لكنها سكتت.

كان شكر الله قد سمع بوصول الباخرة يوم الثلاثاء، وإبحارها الأربعاء. إنما ورغبته في إزاحة الكابوس الذي وقع فيه تتجاوز إذعانه للواقع، صار يشكك بما يسمع. ولولا الحقيبة الموضوعة في زاوية الغرفة والتي هي من دلالات السفر... ولولا رائحة الطعام التي هي من دلالات البشر... ولولا أنّ الفتاة تنتعل بالفعل مشاية ابنته ماريا، لظنّ نفسه واهماً! ولظنّ أنّ المخلوقة الجالسة أمامه، تنظر إليه بعينين ناعستين، طيف عابر ليس إلاّ. رؤية من رُؤى خياله المتعَب، ظهرت لتكدّر عليه صفاء ما تبقي له من أيام للحزن.

وكاد أن ينادي زوجته لتأتي وتساعده على فك اللغز! إنّما وخوفاً عليها تريّث. أفكار كثيرة خطرت له، لا يجد الطاقة اللازمة لتنفيذها. مثل أن يطرد الفتاة أو يوحي لها بالهرب.
أو يشفق عليها من جريمة شرف تذهب ضحيّتها مثلما حدث السنة الماضية لجوليا بنت مخايل في الحيّ الفوقاني، وكانت هذه قد أرسلت إلى حبيبها رسالة غمّست ريشتها بجرح في ساعدها وتلقت منه جواباً مغمساً بالدم أيضاً. إذا ما كان لهذه المخلوقة أخ متشدّد أو أبن عم، فمصيرها بالتأكيد مصير جوليا. فليحمها منه إذن. ليخبئها في منزله ويتبنّاها مدى العمر بديلاً لابنته ماريا. أو ليفعل شيئاً ينقذها من الهلاك. الأفكار التي ضربت خاطره المشوّش، كلها، وقبل أن يعرف أن الفتاة مسلمة من أصل تركيّ، تؤكد له حجم الورطة التي وقع فيها. وإذ لمح كتباً تحت السرير، ضرب برأسه ذاك الاحتمال الذي كاد يوقع في النفس الهلع. أن تكون هذه هي التلميذة ذاتها التي يذهب ابنه ثلاث مراّت في الأسبوع لتدريسها. نعم واسمها المقرون بكلمة شاه من الدلائل على ذلك!

يا ربّ السموات!

وتذكّر ضيقه آنذاك من فكرة أن يدّرس أبنه فتاة. أن يجلسا بمفردهما في غرفة! صحيح أنّ بابها كما أكّد له، يبقي مفتوحاً، وأنّ زوجة أخ التلميذة تدخل وتخرج، وأنّ تلميذة أخرى انضمت إليهما في الآونة الأخيرة... لكن الصحيح أيضاً أنّ لا شيء يغزي الشيطان بأن يعبث ويفتك قدر أن يرى امرأة ورجلاً مجتمعين. وسأل أبو بشارة الفتاة عما تقرأ، وهي على الفور أجابت: قصيدة للشاعر المتصوّف "إبن عربي". فتناول منها الورقة وقرأ:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة

فمرعىً لغزلان ودير لرهبان  

ويبتٌ لأوثان وكعبةُ طائف

وألواح تُوراة ومصحف قرآن   

أدين بُدين الحب أن توجهت

  ركائُبه، فالحبُّ ديني وإيماني

وعلى الرغم من أن القصيدة تتحدّث بوحدة الأديان وبالنظرة الكلية للعالم، فإنّ "كلية" الموقف، تدقّ للكهل أجراس الخطر. تنذره بواقعة رهيبة، يتراءى له حدوثها في المدى القريب.

*  *  *  *

حدث اللقاء أحد أيام الاثنين من عام 1914، ذاك الذي لن ينساه أبو بشارة في حياته أبداً، والذي لولا فجيعته بابنته، ولولا أن الحرب الكونية تدق على الأبواب ، لاعتبره من أقسى تجارب حياته. ووجد نفسه يغلق باب الغرفة ويجلس على الكرسي الموضوع عند مدخلها يلهث. لا يدري ماذا يقول لزوجته التي تكرر من تحت نداءها له. وإذ سمع وقع قدميها صاعدة نزل وارتمى على الدّكة. وركضت هي تجلس بجانبه تسأله ماذا وجد؟!

ـ فأرة؟

ـ لا.

ـ جرذ؟

ـ لا.

ـ قطة؟

ـ لا.

ماذا إذن؟

ـ لا أدري ماذا أقول.

ـ عفريت؟! جن! يا إلهي جنّ في غرفة ماريا؟!

والد بشارة يردّد "لا أدري" فيما يلتفت إلى هذه الناحية وتلك واضعاً كفّه على صدره، خشية أن يصاب بعارض. أفكاره المشوّشة توحي أنه على وشك الإصابة بالسكتة الدماغية، لكنّ ضربات قلبه تنبئ بالقلبية منها. لسانه مربوط، فيما يحاول أن يستنجد بالسيدة مريم وبابنها يسوع ويستنجد بربّ السموات: يا ربّ. أرحمنا. يا ربّ نجنّا. يا ربّ. أرفق بنا! وانتقلت حالة الفزع منه إلى زوجته، فاتسعت عيناها وعلا لهائها حتى غدا مثل فحيح منفاخٍ في النار! تتمسك بذراعه كما يتمسّك هو بذراعها، كلاهما بتقاسيم مشطورة يستعطف الآخر أن يقول شيئاً! إذا ما كانت المسألة مخيفة لهذا الحد فماذا يمكنها أن تكون؟ وسمعته يقول: فتاة.

ـ فتاة؟!

ـ نعم فتاة... فوق في الغرفة.

ـ أسم الرّب... ومن تكون هذه الفتاة؟!

ما زال أمل ضئيل يراوده أن يكون كلّ ما يجري له من ضروب الكوابيس، وإلاّ فكيف لم يشعر، ولا زوجته شعرت بدخول آدمية إلي البيت؟

ـ يا إلهي مَن تكون هذه الفتاة؟

ألقت نصرة السؤال كأنما تلقيه على نفسها وهي تضرب كفاً بكف.

ـ تقول إنها خطيبة بشارة.

ـ خطيبة بشارة؟!

ـ هكذا تقول واسمها وردة شاه.

ـ لابد أنّها مجنونة.

ـ لا يبدو عليها ذلك. وأسمها التركي...

ـ مجنونة حتماً. منذ أن فتحوا مصح المجنونات وهؤلاء يهربن. لابدّ من إعلام الدير.

ـ لا أظن. ربما علينا أن نفعل شيئاً آخر...

تفوّه شكر الله بتلك العبارة فيما أسند رأسه إلى كفه، يحاول تبديد الاحتمالات المخيفة التي تلوح له، وسمع نصرة تقول: لازم أن نستدعي الدرك.

ـ الدّرك؟ مجنونة. سيرمون أبنك في السجن. من يخلّصه بعد ذلك؟

يقول هذا ولا يجرؤ على كشف الفكرة المرعبة التي لبسته، والتي تتجاوز خطورتها مسألة السجن. العائلات المتشدّدة لا تكتفي بقتل الآثمة لغسل العار بل تصر على قتل شريكها في الإثم، لتمحو كلّ أثر للفعل الشنيع الذي قاما به. مثلما حدث لحنّا الجوني. وهو لا يعرف إن كانت عائلة الهاربة من ذاك النوع. على حدّ علمه فإنّ الأتراك بالنسبة لمسألة الشرف يفوقون العرب تشدّداً. إذا ما كانوا في السياسة يشنّعون هكذا بالمتهمين فما بالك في مسائل الشرف؟ التفت إلى زوجته وقال:  نصرة، أحضري لي الكتاب من المكتبة.

ـ أيّ كتاب؟

ـ أيّ كتاب عن الأتراك. عن العثمانيين. أين هو أبنك بشارة الآن؟

يسأل ويكرّر السؤال لنفسه: أين هو بشارة الآن؟

ـ لا أدري.

ـ روحي أبحثي عنه.

تأكد للمرأة أن مسا أصاب زوجها ليسألها أن تحضر كتابا عن الأتراك وهي أمية تحفظ ولا تقرأ. وليسألها أن تبحث عن بشارة وهي تجهل مكانه. ويطلب حضور ابنه لينتقم منه كما اعتاد أن يفعل قبل سنين. سينتقم منه، لا لشيء إلا لأن مجنونة هربت من المصحة، اقتحمت  البيت وسكنت في غرفة ماريا. لكن ما ذنب بشارة؟

لم يكن حدس نصرة في غير مكانه!

كان زوجها في تلك اللحظة، يتمني أن يلحق بابنه إلى الدير، ويخلع حزامه الجلدي وينهال عليه ضربا كما كان يفعل قبل سنوات. بل كما فعل في  المرة الأخيرة التي لام نفسه عليها كثيراً والتي ثارت لها كرامة الابن فهاجر.  بلا عودة. توارى عن أهله سنوات لا يتصل بهم ولا هم يعرفون إن كان حياً أو إلى أية قارة وصل؟ ولولا وفاة أخته ماريا لما رقّ قلبه وعاد. ليت قلبه لم يرق. ليته لم يرجع ليقع في غرام سيؤدي به إلى حد السكين. أين هو بشارة الآن؟  الفتاة تقول إنه في الدير. قولي لأبنك المجنون ألا يتحرك من مكانه. قولي له أن يختفي تحت سابع أرض.

ـ إذا كان في الدير فكيف لي أن أقول له ذلك؟

ـ لابد أن تبلغيه، وإلا فمصيره مصير حنا الجوني.

ـ مصير حنا الجوني! يا رب السموات أُلطف!

قالت نصرة هذا، وأمسكت  رأسها بكفيها، وهبت واقفة تلوح بجسدها النحيل إلى هذه الناحية وتلك. تئن وتردد: "حنّا الجوني؟! يا رب أرأف بعبدتك نصرة. يا رب لا تتخل عنا. حنا الجونّي؟! يا رب نجنا من الشرير. ثم تناولت "تكاية" وضعتها على معدتها فيما طوت جسمها حتى كادت تركع على الأرض. كانت ستظل مطوية هكذا، لولا الصورة الرهيبة التي ألمح لها زوجها، والتي جعلتها ترمي التكاية وتسرع إلى النافذة تنادي الجيران:

ـ عبدو، عسّاف، يا عبد الله، يا أم عبد الله؟!

لسماعه استغاثة الجارة وصل عبد الله راكضاً.

هب أبو بشارة من مكانه وتناول ورقة وقلماً وبخط مرتعش كتب: "يا مجنون، إياك أن تظهر في أي مكان. أبق حيث أنت. أو اختبئ  تحت سابع أرض".

أنهى شكر الله الرسالة المتقضبة وكاد يسلّم لعبدالله، إنما خطر له أن لا تكون مفهومة لابنه خاصة إذا ما كان بريئاً كما تزعم نصرة. أن تكون الفتاة هي حقاً الدراسة ذاتها، إنما مجنونة وقد صوّر لها جنونها أشياء، فجاءت من تلقاء ذاتها وتسلّلت إلى غرفة ماريا لا أحد يعرف كيف! أن يكون خيالها المريض ابتكر لها حكاية حبّ وسفر لا علم لبشارة بها؟ هكذا مزّق الأب الورقة وشرع يكتب رسالة أخرى أكثر رصانةً تقول، "ولدنا بشارة. هناك فتاة تقول إن اسمها وردة شاه، تزعم أنها خطيبتك، تسلّلت إلى البيت وتسكن في غرفة...".

وقبل أن يكمل الجملة، رأته نصرة يتوقف عن الكتابة، ويهرول إلى فوق، يتعثر في صعود السلّم ثم ينهض ليدخل على الزائرة، يستفسر منها إذا كان بشارة نفسه على علم بوجودها في البيت ؟ إذّاك ناولته وردة الرسالة التي تركها حبيبها. كان يكفيه أن يقرأ الفقرة الأولى منها ليتأكد أن ابنه ضالع في هرب الفتاة، ويبقي يوم الاثنين مسجّلاً في ذاكرته مثل يوم وفاة ماريا. نعم، باعتباره اليوم ذاته الذي أرسل فيه المطران إليه عربة ورسولاً، يستعجله الحضور على جناح الطير، ليسأله عن فرار الشابة المسلمة وردة شاه ابنة الباشا عزمي إسماعيل واختبائها في بيته للزواج من ابنه بشارة ؟

*  *  *  *

حدث استدعاء المطران رب البيت في الثامنة ليلاً. ورُسمت تلك الواقعة في السجل لحياة وردة وفي نفسها المختلجة بالذعر. ذعر شاه يقودها الجزار إلي نهايتها. كثيرات ذُبحن في مثل هذا الموقف ولعلّها وهي تُعاد إلي بيت أخيها، ستغدو بعد قليل واحدة منهن.

قرابة منتصف الليل، وصل رجلان وبرفقتها "الأخت إليزابيت"، ليعيدوا الهاربة إلى ذويها. وعند وصول العربة فُتح  لها الباب الخلفي المؤدّي إلى الإسطبل، لتُساق الهاربة مباشرة إلى القبو الذي ستُسجن فيه، وتُسلَّم الراهبة رسالة من المطران إلى نور الدين أفندي يؤكد له فيها باسم الرب "أنّ الفتاة عادت إليهم طاهرة روحاً وجسداً، كما كانت، وكما القديسة مريم سيدة عذارى العالم. وأنه، إبان وجودها لدى عائلته، لم يطأ الشاب باب البيت مرة واحدة. كان هذا من سمات النبل الذي عُرف به، رغم تهوّره غير المتوقّع والذي لا أحد سوى الله يفهم مغزاه".

ولولا جلبة العربة وسنابك الفرس وغياب الصبية ثلاث ليال وأربعة أيام، سبقه بحث غامض عن كائن ضائع في محيط بيوت آل إسماعيل، لولا ذلك، لسارت الأمور حسب المشتهى ولما ساور أحد شك في شيء.

في اليوم التالي، جاء المطران واختلي بنور الدين ليعتذر باسم عائلة بشارة، ويشرح لها أن ما حدث لا يعدو كونه تهوّر طفلة لم تنضج بعد. وليوضح أن والد الفتى، لولا الحرج ودقة الموقف، لجاء معهم ليعتذر بنفسه عن فعلة ابنه الشنيعة. ويؤكد من جانبه أن ابنه لم يظهر دقيقة واحدة في المنزل إبان وجود الفتاة فيه. ورغم هذا فالمطرانية قبضت على الشاب وسجنته في أحد الأقبية ذات السقف المنخفض، والتي لا أحد يصل إليها سوى الملّخص. وقد يبقى وحيد أهله سجيناً مدى الحياة إرضاءً للأفندي وعائلته. نعم، لن يُفرج عنه إلا حين يأتيه طلب العفو من وليّ أمر الفتاة نفسه. ولم يفت المطران أن يعطي نور الدين النصيحة ذاتها التي سبق أن أعطاه إياها مفتي بيروت. أن يتكتموا بأمر الهرب. أمّا وقد شاع، فمن الحريّ بهم أن يعزوه إلى لوثة في عقل الشابة، هذا الذي أثقلته نظريات الفلسفة والعلوم. نظريات ينوء بحملها الرجال، فكيف يحتملها عقل أنثى صغيرة السنّ؟

كان ذهول العائلة وغضبها، أفظع من أن يمكنّها من القيام بأي دور غير الدوّر الشيطاني الذي يلاعبها فيه القدر. ما عاد بإمكان رجالها، ونفوسهم تغلي بالغضب، سوى التفكير في الحل الذي لا حل سواه: غسل العار بالدم. وفي اليوم التالي حين بكّروا في الذهاب إلى أخيهم الأكبر، لم يفعلوا هذا ليستشيروه، إذ تراهم على يقين من موافقته. ولا ليسألوه عن المتطوّع للفعل، فكل منهم متطوّع له. ولا ليرسموا خطة تُبقي الفاعل مجهولاً، كما نصحهم قريب عارف بأمور الجنايات، فأمنية كل منهم أضحت الإشهار. وإنما راحوا إليه ليطمئنوا، إنّهم على عهده بهم، رهن الإشارة، وعلى استعداد ليقوموا جهاراً  بالفعل الذي من شأنه أن يطهّر اسم الأشراف، آل إسماعيل، من الفضيحة مرّة واحدة وإلى الأبد.

*  *  *  *

وردة من سجنها تصغي إلى ما يُقال في ديوان أخيها بشأن قتلها. وتجد نفسها في حالة قبول قلّما مرّ به محكوم بالموت.  قبول تتفهم فيه موقف هؤلاء الرجال المجروحين في كرامتهم والمطالبين بذبحها، تفهمّها فرارها من البيت واللّحاق بحبيبها. كل منهم مُحٍق بما يفعل ولا لوم فيه على أحد. وإذ تشعر بخبط الأقدام الذكورية الغاضبة، تعرف أنهم جاءوا يتشاورون. رواح ومجيء نساء العائلة المذعورات، ووقع قدميّ كاميليا التي تعبدها، يلوّح لها بخطورة الموقف. وحين سمعت أصوات الاحتجاج والتهديد، شمّت رائحة الموت، ولمع حدّ السكين أمام عينيها لمعاناً نفذ إلى عتمة القبو. السكين التي ستفصل رأسها عن جسمها. لا تخاف الموت الذي باتت مستعجلة قدومه، بل ترتعش من مواجهته وتحزن للغمّ الذي سيصيب حبيبها. ولمّا تناهت إليها معارضة نور الدين فهمت أنه يفضل أن يذبحها بيده. عقلها لم يصدّق، لكنّها صارت تتخيّله داخلاً القبو هائجاً هياج ثور، يسحبها من شعرها ويجزّ رأسها مثلما يذبح الجزّار النعجة. لا تلومه. وإن استعطفته فإنما ليأذن لها، في رحمته، بأن تنهي حياتها بنفسها بسمّ الفئران. نعم، أيّ غدر نزل به على يدها، هو الذي لم تر منه سوى الحب؟ وإذ أدركت أن الانقسام في المواقف يؤجل نهايتها، صارت تستحلف الخادمات أن يأتينها بالسم لتأخذه وتخلص. تركع أمام زوجة أخيها وهذه تحتضنها وتبكي. وهي تفهم مغزى بكاء كاميليا الآتية من قارة أخرى ستبارك هذا الحب، كما بارك أبوها جرجي زواجها من مسلم. القارة التي سبق لحبيبها بشارة أن عاش فيها سنوات وكانت الباخرة ستتجه إليها يوم الأربعاء... كل شيء كان سيسير على ما يرام لولا أن الباخرة غيّرت وجهتها، وبدل أن تأتي إلى بيروت واصلت رحلتها إلى الإسكندرية.

كان على كاميليا أن تكون شديدة الحذر في الليل كما في النهار لئلاّ يخطر في بال إحدى السيدات أن تؤدي للسجينة الخدمة المطلوبة وتزوّدها بالسم. وهؤلاء، اللواتي يواجهن للمرّة الأولى في حياتهن فعلاً غريباً عليهن، "جريمة الشرف"، كن منقسمات على ذواتهن. يعرفن بالعقل أن جريمة مثل هذه لا تشبه آل إسماعيل. لكن النفوس التي هزتها الحادثة تجنح رغماً عنها للبحث عن الحل. سواء الذي يهدد به الرجال أم ذاك الذي تشتهيه وردة  والذي بتنَ يفضّلنه على سائر الحلول. فالأحوال الصحيّة للشابة، مثل القيء والامتناع عن الطعام وكثرة الدخول إلى الحمام، تنذر بأفظع احتمال، ولا تترك لديهنّ شكاً بفائدة أن تتجرّع العاصية السّم بنفسها. كان يمكن للعمّة نازلي، إنقاذاً لشرف العائلة، أن تزوّد وردة بما تريد، لولا خشيتها من أن تُتهم بقتلها انتقاماً لرشاد. لا تعلم أنها في يوم قريب ستسجد تقبل الأرض على أنها لم تفعل. إذ لو ماتت وردة، دون أن تقابل القاضي عزت باشا، كانت هي سترى حفيدها الذي تعبد معلّقاً على حبل المشنقة التي يخيّم شبحها على هذه المنطقة المضطربة من العالم.

لكثرة ما هجست وردة بالانتحار، وصارت تطالب باللّحاق بيوران، بات هذا الاحتمال ماثلاً في الأذهان بما فيه الكفاية لإقناع السيدات بإمكانية حدوثه. وغدت هؤلاء، ولا سيما الخادمات، متحضرات للواقعة. الواحدة منهن تتخيل نفسها فاتحة باب القبو لترى الشابة الجميلة ممددة على الأرض دون حراك! أو منكمشة في فراشها تتلوّى، أو راقدة تحت الملاءات بلا نَفَس. صافيناز، تروح وتجيء بين الغرف ضاربة كفاً بكف، تتساءل عن الواعز الذي أغوى فتاة بريئة براءة مريم العذراء، ومؤهلة لأن تغدو علماً من أعلام الأدب في سماء بيروت وبلاد الشام. ونازلي تلوي برأسها وتتساءل، أي شيطان حوّل الفتاة إلى وغدة تفتك بسمعة العائلة وبناتها. أيّ رجل من العائلات سيرضي بعد الآن أن يتزوج بواحدة منهن؟ ملك التي لا يغيب عن بالها مغزي التلميح، تحاول أن تقول شيئاً لكن عمتها تقاطعها. "فالوغدة بفعلها الشنيع دكت موقع العائلة السياسي أيضاً. موقع نور الدين ومستقبل رشاد. ألا يكفي حفيدها وشاية الواشين به إلى الباب العالي"؟

بقدر ما تخيّلتها النسوة مقتولة بالسم تخيّلها الرجال مذبوحة بالسكين. ولكم اقتحم الواحد من هؤلاء، في خياله، القبو بغية تحويل المشهد إلى واقع. ولولا الأقفال الغليظة التي طلبت كاميليا تثبيتها في الأبواب، والتي قبل أن تنام صارت تخبّئ مفاتيحها في أمكنة لا تخطر في بال، تغيّرها يوماً بعد يوم، لولا ذلك لحقق المطالبون بالثأر الأمنية التي تشتهيها ذواتهم الهائجة المجروحة.

*  *  *  *

لكن، لا خيال النسوة أصاب ولا أمنيات الرجال. فالأخ الأكبر الذي هو في مصاف الأب، الأخ الذي يملك مقاليد الأمر والنهي، رفض. قال لا. قولاً قاطعاً مانعاً.

"لا"

وبالهدوء الذي عهدوه به، دار على وجوه الحاضرين بنظرات تنذر بالويل. وفجأة تحوّل الهدوء إلى بركان. نهض وخبط الطاولة بقبضة بدت لهم رغم الكهولة من حديد. يخبط ويزأر بصوت أوقع في القلوب الرجفة! يقسم ويهدد كل من تسوّل له نفسه أن يمد  يده بالسوء على  وردة شاه.

يدرك نور الدين، أنه منذ اليوم المشؤوم بات واقعاً في محنة، إذ نزلت به فضيحة يعجز عن احتمالها عجزه عن الانتقام من مرتكبتها. يعرف بعقله أن لا رد لاعتبار  العائلة ومكانتها بين الناس سوى قتل وردة. لكنه، منذ اللحظة التي اجتاحت الفكرة خياله سارع إلى طردها في الحال. لا لأن كاميليا ركعت تقبل يده وتستجديه العفو عن الفتاة المسكينة. أو أنها هدّدته بالرّحيل إلى أهل الأرجنتين إن هم قتلوا وردة... بل لأسباب أخرى لا تمكّنه روحه المنهكة من بلورتها. فمنذ الحادثة ما عادت تعني له الأشياء، ولا حتى كاميليا، ما كانت تعنيه من قبل. وما عاد يعني له هو شخصياً رحيلها أو بقاؤها. ولا يأبه لحجتها بأن الفتاة في عقلها لوثة. فالجرح الذي أصابه ليس من ذاك النوع الذي يقبل الجدل والمبررات. هذا ما لا تفهم كاميليا ولا يستوعبه عقلها الأجنبي، مما يشعره بأن جداراً سميكاً بات يه عنها. صحيح أنه لا يأخذ بالشائعات ولا تنطلي عليه، التافهة منها والقائلة إن المرأة الغريبة هي التي سهّلت هرب ابنتهم إلى رجل من دينها ومن القارة التي جاءت منها، وأنها بالسر عنه كانت تشربّ ولديها أفكار الدين المسيحي، لكنّه رغم عدم التصديق ما عاد يأمن جانب كاميليا بالنسبة لأخته. والرجاء الوحيد الذي لبّاه لها بعد ذلك هو نقل الفتاة من القبو إلى البيت. إن كانوا يخشون عليها ثانية من الهرب، فلينقلوها إلى الغرفة التي تطل نوافذها على صحن الدار.

جيء بالنجار فأعاد تثبيت قواطع الحديد المخلوعة للنافذة المطلة على سور الحديقة، وأزاح الدرف الخشبية للنافذتين الأماميتين مُبقياً على الزجاجية منها. إجراء سيسهّل الرؤية من الناحيتين ويريح كاميليا. نعم، بات في وسع السجينة أن تطلّ منهما على الدار الواسعة المكشوفة، فتنتعش روحها وتتنفّس الهواء الطلق وتتسلّي برؤية بركة الماء والنافورة. أو تتبادل تحيّة أو جملة عابرة مع سيّدات البيت إن هي رضيت بذلك.

كان يلزم هؤلاء أن يستعطفنها كثيراً لتفعل. فالسجينة، هرباً من اقتحام النظرات الثقيلة عليها، دأبت على الجلوس في أمكنة تحجبها عن عيون الرائحات والغاديات أمام غرفتها. صارت ترقد على الأرض خلف الباب أو في الزاوية البعيدة التي تعجز المتلصصات عن بلوغها. وإذا ما نودي عليها رفضت الإجابة. الأمر الوحيد الذي كان لا مفرّ منه، هو الذهاب إلى الحمّام.

وحدها كاميليا من السيدات، ترضي وردة بدخولها لماما إلى الغرفة والجلوس معها. ومن الخادمات حليمة. كان ذلك قبل أن يتراءى لها المنام المشئوم الذي جعلها متوجسة من سكان البيت جميعاً: أن يقتحم أحد الغرفة ليلاً ليقتلها وهي نائمة. أو أن يمدّ يده من النافذة ويطلق عليها الرصاص في النهار. ففي تلك الليلة الرهيبة تراءى لها ناطور المدرسة مداهماً مخبأها رافعاً الساطور، وفي الظلام الدامس، سحبها من شعرها وجرّها على الأرض وكاد يهوي على عنقها! عجباً الوجه وجه الناطور لكن الملابس مختلفة. كادت تموت من الهلع. وصارت بعد ذلك تطالب بالمفتاح لتقفل بابها من الداخل، وتطالب بمقعد "المدّ" الذي جعلته متراساً في النهار وسريراً في الليل، بدل ذاك النحاسي العالي المشّرع أمام الشباك.

وفي تلك الفترة، تراءى لوردة المشهد الذي اعتادت رؤيته منذ أن فتحت عينيها على الحياة: أزواج الحمام تحط على حافة البركة، تتناول الماء بمنقارها، تهدل وتطير. وقد تأتي وتحط على حافة نافذتها. إنما تفعل ما تفعل لتؤنس وحشتها. ودأب سكان البيت على سماع السجينة تناجي اليمامات قصيدة بصوت حزين وإيقاع يفوقه حزناً:

أقول وقد ناحت بقربي حمامة

أيا جارتا لو تشعرين بحالي

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي.

نور الدين، من ديوانه العلوي، يتمنّي هو أيضاً مناجاة تلك الطيور بلسان الشاعر "أبي فراس الحمداني". الآن أكثر من أي وقت مضى يستعيد الحالة التي عاشها ذاك الرفيق قبل مئات السنين، ويستعيد أبيات قالها، وترددها أخته من خلف النافذة في الطابق الأرضي:

أيضحك مأسور وتبكي طليقة؟

ويسكت محزون ويندب سال؟

لقد كنت أولى منك بالدمع مُقلةً

لكنّ دمعي في الحوادث غالي.

*  *  *  *

منذ أن ساوره الشك بهرب أخته، أدرك نور الدين أبعاد الورطة التي وقع فيها. ورطة الأبوة التي حمّله إياها عزمي إسماعيل قبل أربعة عشر عاماً، وهو على فراش الموت. حتى اليوم يتراءى له وجه أبيه متهالكاً ، يستحلفه أن يرعى أخته الصغرى، التي بموته ستغدو يتيمة الأب بعد الأم. يذكّره كيف فارقتها أمها وهي بعد رضيعة، ولحمها طري، وجلدها لرقته يكاد الدم ينزف من مسامه. الرجل القوي الشامخ، في النزع الأخير، يستعطفه. كما يرجوه الآن أن يجنّب أخته الانتقام. "فالله حلّل ذبح الماشية فقط. ألا تعرف حكاية سيدنا إبراهيم؟

ـ بلي يا أبتِ أعرف.

ـ إذن أذهب يا بني إلى الحج، وأذبح ما شئت من خراف والله غفور رحيم".

نعم، سمع الكلام بصوت أبيه. صوت يختلط فيه الأمر بالرجاء: "لا تدعهم يقتلونها، فأنت من بعدي الأب الذي يحافظ على الروح... لا تدعهم..."  

وما لبث صوت الأب أن علا وضجّ فارتجّ المكان وارتعد الابن لصدى الضجيج: "والله يا نور الدّين إن تركتهم يفعلون فلست ابني ولا أنا أباك. إن تركتهم يفعلون فستنزل بك لعنتي إلى يوم الدين. إن تركتهم.... "

لسماعه ذلك، خشعت روح الابن. وبكل الانصياع سأل:

 "يا أبت، ماذا تريدني أن أفعل؟ مرني وأنا خادمك". وسمع أباه يجيبه بصوت حنون:

ـ"يا نور الدين، ضع أختك في مكان آمن، وشدّد عليها الحراسة، ودّبر لها أبن الحلال يتزوجها ويسترها على سنّة الله ورسوله".

وَوجد نفسه يتساءل:لكن من سيرضي بعد الحادثة أن يتزوّجها؟

ـ رجل من الدار.

ـ من الدار؟

ـ نعم.

وفيما هو يردّد هذا نهض نور الدين والفكرة قد تبّلورت في رأسه: "إن كان هناك من رجل شهم جدير بأن ينقذ سمعة العائلة وشرف وردة، من الدار...و غيور يلبي رجاء عزمي إسماعيل، فالأجدر به أن يكون خطيبها نفسه: رشاد".

وبَعث إلى كاميليا بأن تأتي. وطلب منها أن تستدعي عمّته نازلي. هكذا يضرب بحجر واحد عصفورين. يزوّج وردة ويبدأ يدّرب رشاد على شؤون السياسة. صحيح أنه كان يجدر بنازلي أن تبادر لعرض الحلّ، إنما في موقف مثل هذا قد لا تجد نفسها قادرة على التفاوض.

*  *  *  *

بلغت الدعوة نازلي وفهمت على التوّ  القصد.

الوضع دقيق، ومن ناحيتها لا مانع لديها من إتمام الزواج لكن ماذا سيكون موقف رشاد؟ وبعد تردّد أرسلت تقول إنها آتية بعد الظهر. لسماعه الجواب تنهّد نور الدين، ووجد نفسه يأخذ عليها العهد: إذ سارت الأمور على ما يرام، وتم زواج وردة من رشاد، فسيحقق رجاء والده، ويصحب زوجته سنيّة ليحجا معاً  إلى بيت الله الحرام.

*  *  *  *

في دمشق، تلقى رشاد برقية من جدّته تقول: "تطورات حدثت بشأن الخطوبة احضر حالاً ضروري المرسل جدتك نازلي".

هكذا، وعلى وجه السرعة عاد الخطيب إلى بيروت. أول دخوله المدينة ومروره ببعض معارفه، لفته أنّ هؤلاء يبدون معتكري المزاج! يحادثونه على وجل كأنهم على أهبه أن يخبروه بأمر خطير! مثل أن تكون الحرب الكونية التي طارت الشائعات بشأنها قد بدأت. وتذكّر مسألة "المظاريف" التي وردت من اسطنبول إلى الولاة مختومة بالشمع الأحمر، مع الطلب إليهم عدم فضّها بانتظار أن يأتيهم الإذن الرسمي بذلك!  كان قد رأى بنفسه عدداً من تلك المظروفات لدى ميكائيل، مدير البوسطة في دمشق. وسمع من محمّد علي، بن عمّته، أنّه رأى مثيلاتها في القدس. الآن، والوجوم يطالعه على الوجوه، يخيّل إليه أنّ الأمر بفتحها قد أُعطي، وأنّ ناقوس الحرب بدأ يدق. في دمشق، ولغاية البارحة، لم يكن قد سمع بشيء! وخطر له أن يستفسر من محدّثه لكنه عدل. كان مستعجلاً الوصول إلي بيت جدّته غير راغب في أن يزعجه أحد بشيء. عجباً! قبل خطبته وردة كان يتمنّي قيام هذه الحرب لإزاحة كابوس العثمانيين عن صدر العرب . والآن، خارج مشروع الخطبة وشركات يحلم بتأسيسها، ما عاد يحلم بشيء!

فهم رشاد من جدّته أن خاله نور الدّين قرّر جعل الخطبة منذ الآن رسمية. الفكرة ذاتها التي خطرت له ساعة تلقى البرقية! من شأن هذا النبأ أن يجعله أسعد شاب في الدنيا، لولا أنّ وجه نازلي يوحي بعكس ذلك! واستفسر منها عن الدافع غير المتوقّع للإسراع، وإذا ما كان خاله يتحضّر لسفر طويل... وبدت جدّته متلكئة في الإجابة. فَهِم منها أن المشروع ما زال قائماً لكن شيئاً فيه قد تغيّر.

ـ ما الذي تغيّر يا جدّتي؟

ـ لا أدري. الفتاة، كأنها...

 - تتكلّمين بالألغاز؟ يريدون أن تغدو الخطبة رسمية
الآن أم لا؟

ـ هم بالطبع يريديون.

ـ ما المشكلة إذن؟

ـ المشكلة، أن...

ـ أنك لا تريدين؟

ـ أنا؟ أنا من ناحيتي أيضاً أريد. لكن...

ـ لكن ماذا؟

ـ المشكلة أن الفتاة...

ـ ما بها؟

ـ لا أحد يدري... صارت تظهر عليها أعراض غريبة! لعلّ كثرة التعلّم أصابت عقلها بمس.

ـ مسّ في عقل وردة  شاه؟ حين قابلتها بدت لي في أحسن حال.

ـ لعلّها في المقابلة بذلت جهداً... في الحقيقة وقبيل ذلك بدأت أشياء تظهر على سلوكها.

ـ أشياء؟ مثل ماذا؟

ـ أحياناً تهذي في الليل أو تُرّوبْص.

ـ تهذي؟ وماذا تقول؟

ـ تقول إنّها تريد أن تهرب من البيت.

ـ تهرب إلى أين؟

ـ أول الأمر، لم يتمكن أحد من معرفة الجهة التي تقصدها. صارت تنهض وتمشي نائمة وتتجه نحو الباب، مما أضطرهم إلى إغلاقه بالقفل، وتنبيه الحارس...

ـ لكن يا عمّتي كثير من الناس يُرَوْبِصون، ولا يعني ذلك أنهم مجانين.

ـ صحيح. لكن أحوال البنت، قبل الخطبة بدأت تسوء. حليمة تقول إنها كانت في الليل تسمع أشياء...

ـ مثل ماذا؟!

ـ بكاء. وفي الصباح تسألها فتجيب بأنّها لا تذكر شيئاً.

ـ غريب!

ـ بالطبع غريب.

ـ والليلة التي تلت هربها من المدرسة...

ـ وهل هربت وردة من المدرسة؟

ـ نعم، وأصيبت بعد ذلك بالحمّى، وصارت كما ذكرت حليمة، كأنما تضرب رأسها بالحائط  وتنتحب. وحين بدأت تهرب من البيت في النهار...

ـ تهرب من البيت؟!

ـ نعم.

ـ وإلى أين تهرب؟!

ـ في البدء، كانت تمشي في الشوارع. ثم وبعد ذلك، صارت تهرب إلى بيت هدى لتعود من تلقاء نفسها.

ـ يا إلهي، تسمّون هذا هرباً! لعلّها تريد شراء حاجات لبيت الزوجيّة. ثم إن هدى قريبتها وزميلتها في الدراسة. لابد أن وردة تضيق ذرعاً بالجلوس في البيت مع النسوة العجائز. لا توجد شابة غيرها في المنازل الثلاثة! يا جدتي، أتركي المسألة لي، وأنا أعرف كيف أشرح لخطيبتي ضرورة الالتزام ببعض التقاليد.

ـ صحيح، غير أن وردة شاه بعد ذلك بالغت في الهرب.

ـ ماذا تقصدين؟

ـ هربت إلى بيت عائلة مسيحية في الأشرفية.

ـ عائلة مسيحية؟

ـ نعم.

ـ ومَنَ هي هذه العائلة؟

ـ ...

ـ لعلّها عائلة المدّرسة "إليس"؟ أو إحدى زميلاتها في ال؟ سأستفسر منها بنفسي عن هذه الحكاية.

ـ لا بدّ طبعاً، لكن...

ـ لكن ماذا؟

ـ هناك واقعة لا مجال فيها للاستفسار. من المؤكد أنّها جرت علي نحو غريب.

ـ وما هي تلك الواقعة؟

ـ وردة راحت إلى بيت آخر غير بيت المدرّسة والزميلة وما شابه.

ـ ما شابه؟!

ـ نعم. تعرف بالطبع أن وردة كانت تأخذ  دروساً خصوصية لدى مدرّس...

ـ لا. لا علم لي بهذا. ومن كلّف المدرّس بذلك؟

ـ نور الدين.

ـ نور الدين يكلفه دون أن يستشيرني!

ـ كان ذلك قبل الخطبة.

ـ مهما يكن، كان يجدر به أن يخبرني. وما الذي حدث بعد ذلك؟

ـ هربت إلى بيت المدرّس.

ـ وردة  إلى بيت المدرّس؟

ـ بالأحرى إلى بيت أهله.

ـ كانت تقصد المدرس أم أهله؟

ـ المدرس.

ـ ومن هو هذا المدرس؟

ـ مدرس الفلسفة واللغة العربية الذي كلّفه نور الدين تقوية وردة في هاتين المادتين. أسمه بشارة.

ـ وهل أنتم على يقين من أنها كانت تقصد اللحاق بالمدرس؟

ـ نعم.

ـ وكيف عرفتم ذلك؟

ـ هي بنفسها اعترفت.

ـ وما كانت غايتها من الهرب؟

ـ أن تهرب معه.  كانا سيسافران بالباخرة يوم الأربعاء لولا أن انكشف أمرهما.

ـ وكم مكثت في بيت ذاك الحقير؟

ـ بضعة أيام.

ـ بضعة أيام؟

ـ أربعة أيام بالتحديد. لكنّ المطران أقسم...

ـ وهل المطران على علم بالحكاية؟

ـ نعم، بالطبع فهو الذي أعادها.

ـ ومن غير المطران علم بذلك؟

ـ المفتي وبعض المقربين.

ـ وطبعاً جميع أفراد العائلة.

ـ طبعاً. لكن المطران أقسم أن الشاب لم يبت في المنزل ولا ليلة واحدة إبان وجود خطيبتك فيه. ووالد الشاب كتب رسالة لنور الدين و...

ـ كفي. كفي. أين هي وردة الآن؟

ـ سجنوها في القبو ثم نقلوها إلى الغرفة بانتظار أن يأخذوا القرار اللازم. نور الدين يرى الحل في تسريع الزواج.

ـ والآخرون؟

ـ يطالبون بقتلها!

ـ يطالبون بقتلها؟

ـ بعضهم يطالب بذلك و...

ـ غريب!

ـ طبعاً غريب!

راح رشاد يردّد العبارة، فيما العناصر تتجمع في ذهنه لتكمل له الصورة: حكاية ملفقة من أساسها. لطالما توجس من هذا الخال الذي تراه العائلة منزها! لطالما وراء الابتسامة الهادئة تراءى له الخبث. يا لغطرسة الأتراك! كان والده على حق. وآل صالح جميعاً كانوا على حق. وبعد برهة صمت رفع رأسه وقال: مهما يكن، لابد من أن أقابل وردة شاه وأسألها بنفسي عن كل شيء.

ـ طبعاً لا بّد... لكن كما قلت لك، المطران أقسم...

ـ يا جدتي، قولي لخإلي نور الدين إني أطلب مقابلة وردة بأسرع وقت. غداً أو بعد غد.

وصل رشاد إلى بيت نور الدين حسب الموعد، فوجد خاله في استقباله بحضور عبد الكريم وصافيناز. نهض الخال وصافح رشاد وربت كتفه قائلاً: "بارك الله بالرجال. بارك الله بالشهامة". ودعاه إلى الجلوس فجلس. وجيء لي بالفاكهة فاعتذر وبالقهوة فشرب. كان متعباً. أمضى الليل ساهراً حتى الصباح لدى العالمة روزينا في البيت الجديد الذي فتحه لها. شرب زجاجة كاملة من الويسكي ودخن عدداً هائلاً من السجائر. سهرة لم تر روزينا مثيلها من قبل، ذاقت فيها الأمرين من رجل تعرفه منذ سنوات وتراه للمرة الأولى على هذه الحال من الهياج وانعدام التوازن.

سأل نور الدين رشاد إن كانت نازلي أعطته فكرة عما جرى، فهر رأسه بالإيجاب. إذاك سأله هل يعتبر الخطبة قائمة، فأجاب: قائمة طبعاً. لكن قبل أن نبحث أي شيء لا بد يا خالي أن أقابل خطيبتي. لدي أسئلة ألقيها عليها.

ـ هذا حقك.

لم يسمع رشاد الجواب. كان قد هبّ واندفع إلى الدار وقصد مباشرة الغرفة التي تقيم فيها السجينة وبأعلى صوت صرخ:

ـ وردة شاه!

كان يكفي لأهل الدار أن يسمعوا النداء ليتوقعوا الفعل الذي سيقوم به رشاد. وإذ سمعوا فرقعات الزجاج وسقوط حطامها على الأرض، فيما رشاد يكرّر نداءه  بكلام بذيء وخوار ثور، أيقنوا أنّ الواقعة قد وقعت: "وردة شاه! يا عاهرة يا ابنة العاهرة يا ابنة سلالة من العاهرات...".

وهذه، ما إن سمعت الصراخ، حتى لاذت بأبعد زاوية محاذية للنافذة. كان الأخوة الثلاثة قد لحقوا برشاد. ملك كانت الأسرع، فوصلت إلى باب الغرفة وفي نيّتها أن توعز لوردة بالاختباء في الخزانة. قواطع الحديد تمنع رشاد من أن يطلّ ليرى، لكن سلوكه يشير إلى أن يرى. خطف مسدسه من وسطه وكسر بعقبه زجاج النافذة ثم مد يده نحو الزاوية التي تقبع فيها خطيبته وراح يطلق النار. وإذ علا صراخ صافيناز، ألقى المسدس الفارغ على الأرض وشهر آخر واندفع متراجعاً، فاصطدم بخاله نور الدين ودفش عبد الكريم فأوقعه، وقبل أن تصل كاميليا، وتخرج السيدات من البيوت، كان قد لاذ بالهرب.

قَدَرها أن تراها النسوة في ذاك المشهد: ممدة على الأرض والدم يسيل من أكثر من مكان من جسدها الهزيل.

*  *  *  *

بروفة   للحرب  الكونية
فيما كان والد بشارة يُنقل إلى المستشفى، ورشاد يختبئ في المكان الذي دبّره له قريبة جلال، كان عدد من الشبان المسلمين يتسلّلون نحو منطقة الأشرفية. بعضهم ركب الترامواي وراح الآخر بالعربات. أوقفوها عند زاوية خفية من "الخندق العميق" ونزلوا. أما الفريق الثالث فقد عبر نحو الأشرفية من ساحة البرج. كلّهم، بقيادة جلال، توجّهوا إلى الحيّ المسيحي الذي يسكن فيه بشارة.

لطالما تساءل الناس عن سرّ الصداقة التي تربط رشاد بقريبه جلال. صحيح أن كليهما يتحدّر من عائلة صالح، إنّما مهما يكن، فالأصول غير الفروع، وهذا غير ذاك. رشاد وحده في العائلة لا يتساءل. وحده يفهم شغف الصداقة. وقريبه هذا، منذ الصغر، هو الأثير لديه. المدرسة تفرقهما خلال الأسبوع لكن معابثات الشقاوة تجمعهما في نهايته. أمتع الأوقات التي يقضيها معه. يطاردان العصافير بالحجارة، ومع أولاد آخرين، يذهبان إلي الصيد. يصنعان أدواته من أغصان الشجر وخيوط الكاوتشوك. وعندما، في باكر مراهقته، بدأت "الفتوّة" تظهر عليه، حظي جلال من صحبه بلقب "القبضاي" ومن قريبه بمكانة لا تتزعزع. وحمل هو اللقب الذي سيثبت أنه جدير به. يتحزّب للأقارب والمظلومين. "فأنا والضعيف على القويّ، أنا والمقيم على الدّخيل، وأنا وأبن عمي على الغريب". لا يخرج من البيت إلا وفي يده قضيب رمّان. لكن ما مرّة بادر إلى الاعتداء. وحين استبدل قضيب الرمان بعصا الخيزران، وعيدان الشجر بالبارودة أدرك المحيطون به أنه بدأ يختار طريقه. الطريق الذي قاده لاقتناء مسدّس "البكرة". لا أحد يعرف كيف تورّط في استخدامه. قيل إنّ الحكاية من أساسها ملفّقة. دُرست بحذق. وحبكها آخرون بحذق وكان هو المنفّذ. التهمة لم تثبت عليه فخرج من السجن وهو دون العشرين. وفي السجن توطدت الصداقة بين القريبين. رشاد وحده
من آل إسماعيل ومن آل صالح صار يتردّد عليه. يرشو السجّان ويدخل ومعه الحلوى وشتى المأكولات والمشروبات. يمضي معه ساعات يلعبان الورق وطاولة "الزهر". وينضم إليهما بعض المميّزين من السجناء أو الموقوفين. فضلٌ لن ينساه السجين أبداً. كان أول شيء فعله حين خرج من سجنه، أن أخذ قريبه إلى بيت العالمة شهناز. ثم عرّفه بروزينا ذات الجمال الأخاذ التي كان يتردّد إليها أنيس بك. أخبار كثيرة تصل إلى وجهاء العائلة يكفي القليل منها للحكم على السيرة الخفية للابن المدّلل. وعلى الأواصر التي تشدّه إلى القبضاى. ولما قرّر المدلّل أن تغدو روزينا محظيّة لا يشاركه فيها رجل، تولّى جلال مهمة استئجار الشقة. وذات مرّة، قال المدّلل للقبضاي:  يا أبن عمّتي، دعني أدّبر لك الزواج الذي تستأهل.

ـ تري، ومن تكون العروس؟

ـ فتاة تعجبك.

ـ وما أدراك..

ـ إنهّا صبيحة أبنة الآغا.

كيف كان الآغا سيرفض، وحفيد إسماعيل باشا، وصالح ، يقول له: "أخي جلال يريد أن يتزوّج وفكّرت بابنتك صبيحة. ستحيا معه سعيدة. شهم، كريم ولديه بيت. ولا تسألني عن عمله. إنه منذ اليوم شريكي. بدأتُ بتأسيس عمل، وسيكون هو يدي اليمنى فيه. بالنسبة لتلك الحادثة... فهو كما تعلم بريء. ثم،  ومنذ متى يا عمّي، كان السجن يعيب الرجال؟

*  *  *  *

بلغ الحي الفوقاني في الأشرفية أن غريباً يتجوّل فيه بصورة مريبة! هيئة الغريب تدل على أنّه من القبضايات، وتحرّكاته تشير إلى دراسته الموقع. وفي سؤاله أحد المارة عن أسم الشارع دلّت لهجته على أنّه من مسلمي بيروت. ما الذي يبغيه هذا المتلصص يا ترى؟!

راجي الحلاّق خمّن أن الغاية هي دراسة الحي تحسباً للحرب القادمة التي يُقال إنّها صارت على الأبواب. لا بد أن جهة ما كلفت المتلصص بهذا لوضع خطة القتال. وانبري كنعان يسأل:

ـ خطّة للدفاع أم للهجوم؟

ـ الله أعلم. يقال إّنهم بدأوا بتوزيع المظاريف.

من يدري؟ لعلّها رسائل تحرّض المسلمين على المسيحيين. الأتراك أفلسوا. وفكرة أن يحل الفرنسيون مكانهم تطير صوابهم. من المؤكد أنهم لن يتركوا البلاد إلا والدم  قد وصل إلى الركب.

لوّح كنعان بيده وقال: فلنبلغ سيادة المطران ونستأذنه الرد.

المختار طلب من الحاضرين أن يصغوا إليه. فالقبضاى المسلم، بعد أن سأل، توجّه صوب الحيّ الذي يسكن فيه أهل بشارة. والجارة أم عبد الله رأته يدور حول حديقة البيت. على الأرجح، أن عائلة المخطوفة أرسلته للثأر. مسألة شرف ولا علاقة...

ـ للشرف أم للحرب، لن نسمح لأحد بدخول الحي.

المدرس جورج، بعد صمت تدخل. يا أخوان، مغزى الحكاية يبدو لي أبعد من هذا كله. البلاد هذه قد تذهب في مهب الريح. الإنكليز سيعيدون تقسيم المنطقة.

خرج القبضاي "مراد" عن صمته، واضعاً حداً للحجاج:

ـ رجاءً السكوت. لن ننتظر ما سيقوم به الإنكليز وغير الإنكليز. يا فايز إذهب وقل لصليبا أن يخبر الشباب عن لسان مُراد أن يستعدوا للدفاع. وأنت يا خريستو، بسرعة إلى العم شكر الله أخبره بما يجري.

*  *  *  *

بيروت تتحضّر للحرب، فدوق النمسا  قد قتل . سيلهج الناس كثيراً بالنبأ. ما من مرة توقف فيها اثنان للسلام إلا وكان "الأرشيدوق" ثالثهما. اللقب الذي قلّما سمعوا به والحكاية التي هي في حد ذاتها مثيرة: في الهجوم الأول أخطأه مهاجموه، لكنّهم جرحوا اثنين من رجاله. راح مع زوجته إلى المستشفى لتفقد  الجريحين وفي الطريق لقيا مصرعهما. الحادثة ستؤدي إلى حرب كونية بين الأمم.

عجباً من أجل شخص؟!

طبعاً، فهو دوق النمسا!

ويتساءل الناس عن تلك الكونية، متى ستبدأ؟ وإن بدأت، فمتى تنتهي؟ الأقاويل كثيرة والمراهنات أيضاً:

"تقع أم لا تقع؟!".

لا بل ستقع. فالدول التي وَقفت في البدء على الحياد بدأت تتزحزح من موقعها. وروسيا تحرّض ما بقي من مناطق البلقان.

لا لن تقع فصربيا المتهمة بقتل الدوق استسلمت لشروط التحقيق.

لا، فمن أصل عشرة شروط استجابت إلى تسعة فقط.

ـ والعاشر؟

ـ العاشر يمسّ بالسيادة ولا يمكنها الاستجابة له.

*  *  *  *

التحضيرات للحرب على قدم وساق! والناس علموا بحكاية المغلّفات التي تلقاها الكبار من متصرفين وولاة وموظفين،و صاروا متلهفين على الإذن بفتحها. إن كانت تبشر بصلح، سيطوف المنادون في الأحياء، يزفّون النبأ السعيد، يهتفون بحياة "ظل الله الظليل على الأرض"، السلطان محمد رشاد، وبحياة الملوك والأباطرة الذي وقّعوا وإياه الاتفاق.

وإن كانت تنذر بعكس ذلك؟!

عندئذ سُيطلق النفير العام. والرجال، من سن الثامنة عشرة إلى الرابعة والأربعين سيستدعون إلى الجندية. وهذه المرّة، لن تؤخذ إليها أو تُعفى لأنك من هذه الملة أو تلك. بعد إعلان مبادئ المساواة صار المسيحيّون واليهود أسوة بالمسلمين، معنيين بالنفير. فقط تُعفى إذا دفعتَ البدل. والبدل هذه المرة، على ما يسمعون باهظ. سُيضاعف. بل وسيُضرب بعشرة أضعاف! هكذا بات على الميسورين عرضه، وعلى متوسطي الحال بيع النفيس والرخيص كي لا يُساق أبناؤهم كما قطعان الغنم إلى ساحة الموت. لكن ويا للعجب، بعض الشبان، سيذهب إليها طوعاً. متحمسون كُثر انسلّوا من هنا إلى أوروبا، وكثيرون من المقيمين هناك تحمّسوا واستخفوا برجال "العين الخفيّة"، فالتحقوا بجيوش الحلفاء،  وورّطوا ذويهم في الأوطان. كم من آباء وإخوة سيُزجون في السجون، بلا ذنب.

العارفون بالأمور، يعزون التوافه منها إلى خفاياها الكبرى. لطالما كانت للحروب بدايات غريبة، تبدو ضئيلة الشأن ضآلة عود كبريت! لكن المخازن لا تُملأ بالبارود إلاّ لتفجيره ساعة الشيطان. وهذا الهجوم الذي يعدّه مسلمو بيروت على حيّ الأشرفية بحجة الثأر لشرف  فتاة خطفها مدرّس في عقله لوثة، هو الساعة تلك. تتساءل صحيفة "زحلة الفتاة"، هل من قبيل المصادفة أن يهاجم الطرف المحسوب على الأتراك، في هذا الظرف الدقيق، الطرف الآخر الذي يقف كالسكين في زور الخلافة!؟ "الرأي العام" البيروتية تردّ في اليوم التالي على المنحازين للغرب الذين ينتظرون إشارة ليشنّعوا بمواقف السلطنة العتيدة.

أما القبضاي مراد، فقد حسم الأمر. "ليسمح لنا نيافة المطران. أعلن في الاجتماع: إن كان الدفاع عن النفس واجباً عند اللزوم، فالآن هو وقت اللزوم. غمضة عين ويقطعون المسافة بين البسطة والأشرفية للفتك بالمسيحيين. ونحن أيضاً لدينا قبضايات. فلننشر رجالنا. لنحمِ المداخل الرئيسية والدروب المؤدية إلى منزل شكر الله".

*  *  *  *

مخفر الجند لا يفوته ما يستعدّ  له الأطراف في هذه الناحية وتلك. وتحسباً لواقعة محتملة، أمر الضابط عساكره بأن يستعدوا. حين بدأ الهجوم وأُطلق رصاص البنادق والمسدسات من هذه الجهة، وردّ مسلحو الأشرفية على مصادر النار ، خرج العساكر من المخفر وَراحوا يطلقون الرصاص في الجوّ لإخافة المتحاربين. هكذا تداخلت نيران الأطراف واختلط الحابل بالنابل. مَن يطلق على مَن؟!

هنا وهناك تُسمع الإنفجارات. كما وتُسمع صرخات استغاثة. وقد خيّل للبعض، أن البارجة الإيطإلية "غاريبالدي" التي قصفت بيروت منذ ثلاث سنوات وسقطت قذائفها على المرفأ قبل أن يدمّرها العثمانيون، قد أُصلحت وعادت إلى القصف الآن. أو أنّ الحلفاء باغتوا الأتراك بقصف الخط الفاصل بين شطري العاصمة. وصلوا عن طريق البحر وخَرجوا منه وأخذوا الاستحكامات، والتحموا في الشوارع مع عساكر الأتراك. لكن الناس في الشطر الآخر ظنّوا شيئاً آخر. إذ لا يمكن أن تكون "غاريبالدي" هي التي عادت.  فهذه  انتهت في تلك المعركة إلى سوء المصير، ثم أنقض عليها
عساكر البحارة، ومن بعدهم الصيادون. وطافت أشلاؤها
على الشاطئ. طيلة سنوات درج الأولاد على البحث عن
بقايا يلهون بها. "غاريبالدي" انتهى أمرها. هذه  لا بدّ بارجة
أخرى، تتصدى لها الآن "عون الله" التركية، لتدمّرها  كما فعلت بسابقتها منذ سنوات!

السكان هنا وهناك، يلوذون بالزوايا. يبحثون في خيالهم عن مخابئ بعيدة عن العاصمة تحسّباً للحرب الكونية التي ستطول. إنما ولعجبهم، فالكونية هذه، على عنفها، لم تدم أكثر من ساعتين! توقفت بعدها الانفجارات وتضاءل إطلاق الرصاص وصمتت الاستغاثات  لتبدأ أخبار المعركة بالانتشار: فرّ المهاجمون تاركين خسائر ومحمّلين بخسائر. قتيل وبضعة جرحى. الفارّون سحبوا الجثمان وحملوا الجرحى لكنّهم، لم يتمكنوا من العثور على يد جلال اليمنى التي طارت مع آخر إصبع ديناميت ألقاه على بيت بشارة.

*  *  *  *

حدث هذا، فيما وردة في المستشفي تغلي بالحمى. وتهذي. الأطباء نزعوا  الرصاص من فخذها وخاصرتها، يأملون، إذا ما حالفها الحظ، أن تتجاوز محنتها. الشابة التي بدأت تظهر عليها أعراض "البارانويا" بشكل جليّ، صارت تعاتب نور الدين على فعلته: ماذا سيقول لبابا عزمي حين سيلقاه في الآخرة؟ وتعاتب كاميليا: لمَ دلّت رشاد على الزاوية التي كانت تختبئ فيها؟

تهذي ولا تأمن سوى لأختها ملك. لا ترضى أن تأكل إلا من طعام تعدّه تلك بنفسها وتطعمها إياه بيدها. وفي هذيانها تطالب بأن يسلّموا أختها المسدّسات. كلّ المسدّسات. يضعونها في القبو ويحكمون عليها الأقفال ويسلّمون مفاتيحها لملك. كما، صارت وللمرة الأولى، منذ رحيل تلك، تُطالب برضية.

*  *  *  *

الهجوم على الأشرفية أنعش الحياة السياسية.

كُثر المحققون كما التقارير. انهالت البرقيات وازدادت وتيرتها في الاتجاهين بين القنصليات في بيروت ووزارات خارجيتها في العواصم. ومن بين تلك البرقيات واحدة، تلقّاها القنصل الفرنسي من الإليزيه يسألونه أن يقدّم تفسيراً مفيداً لهجوم عصابة من الشاب المسلمين على منطقة الأشرفية؟ يسألونه لمَ لمْ يولي المسألة الاهتمام المطلوب، وفرنسا مكلفة حماية المسيحيين في لبنان؟ كرومر في مصر يتدخل في زواج أبن العم من ابنة عمّه، وهنا تقع مذبحة لا يصل تقرير بشأنها إلا بعد أسبوع! ويطالبونه، وعلى وجه السرعة، بفتح التحقيق.

*  *  *  *

المقابلة بين نور الدّين وصديقه القنصل بدأت بيسر. أبدى هذا الأخير أسفه لما حدث في منزل آل إسماعيل:

ـ هذا النوع من الحوادث لا يشبه عائلتكم.

ـ لا يشبهها بالفعل.

ـ ما الذي جرى إذن؟

ـ يا صديقي، في هذا الزمن ما عاد شيء يشبه شيئاً، حتى ولا الشيء ذاته!

ـ المشاكل جعلت منك فيلسوفاً متشائماً يا صديقي! كيف هي الجريحة الآن؟ قلت لي إنّها أختك؟

ـ أختي، إنّما بالنظر إلى فارق السن وإلى أني راعيها فهي بمنزلة ابنتي. لا تزال في المستشفي، في حال أفضل والحمد لله.

ـ وما صلة القربى بالشاب العاشق؟

ـ إنّه حفيد عمّتي.

ـ وما علاقة المسألة بالهجوم على الأشرفية؟

ـ الانتقام من الغريم.

ـ وما الذي يقنع باريس بذلك؟

ـ الوقائع والثقة التي بيننا، هي التي تقنعها.

تنحنح القنصل، وبشيء من الاستسلام، نظر إلى نور الدين وقال:

ـ يظنون هناك أن الأفندي يحضّر للحرب قبل وقوعها؟

ـ موسيو لو كونسول، لا شك في أنّك تمزح!

ـ أنا قد أمزح لأنّي أعرفك. لكن الحكومة في باريس
لا تمزح. بَلغهم أنّك قدت هجوماً ضد المسيحيين!

لدى سماعه العبارة قهقه نور الدين، قهقهةً كشفت عن حدة غيظه! يا حضرة القنصل، وهل لديّ صفات تشير إلى أنّي قائد حرب؟

ـ في باريس لا يعرفونك. يسمعون باليوزباشي شوكت، أخيك. رئيس لجنة مشتركة بين الأتراك والألمان؟

ـ نعم، إنّه ضابط كبير في الجيش العثماني ولديه مهمّات.

ـ هذا يقلقهم. يظنّون أنّك كنت على الأقل من المحرّضين على الهجوم للفتك بالمسيحيين.

ـ الفتك بالمسيحيين؟ يا للعجب! نشأتُ بينهم وتعلّمتُ في مدارسهم وبلدانهم. كثير من روّاد مجلسي من مثقفيهم ومطارنتهم. وقد أعدموا أبن خالي بسبب واحد منهم أتهمني الباب العالمي بتهريبه. ولديّ ابنان من زوجة مسيحية لا تزال على دينها وتذهب أيام الآحاد إلى الكنيسة. وأيام الشعانين والأعياد تأخذني أنا والصغار للمشاركة في الاحتفال. وحين اخترتُ مدرّساً لأختي لم أرَ في اختلاف الدين عاتقاً.

 ـ مسيو نور الدين، ماذا تريدني أن أكتب في التقرير؟ إنْ كتبتُ هذا، ظنّوا أني تركتُ مهمات القنصلية وتولّيت الدفاع عنك!

ـ أُكتب ما يؤكد أن لا علاقة للسياسة ولا للأديان بما حدث. مسألة عاطفية. خطيب مدلّه عزّ عليه أن تهجره خطيبته إلى شاب غيره، فحاول قتلها وقتله. وشَاءت المصادفات أن يكون هذا مسيحياً.

***

القنصل الروسي كتب إلى وزارة خارجيته في موسكو تقريراً مثقلاً بالتفاصيل، أختتمه بطلب منحه صلاحيّات استثنائية للتحقيق في هجوم شنّه مسلمو بيروت على طائفة الروّم الأرثوذكس في الأشرفيّة. الطائفة التي هي، تاريخياً، وحسب الاتفاقيات والأعراف في حماية روسيا. المطران، كما يذكر القنصل، غير راغب في التحقيق، لكن أبناء الرعية يرغبون." جاءوا إلينا يطالبون بحمايتنا ويؤكّدون تبعيتهم للقيصر".

*  *  *  *

أما والي بيروت، الذي نُقل إليها قبل فترة، والذي اشتهر بخسارته عدداً من الحروب، منها المعارك مع الطليان في ليبيا والمعركة مع لورانس والعرب في الحجاز انتهت بفراره وحاميته، هذا الوالي سيجد الفرصة مناسبة لردّ الاعتبار. اشتهر بالبطش وازداد شهرة به حتى سبق لقبُه أسمَه في الأقطار. حكم على عشرات المعارضين بالإعدام، انتقاهم من خيرة أبناء العائلات، مسلمين ومسيحيين. بعضهم من الأسرة الواحدة، عُلقّوا اثنين اثنين، وبعضهم فرادى. "جمال باشا السفاح" هذا عرف مَن يرسل من الديوان العرفي لإجراء تحقيق يُرضي مأربه.

في زيارته المطران، سأله المحقق العثماني رأيه في الهجوم على طائفة الروم الأرثوذكس، وهذا أكّد له ما سبق وقاله نور الدين لقنصل فرنسا: قضية ثأر للشرف لا علاقة لها بالسياسة، لا من قريب ولا من بعيد. زمّ المحقق شفتيه وقال:

ـ يعجبني إجماع مثل هذا في بلدكم الآن. بلد لا تتفق فيه طائفة مع أخرى. بل ولا طائفة مع نفسها، ما الذي وحّد أجوبتكم الآن؟

ـ الحقيقة هي التي توحّد الإجابات يا حضرة القاضي.

ـ من المؤكّد أنّ البطريرك الماروني اتصل بكم. وكذلك المفتي.

ـ نعم، حصل. جاءاً للاطمئنان ولتهدئة النفوس.

ـ جميل حرصهم على الوفاق. ومّن من السفارات ساعدت في الهجوم؟

ـ لا علم لنا بأية مساعدة. ثم إن تقرير القنصل الألماني يبرّئ الهجوم من الدافع السياسي. الألماني حليفكم وتثقون بكلامه.

ـ كيف عرفتم بمضمون التقرير؟ أنتم مطرانية أم
"عين خفيّة"؟

ـ مطرانية بالطبع. والمطرانية لها رجال يسهرون علي رعاياها.

ـ تقصد لديكم جواسيس ومؤسسة يمكن تسميتها "بالعين الساهرة؟".

ـ رجالنا لا يتجسّسون. رجالنا يعملون لحماية أبناء جلدتهم.

ـ يا نيافة المطران. أفهم أنّكم تردّون المعروف للأفندي الذي ساعد الهاربين من عندكم. لكن ما تعتبرونه من شِيم الأخلاق يعتبرونه في الآستانة  تهديداً سافراً لأمن الخلافة.

*  *  *  *

مِن سجنه في المستشفى، وصف جلال للقاضي حالة الجنون الذي جاءه بها قريبه. صديق عمري وقريبي أنهار أمامي. ماذا تريدني أن أفعل يا حضرة القاضي؟!

ـ أنا المحقق لا أنت يا سيّد جلال. أنا أسأل وأنت تجيب فقط. وتجيبني عن سؤال محدّد: ماذا عن تورّط الأفندي نور الدّين في ما حصل؟

ـ تورّط نور الدين أفندي؟!

ـ نعم. تورّطه في محاولة  قتل أخته، وفي الهجوم على أحياء المسيحيين.

لما سمع السؤال، وعلى الرغم من أغلال تكبّل قدميه، ومن ذراع بُترت ولم تلتئم جراحها بعد، هبّ جلال من سريره يصرخ:

ـ لا يا حضرة القاضي. لا علاقة لنور الدين أفندي بأي شيء. بالنسبة لمحاولة قتل الشابة اسألوا خطيبها، فهو لا تنقصه الشهامة ولا الغيرة على الشرف! أما بالنسبة للهجوم، فأنا وحدي مسئول عنه. وحدي فعلتُ كلّ شيء دون علم أحد.

ـ وأيّ السفارات تدخل لإنقاذ الشرف، وزوّدتكم بالأسلحة والديناميت؟

ـ منذ متى كانت السفارات تُعنى بالشرف؟ ثم إن الأسلحة موجودة مع الناس كما الديناميت، يشترونها من التجّار وما أكثرهم! 

ـ ومن هو التاجر الذي زودّك بها؟

ـ القبضاي يا حضرة المحقق، لا يذكر أسم التاجر الذي يشتري منه.

ـ واضح أنك تراوغ يا سيّد جلال. لهذا الحدّ  تخلص لقريبك؟ خسرت يدك وقد تخسر حياتك من أجله؟

ـ كلّ الخسارات تهون من أجل الشرف يا حضرة المحقق.

*  *  *  *

في اجتماعه بنور الدّين أوضح له المحقق غايته: الاستفسار عن صحة الأقاويل التي يلهج بها الناس. يا أخي، من ناحيتي لا أصدّق، فأنت شخص موثوق بحكمته. لو أنّك في حينه قبلت التعيين، لكنت اليوم مكاني.

ـ لا بأس، خلَّنا في صلب الموضوع. بلغ الوالي "جمال باشا"، أن الأفندي نور الدين أمر رجاله بالهجوم على الحيّ المسيحي في هذا الوضع الدقيق والدول الأجنبية تتربّص بالبلاد. ما الذي دعاه لذلك؟ يتساءلون في الآستانة، هل نيةّ الأفندي الانتقام لأبن خاله؟

ـ الانتقام ليس من طبعي. في حينه نشرت عدداً من المقالات.

ـ أجبني يا صديقي، هل يوم الحادثة أبلغت الدرك؟

ـ لا .

ـ وبعد ذلك؟

ـ لا ، لم أبلغ الدرك.

ـ أنت رجل قانون، كيف لم تبلغ الدرك؟

ـ تسأل كما لو كنت قنصل سويسرا! أنت تعرف تقاليدنا. أُبلغ الدرك لأشي بحفيد عمتي، وأفتح الباب على حادثة هي بنظر الناس فضيحة تدمّر سمعة العائلة؟ ألا تكيفني قطيعة خالي وآل صالح؟

ـ أوف. ألم ينس خالك الحكاية بعد؟

ـ مسألة كهذه يصعب نسيانها.

ـ يا له من حاقد! وأنت؟ نأمل أن تكون نسيت. قلت إنك لم تبلّغ. في لغة القضاء، تعرف ماذا يعني عدم التبليغ.

ـ لغة القضاء هي أحياناً غيرها لغة الناس.

ـ اسمع يا صديقي، المسألة دقيقة وأريد أن أقف فيها على الحياد. هناك عدد من الإشارات تستوقف الصدارة العُظمي. بعضها يعود إلى الماضي. يقولون إنّك إبان وجودك في مصر كنت على اتصال بكرومر وبحلمي عبّاس.

ـ أقاويل مضحكة. حلمي عبّاس معروف بميله للسلطنة، وبتودّده للمثقفين. قابلته مرّات قلائل في احتفالات حضرها بعض رجال الصحافة. لكني لم أرَ في حياتي وجه كرومر.

ـ هكذا تذكر التقارير.

ـ هناك أيضاً لكم جواسيس؟

ـ رجال "العين الخفية" لا نحن. الجواسيس موجودون أينما كان، وتقاريرهم تطالنا كما تطالكم. كرومر من أخطر شخصيات بريطانيا علينا. وما "لورانس" سوى هديته "الثمينة" للمنطقة. درّبه على يده قبل أن يرسله إلى الحجاز!

ـ لست مولعاً بهذا ولا بذاك. دعنا كما قلت في الحاضر.

ـ بالنسبة للحاضر، الجريمة وقعت في دارك. وعلى أثرها هجم قبضاياتكم على أحياء المسيحيين. فهمت قصدي؟

ـ لا، لم أفهم.

*  *  *  *

بنتائج التقارير، نُقل القنصل الفرنسي من بيروت. وفي وزارات خارجية الدول الأقطاب، مالوا للأخذ بتقرير القنصل البريطاني الذي لا يختلف عن تقرير الروسي إلاّ بما يتعلّق بالطائفة التي استُبيح أمنُها. الهجوم في ظاهره ينال من "الروم"، لكنّ هدفه كان أبعد من ذلك. المقصود، ليس ملّة بعينها، بل خلق الفتنة هو المقصود على غرار ما جرى في القرن الماضي ومازال الناس يهجسون بفظائعها حتى اليوم. فالأفندي الغيور على أصوله، الحريص على مصالح الخلافة حرصاً جعله يضحّي بابن خاله، لن يتوانى، تمهيداً للحرب القادمة، عن تحقيق مآرب السلطنة التي يدين لها. حرب لا أحد يعلم إن قامت متى تنتهي.

*  *  *  *

أما المحقق العثماني، فقد استند في تقريره، إلى عدد كبير من المقابلات، وإلى كمّ من الوثائق والبيانات واجه صعوبة في الحصول عليها  قلمّا واجهها محقق. ومقاومّة قلّما بذلها متهم. مقاومة، إن دلّت برأيه على شيء، فإنما على تورّط سيّد البيت في ما حدث.

يذكر التقرير، أنّ هناك في الظاهر واقعتين خطّط لهما شخصان، واثنان نفذاها. أما في الخفاء فالمسائل أكثر تعقيداً بما لا يقاس. شأنها شأن هذا البلد الذي لا يتناسب صغر حجمه والقلاقل التي تحدث فيه. أربعمائة سنة من حكم السلاطين لم تنفع في ترويضه!

الواقعة الأولي، فتنة عائلية.

محاولة قتل الخانم وردة شاه إسماعيل:

أظهرت الوثائق ودفاتر الحسابات التي دققنا في تفاصيلها، أنّ المجني عليها، هي من أكثر سيدات العائلة ثراءً. ورثت ثروة عن أمها التركمانية بوران مدنات وثروة أكبر منها عن أبيها الباشا عزمي إسماعيل. ولها على أرض الخلافة منزلان: منزل في اسطنبول وبساتين فاكهة، ومنزل في بيروت بكل ما يحتويه من مفروشات وتحف. فضلاً عن أراضِ هنا وهناك. جمال الشابة إلى جانب ثروتها جعلاها محط أنظار العائلات الراقية التي تبحث عن عروس لأبنائها في بيروت وبلاد الشام.

أخوها الأكبر نور الدين أفندي، مستشار سابق في الخارجية العثمانية، هو الوصيّ عليها وعلى أملاكها. الفتاة تقترب من سن الرشد. السن التي حسب الشرع الإسلامي والقانون العثماني، تمنحها حرّية التصرّف بما تملك. إنْ تزّوجت خارج العائلة، فسيدخل غريب إلى منزل الباشا، ويقاسم إخوتها الأعمال والأملاك الكثيرة الذي تدّر آلافاً من مجيديات الذهب سنوياً. لذا فكّر أخوها بقريبها رشاد. وبدون علمها عقد وإياه الاتفاق.  رشاد، قريب الخانم تحمّس للمشروع. قلبه مولع بالعالمة روزينا، لكنّه طموح ويسعى لتأسيس مصنع للغزل وشركة للتصدير. أملاك كثيرة، بزواجه من ابنة الباشا، ستغدو في تصرّفه! لكن الفتاة المولعة بمدّرسها، رفضت الخطبة. وإزاء ضغوط أخيها عليها لإتمام الصفقة، أدركت أنّه لا مفرّ لها إلاّ في الهرب مع من تحب.

شبّان العائلة قرروا غسل العار. يطالبون بقتل الجانحة كما أفادت الخادمات. لكن الأخ الأكبر اعترض. وهي مسألة من السهل تفسيرها. فالأفندي المتمكن من القانون، يعرف أن أفضل منَ يقتلها وينال، قانونيا، الأسباب التخفيفية القصوى لجريمته، هو خطيبها بالذات. بضعة أشهر في السجن كما العادة وينتهي الأمر! هكذا أَوعز لعمته وهذه أرسلت برقية إلى الجاني ليحضر من دمشق على وجه السرعة.

فوجئ الشاب، بأحلامه تتبخّر، وبسمعته تتمرّغ. جنّ جنونه وصار مستعداً لأيّ فعل ينتقم به لنفسه من الفتاة وعشيقها. فاندفع إلى المكان الذي تختبئ فيه لقتلها. لكن أختها عرقلت سيرة. وبعد إخفاق المحاولة، انبرى الأفندي مظهراً نفسه بمظهر المنقذ، ونقل الجريحة إلى المستشفي. لكنّ هذه بهذيانها فضحت تورّطه.

الواقعة الثانية، فتنة سياسية:

طموح المدعو رشاد لا يقف عند حدود المال والأعمال. فأحلامه السياسيّة كبيرة كما أحقاده على الأتراك. لم يرث عن أبيه مالاً بل ضغينة جعلته يتنكّر للدم التركي الذي يجري في عروقه.  ولا يكفّ عن الدعوة إلى فك اللحمة بين العرب والخلافة. أرسلتْه جدّته إلى مدارس اليسوعيين، فوجد في سياستهم صدى لأهوائه. التقارير السريّة تؤكد أنّ اتصالاته بالقنصلية الفرنسية كثيرة. ومعلوم أنّ المؤامرات ليست بنت لحظتها. فالخطط الموجودة في الأدراج تنتظر ظروفها المؤاتية. وفي فضيحة حب بين مسلمة ومدرّسها المسيحي، وجد المخططون الظرف الملائم. هكذا تقاطعت الخيوط ومهّدت لما سيجري: حين فشلت المحاولة وتلّوث اسم العائلة، صار سيدّها يتمنّى واقعة تغطي على واقعة. ابتكر مع الخطيب المهزوم حكاية الهجوم على الأشرفية لينشغل الناس عن الفضيحة العائليّة بواقعة سياسية، وتنطوي حكاية الفتاة الهاربة في فصول فتنة لا أحد يعرف متى تنتهي.

هكذا، كان الهجوم على الحيّ المسيحي في بيروت سيحقق أماني الأطراف التي خططت له. وما نقل القنصل الفرنسي من بيروت بعد الحادثة، سوى روتين معروف يرمي لإظهار حسن النيّات بشأن ما حاكت يد الدبلوماسي المحنّك في الخفاء.

*  *  *  *

بعد دخول المحقق عتبة المدرسة، وجدت مسز سكوت نفسها في موقف صعب. صحيح أنها لم تستجب لطلبه مقابلة زميلات وردة شاه، وأقنعته بأن يدوّن الأسئلة وتتولّى الناظرة نقل أجوبتها إليه... لكن الصحيح أيضاً هو أن الخوف مما كان سيحدث جعل بعض العائلات تسحب بناتها من المدرسة خشية حدوثه. ماذا لو باغت المحقق المدرسة واقتحم بابها مع عساكره وأجبر الإدارة على مقابلة التلميذات؟

في تلك الفترة، والحديث عن خطر المدارس على البنات يزداد، أكتظ سجل الغياب بالأسماء، وخفّت حركة القيد للعام المقبل. عائلات كثيرة أعادت فتياتها إلى فصول القرآن.
أو أحضرت لهنّ مدرّسات إلى البيت. "العلم" أفسد هذه الفتاة ذات الحياء البيّن على جبينها. كانت تخجل من النظر حتى إلى عيون النساء، فيحمر وجهها وتخفض بصرها إلى الأرض. الأقاويل اضطرت المديرة، ترافقها الناظرة اللبنانية، للقيام بحملة زيارات للأهالي: تطمئنهم بأن الأمريكان عموماً، والطائفة البروتستانتية بوجه خاص، هم رغم بعض الفروق، لا يقلّون محافظة عن أهل البلاد. فكيف لو كان الأمر يتعلّق بالأخلاق؟

كما اتخذت الإدارة عدداً من الإجراءات لحماية الفتيات من الأفكار المتهوّرة التي قد تضر بعقولهنّ، فأنشأت "مجلس الأمهات". وبالتناوب صارت إحداهنّ ترافق الناظرة والتلميذات في الملعب أثناء استراحتي الساعة العاشرة والظهر. والتدبير الجديد الذي يعزّز مشاركة أولياء الأمر، كان يمكنه أن يغدو رائداً في عالم التربية، لولا أنّه جاء أقرب إلى التجسس منه إلي نمط تربوي حديث. وفي الآونة ذاتها، برزت فكرة المحاضرات التي تتحدّث "بتربية الفتاة المثالية". نشأت جمعيات نسائية تؤكد أسماؤها على سموّ أهدافها. وظهرت مقالات في الصحف تندّد بانجراف البعض إلى شطحات القرن. أشارت إحداها إلى تلك التقليعة التي تكاد تصبح سابقة: الفتيات العازبات يذهبن بمفردهّن إلى السوق! ما ضرّ لو اصطحبن معهنّ خالة متزوجة أو عمّة تقدّمت في السن وتمرّست بالتقاليد؟

مثل هذه المقالات أثرت بشكل جليّ على حركة السفور التي، كانت قد بدأت بجرأة بين مسيحيات العاصمة وبخفر بين مسلماتها. تراجعت الكثيرات عن التفكير به، ومن سبق لها أن تجرّأت عليه، عادت ترمي البرقع على وجهها. وكاميليا، بعد سفور جزئي دام أكثر من عشر سنوات، هي طوال إقامتها في بيروت، صارت تغطي وجهها حتى في طريقها إلى القدّاس. وفي باحة الكنيسة، كان عليها أن تتحمّل وطأة النظرات والوشوشات. فأولياء الأمور هناك، لم يكونوا أقلّ هلعاً من أمثالهم في الضفة الأخرى من المدينة. تتردّد في خواطرهم العبارة المألوفة، أنّه ما من لقاء بين امرأة ورجل إلاّ والشيطان ثالثهما. رعاة الكنائس يشيرون بصورة لا يُخفى قصدها على سامع، إلى الصبيّة دون ذكر أسمها، كأمثولة على الاستسلام لإغراءات العصر. يطالبون العائلات بنبذ الأفكار المتدفقة من أوروبا والتي باتت تهدد التقاليد. تقاليدنا الشرقيّة التي ينعم الناس بها في هذه البقعة من العالم، حيث مازالت الكنيسة هي المرجع. هي التي تمسك بمقاليد الصح والخطأ، وتُرشد المؤمنين إلى الطريق القويم. بعض الشعوب، بزعم التمدّن، بدأت تدير ظهرها للكنيسة. يدّعون أنّ في وسع الإنسان تسيير حياته كما يشاء. يسمّون هذا حريّة! أيّ حريّة تلك التي يقطع بها الناس صلتهم بالله وبكلمته المقدّسة؟

انكفأت الطوائف على ذاتها. الطائفة إليهودية المتزمتة التي سبق لإحدى بناتها الطائشات أن هربت قبل ربع قرن مع رجل مسلم، عادت تضيّق أبوابها على معاشرة الطوائف الأخرى، كي لا تتسرّب إحداهن ثّانية إلى هذه الجهة أو تلك في زمن أُفلتت فيه الحدود.

وكادت الهاربة المسلمة، أن تُلعن في المساجد لو لم يستبق المفتي الأمور، فيكثّف لقاءاته بأئمتها، ويرسل رجاله إلى هواة الخطابة على المنابر. كثيرون يتربصون للانتقام من الأفندي: آل صالح لتخلّيه عن ابنهم، والمتحزّبون للأتراك لإعجابه بالغرب. عائلة إسماعيل هذه اختلط الحابل فيها بالنابل. ما عاد أبناؤها يَعرفون في أيّ صف يقفون. وسيّدها استسلم لغواية أفكار جلبها معه من بلاد الإفرنج. يُشاع أنّ مجلسه صار منبراً يناقش فيه الحاضرون كلّ ما يخطر لهم بل ويناقشون وجود الخالق عزّ وجلّ!

*  *  *  *

وأعيد النظر في مسلك العائلة: عائلة ابتلت بالعشق! تحمل جرثومته في دمها. الابنة رضعت كلامه مع قطرات الحليب. تنشقته مع أول الأنفاس. أبوها، وريث الجاه والمال واللقب، ابتلي به، عَشق زوجته التركمانية كما يعشق رجل امرأة ليست حلاله. ولم يحتمل فراقها فمات بعدها بقليل. يقال كان يصحو في الليل، يبكي بكاء طفل فقد أمه. يقال إنّه ما عاد قادراً على تدبير شئون داره وملكه، حتى إن أولاده الرجال ذوي البأس مثله تدخلوا وتمنّوا عليه أن يتزوّج من بعدها لينسى. لكن هوى التركمانية كان أقوى منه. اللعنة ذاتها لحقت بابنه البكر. عشق الأجنبية التي لا يُعرف لها أصل، على زوجته بنت الحسب  والنسب. ولولا رأفة هذه لانهار. راح إليها يستعطفها أن تخطب له الأجنبية. إن كانت لا تريد أن تفعل هذا لأجله فلتفعله لأجل العائلة. حكايات، تغلغلت في روح أخته، جعلتها تستحلي العشق وتَحللّه لنفسها. وما زاد الطّين بلّه أنّ نساء العائلة، وغالبيتهنّ وافدات من حلب أو اسطنبول، حين يأتي المساء، تحمل كل منهنّ آلة الطرب التي نشأت عليها ويشرعن مداورةً في العزف والغناء. موسيقى وأغانٍ تتحدث بلوعات النفوس ولقاء العشاق وفراق المحبين. ولطالما جلس الباشا معهنّ كما دأب على اصطحاب وردة شاه لتسمع ونرى. ومنذ طراوة عودها، بدأت هذه تتدرب على  يد زوجة أخيها الأسبانية . تصغي إلى الآلة العجيبة التي يسمونها الفونوغراف. في وسطها اسطوانة تدور مثل الصحن وينبعث منها أغاني  باللغة الأجنبية. أجمل من صوت الشيخ رضا الإسكندراني. والبنت اليافعة وزوجة أخيها على الإيقاع ترقصان. تتقافزان على الأرض تقافز الشياطين وأذيال فستانيهما تتطاير في الهواء فتبين ملابسهما الداخلية. ويَقال أنهما كانتا تعرضان الرقصات تلك في خلوات خاصة أمام السيدات. و بعض هؤلاء صرن  يسألن الأجنبية أن تعلّمهنّ إياها كي يرقصنها لأزواجهن في المخادع. أمور كادت تفسد مدينة بأسرها. حتى إنّ المحصنات صرن يحلمن بالحب لبناتهن، ويحلمن بالعربة التي أُدخلت فيها الإفرنجية إلى المدينة. العربة المزينّة التي إن "فاتت أفراحهن" فلن تفوت أفراح بناتهنّ بإذن الله. ليت المسألة كانت تقف عند هذا الحد. ففي هذا الزمن الذي شُرعّت فيه الأبواب، دخلت العالمات والغوازي البيوت واختلطن بالمحصنات والعذراوات! وهل لهؤلاء الدخيلات من أحاديث غير سير العشق وغرام الرجال والنساء؟!

"ـ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! وكيف يدعون غازية تختلط بطاهرة؟!

ـ يسمحون بهذا كما سمحوا بالسفور. إن كانت كاميليا سافرة، فهي مسيحية، وقادمة من بلاد لا حلال فيها ولا حرام. أما أن تكبر الفتاة وتخرج في الشارع كاشفة الوجه على مرأى من الرجال، الكبير منهم والصغير يرى فمها وأنفها، وحين تتكلم أو تضحك، يرى أسنانها ولسانها، ففي هذا ما يدكّ أعمدة الدّين والأخلاق؟!"

*  *  *  *

انتشرت الحكاية انتشار النار في الهشيم. وانشطرت بين واقع وأسطورة، لتلبس أخيلة الأماكن التي تصل إليها. من بيروت إلى طرابس والشام ومنها إلى صيدا، وصور وحيفا. حكايات رمت الرعب في قلوب السكان. يتحدثون عن حاكم تركي جنّد شاباً ليخطف له من بيروت أنة الحسب والنسب ويتخذها خليلة لنفسه.

ـ "عجباً ما الذي يدعوه لذلك والعالمات والغوازي يملأن البلاد؟

ـ لا شرع عند هؤلاء ولا ناموس. يُقال، إن الحاكم هذا، يجلس في السهرة مع صحبه، ويُحضرون له ابنة الأصول لترقص أمامه الرقصات الشيطانية تلك. فيهز رأسه عجباً وإعجاباً! من أين تعلمت هذا، يسأل؟

ـ من زوجة أخيها الآتية من بلاد الفالانج".

وقيل، همساً والذمّة على الراوي، إنّ الخليفة نفسه يُرسل رجاله كلّ عام، يجوبون البلاد بحثاً عن فتاة جميلة. لا فرق عنده إن كانت مسيحية أم مسلمة. فقد عُرف عنه  ما عُرف عن شهريار في ألف ليلة وليلة، يريد عذراء مطلع كلّ شهر. لا يقتلها بعد أن يقضي رغبته منها كما كان يفعل سلفه، بل يهبها لأحد رجاله الأثيرين لديه. وحفيدة الباشا هذه، بعد أن اختُطفت، أقامها الخليفة في قصر "ضولمة بهجة" خليلة له بالحرام. لم يستأذن إخوتها ولم يعقد عليها. وهؤلاء للعار الذي أصابهم أعلنوا الحداد، فدهنوا جدران منزلهم بالغار والفحم الأسود."

كان بعض الفضوليين من الناس، والميالين إلى مشاطرة الآخرين الأحزان، حين يأتون إلى بيروت من
سائر الأقطار يبحثون ليتفرّجوا على هذا البيت الأسود الذي
لا وجود له.

الشائعات، أَبلغ الرسل، بلغت الصدر الأعظم. وهذا، على الرغم من انشغاله بهموم السياسة ومواجهة بلدان تتحضّر لتنقضّ على "الرجل المريض"، لم يَستَخف بالمسألة. خشي أن يُلهب الخاص العام ويشعل البركان الذي تتربّع عليه السلطنة. هكذا أرسل إلى الولاة البرقية تلو الأخرى، يحثّهم فيها على إخماد الأقاويل. كان على مفتي الديار أن يرسل كبار مشايخ المسلمين، وعلى مطرانيات الطوائف المسيحية، أن تُجنّد من يمكنها تجنيده، ليقوم برحلات في طول البلاد وعرضها. السبب المعلَن للزيارات هو الاطمئنان إلى أحوال الرعايا وإحصاء النفوس لسجلات القيد وتذاكر الهوية الجديدة. إنّما الخفيّ منه هو إبطال الشائعات التي خرجت عن السيطرة حتى بلغت الآستانة.

*  *  *  *

الكوارث التي تتدخل في الوقت المناسب لحل الأمور المستعصية تدخّلت هذه المرّة لتخفّف من وطأة الأحداث
عن نور الدين. في أوائل خريف ذاك العام فُتحت المغلّفات ودارت الطبول، وطاف المنادون في الأحياء يعلنون للناس النبأ الذي طال خوفهم من سماعه: الحرب الكونية بدأت. والخلافة العثمانية أعلنت، على لسان أمير المؤمنين، الجهاد في سبيل الله، حالياً للدفاع عن النفس. إنّما على الشبان في كلّ مكان أن يستعدّوا إذ قد تُضطر  الظروف لأكثر من الدفاع عن النفس.

ووجد نور الدّين الفرصة مؤاتية فأغلق مجلسه، منهياً الدور السياسي الذي يقوم بها آل إسماعيل منذ مجيء الجد سليم باشا لإنهاض بيروت. هكذا يخلص من وطأة العين ومن جحيم النظرة. يريح جليسه من الارتباك. من المراوحة بين ظاهر مهموم بقضايا البلاد وخفيّ مأخوذ بقصة الفتاة الهاربة. مراوحة يفضحها سلوك المحدّث. تفضحها نظراته المواربة. ومبالغته في الإلتفات إلى هذه النّاحية وتلك. لكنّ المعنيّ بالأمر لا يفوته المغزى. لا الحرب الكونية ولا أية كارثة أخرى ستشغل هؤلاء عن حكاية أخته. يحاول أن يشرح لكاميليا أنه منذ الحادثة تبدّلت الموازين. ما عاد نور الدين في نظر هؤلاء هو نفسه، وما عادت حجّته حجّة حرّ قويّ. يجدر به أن يُخضعها للرقابة من مُني بالهزيمة. أن لا يشطح بعيداً. لو أعلن لهؤلاء الآن موقفه من الحروب، كل الحروب، لهزّوا رؤوسهم استخفافاً. لو قال لهم الشيء ذاته قبل أيام لجعلوه قديساً وحملوا دعوته في البلاد.

بعد إغلاق المجلس، غيّر نور الدين مكان إقامته. وبدل الجلوس في ديوانه المؤدي إلى الخارج، لجأ إلى الديوان العلوي في طابق تستقبل فيه سيدات المنزل زائرتهنّ المقرّبات. وصار يؤتى له بالطعام. ولولا اضطراره لمقابلة المشرفين على الأعمال وإدارتها، لما رغب في النزول. فقد أنس لمقره الجديد غير آبه لاعتراض كاميليا ولا للوم السيدات. يلازم مكانه على الكنبة ويقرأ. ومن خلف المشربية يتناهى له خرير ماء النافورة الرتيب. تتراءى  له البركة المسدسة الأضلاع القائمة وسط الدار. يتأمل النافورة وأشجار الحديقة، ويلاحظ أن بعضها غداً شاهقاً. ويسرّح بصره إلى الخارج. من بعيد يظهر له البحر وقبله المقبرة. وفي رؤية شواهدها وتذكر بعض الراقدين في ترابها، يزداد زهداً بالدنيا. ويغدو شديد القرب من نفسه، ومن الجوهر. هكذا، وفي عزلته استسلم سيد البيت إلى نعمة اكتئابه. الحقائق كشفت عن وجهها البائس وحل انسجام غريب أساسه الحرب المنتظرة! غول مجهول سيلتهم بني البشر، يشغله قليلاً عن حاله، إنما ليعيده إلى ذلك السؤال: إذا ما كان في الاستشهاد عزاء، وفي الموت حكمة هي المعروفة بين الناس، فما الحكمة مما حدث له؟ حين أُعدم ابن خاله، تمزّقت روحه لكن النفس ظلت أبية، والهامة مرفوعة ببطل تسلق حبل المشنقة هاتفاً ضد الظلم، داعياً للحرية. عشر سنوات والرجال في المجالس يردّدون ما قاله الشهيد، والصبية في الشوارع يهتفون بما هتف.

في خلواته الطويلة أسئلة كثيرة وأفكار تطوف في رأس نور الدين: أيّ قدر شيطاني تدخل ليفسد عليه أحلامه؟ وإذا كان ما حدث من مشيئة الخالق، فلم اختاره هو لهذه التجربة؟ هو، نور الدين الذي عُرف بالصلاح؟ من اختاره أبوه ليغدو أسير الأمانة؟ أربع عشرة سنة وهو يقوم بما أُؤتمن عليه. أرسل أخته  إلى أفضل المدارس وعقد عليها الآمال. تخيّلها متعلّمة. شاعرة تجالس الشعراء. أو سيّدة ناشطة في المجتمع تؤسس المدارس وتدعو لإصلاح المجتمع. وتغدو نموذجاً تتطلع إليه كل فتاة تصبو لنمط حياة مغاير. مسألة واحدة لم تخطر في باله بصورة جادة،
بشأن هذه الفتاة التي كانت في خلده منزهة، زواجها. صحيح أنها لم تكبر على نحو كافٍ لتتاح له الفرصة، إنما من مرّة تخيلها متزوجة شأن جميع فتيات الدنيا. كيف لم يخطر له أن تكون أخته، "كاميليا" بالنسبة لرجل ؟ والآن ماذا في وسعه أن يفعل؟ يسافر؟ إن سافر فلمن يترك مسؤولية وردة ؟  وفي جحيم تساؤلاته أدرك أنه هو نفسه بات أسيراً مثل وردة.

ومثلها يخلد إلى وحدته، أو يمارس رياضته الرّوحية التي درّبه عليها يوغي هندي التقاه في ألمانيا. دلّه هذا إلى "الكرما". وبواسطته توثقت علاقته بها. وفيما أخته الآن في المستشفي تهذي، صار يستعطف كثيراً هذا المتصوّف كي يحضر. كما يستعطف حضور عزمي إسماعيل.

الأب، عائداً كثيراً قبل أن يظهر.

كان هو مستنداً إلي حافة النافذة شارد الخاطر، ولعلّه قد غفا. وفي غفوته الخاطفة تراءى له عزمي إسماعيل! وانفعل هو وهمّ بأن يأخذ الميّت الحيّ في حضنه لكنّه تريّث. وجه الباشا لا يبشّر بالرضي! وسارع هو للسؤال: يا أبت، ماذا علي أن أفعل؟

ـ دبّر لأختك ابن حلال يسعد قلبها.

ـ حاولت يا أبي، لكنّها رفضت، وهربت.

ـ أعرف.

ـ وكيف عرفت؟

ـ قلب الأب دليله.

ـ والآن؟

ـ حاول ثانية.

ـ لكن من سيرضى بعد هذا أن يتزوّجها؟

ـ شاب من دارنا. متعلّم.

ـ لكنّه يريد قتلها.

ـ لا. لا أظنّه يفعل.

ـ بلى يا أبي. ولولا...

ـ قلت لك متعلّم من دارنا؟!

ـ متعلّم من دارنا؟!

ـ نعم.

لغرابة ما سمع، فتح نور الدين عينيه.

كان لا يزال متكئاً على حافة الشباك. فإذا به يلمح "خالد" ابن جلنار يعبر الحديقة. عجباً! إن كان أبوه يأمره بأن يدّبر لأخته ابن حلال من الدار، لحظة مرور خالد في الحديقة، فلا بّد أن يكون لهذه المصادفة من مغزى! وأن يكون للمغزى صلة بحادث سابق:

ذات نهار جاءه رضوان لاستشارة: "ما هي الاستشارة يا رضوان؟ مستقبل ابني خالد. نحن حاضرون لكلّ شيء. ماذا تريد؟ أريد له مستقبلاً مختلفاً. لا بأس، ماذا بالتحديد؟ يا حضرة الأفندي أسألك لتساعدني فأنا نفسي لا أعرف. أتمنى أن يكون له شأن بين الناس غير ركوب الدابة إلى الحقل؟ إلى أين تريده أن يركبها؟ لا أدري".

فكّر نور الدين ملياً وقال: ندخله "دار المعلّمين". أفتُتح هنا فرع للدار تابع لاسطنبول. يقال إنّه ممتاز. "هكذا بعد سنوات تخرج خالد وصار يركب الدابة إلى المدرسة. معلّماً مميّزاً فيها". بلى، هذا هو الشاب المتعلم الذي ألمح له أبوه".

هل يخبر كاميليا؟ هل يستشير سيّدات البيت؟

أم يتخذ القرار بمفرده؟

لكنه ليس وحده وفي يده أوامر أبيه. هكذا عقد النيّة. الضربة الأخيرة التي من شأنها إنقاذ أخته. وإذا ذكّرته كاميليا بضرورة استشارتها رفض. كان موقناً أن عقل وردة شاه، بعد سجن طال شهوراً وحادثة رمتها ببارانويا تُصوّر لها أنّ حاميها هو نفسه قاتلها، لا شك قد تدهور، كما يتدهور عقله، هو الحرّ الطليق.

نعم، حسم أمره، ويقينه أن زواج أخته سيعيدها إلى الحياة الطبيعية. ومن جديد ستأنس إلى حريّتها وإلى معاشرة الناس. ولن تلبث أن تنسى أصول زوجها الذي سيصبح واحداً منهم. وشيئاً فشيئاً ستعرف السعادة طريقها إلى قلبها المثقل. وإذا ما رزقها الله أبناء وبنات، فستنسى تماماً حكايتها وينساها الآخرون. التفت إلى كاميليا وقال:

ـ أخبري السيدات أني استشرت عزمي إسماعيل وأنه أشار علي. سأزوج وردة لخالد بن رضوان، وبنفسي سأزف الخبر إلى الرجال. أو مهلاً... ربما أنه من الأفضل أن نتريّث إلى حين ننتهي من مسألة التحقيق. أخشى أن يشغلني القاضي الجديد بالطلبات المستحيلة التي شغلني بها سَلَفه.

*  *  *  *

عروس  بالأسود
حين وصلت الأمور إلى ما  وصلت إليه، وسارت الشائعات على الألسن سير الأساطير، ووردة يتردّى حالها وتهذي بالرحيل مع بشارة إلى جنّة أمّها بوران، كما تطالب بمجيء مربيتها... بعثت كاميليا بمرسال إلى رضيّة. وهذه جاءت لتنقذ ابنتها التي تولّت إرضاعها ورعايتها حتى اليوم الذي غادرت فيه آل إسماعيل وكان لوردة ثلاث عشرة سنة. يوم ودّعتها ذاك الوداع الأليم على مرأى ومسمع الحاضرات. رضيّة تبكي والابنة تمرّغ شعرها بمشطي قدميها وتستحلفها ألا تسافر. تستحلفها، إن سافرت فلتترك لها أخاها محمود! النسوة من حولها يبكين ورضيّة تشهق وتقسم أنها سترجع حال تدبّر أمر ولدها سعيد المقبل على الزواج.

لكنها لم ترجع.

بلغ المرسال رضيّة فجاءت بسرعة الطير. وركعت عند قدمي سيد البيت تقول له: والله إنكم تحاسبونها على ما لم تفعل. فأنا، بعد الله سبحانه وتعالى أعلم الناس بمن أرضعت وربيت. ما عصتْ وردة شاه وما هربت بل قرينتها هي التي فعلت.

ـ قرينتها؟

ـ نعم، وكان من عظيم كرمكم أنكم صفحتم عنها وفكّرتم في تزويجها، لكن، إذا سمح سيّدي فلأمّها رضيّة رأي آخر.

ـ انهضي يا رضيّة وقولي ما هو رأيك؟

ـ لن ينفع أن تتزوج وردة الآن لا من ابن جلنار ولا من أمير الأمراء.

ـ لماذا؟

ـ لأنها الآن متزوجة.

انزعج نور الدين من الجملة التي تفوّهت بها رضيّة، رغم علمه بقدرتها على ابتكار الترّهات. قطّب جبينه وهو يسأل: متزوّجة؟

ـ نعم. إنما ليس بواحد من بني البشر بل من معشر الجنّ هو في واقع الحال سيدّهم.

تنهّد نور الدّين وهو يعيد كلام رضيّة بصيغة السؤال:

ـ متزوجة من سيّد الجن؟

ـ نعم. وهذا ما أطاش صواب قرينتها. فهذه ما إن علمت بزواج توأمها التي تعبد بسيّد الجن، حتى جُنّ جنونها وهبّت من مرقدها عازمة علي الانتقام.

ـ هكذا  إذن!

ـ نعم! معشر الجنّ يا سيّد نور الدين يعيشون في الفوضى. الأنثى منهم تعشق أختها ويعشق الذكر الذكر. لا حدود في أعرافهم بين ما حلّل والله وحرّم.

ـ غريب!

ـ بالطبع غريب. وقرينتها، لفرط غيرتها، صمّمت علي أن تنتقم فتقوم بالمثل وتروح إلى رجل من بني البشر تحبّه وتَتزوجه. هكذا في الظاهر، وردة هي التي هربت، إنّما في حقيقة الأمر، قرينتها هي التي فعلت. غير أنّ يقظة الأفندي أفسدت على أهل الجنّ إتمام غرضهم والحمد لله.

ـ الحمد لله يا رضيّة.

ـ إذن، كيف تزوّجونها و قرينتها لا تزال غيورة مهتاجة؟ الجنية يا سيّدي، إذا ما جُنّ جنونها، أمسك بقرينتها مثل إخطبوط  حتى يغدو من المستحيل على هذه الإفلات.

ـ وما العمل إذن؟

ـ هاتوها آخذها معي إلى حمص نقيم لها الزار لنخرج قرينتها من دخيلتها ونطلّقها من سيّد الجنّ.

ـ تطلّقونها من سيّد الجن؟!

ـ نعم. وبعد فك الاشتباك تعود إليكم سليمة معافاة كما كانت، وتتزّوج من يختاره لها ربّ البيت وتاج رأسنا جميعاً نور الدين.

رضيّة تتكلّم فيما نور الدّين يتأملها كأنه يراها للمرة الأولى! ويتحسّر كيف أفلت الأمر منه  وترك أخته في رعاية هذه المرأة الخرقاء التي ما زالت تستعطف: إن كان سيد البيت يعارض ذهاب أخته إلى حمص فسأحضر مقيمي الزار إلى هنا لتخليص وردة من مخالب قرينتها.

ـ كفي عن هذه التفاهات يا رضيّة.

طأطأت  رضيّة رأسها، وبعد برهة خرجت عن صمتها لتقول: يا سيدي، اسمح لي بشيء آخر... جلنار التي تثقون بها ما زالت مستمرة في غيّها.

ـ في غيّها؟

ـ نعم. كتابة "الكتب" لسناء آل إسماعيل.

ـ ثانية تلصقين بها التهم؟ إياك أن تأتي على ذكر جلنار.

قالت رضيّة "حاضر" فيما هي تتساءل عن السرّ الذي يجعل عائلة نور الدين تجلّ على هذا النحر، جارية اشتروها من السوق! ويغلقون عيونهم عن "أعمالها". وهي رضيّة، لا يغشنّها كلام جلنار عن تأنيب الضمير. "يا رضيّة أنا امرأة تخاف الله، ولا تنسى فضل سيّدها عليها. عقلي محتار وقلبي ممزّق. لا أدري إن كان علي، رداً للجميل، أن أزوج وردة لأبني خالد، أو أن أبعده عمّا يُذل عائلة الباشا الذي أخرجني من ظلمة العبودية إلى رحاب الإنسانية! ارحميني يا رضيّة، قولي لنور الدين أن يبحث لأخته عن أبن أصول مقامه من مقامها. ابن أصول لا يُزعل زواجه من وردة  تاج رأسنا وسيّدنا جميعاً عزمي إسماعيل"!

جلنار، أول ما فاتحها رضوان بشأن زواج خالد من ابنة الباشا، أصابتها الصدمة! من تلك الصدمات التي تفقد  السيطرة على النفس وتسرق من الفم الكلام. وكما حدث لها يوم أُخذت إلى سوق الجواري، ويوم خرجت منه، صارت تثأثئ. لا ريب في أن مسا ً أصاب زوجها لتخطر له الفكرة! كيف ستجرؤ على خيانة الباشا الذي قال لها ذاك النهار: "أنت منذ اليوم حرة ونسلك كلهم أحرار إلى يوم الدين" ؟

رضوان يؤكد لها أن الفكرة فكرة الأفندي. والشرح الذي، غايته طمأنة جلنار، زعزع في واقع الأمر كيانها. وجعلها تهرع إلى الداخل وتفرش سجادة الصلاة وتبدأ تصلّي. صلوات تختلط فيها التركية بالعربية والبكاء بالرجاء، تتضرّع فيها إلى العلي القدير أن يهدّئ روعها! أن يردّ عن خيالها نظرات الباشا الغاضبة. وخطر لها أن تنهي صلاتها وتقصد نور الدين. نعم تتجرأ وتعترض. ورآها زوجها تذرع الغرفة رواحاً ومجيئاً مرددة بإيقاع هستيري: يا رب ألهم الأفندي حلاً آخر. حلاَّ يرضى عنه الحيّ والميت! يا ربّ أحمِ ابني خالد من غضب الباشا. يا رب...

ثم خطرت لها فكرة أخرى: أن تستعطف كاميليا كي تتدخّل لدي نور الدين. لكن تلك بيأس أجابت: "لا فائدة يا جلنار. حاولت".

*  *  *  *

إزاء رفض نور الدين خطر لرضيّة أن تدبر أمر الزار محلياً. واسترحمت الأفندي، أن يسمح بذلك، وسمعت منه الجواب مقتضباً واضحاً. يا رضيّة، إن أردت العودة ورؤية وردة فأهلاً  بك، البيت بيتك والفتاة ابنتك. أما حكاية الزّار، فهذا ما لا يمكنني السماح به أبداً.

*  *  *  *

قبيل المغيب، جلس نور الدين كعادته خلف النافذة المطلّة على الحديقة، يستعرض الأفكار، تحت وطأة الشعور بأن القدر تعامل معه بلا رأفة. وفي غمرة تساؤلاته عن السبب غير المفهوم، الذي جعل وردة تقوم بما قامت به، لام نفسه كيف ترك أخته في رعاية امرأة خرفة تؤمن بالزّار وبزواج الجن بالإنس وما إلى ذلك... ورغم المصيبة التي هو فيها راح يضحك. دخلت عليه كاميليا فوجدته يضرب كفاً بكف ويقهقه. وقفت تنتظر، إلى أن توقف عن الضحك وسألها بكامل وقاره المهزوم أن تذهب إلى رضيّة وتؤكّد لها علي لسانه... إياها أن تحدّث وردة بالترهات، مثل زواج الجنّ والإنس وغيرة القرينة والقرين. إيّاها! مفهوم؟

قال هذا ليفلت الأمر من يده، فينهض رافعاً سبّابته بوجه كاميليا مهدّداً بالصراخ: وليكن مفهوماً لديها أنّها لو فعلت فلن تدخل البيت ثانية!

كاميليا غادرت الغرفة وعاد نور الدين إلى لوم نفسه. أتكون أخته قد رضعت من رضيّة الأوهام مع الحليب؟ أتكون روحها تشّربت الخرافات مع أوّلى الأنفاس؟ ماذا لو أنّ وردة، لفرط ما سمعت عن ترّهات مثل هذه، انتهت إلى الاعتقاد بأنّ لها قرينة من معشر الجنّ تأمرها فتطيع، وتندفع إلى تصرّفات متهورّة مختلّة مثل التي قامت بها؟ هذا يعني أنّ أخته واقعة تحت سيطرة جنّية. لا همّ إن كان هو نفسه يؤمن بمثل هذه الترّهات أم لا؟ ويعني أن الجنّية تلك تعبث بإرادة وردة وتدفعها إلى سلوك مضطرب تُرجم بمغادرة البيت! لابدّ أنّ أخته  منذ طراوة عودها تعايش أطياف المخلوقات الوهميّة التي ابتدعتها لها رضيّة! وما سؤالها ذاك اليوم عن الجنّية الصغيرة ذات الجدائل الطويلة والشرائط، وإصرارها على اللعب معها، وما الانطواء الصغيرة التي تخبره به كاميليا، إلاّ براهين على ذلك. نعم، في غمار انشغال أفراد العائلة الكبيرة، ، كانت رضيّة تبني أعمدة العالم الخيالي الأخرق الذي  أدخلت فيه وردة.  حيث معشر الجنّ يسرح ويمرح، يتزوّج من الإنس ويطلّق. يعشق مثيله أو مخلوقات مغايرة لا فرق... فالعالم الجنّي كالذي تصفه رضيّة المخرفة تسوده الفوضى. لا ريب في أن الصغيرة المتعطّشة للحنان، وفي لهفتها على الحب العظيم الذي تمنحها إياه رضيّة، صارت تتلهّف على أيّ شيء يمتّ إلى عالم هذه بصلة. هكذا وفي غياب مربيتها باتت وحيدة في مواجهة تلك المخلوقات المتعسفة.

لا حول ولا قوّة إلا بالله! لا  بدّ إذن من العمل على تخليص وردة من شباك العالم الوهمي الذي تعيش فيه. لا هم إن كان هو يؤمن بالترهات أم لا. هكذا وبعد فورة غضبه استدعى كاميليا ليقول لها ما سيصيبها بالذهول: اذهبي إلى رضيّة. قولي لها أن تُحضر وبأسرع ما يمكن فرقة الزّار، لتخليص الفتاة من سيطرة الجنّ عليها.

*  *  *  *

أحضرت رضيّة الفرقة.

الشيخة "أم البدور" واثنين من ضاربي الطبول ونافخي المزامير. صاروا يأتون لإقامة وصلات الزار في ملحق البيت الذي سكنته رضيّة وولداها أعواماً طويلة. ضجيج الموسيقي حين تصدح يصل إلى أطراف المدينة ويجذب فضول القريب والبعيد. والناس يتوافدون للفرجة، مما اضطر أصحاب البيوت إلى إقفال بابه الخارجي.

أقاموا للصبيّة سبع وصلات على مدي أسبوعين.

وكانوا حسب أصول الطقس، يُجلسونها في منتصف الدائرة، ويحيطون بها: عاملو الزار، الخادمات، وبعض سيدات آل إسماعيل. تشرع الفرقة بضرب الطبول في إيقاع هادئ متكرّر ودءوب. وشيئاً فشيئاً يبدأ نافخو المزامير بالنفخ، والمنشدات بالإنشاد. الشيخة لا تلبث أن تدخل الحلبة وتدور حول وردة دوراناً خفيفاً، يراوح ما بين الرقص والندب. إيقاع الكورس يحمى ويشتد، ثم يخف. وفي لحظة الهبوط تدندن "أم البدور" بالحداء بكلامٍ مفهوم وغير مفهوم، يطالب الجنّية بالخروج من روح أختها والجنّ من تطليق زوجته. وإذ يتسارع الإيقاع ثانية وتضج الطبول، تتحوّل لهجة الاستعطاف إلى أمر وزجر. يا سيّد الجنّ أخرج. يا قرينة الروح أنسخلي. تصرخ  بهؤلاء، فيما رضية تستحلف ابنتها أن تحذو حذو الشيخة فتؤدي الحركات التي من شأنها مساعدة الجسد على طرد ساكنيه. فلترقص وتتلوى وسط الكورس، تطوي نفسها وتنفض شعرها وتلوّح بذراعيها. إنما لا فائدة. رجاء رضية وإلحاح الشيخة، يزيدان وردة عناداً، فتتكوّر على نفسها وتسد أذنيها بكفّيها ولعلّها كانت تصرخ ولا يسمعها أحد. وبقيت على هذا الحال حتى دب اليأس في قلب "أم البدور".  وصارحت رضيّة بأنّ القرينة لا تزال في الطور الصعب. ذاك الذي لا تصغي فيه الجنّيات إلاّ للسان حالها. وأنه لابد من مواصلة الزار إلى أن تستسلم تلك ويفرّ سيّد الجنّ. أن تستمر ربما  لشهور...عند سماعها ذلك، هبّت وردة عن الكرسي وهجمت على الشيخة، شدتّها من شعرها وأنزلت رأسها إلى الأرض، بصقت عليها وراحت ترفسها.  اندفعت النسوة  لتخليص الشيخة من يدي الشابة الهائجة، فانتقلت هذه إلى مربيتها، تضربها وتشتمها: يا خائنة، يا كاذبة... وتلك استسلمت منشغلة بالاعتذار من أم البدور. ولعجبها، بدت الشيخة منشرحة مستبشرة! ترى في الثورة التي أصابت "المسكونة" مؤشراً إلى دخول هذه في معركة حامية الوطيس مع قرينتها. نعم، يا رضيّة، جلسات الزار بدأت تعطي ثمارها. فالجنيّة تتزحزح من المكان الذي رسّخت طويلاً موقعها فيه.

منشرحة الأسارير ومعها بعض السيدات، أعادت رضية وردة إلى غرفتها، منهكة، منفوشة الشعر، تتصبب عرقاً وكأنّها على حافة الإغماء.  كان نور الدين نازلاً من ديوانه العلوي ليستفسر عمّا يحدث...وهاله منظر أخته، فأمر بإيقاف الوصلات، التي تكاد تقضي على الفتاة نفسها لا على القرينة.

رجعت رضيّة إلى حمص كما جاءت حزينة مهزومة.

لم يتغير شيء. سوى أنّ المقرّبين اعتبروا أنّ الصدمة أصابت صديقهم شيخ السياسة نور الدين بمسَّ، وأن الزار الذي لم يكن شائعاً في بيروت بدأ ينتشر، وصار له أتباع وشيخات وفرق، تجوب بلاد الشام، تجني الربح الوفير وتروي حكاية ابنة الذوات التي لولا الشيخة "أم البدور" لظلت زوجة سيّد الجنّ، تساكنه وتأتمر بأمره إلى الأبد.

*  *  *  *

بعد ذلك، وفي فصول حكاية انشطرت بين واقع وأسطورة، غدا كلُّ شيء معقولاً مثل أن تكون جلنار هي التي حبكت... مستعينة بشيوخ السحر حتى كسبت المعركة. ومثل المنامات الغريبة التي صارت تحضر نور الدين، وفيها ينهال بالضرب على أخته وردة، مرّة "فلقه"، بشوبك العجين، ومرات على رأسها بقش المكنسة. أو يحبسها في كيس الطحين، فلا يظهر منها سوى ذراعيها ورأسها! كل شيء غداً معقولاً، مثل أن يكون ما  رَوَته فريدة  ابنة الماشطة سعيدة، قد جرى بالفعل على ذاك النحو...

"حين ضجت البلاد بحكاية وردة قرّر أخوها تزويجها ممن سيرضي بعد الفضيحة أن يسترها. وبعد اليأس من طول البحث، راح إلى الجنيناتي رضوان يطلب منه يد ابنه خالد لأخته وردة:

ـ يا أخي رضوان، منذ خمسة وعشرين عاماً وأنتم في ديارنا. لم نَر منكم غير المسلك القويم والعمل الجميل. وَولدكم شهم، وابن مدارس، وقد ترعرع في ديارنا. ما رأيك أن أن نزوّجه ابنتنا وردة فيصبح هو منّا وأولاده من نسلنا"؟

"قيل، إنّ الرجل لم يصّدق أذنيه، فانحني يقبّل يدي سيّده، وكاد يقبّل قدميه، لولا أن الرجل استكبر واستغفر. وانفجر رضوان بالبكاء وهو يردّد آيات الشكر والامتنان على الشرف العظيم الذي منحه سيّده إياه. ولما أعطاه الأفندي مهلة أيام ليستشير فيها ابنه، أجاب أن شرفاً مثل هذا لا يستلزم المشورة.  لكنّ نور الدين أصرّ. غاب رضوان ساعات رجع بعدها إلى سيّد الدار مؤكداَ أنّه كلّم زوجته وابنه فامتنّا هما أيضاً للخبر. الشاب سيأتي حال يأمر الأفندي باستقباله . وجلنار سجدت تقبّل الأرض وتحاول أن تصلّي.

ـ تحاول؟

ـ نعم، كلّما شرعت بالصلاة شهقت بالبكاء. تمسك المسبحة "لتستخير" ربّها فتسقط  تلك من كفّها! تخشي أن...

ـ قل لها إنّ الباشا هو الذي أمر بذلك".

وقالت فريدة:

"وفي اليوم التالي أعلن الأفندي تعيين خالد بن رضوان، مسئولاً عن جميع أملاك العائلة، الزراعية منها وغير الزراعية. الموجودة منها في بيروت وخارجها. وفي المساء، زُفّت البشرى  لرجال العائلة ونسائها. وأمر أخوها فحضرت أمهر خيّاطات بيروت لتخيط لأخته الجهاز. تنافست لولاّ الإيطالية وفاطمة التركية على تصميم الملابس التي ستُفرح  قلب العروس. ملابس للنهار وأخرى للّيل. فساتين للمناسبات وأخرى للبيت. ووقع الخيار على لولاّ لترافق كاميليا إلى حيفا، تشتري من فلسطين  الثوب الأبيض والطرحة، والتّاج وكلّ ما يلزم وما يستورده التجار هناك من إنكلترا، لتتزين به العروس وتجلس على المرتبة يوم عرسها جلوس أميرة!"

وذكرت فريدة أن أمها الماشطة والسيدات وقعنَّ في الحيرة. يتساءلن إن كنّ سيأخذن السجينة إلى الحمام في حوض الولاية مثل سائر العرائس، أم لا؟ سألن أخاها فأجاب: افعلوا كل ما يدخل البهجة إلى قلب وردة شاه.

رافقت وردة السيدات إلى الحمّام. لا أحد يعلم إن هي فعلت ذلك طوعاً أم إلزاماً. الشرط الوحيد الذي طلبته هو أن لا تتعرّى، هي أو أيّ من النسوة في البركة. كما وللمرّة الثانية والأخيرة في حياتها أبَتْ أن تخرج كاشفة الوجه. لبست ثوباً طويلاً أبيض وألقت على رأسها وشاحاً يغطي وجهها وينسدل إلى ما تحت كتفيها. وحدها في الملابس البيضاء وحولها النسوة بالأسود. سارت مطأطئة الرأس لا تكلم مرافقاتها ولا تلتفت إلى الناس وقد اصطفوا على جانبي الطريق يراقبون ابنة الذوات في دربها إلى حمّام العرس،  بعد سجن دام شهوراً  بين البيت والمستشفى. يتساءلون إذا ما كانت مختلّة كما زعم البعض، أم أنّها بكامل عقلها؟ إن  كانت سعيدة في زواجها أم بائسة مرغمة عليه؟

رافقتهن، والحمّام حُجز ذاك النهار لسيّدات آل إسماعيل.
وتمّ تزيينه وإضاءة ممرّاته وزواياه ومراياه بالشموع. كانت
ظلال النساء شبه العاريات، في الرواح والمجيء، بين البركة والقاعات شبه المظلمة، تنعكس على الجدران، فيظهرن مثل أطياف مما يفاقم من الدوار الذي تعانيه وردة، ومن عبث عالمها الوهمي. كما أن زغاريد الحاجة أم الُعلا، واستجابة الخادمات والمرافقات لها، تزيد من جور كائناته. أما ضرب الصَّبية علي
باب الحمّام ليُفتح لهم كي ينالوا نصيبهم من الحلوى والمكسّرات فقد جعل أوصال وردة ترتعش، خشية أن يدخل عليها هؤلاء ويرونها  شبه عارية!

تركتهن يُحمّمنها إنّما متشبثةً بملابسها الداخلية. وحدها كاميليا لم تنزل إلى البركة، بل جلست مع الحاجة أم العلا تراقب. في خضم تشاؤمها كانت تحاول العثور على ما يدخل التفاؤل إلى القلب: في وقت قريب ستتجاوز وردة محنتها وتنسي بشارة. الدنيا هذه كريمة ومثلما أحبت ذاك ستحبّ خالد. ما يُطمئنها أن وردة، حين رأت ثوب العرس الذي جلبته لها، بدت لفرحها غير مصدّقة ما ترى. ابتسامة عريضة أضاءت وجهها! راحت إلى المرآة ووضعت الثوب على جسمها، ووقفت تتفرّج وابتسامتها تزداد إشعاعاً. وإذ  أبدت رغبتها في أن تجرّب الثوب، ساعدتها كاميليا على ارتدائه. وعادت تقف أمام المرآة وهي تمسك الطرحة بيد وذيل الفستان باليد الأخرى. ولفرط انفعالها غطت عينيها بكفها وأخذت تضحك. ثم راحت تقبل زوجة أخيها ممتنّة لذوقها الرفيع، قبل أن تجهش بالبكاء.  وبعد هنية أعادت الثوب ومستلزماته إلى كيس التافتا الذي جاء به ووضعته في خزانتها وهي تقول: لا أريد لأحد أن يراه ؟ في حينه، أجابت كاميليا ما كان عليها أن تجيب به، "لا أحد يا حبيبتي يرى ثوب العروس إلا عندما تزف العروس وتدخل على الحاضرين."

كاميليا الآن تسترجع تفاصيل الموقف،  فيما النسوة يفركن جسم وردة  ويندبن في سرّهن هزالها. وبالأناشيد المعروفة يعدّدن محاسن عريسها. "ابن مدارس. بهيّ الطلعة طويل القامة عالي الهامة حسن السيرة شديد الطاعة، لم يشعل في حياته نارة ولا سيجارة. أما المحرّمات من خمر وميسر فلم تلمسها كفة البتّة. مستقيم، يقبّل يدي والديه صباح  كل يوم وقبل أن يغمض جفنه. مؤمن لا يقطع فرض صوم أو صلاة. وفي ما عدا وجه أمه لم ير وجه امرأة! يخفض بصره قبل أن تخفض المرأة بصرها. عفيف النفس لن يتخذ يوماً خليله من العالمات أو الغوازي. والأفندي نور الدين، إنّما لتعليمه وسموّ أخلاقه اختاره  ليكون زوجاً لأخته. فإن شاء الله سينجبان صبياناً أقوياء وبناء جميلات مثلها ومثله، ويدخل على قلبها سعادة تتمنّاها  كلّ زوجة على وجه الأرض".

خلال ساعات حمّام العرس لم تنطق وردة بكلمة. وفي ما عدا الزغاريد التي تمزّق روحها لم تبد اعتراضاً على شيء، وإن رفضت مشاركة المستحمّات في تناول الطعام من جبن وعسل، ومكسرات وفاكهة مجفّفة، وغير ذلك.  فقط الزغاريد أخرجتها عن طورها، فهّبت صارخة في وجه الماشطة تلوّح بسبابتها قائلة: إياك. إياك والزغاريد!

*  *  *  *

تقول فريدة:

"صباح العرس، جيء "بسعيدة"، أمهر ماشطات بيروت، لتحضّر العروس وتزينّها. و كعادتها، صحبت الماشطة معها ابنتها التي كانت تتعلّم الكار على يدها. تُناولها مكواة الشعر والأمشاط والفراشي والمشابك والدبابيس والورود. وراحت المساعِدة، وركبتاها ترتجفان من شدة الانفعال، تفك جدائل العروس، وتسرّح خصلات الشعر تمهيداً لكيّة ولفّة: كنتُ أنا فريدة ابنة الماشطة سعيدة، اصطحبتُ أمي. لم يخيّل لي من قبل أنّي سأدخل منزل هذه العائلة الوجيهة، وأُمضي ساعات الصباح برفقة هذه العروس التي لطالما سمعت بها، وأمتّع النظر بالفرجة على غرفة نومها التي هي أشبه بغرف الأميرات اللواتي نسمع بهنّ. أمضيتُ ساعات في ذاك المكان الذي يخلب العقل، أتأمل جمال عينيّ تلك المخلوقة، التي رغم جلوسها بين يديّ، تظهر وكأنّها من كائنات الأساطير! وعيناها الزرقاوان، كلّما التفت إلى هذا الصوب أو ذاك تبرقان بشكل غريب! أتأمّل يديها الطريتين وبياض بشرتها الحليبي. يا سبحان الخالق! أمي تقول: "استعجلي يا فريدة. استعجلي". دسستُ أصابعي في خصلات شعرها وأنزلتها على كتفيها العاجيتين. ولفتني، رغم حداثة سنّي، أنها كانت تبتسم ابتسامة غامضة، غريبة! ظننت أن العروس هكذا تبتسم يوم عرسها، فكيف لو كانت من بنات الباشوات؟ ولشدة انفعالي طفر الدمع من عيني. "لا تبكي يا فريدة لا تبكي"، تقول أمي، والدموع  تنهمر غصب عني. أتمنّي لو كنت أنا الأميرة بين يديّ الماشطة. أتمنّي لو كنتُ أنا وردة شاه. وحين خرجنا أخذتُ أشهق. شدّتني أمي إليها وهي تؤنّبني: "ماذا يبكيك يا مجنونة؟ أن نحضر أجمل الأفراح؟ أو أن يعطونا في ساعات ما لا نكسبه في عام؟ انتظري يا فريدة، لم ينته بعدّ كل شيء. في العصارى خلال العرس وبعده سيغدقون العطاء". أمي تردّد هذا فيما أنا أفكر بالابتسامة الغريبة تلك، وأفكر في السرّ الذي تخفيه العروس! وقبل أن أنام، حاولت أن أخبر أمي بذلك، فنهرتني: إياكِ أن تفتحي فمك، قالت، إياك إن تذكري شيئاً".

وقالت فريدة:

"بعد الظهر، عدت مع أمي لتزيّن العروس وتُلبسها وتجلوها. دخلنا هذه المرّة إلى جناحها الخاص. كانت زوجة أخيها الأسبانية قد فَرشَته بأجمل الأثاث والستائر والسجاجيد. المائدة كانت مُعدة بانتظار أن يأتي العروسان بعد الزفاف لتناول العشاء. وفي غرفة نومها نُصب سرير النحاس الذي كان يبرق كالذهب. أما غطاؤه الموّشي بخيوط الحرير والفضّة فلم ترَ عيني مثيلاً له قط! نعم، هذا هو الجناح الذي سيكون مسكن العروس، إلى حين أن يتأكد أخوها من قوام مسلكها وينقلها إلى البيت الذي ورثته عن الباشا. وقفنا أمام الباب مكتومات الأنفاس. وقَالت أمّي "تحضّري يا فريدة. فأمامنا شغل كثير". لما دخلنا، كانت وردة جالسة على الكنبة الشرقية ذات الأصداف العاجية جلسة أميرة ذليلة حزينة. ألقينا عليها السلام فردّت بالإبهام. قلنا السلام عليك يا وردة شاه،  فأجابت: "لا سلام على القادمين إلي أن يُزفّ لبعض وردة وبشارة وكلّ المحبّين".

وقالت فريدة: "كنتُ في العاشرة من عمري، فأمسكتُ بثوب أمي التي، رغم وَجَلها، راحت تمشط العروس. الفتاة لم تقل نعم أم لا. كان شعرها طويلاً طويلاً... وما إن تناولت أمي خصلة منه حتى طارت هذه من بين يديها طيران ريشة في الهواء. أمسكتْ خصلة غيرها فحدث الشيء ذاته. كلّما تناولتْ واحدة جري ما جري لسابقتها حتى أصبح شعرها منقوشاً وكأنّه شعر جنّية، بسم الله الرحمن الرحيم، هبّت من باطن الأرض!".

"وقالت أمي ساعديني يا فريدة لنثبت الطرحة بالدبابيس. حاولت، فغار الدبوس بين خصلات الشعر وسقط. الدبابيس تتساقط وأمي تقول لي، لمّيها عن الأرض. وأنا، رغم خوفي، ألمّها. والدبابيس تتبعثر وأنا ألمّ، حتى أصاب اليأس قلبي، فنهضت. وقالت أمي كفى يا فريدة. وقالت للعروس: كان الله بعونك يا ابنتي. ما أنا سوى عبدة مأمورة وماشطة مأجورة. ماذا تريدين أن أفعل؟ وَبِكل حزم أجابت وردة شاه: "أتركوني أزّين نفسي بنفسي".

"خرجنا. وركضت نحونا زوجة الأخ الأجنبية تسأل. أخبَرَتْها أمي بأنّ العروس أصرّت على أن تلبس وتتزّين بنفسها. فانقبض وجه المرأة، خشية أن تكون القرينة قد عادت توسوس للفتاة وتدفعها للقيام بما يخذل أخاها وعائلته أمام الناس والشيخ. بعض المقرّبين نصحوه بأن يفعل كما سائر الناس، فيكون هو وكيلاً عن أخته في عقد قرانها، لكنّه أبى، وأصرّ على أن يأخذ الشيخ بنفسه وكالتها ويسمعها تجيب بكلمة، "نعم". لم يفهم الحاضرون مغزى الإصرار. العارفون بالأمر قالوا إن الأفندي اتفق مع النسوة على ترتيبات تنقذ الموقف. إذا ما تحرّكت الجنّية ونطقت بدلاً من قرينتها بكلمة "لا"، عندئذ ترتفع الحناجر بالزغاريد، والمنشدات بالأغاني والعازفات بالعزف، ويعلو إيقاع الطبل والدفوف وسائر الآلات، فيختفي وسطها الجواب. والشيخ الذي هو على علم بتفاصيل الحكاية، سيفهم مغزى التدبير، فلا يكرّر سؤاله سبع مرّات، أو حتى ثلاثاً، كما يليق بفتاة من نسل سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بل سيكتفي "بنعم" واحدة، بلا دوشة ولا إحراج".

"لكن العروس لم تقل "لا"، ولا "نعم".

كنتُ أقف مع أمي وراء باب الغرفة، ننتظر منها إشارة لندخل ونأخذها وتبدأ الزفة، ومعنا الفرقة التي تضم أشهر عازفات بيروت. سلاّمة الحلبية وعاتكة الشامية وعازفة العود التركمانية والمنشدات، كلهنّ سيشاركن في زفّ ابنة الباشا إلى الصالونات الواسعة. ويرافقنها وهي تصعد إلى مرتبتها تنتظر الشيخ الذي سيأتي ليعقد القران. هناك كانت المدعوات المتلهّفات للفرجة على العروس، قد بلغ عددهنّ ثلاثمائة سيّدة وأكثر. "أخيراً أعطت وردة الإشارة وهمهمت بالعبارة وشقت الباب. وما إن همّت أمي بالدخول، حتى تراجعت! وفي تراجعها كادت تأخذني بطريقها: "ابتعدي يا فريدة، ابتعدي"، تهمس مذعورة، فابتعدت، إنّما لأرى العروس في مشهد يخلع القلب من الصدر. خارت قواي وكاد يُغمى علي! أميّ تجرأت واقتربت منها،  لكنّ وردة شاه دفشتها: "أتركوا وردة تخرج على الحاضرات كما هي، ليرى الناس كيف تُزف عروس إلى غير محبوبها!".

قالت وهذا ومشت وحدها إلى الدار، ودخلت على المدعوات، لا بالفستان الأبيض الذي تسامعوا به، بل بفستان أسود وعلى رأسها طرحة سوداء من التول منفوشة مثل شوك القنفذ. تتقدّم نحوهنّ بذراعين عاريتين مطليتّين بالفحم، ووجه مدهون بالكحل، وعينين زرقاوين تبرقان في سواد وجهها. بريق رمى الهلع في نفوس المدعوات. فتمسكت الواحدة منهنّ بكتف الأخرى، والعروس بالأسود، تسير بينهنّ، تهمهم بكلام غير مفهوم. وإذ  تأكد لهنّ أن الجملة غير المنطوقة، لا بدّ وأن تكون العبارة الرهيبة ذاتها التي توقع الرعشة في الصدور، والتي تقول فريدة إنّها قد سمعتها بأذنها: "أنا هي الجنية.. أنا هي الجنية، وردة الجورية"، هبّت الحاضرات من أماكنهنّ ولذن بالفرار."

"نعم، انتصرت القرينة على قرينتها كما حذّرتهم من ذلك رضيّة والشيخة أم البدور سعدية. كان هذا هو السبب الذي من أجله أودعت ابنة الباشا المصح. يُقال: أول مصح للمجنونات في لبنان، تابع لدير الراهبات، ساهم سراً  في تمويله، المسلم ذو الأصل التركي، الأفندي نور الدين".

*  *  *  *

في مكان آخر من بيروت، جلس قاضي القضاة المتقاعد عزّت باشا، على شرفة فندقه يرتشف قهوته. "الطعم ذاته الذي تسعي إليه كل يوم! يخذلك أو تنتشي به، إنّما أبداً لا يتكرّر!" راح يدّون بعض الخواطر ويتأمل المدينة بانتظار أن يحين الوقت وتأتي الصبية التي سيحقق معها. حكاية معقّدة بدأت بقصة حبّ وانتهت بحادث يُخشى أن يتخذ منحى خطيراً! مهمّتُه أن يتحقق من صحة ما وَرَد في التقرير الجهنّمي، الذي خطّه سلفه، والذي يعرّض الأفندي نور الدين إسماعيل لتهمتين: الأولى تدمّر سمعته والثانية حياته  ذاتها!

عزّت باشا، حين طُلب إليه القيام بالمهمة رفض. سنوات مضت على تقاعده، كُلّف خلالها بعدد من القضايا الاستثنائية. لكنّه هذه المرّة، ورغم إلحاح الديوان عليه، اعتذر متذرّعاً بالمرض. ولعلّها ليست ذريعة، إذ يشعر حقاً بأنه مريض. يائس ويتمنّى أن يقضي ما بقي له من أعوام متأملاً فصول حياة باتت وراءه. منذ سنوات وهو يأمل بأن يحقق حلم شبابه. يترك سلك القضاء ويتفرّغ للشعر. كان بودّه أن يفعل هذا في مطلع شبابه، لكن والده قرّر بدلاً منه فدرس القضاء. وبعد التقاعد وجد نفسه يعود إلى الشعر. كقارئ على الأقلّ! شأنه شأن غيره، فما الكتّاب سوى قراّء يبتكرون قراءاتهم. وهل هناك وسيلة أخرى لإنقاذ نفسه؟ تلك النفس المنهكة، ما إن تبشّره بالتصالح مع الدنيا حتى تنذره بالقطيعة معها. ما هكذا وعده الزمن، وما خيّل له أن ترميه الشيخوخة بغير السكينة! لكنها خذلته، كما خذله العصر. حرب كونية تهدد أبناء النوع البشري ذاته بأن يكون ضيفاً على الأرض. بأن يتحوّل أبناؤه وقوداً لنيرانها. الشيطان نفسه سيؤول معها إلى الفناء، ولا أحد يعلم ما الذي سيحلّ بعد ذلك. أو يتكهّن بالفاصل الزمني الذي يتطلبه التطّور الطبيعي لترجع الحياة ثانية إلى الكوكب، إذا ما سمحت مشيئة الخالق بذلك، أو كان صاحب نظرية النشوء والارتقاء على حق. إلى أن يحدث ذلك... ستنقرض هذه المدينة كما انقرض غيرها في أتون الحروب. ستتحول معالمها إلى ركام، كما سبق أن تحوّلت  في المكان عينه معالم تحكي بعظمة العصر الروماني.  فما جدوى أن يخرج من هدوء اكتأبه ليفك اشتباكاً بين أطراف سيؤول وإياهم قريباً إلى العدم؟ ليس هو من سيصلح نفوساً أُخذت بشهوة التفوّق. ليس هو من سينقذ الخلافة الإسلامية في طورها الأخير، ولا النوع البشري من شغفه المدمّر. ويزداد يأساً بسماعه بما يجري في بلاد الشام. ما عاد في وسع أحد أن يرأب الصدوع. في الآستانة قدّموا له حجته ذاتها: بعد ازدياد النفور بين العرب والأتراك، يجدر بالسلطة أن تحسب ألف حساب كي لا تستعدي حليف الداخل، فكيف لو كان الحليف من آل إسماعيل، وبريئاً من التهمة؟  هكذا عاد وقرأ خلاصة التقرير، ليصيبه الذهول الذي أصاب الصدارة العظمي: رؤية شيطانية تُلبس الوقائع حقيقة لا تشبه أصحابها. لطالما سمع بهذا الأفندي وعرف بعض زملائه، وقرأ مقالاته عن ترميم الصدوع بين أبناء السلطنة. يا له من حرّ! كان على حق، "لا الجرح التاريخي ولا الشخصي، يساعد على فهم الماضي، أو يحلّ معضلات الحاضر".

*  *  *  *

تأخرت السيدتان في الوصول. والقاضي ملؤه الفضول لأن يقابل "كوجك خانم" تلك، المسلمة التي في عصر لا تجرؤ فيه زوجة على المجاهرة بحبّها لزوجها، هربت لتلحق بحبيب لها من غير دينها! كان يجدر به أن يبدأ التحقيق مع الهاربة تلك، لكن الطبيب نصحه بالتريّث. فالفتاة متعبة. والهواجس، منذ رحيل محبوبها، عادت تسكن روحها. وهي بين هذيان بوقائع تحدث وتخيّلات مستحيلة الحدوث قد تُدخِله في متاهات لا طائل منها. كذا وبانتظار أن يصفو ذهن المريضة، قابل سائر المعنيين بالحادثة: الأفندي، صورة لسليمان القانوني تأخرت في الظهور! والمطران الذي أكد أن لا علاقة للسياسة بما حدث. ووالد القتيل الذي يذنّب نفسه، فابنه هرباً من قسوته، لاذ بحياة الشقاء. وجلال الذي سيفاخر بذراع بُترت حتى آخر يوم من عمره.

وجلنار.

يا لها من امرأة! كان يجدر بها أن تجلس على  سدّة الحكم، كما بعض النساء العظيمات.! والشيخة أم عبد الله التي تلعن الحروب ومخترع الديناميت وكل أدوات الشيطان. صانعها وناقلها والآمر باستخدامها. وابنها عبد الله الذي يحاول إسكاتها: "يا أمي، مخترع الديناميت هذا عالم عظيم يُدعي "نوبل". عبقريته كانت سبّاقة على مقاصده النبيلة. لذا، تكفيراً عن ذنب محتمل يسيء فيه البشر استخدام ما اخترع، أنشأ جائزة بألف من ريالات الذهب لكل...

ـ لكلّ مَن يستخدم الديناميت؟

ـ لا يا  أمي! لمحبي السلام.

رفعت المرأة حاجبيها وهي تسأل: جائزة لمحبي السلام؟! تكفيراً عن اختراعه الديناميت؟!

ـ طبعاً يا أمي.

ـ طبعاً! قالت المرأة وهبّت من مكانها ضاربة كفاً بكف. يا للعجب! إن كان هذا عالماً عظيماً وغيوراً على أهل الدنيا، فلمَ اخترع ما اخترع؟ ولمَ بعد ذلك لم يتراجع عن اختراعه؟

ـ يا أمي، لا يمكنه التراجع. فما وُجد قد وُجد ولا سبيل لإلغائه. مثلما بعد أن نولد يستحيل إلغاؤنا من سجل الحياة.

ـ أسكت يا ولد، أسكت. هذا كلام سفسطة. كُفر. الرب العظيم هو الذي يخلقنا. أما أدوات الحروب فمن صنع الشيطان.

قالت ورفعت يديها تتضرّع:

ـ يا ربّ نجنّا من كلّ شرير. يا ربّ اهد أبناءنا وأحباءنا. يا رب اهد  أعداءنا! يا رب اهد العلماء ولا تتركهم لغواية إبليس.

ثم قابل روزينا.

كلُّ يرى الأمور من زاويته.

الرجل الذي تمقته فتاة إلى حد يدعوه لقتلها، تراه أخرى جديراً بالعبادة. تركع تحت قدميه تتوسل إليه أن لا يتخلّى عنها وإن تزوّج بمن يحبّ. تعده بأن ترعاها له بنفسها. تعطّر جسمها بالطيب وتنقش قدميها بالحناء وتزين شعرها بالورود وتقدمها له. لا لشيء إلاّ  لأنّها تعبده فالمسألة أقوى منها. إن أرسلوه إلى السجن فليرسلوها معه. وإن كانوا سيأمرون بإعدامه فهي على استعداد لأن ترافقه إلى حبل المشنقة.

في المقابلة الثانية جاءته روزينا بآراء فلسفية! تقول، لا خلاص للروح سوى بذاك الشعور الكوني. الأونيفرسيل. الذي ما من محظوظ في الدنيا إلاّ يختبر لوعته ولو مرّة واحدة في العمر: الحب!

 قد تكون على حق. فما الحادثة التي يحقق بها سوى حادثة حبّ، يحاول بعضهم إعطاءها تفسيراً آخر. حبّ نازلي حفيدها وحبّ هذا خطيبته وحب روزينا رشاد وحبّ الأفندي أخته وحبّ هذه بشارة. وجلنار أيضاً حدثته بالحبّ: "يرفعك إلى أعالي النجوم أو يرميك إلى أسفل السافلين. يهزّ العروش ويكلّل بتاجه ابنة الحطّاب. والحبّ الذي فاض في قلب الباشا في تلك اللحظة هو الذي حرّر عبدتك جلنار. لكن لا مشيئة فوق مشيئة الله. لو كان في وسع الحبّ إنقاذ ابن آدم، لكان حبّ بوران وردة شاه، ردّ عن وحيدة أمها
ملاك الموت".

وبعد أيام ستأتيه ابنة الباشا تلك، بكلام شعري كتبته وآخر حفظته، يتحدث بالحبّ: "كل الطاقة الروحية التي وهبني إياها الخالق تسيّرني إلى جنّة قدري". عجباً لأبناء هذه الدنيا! أينما كانوا يتلهّفون على ما يوحّد الضد والضد، فلمَ يتقاتلون إذن؟ لمَ لا يعقدون صلحاً أبدياً يلغي الحروب؟ أو يحرّمون القتل مرّة واحدة وإلى الأبد، كما حرّموا أكل لحم البشر؟ كما حرّموا زواج الأب من ابنته والأخت من أخيها؟ يا لهذا المخلوق الذكي كم هو أحمق! يلزمه ملايين أخرى من سنين الفتك، مئات الملايين الأخرى من ضحايا النوع الراقي ليكتشف ما من شأنه أن يميّزه مرّة واحدة من سائر الأنواع!

*  *  *  *

قطع الحارس على عزت باشا تأملاته حين طرق عليه الباب ليعلمه بوصول الزائرتين. ودخلت المجني عليها مع أختها. شابة صغيرة، لعلّها أُخذت هي أيضاً بوعود الزمن الجميل. جلوسها أمامه الآن يبدو له من ضروب الخيال! سبق أن حقق مع آلاف المتهمين والمجني عليهم، لكن مهمته هذه المرّة لا تشبه سابقاتها، ورغم استعداده يجد صعوبة في أن يبدأ.

كيف يبدأ؟ يهنّئ "الخانم" بسلامتها وبالسؤال التقليدي عن حالها. ويسألها رأيها بما حصل. حسناً! لقد فعل! وهو الآن يبحث عن أسئلة أخرى أكثر دقة، فتسبقه هي إلى القول أنّها في موقف حرج.

طبعاً!

وأختها التي تجلس بجانبها ممسكة بيدها تهزّ رأسها تأكيداً على ذلك، وهو يوافق: "طبعاً أقدّر موقفك يا خانم!" وتضيف هي غير آبهة لتعليقه، أنّ عمتها نازلي تريد منها  أن تزعم مالا ترغب هي به. تريدها أن تلفق كذبة!

ـ وَلَم الكذب يا خانم؟

ـ لمساعدة رشاد.

من ناحيتها، لا مانع لديها على الرغم مما حصل. لكن، كيف ستزعم أنها أحبتّه، وَروحها متّيمة ببشارة؟!

ـ ولم طَلَبتْ منك صاحبة العصمة هذا يا خانم؟

ـ كي لا تعلّقوا حفيدها على حبّل المشنقة كما سبق وعلّقتم أبن خالي شوقي، وفيليب وفريد الخازن، و...

وكاد يقاطعها بالقول: "أنا يا آنسة لا علاقة لي بتلك القصة". لكنّه  لم تمنحه الفرصة، فهي تستعطفه بألاّ يفعل:

ـ أرجوكم لا تشنقوه. أرجوكم، إن كنتم لا تشفقون عليه فأشفقوا علي. إن أنتم أعدمتموه فأعلموا أنّكم تعدمون بعضاً مني.

وكاد عزت باشا يقول: "القاضي الذي هو أمامك يا خانم لم يرسل أحداً في حياته إلى المشنقة. لذا أحالوه على تقاعد مبكر. قالوا لا ينفع من لا يملك الشجاعة. لا يسألون ما هي الشجاعة! القاضي هذا مثلك يا خانم، روحه تمقت تلك الآلة المتوحشة، وتمقت مستخدميها والآمرين بذلك. لو كانت مقاليد الأمر والنهي طوع يده لأبطلها مرّة واحدة وإلى الأبد. لمحا اسمها من ذاكرة الناس. نعم". والصبية تؤكد أنها تغفر لرشاد كلّ شيء ما عدا تلك المسألة.

ـ محاولة قتلك بالطبع.

ـ لا، بل شتمه نساء التركمان. شتائم بذيئة لا يسعها تكرارها، ولا حتى كتابتها. شتائم لا ينطق بها سوى السفلة، لم يوفر بها أياً من سلالة التركمان من قديم الزمان حتى اليوم. إن غفرتُ، يا حضرة القاضي، فمن يؤكّد أن بوران ستغفر؟

ـ ومَن هي بوران، يا خانم؟

ـ بوران هي أمي.

ـ وهل يمكنني مقابلتها؟

اتسعت عينا الأخت للسؤال وعلا حاجباها فيما الشابة تجيب: لا يا حضرة القاضي، فأنا نفسي لا أستطيع. بوران ليست هنا. إنها في مكان بعيد عن الذي نحن فيه. بعيداً جداً وأجمل منه بما لا يقاس.

*  *  *  *

بعد أيام، جاءت  الأختان لمواصلة التحقيق بصحبة سيّدة مُسنّة. جدّة تتلهف على إنقاذ حفيدها، تقدمت منه وقالت: ابنة سليم باشا، تتوسل إليكم أن ترحموا حفيدها، فهو ليس من طينة المجرمين. رشاد قال ما قال، وفعل ما فعل تحت وطأة الصدمة. كانت تلك ساعة شيطان!

ـ أنهضي يا خانم، أرجوك.

تراجعت المرأة والتفتت إلى وردة تسألها ما الذي تطلبه من رشاد لتصفح عنه؟

ـ الاعتذار عن شتائمه.

ـ يا حبيبتي وردة، رشاد الآن هارب ولا نعرف مكانه. كتب لك رسالة اعتذار عما فعل وغابت عن باله مسألة الشتائم.

ـ نعم، لكن المطلوب رسالة أخرى تؤكد أنّ كاتب الرسالة الأولى هو رشاد.

 تدخل القاضي ليضع حداً للجدال، فألقى على الشابة السؤال الذي أصفرّ له وجه العمّة وألقى الرعب في قلب الأخت:

- وموقف نور الدين أفندي، يا خانم؟ هل شجع رشاد...

ـ بالطبع يا حضرة القاضي شجّعه. وكاميليا، والكل أيضاً شجعوه، حتى أختي ملك أيضاً كانت موافقة. وحين أصرّوا علي موقفهم هربت.

ـ عمّ تتحدثين يا آنسة؟

ـ عن هربي إلى بيت بشارة. ألم تعلم به؟

ـ علمت. لكن أخبريني، بما جرى بعد ذلك؟

ـ أعادوني وحبسوني.

ـ وهل ضايقوك؟

ـ طبعاً. صارت النسوة يتلصصن علي. لكن كاميليا إنسانه طيّبة، صارت تأتيني بمذكراتها، التي اختلستُها في الماضي منها، فعلتْ هذا لتروّح عني، لولا ذلك لمتُ من الضجر. الدفاتر هذه...

وقاطعتها أختها بالقول: وردة... هذه مسائل خاصة. عيب! سأزعل منك لو عدت إلى ذكرها.

ملّس القاضي على شاربيه وذقنه فيما هو يتأمل الفتاة متردّداً في الحكم عليها، ووجد نفسه يسألها:

ـ وماذا عن سائر السيدات يا آنسة؟ كيف بعد...

ـ بعد الحادثة، صرن يتمنين موت وردة شاه! كلّهنّ ما عدا ملك وكاميليا، صرن يتمنّين موتي.

ـ وكيف عرفت بذلك؟

ـ كيف عرفت؟

- العيون يا حضرة القاضي... العيون تفضح ما يخبئه اللسان.

 من ناحيتي أغفر لهنّ هذا الحقد فما واحدة منهّن عرفت الحبّ!

ـ ومن منهّن يا خانم كَرهتك أكثر من غيرها؟

ـ عمّتي نازلي، هذه الجالسة أمامك. كانت تتمنّى ألف مرّة أن ترى وردة شاه  ميتّة  قبل أن تهجر حفيدها.

ـ غير صحيح يا حبيبتي. قالت العمة. لا أحد يكرهها يا حضرة القاضي! إنّها واهمة.

ـ اتركيها تحكي يا خانم. أكملي يا آنسة، وهل حاولت عمّتك أو غيرها أذيتك؟ أقصد...

ـ طبعاً! كاميليا صارت تجبرني على شرب زيت السمك. أرجوك كلّمها يا حضرة القاضي.

ـ وهل في هذا الزيت ما يضرّ؟ أقصد...

ـ طبعاً. رائحته، يا إلهي... تجعلني أتقيأ، فأُضطر للذهاب إلى الحمام، وتلحق بي عجائز البيت بأسئلة غريبة. يخجلني يا حضرة القاضي أن أخبرك بالأسئلة التي يلقينها علي.

ـ يا خانم، أرجو منك إجابتي عن سؤال محدّد. هل حاولتْ إحدى سيدات البيت أذيتك بالمعني المعروف؟

ـ المعروف؟

ـ نعم مثل أن تسمّم طعامك أو...؟

عند سماعها السؤال، بان الاستهجان على وجه وردة. وبالاستهجان ذاته سألت:

ـ تسمّم طعامي؟! ومن منهنّ تجرؤ على ذلك؟

ـ ومم يخفن؟

ـ من نور الدين طبعاً! يبدو أنك يا حضرة القاضي لا تعرف من هو أخي نور الدين!

ـ إذن، كيف أبرّر للآستانة، ما ذكرت في المستشفى عن تورطه بـ...؟

- في المستشفى؟ آه... تلك كانت هلوسات. هلوسات المرض. يا إلهي حين تعصف بالرّوح، حين تتغلغل في خلايا الدماغ... أرجوك يا حضرة القاضي لا تذكّرني بها. أرجوك قلّ لهم في الآستانة أن لا شيء في الدنيا يجعل نور الدين يؤذي أخته وردة.

في المقابلة الأخيرة قالت المجني عليها : أخي نور الدين، يا حضرة القاضي، وجد الحلّ. عزمي إسماعيل في المنام، أوصاه أن يعلن بشارة إسلامه، وينطق بالشهادة فيصبح حلالاً أن أتزوجه. بشارة من ناحيته لا يمانع. فكل الأديان برأيه واحدة. كلها تسعي لصلاح البشر.

ـ فعلاً.

ـ وأخي استجاب لمشورة أبينا ووعدني... كما، رافقني بنفسه لوداع بشارة.

وبدأ للقاضي أن الخانم الكبرى غير راضية عن كلام أختها. ترفع حاجبيها استنكاراً. تقوم بإشارات لتفهمه أنّ كلاماً مثل هذا من ابتكار الخيال. وتقول، أختي يا حضرة القاضي....

ـ لا همّ يا خانم، دعيها تحكي. اطمئني، لن أكتب هذا في التقرير.

"نعم دعيها، فلكم في الملمات يشبه المرضى الأصحاء. ويقترب العقلاء من المجانين. هنا وهناك الأمر ذاته. الشيء الوحيد الذي يمنح السكنية لبني البشر، أو يشتت أرواحهم، هو ما حكت عنه روزينا. ما همّ إن كان هذا "الكوني" من بيّنات الواقع أم من ضروب الوهم، ولا إن خرجت أختها بالفعل، بصحبة أخيها لوداع حبيبها. ولوّحت له بكفها، كما فعلت حبيبات أخريات، شقيقات وأمهات، يفارقن فلذات أكباد قد لا يرينهم ثانية. يبكين الفقدان الذي تبكيه الشابة الآن فيما تصف مشهداً يتكرر كل يوم: شبان رائعون يسيرون في طابورين، أحدهما يتجه إلى الآستانة والآخر إلى باريس. ..وفيما هي تنتحب تتساءل، لم يصنعون الحرب؟ لا بدّ أنك يا حضرة القاضي تعرف أشياء كثيرة. قل لي إذن لم يصنعون الحروب؟

تسأله هذا فيما تلقي عليه نظرات سيلزمه دهر لنسيانها. "في هذه المسألة يا خانم من الصعب أن أفيدك بشيء".

وبرفق أبوي قال:

ـ انهضي يا خانم. عودي إلى البيت. فقد أنجزنا التحقيق.

*  *  *  *

بعد خروج المجني عليه، تناول عزت باشا ورقة وراح يحرر برقية إلى الباب العالي.

صاحب الدولة والفخامة،

بالنسبة إلى المسألة التي كُلفت بها:

الخانم وردة شاه عزمي إسماعيل باشا، هي فتاة وُلدت لزمن غير زمنها. أحبّت أستاذها حباً صوفياً، جعل بينها وبين الحلاج والمعرّي وعمر الخيام...

دَوّن عزّت باشا هذين السطرين ثم مزق الورقة، وراح يكتب غيرها:

صاحب الدولة والفخامة،

بالنسبة إلى القضية التي كُلفتُ بها، محاولة قتل الخانم وردة شاه إسماعيل والهجوم المسلّح على الأشرفية  الوقائع التي وردت في التقرير السابق كلّها صحيحة، التفسيرات والتعليلات كلّها خاطئة ومشوّهة. الحادثتان وتبعاتهما هي فقط فصول حكاية حبّ بين شابة مسلمة وشاب مسيحي القصة أدّت إلى جريمة عاطفية كانت تستهدف المجني عليها وإلى هجوم مسلح ضدّ منزل المدرّس في الأشرفية  ولا علاقة للحادثة بالسياسة الأفندي نور الدين بريء بالإجماع قف. انتظروا تقريرنا المفصل مع كل الاحترام والأمر والإرادة لحضرة من له الأمر قف القاضي المكلف عزت باشا".

*  *  *  *

أميرة أسبانية وكابتن فرنسي
في الطابق العلوي، من أحد أديرة الجبل، ترقد  في السرير فتاة ذات شعر كستنائي وعينين زرقاوين وجمال منهك وملابس نوم أميرة. وبين الصحو والإغماء تهلوس بما لا يدع مجالاً للشك في الحكاية التي ترويها "الأخت إليزابيت" لمن حولها، بمن فيهم الطبيب الذي يتردّد على الدير لمعاينة المريضة:

"في إحدى مناطق أرمينيا حيث تجري المذابح، وعلي ضفاف نهر آراكس، اختارت عائلة من النبلاء الأسبان العيش. ولسوء حظّها، مرتّ بها إحدى المجموعات المهاجمة، فلمح قائدها من النافذة أيقونات للسيدة العذراء والمسيح مصلوباً، فأمر بمهاجمة المنزل وإحراقه. والفتاة التي جاء بها أحد الوجهاء الأتراك راجياً الدير أن يؤويها، لا تزال تحت وقع الصدمة، عاجزة عن استعادة ما جرى، أو سرد حكاية متماسكة. جلّ ما تتذكره، ألسنة النار تلتهم البيت. أما المصير الذي انتهي ذووها إليه فلا علم لها به. لعلهم هربوا مع مَن هرب وتشتتوا في البلاد. أو  لعل النيران داهمتهم وتفحموا في الداخل. أو لعلّهم، كما حدث لكثير غيرهم، قد ذُبحوا وسالت دماؤهم في النهر الذي يقال إنّ ضفافه بقيت أسابيع مخضّبة بالأحمر.

المنقذ الكريم الذي جاء بالفتاة إلى الدير، ترك لها مبلغاً من المال، هو، كما قال، مستحقات عليه لأعمال تجارية كانت له مع والدها. ورجا الريّسة أن تعتني بالفتاة المتعبة، إلى أن يعثروا على أحد من عائلتها. الأمر الوحيد الموثوق به، الذي تذكره الفتاة هو اسمها واسم الرجل الذي خبأها مع آخرين من الأرمن ممن لجأوا إليه.  وكذلك، آثار رصاص في فخذها يجعلها في سيرها تتمايل تمايل مغناج.

وما يزيد الرواية اضطراباً أنّ الغارقة في عرق الحمّي، كانت تهذي بحادثة أخرى، تتقاطع مع تلك. وشأن تلك كادت أيضاً تؤدي بحياتها. لكنّ المُنقذ في هذه الحكاية، شاب شهم غير الكهل التركي ذي القلب الرحيم:

"وجدت نفسها في النهر مع مئات من المستغيثين، يغالبون المياه عالية الموج، والنهر كبير مثل بحر وكثير الطحالب. فروع الأشجار الممتدة ما بين السطح والأعماق تعترض تقدّمها. الكلّ بطريقته يقاوم، وهي أيضاً، وخوفها على أشدّه أن يلتف شعرها الطويل حول الأغصان وتخسر آخر فرصة لها بالنجاة. الموج يعلو وينخفض والتيار يشدّها وهي معه تنهض وتغوص. وفي لحظة التلاشي، تناهى من عمق أعماق الدوامة إلى مسمعها صوتُ يناديها: يا أختي، يا توأم روحي، انتظريني فأنا قادم إليك. عند  سماعها الرجاء بدأت تقاوم. فراحت تحاول أن تسبح كما علّمها في صغرها أخُ لها بالرضاعة، ترفع رأسها فوق الماء تأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعيدها التيار إلى أسفل القاع. كانت على حافة الإغماء حين أحست بيد قوية تمسكها بشعرها وتنتشلها. وتراءى لها المنقذ، طويل القامة عريض الكتفين ذا شارب رفيع. وضعها على كتفه وراح يسبح بها حتى أوصلها إلى الضفة. هناك على العشب أجلسها وجلس بجانبها. خلع سترته ووضعها علي كتفيها وهو يقول: لا تخافي يا أختي. لن يلحق بك أذى ما دمتُ على قيد الحياة.

كلامه العذب، أدخل الطمأنينة إلي قلبها. وَوَجدت نفسها تخلد إلي النوم، ولما صحت لم تجده. السترة التي تركها على كتفيها هي الأثر الوحيد الذي يشير إلى هويته. إنّها سترة قبطان. لكن ما علاقة القبطان هذا بالمنقذ الكريم؟  لا تدري.

بعد ذلك أتت إلى الدير زائرة أجنبية طويلة أنيقة تطلب رؤية قريبتها، ازداد الحاضرون ثقة بما تقوله الأخت إليزابيت. فقد رأوا بأم العين، السيدة الغريبة تحتضن الفتاة الناجية وتبكي. وتحكيان أشياء بلغة غريبة تشبه الفرنسية  لكن لا أحد يفهمها سوى إليزابيت.

*  *  *  *

في تلك الفترة، كان الطبيب يزور الفتاة يومياً. يكلّمها بالفرنسية التي لا تعرف منها سوى القليل فتجيبه بالإسبانية وتقوم الأخت بمهمّة الترجمة. يعطيها العلاجات والإرشادات، ثم ينصرف. لم يخطر للراهبة أن الترجمات التي قامت بها فوق سرير المريضة، بين اللغتين اللاّتينيتين، ستؤتي ثمارها، وأنّ المريضة حين ستنهض من هلوساتها بعد شهور، ستضيف الفرنسية إلى اللّغات الأخرى التي تلم بها.

الرجاء الوحيد الذي طلبته المضيفة من ضيفتها أن لا تتحدّث بالعربية أمام الآخرين. بالنسبة للتركية فلا بأس. كان يمكن لإليزايت أن تعفي نفسها من ذاك الطلب، فالمريضة التي ترفض مقابلة أحد تبدو غير راغبة في الكلام مهما كانت لغته. وفي ما عدا بعض الإشارات والعبارات التي تتبادلها لماماً وإياها، والتي تختلط فيها لغات كثيرة، كانت تمضي يومها نائمة أو ساهمة. تسترجع أحداثاً ومشاهد وأصواتاً، كلّها باعثة على الألم. مشهد وحيد، في ومضات الوعي، يبعث في روحها التفاؤل، ويجعلها تتساءل: أين سبق لها أن رأت وجه هذه المخلوقة التي تُدعى الأخت إليزابيت؟ إن كان خيالها المتعب يصوّر لها أموراً مشوّشة، وغير قابلة للتصديق، فومضات الوعي تُحضر لها من الذاكرة وقائع، لا ريب في حدوثها. لكن أين ومتى؟

ويخطر لها شيئاً أن تسأل الراهبة، إنما تعوزها الطاقة علي الكلام. تسألها هل تعرف شيئاً عن فتاة صغيرة، ذات جدائل، تراءت في مشهد لا هو بحلم ولا بواقع ولا شاهد عليه في دار آل إسماعيل سوى فتاة أخرى:

"إنهم يضربون الباب. والعم سليمان تأخّر في فتحه. الدنيا ظلام، وهي غافلت رضية ومحمود، وتركتهما غارقْين في النوم، شقت باب الغرقة ووقفت تتفرج. هناك في مدخل البيت رجل ظنتّه للوهلة الأولى نور الدين، لكنّه غريب. الرجل يدنو من العم سليمان ويهمس في أذنه شيئاً. وقبل أن يفسح له سليمان الدرب دفع هو الباب بنفسه ونفذ إلى الدار! الزائر الليلي لم يكن بمفرده. كان يمسك بيد فتاة مرقت هي أيضاً بسرعة. اضطرب العم سليمان، وراح إلى نور الدين الذي كان يقف عند مطلع الدرج و همس في أذنه شيئاً. ونور الدين هرول إلى المدخل لملاقاة الزائر مرحّباً به. نعم، صافحه، أمسكه بذراعه وداعب شعر الصغيرة، ثم مدّ كفّه راجياً منه الدخول. وفي ظلمة الليل رأته يرافق الزائريْن إلى الطابق العلوي. وإذ خافت أن يكتشف أخوها تلصصها، توارت في الغرفة وراحت إلى سريرها مأخوذة بما رأت!".

وفي اليوم التالي أمضت الوقت في البحث. تصعد إلى فوق وتنزل وتتأمل وجه رضيّة لتكتشف إن كانت هذه كعادتها تخبّئ شيئاً.

لكن لا يبدو عليها أنّها تخبّئ أيَّ شيء!

أياماً قضتها بين مكذّب منام ومصدّق يقظة، إلى أن لمحت الفتاة ثانية. أخبرت مربيتها بذلك وصارت تتفاوض معها لتبحثا معاً عن جنّية صغيرة ذات جدائل طويلة، لكن رضيّة تقاوم. أنت واهمة يا حبيبتي. هذه رؤيا. فللنهار منامات كاذبة مثل الليل.

وبعد أيام، حدث ما يقطع الشك باليقين! فالفتاة ذات الجدائل تراءت لها هاربة بين الغرف قبل أن تسرع وتتوارى خلف الباب! طوال سنوات ستبقي هذه رفيقة لها في الخيال، محرومةً من التفكير بها، فكيف لو طالبتْ باللعب معها؟ إنّها شبيهة هذه التي تقف قبالتها الآن تبتسم. نعم، شبيهتها، بقدر ما يشبه الكبار صورهم وهم أطفال!

منذ أن دخلت الراهبة عليها، في منزل أخيها، تقنعها بأن تأتي معها إلى جناح للمرضي في الدير، ورغم التشوّش، راودها إحساس غريب بالإلفة. سبق أن رأت هذا الوجه! من مكان ما من كوإليس ذاكرتها المُرهقة تخرج شبيهة هذه المخلوقة التي تعرض عليها ما سبق أن عَرضتْه على نور الدين.

ـ تعالي آخذك معي؟ قالت،

ـ  إلي أين؟

ـ إلى الدير.

ـ وماذا في الدير؟

ـ جناح خاص بالمتعبين.

ـ وهل أنا مجنونة؟

ـ لا يا عزيزتي، لست مجنونة، بل متعبة. النفس حين تيأس من البشر تعوزها مشيئة الرّب. وحده يرعى حيث
لا ينفع علاج.

ـ لكني خائفة.

ـ لا تخافي. كاميليا ستأتي معنا، وإن لم تعجبك الإقامة يمكنك العودة معها.

لم ترجع!

كاميليا وحدها عادت إلى البيت، تاركة أخت زوجها في رعاية راهبة تودّدت كثيراً لتفي دَيْناً عظيماً لنور الدين، لا يضاهيه سوى الدَّين الذي على ابن آدم تجاه من وهبه الحياة. وسوى النذر الذي وفته الراهبة بدخولها الدير، والذي أخذته على نفسها آنذاك: إن تحققت المعجزة ووصل أبوها بطرس الفاضل سالماً إلى المكان المنشود، فستكرّس حياتها لخدمة الرب والمظلومين. دخلته في الرابعة عشرة تلميذة. ومن ثم رُسِمت راهبة، لتغدو بعد سنوات، أوّل ريّسة دير لبنانية في بلاد الشام.

*  *  *  *

ـ انهضي يا عزيزتي، تقول الراهبة لرفيقة الطفولة التي حُرمت طويلاً من يقين لقائها. وبصوت شديد الوَهن تجيب المريضة:

ـ لا أستطيع. بشارة في طريقه إلى الجبهة. السفر شاق. الثلوج تغمر الأرض. لعلّهم في جبال الألب. سيسيرون مسافات، يهبطون ودياناً ويصعدون مرتفعات قبل أن يصلوا. ماذا لو أحرق وهج الشمس عينيه؟ في أيّ الفصول نحن؟

ـ أواخر الشتاء.

ـ الصقيع يقتل الدببة فكيف سيصمد؟

ـ صلّي له. أنا أفعل كل يوم وأضيء له الشموع.

ـ وأنا أيضاً أصلّي في قلبي. كل الصلوات التي أعرفها. كلّ الصلوات التي علّمتني إياها أختي صافيناز.

ـ حسناً! ماذا لو نهضتِ لتصلَّي بالفعل مثلما علّمتك صافيناز؟ هل أحضر لك سجادة الصلاة؟

ـ أحضريها ولك الشكر يا أخت إليزابيت.

ـ عليك أن تتوضّئي أليس كذلك؟

ـ طبعاً.

ـ سأساعدك.

ـ أنا اليوم منهكة. غداً أصلّي. أو ربما بعد غد.

*  *  *  *

أَسمع أصوات استغاثة، تقول المريضة للراهبة. أصوات نساء ورجال. وأصوات أطفال. هل ما أسمعه من هلوسات المرض؟

ـ لا.

ـ ولمَ يستغيث الناس؟

ـ يطلبون المساعدة.

ـ أيّ نوع من المساعدة يطلبون؟

ـ يريدون طعاماً.

ـ طعاماً ؟

ـ نعم.

ـ جياع ولا أحد يطعمهم؟

ـ البعض  يفعل ما في وسعه.

ـ لم لا يطعمهم الدير؟

ـ ليس لدي الدير ما يكفي. نتناول وجبة واحدة في اليوم لنوفّر ما نستطيع توفيره. وكذلك يفعل مؤمنون غيرنا.

ـ ما الذي يجري يا أخت إليزابيت؟

ـ إنّها الحرب. الجراد يلتهم الزرع. لا قمح في البلاد،
لا حبوب، لا خضار، لا فاكهة. ما يأتي من الخارج قليل ويتأخر في الوصول. وإن وصل فثمنه باهظ.

ـ وماذا عن مزارع آل إسماعيل؟ هل سمعت شيئاً من هناك يا أختي؟

ـ لا لم أسمع.

ـ أسألوا نور الدين. أطلبوا منه المساعدة.

ـ طلبنا ولم يبخل. هنا وهناك، لم يبخل المؤمنون. لكن أعداد الجياع تزداد. والمرضى أيضاً. 

ـ والأطفال؟

ـ مثل الكبار.

ـ ستوزّعون عليهم الطعام والدواء؟

ـ قدر ما نستطيع. انهضي. هل تريدين مساعدتنا؟

ـ طبعاً.

*  *  *  *

ـ أخت إليزابيت أنت هنا؟

ـ نعم.

ـ أقفلي النوافذ أرجوك.

ـ إنها مقفلة.

ـ لكن أصوات الاستغاثة تصل.

ـ نعم يا حبيبتي .

ـ مدي يدك أمسكها.

ـ الله يمد يده للجميع.

ـ الأعداد تزداد؟

ـ نعم للأسف!

ـ ماذا ستفعلون؟

ـ يُقال ستصل إعانات.

ـ متى؟

ـ قريباً. إعانات من فلسطين . من البقاع ومن بيروت. الناس في كلّ مكان يحاولون جلبها. سيأتون بها حتى من مصر. أو من بلدان أبعد. من أمريكا.

ـ حسناً، وهل أرسل نور الدين المال الذي وعد به؟

ـ نعم. وقال سيرسل مثيله كلّ فصل.

ـ خذي المال يا أخت إليزابيت واشتري به ما يحتاجه المساكين. خذي المال كلّه، فلا حاجة لي به.

ـ كيف لا وأنت مريضة ونحن في حرب؟

ـ لكن نور الدين وعد...

ـ حسناً، سآخذ بعضه يا عزيزتي. أمدّ الله بعمر نور الدين. هذه ليست أول مرة يُنقذ فيها من الموت من جارت عليه الدنّيا.

*  *  *  *

ـ يا عزيزتي وردة، هل تنهضين؟

ـ ليس الآن. العاصفة تنثر الثلج، تحجب الرؤية عن الماضين إلى خط القتال. أراهم يسندونه وهو يلقي برأسه إلى كتف زميله وخيوط دمه تنساب فوق الجليد.  عليهم الاستعجال كي يصلوا قبل فوات الأوان.  أخشى أن يضلّوا الدرب. قولي يا أخت إليزابيت، لمَ يذهب الشبان إلى الحروب؟!

ـ صلّي لهم. صلّي. لعّلهم وصلوا إلى حيث يقصدون، بأمان.

ـ أين هو الأمان يا أخت إليزابيت؟

*  *  *  *

كان بشارة قد قطع المسافات التي، في حمي الهذيان، عبرت خيال محبوبته. مشى طويلاً مع رفاقه قبل أن يستقلوا القطار، وقوفاً لساعات طوال، ينزلون في محطات ويصعدون في أخرى، يواصلون بعدها السير، في غابات موحشة وأراض خالية، ووديان سحيقة، وجبال جرداء وأخرى تغطيها غابات خضراء سوداء أو تتراكم عليها الثلوج. بعض الجنود سيموت من البرد وبعضهم الآخر يصل. يقاتل. يَقتل أو يُقتل. يأمل العودة إلى ذويه أو يبقى مجهول المصير. ومن بين هؤلاء حبيبها بشارة.

كان قد غادر المدينة سراً بلا الموكب الذي تراءى لوردة. ولا الوداع المؤثر المجيد الذي يمشي فيه الذاهبون إلى جبهات القتال، رافعي الرؤوس، من ساحات بلداتهم إلى الثُّكنات. تسلّل من البيت خلسةً وركب الباخرة التي كان عليه أن يركبها، منذ شهور، مع وردة عزمي إسماعيل، ووصل إلى المدينة ذاتها التي كان سيصلان إليها، مرسيليا، إنّما ليدخل الجيش الفرنسي باسم مستعار.

قبل وداعه المدينة عرّج على بيت محبوبته.

كان ذلك بعد منتصف الليل، وسكان المنازل غارقون في النوم. نزل بطقمه الجديد الذي اشترته له أمه والذي لن يلبسه ثانية خلال السنوات القادمة. تسلق السور وانزلق على الحائط، وتسلل نحو الغرفة التي تسكنها حبيبته ودسّ الرسالة في شق النافذة. في الداخل سمعت وردة خشخشة ظنّتها نقر حمام على الزجاج. لكن ما هكذا ينقر الحمام! حفيف أقدام على أرض الحديقة ينبئ بوجود من يمشي عليها! ماذا لو كان هو ؟ إنّه هو وهذا وقع أقدامه!

من الشق رأته يتسلق السور عائداً فخافت أن يقع. لكنها سمعت قفزة على الأرض من الناحية الأخرى وعرفت أنه وصل ومشى. تناولت الورقة وراحت تقرأ  القصيدة  التي تحكي بلسان حاله وحالها.

*  *  *  *

نصرة، التي لم تجرؤ على اصطحاب ابنها إلى المرفأ، وحدها كانت تعلم بسفره. وضعت له "الكلبك" في الكيس الذي سيحمله بيده كي لا يفاجئه البرد في الباخرة ويصيبه بالنزلة الصدرية وهو في طريقه إلى باريس، مدينة العلم والنور كما قال، لمتابعة الدراسة العليا التي يحلم بها. ونصحته أمّه، في ما نصحته، أن يضع جريدة تحت كثرة الصوف التي لا شيء مثل ورقها يحمي الصدر، إذا ما اشتدّ الصقيع. كانت قد جمعت له بعض الأعداد التي اشتراها شكر الله هذا العام. وسهرت ليالي تحوك له شالات الصوف، وكرّت كنزتين قديمتين من كنزات أبيه لتنسج من خيوطها واحدة سميكة، وباعت سوارها الوحيد وقرطيها الفلمنك واشترت له بثمنها سراويل داخلية وصداري وطقماً من الجوخ الإنكليزي. كانت تعمل ليل نهار خفية عن زوجها. فإذا ما باغتها خبّأت ما بيدها تحت الكنبة. وكادت الملعونة "نرجس" أن تفضحها حين تسلّلت كعادتها ودفعت بكرة الصوف من مخبئها وراحت تضربها بمخالبها وتقفز! وأسرعت هي إلى إنقاذ الموقف زاعمة  لزوجها بأن الجارة "وداد العمّورية" نسيت "أشغالها" هنا. وأخفت عنه أنّها توضب لدى الجارة  بعض المأكولات التي ستعوّض لابنها عن الأطباق الطازجة: القورما بالدهن مع الكشك للشتاء. لبنة الماعز المجفّفة. الزعتر الذي يقوّي الذاكرة ويساعد على حفظ المعلومات الكثيرة التي يتطلبها العلم العالي. زهورات اللويزة والبابونج للوقاية من نزلات البرد وعلاج السعال.

في تلك الفترة، كَذَبتْ نصرة كثيراً على زوجها شكر الله والرّب الرّحيم سيغفر. خاصة وأنّ بشارة هو الذي استحلفها أن تزعم جهلها بسفره "وتُفاجأ" برسالة الوداع التي تركها لوالده تحت المخدّة. وفيها طلب منه الرّضي والبركة متمنّياً أن يلتقيا، لا يعلم بعد كم من الوقت. فالعلم بحر يمكنك أن تغرف منه ما استطعت. لكنّه، إن شاء الله، سيعود.

لا يدري متى.

فالذاهب إلى الحرب مفقود والعائد منها مولود. إذا كُتب له البقاء وعاد فسيطلب المغفرة من أبيه. يقبّل يده ويعتذر عما اضطُر للقيام بذلك. وإن لم يُكتب له فسيغدو في عداد شهداء أبوا ظلم الدنّيا. ماذا بقي له بعد خسارته حبيبته. ورفض الأب حنين مناولته القربان المقدس، سوى التماس ذاك الشرف وتكريس حياته لنصرة الحرية والعدل؟ إن عاد فسيحمل ثانية دعوة طانيوس شاهين حتى وإن لقي المصير نفسه! وإن لم يرجع فليعلم الناس بحقيقة أفكاره: التغيّرات العظيمة التي حدثت في فرنسا لابدّ أن تعمّ الأرض. لا بدّ وأن تنزع الغلالات عن العقول، والتسلّط من النفوس. تسلّط البابوات والسلاطين والباشوات وكلّ من يّدعي حق التحكّم الإلهي أو الدنيوي على الأرض. نعم، ستُقلع جذور الغطرسة مرّة واحدة وإلي الأبد ويبدأ العصر الجديد الذي دعا له فلاسفه عظماء: عصر التنوير.

أمضي وقتاً في تدبيج الرسالة. وبدأها بالعبارة التي ستُدخل الرضى إلى نفس أبيه. "سيّدي الوالد حفظك الرب رأساً للعائلة. أقبل يديك الطاهرتين وأدعو الله أن تتسلّم كتابي وأنت وسيدّتي الوالدة في أتمّ الصحة".

وسار في رسالته خطوات، الواحدة منها تمهّد للأخرى، وعرّج على أحداث مضت وأخرى ممكنة الحدوث.  وفي خاتمة الرسالة أوصى بشارة أباه أن يهتم بنفسه. وبأمه، وأن يغفر لأبنه كلّ خطأ أرتكبه أو ذنب.

طوى الرسالة ودّسها تحت المخدّة.

كان ذلك يوم الأربعاء. الخميس، وفيما نصرة تبدّل أغطية المخدّات، ستكتشف وجودها. لكن شكر الله سبق زوجته إلى ذلك حين أحس، في الليلة ذاتها، بشيء "يتكتك" مثل عقارب المنبّه، تحت رأسه! قَلَب المخدة ليجد ما سيجعله يقفز من الفراش. نعم، ما إن رأى الورقة المطلوبة فهم.

 رسالة!

الرسالة التي أتاحت للأمّ رفاهية البكاء في العلن، وللأب شتم أبنه، فيما صار ينتظر على أحر من الجمر أن تصله رسائل أخرى من هذا العاق أو أخبار شفوية مع قادمين من فرنسا. أخبار، بات يؤرقّه تأخر وصولها. بعد قراءة الرسالة، خطر للأب أن يقوم ويضرب زوجته على الدور السلبي الذي لعبته في حياة ابنها. هذه الأم الخانعة المستكينة بالغت في تدليله لحدّ بات لا يطيق فيها أن يؤمر بشيء! وهي ماضية في مبالغتها، تندب كيف حُرم ابنها من محبوبته. تتمنّي لو كانت هذه مسيحية. لو كانت كذلك لأفرحت قلبه بها. لعلّه كان قبل سفره، زرع في أحشائها الثمرة الغالية، وبرّد قلب أبويه بولد يؤنس وحشتهما بانتظار عودته سالماً. أو لعلّ الشابة كانت ستسافر معه لتؤنس وحشته في بلاد الغربة.

نعم، البلهاء تحلم بذلك! بل بأكثر من ذلك! أن تراجع العائلة التركية موقفها فُتنصّر ابنتها وتزوّجها بشارة! تدخل وإياه الكنيسة، تتناول وتعترف، قبل أن يقوم الكاهن بمراسيم الزواج! يا إلهي من ترّهات عقول النساء كم هي مستفزّة! وكم تجعله يمقت نصرة. حتى ودون أن يعلم أنّها من ناحيتها، تحسده أيّما حسد على أنّه تعرّف بمحبوبة بشارة، وتتمنى أن تسأله عن هيئة تلك؟ عن الصورة التي صورّها فيها الخالق لتحتل هذه المكانة في قلب ابنها. تسأله أن يصف لها تقاسيم وجهها، ورنّة صوتها، ومخارج ألفاظها وكيف تفتح فمها وتتكلّم. وتكاد تتجرأ... لولا أنّ نظراته الرادعة توقف الكلام في حنجرتها. لكثرة ما خامرت ذهنها الأفكار، صارت تتخيل نفسها ضاربة بعرض الحائط أيّ اعتبار، مستفسرة عن أي شيء يتعلّق بتلك الفتاة التي سلبت عقل ابنها واحتلّت عرش قلبه! لكنها لا تجرؤ.

جُلّ ما تمكنت منه، التظاهر باللّوم. لوم أبنها على وقوعه في هوى فتاة يُقال ليس لديها من ميزات الجمال أو الجاذبية شيء. وإذ رفع زوجها حاجبيه، غمغم بكلام غير مفهوم، أدركت أن عكس ما تفّوهت به هو الصحيح. وحين خرج عن تحفّظه قال ما سيزيدها فرحاً: الفتاة تلك هي أجمل ما رأت عيناه من نساء! أجمل من بنت القنصل الفرنسي ومن ثريا البستاني وعبلا بنت الحكيم افتيموس. أجمل منهنّ، وأكثر جاذبية وعذوبة. طبعاً، فالشيطان في إغوائه ابن آدم، لا يعجز عن العثور على الضالة التي تؤدي له الغرض.

تَعبُر نصرة عن تعليقات زوجها وتسأل: معقول أن تكون أجمل من ابنة القنصل وهذه شقراء الشعر زرقاء العينين؟

ـ لكن تلك زرقاء العينين كستنائية الشعر. ألوان قلّما اجتمعت! وإنْ حدث، فإنّما لتميّز صاحبتها بفتنة ما بعدها فتنة. الشيطان في إيقاع ابن آدم، يلوّح بأشهى ما تصبو إليه العين، وأعذب ما يدغدغ السمع. وتلك الفتاة، التي سلبت عقل ابنها المخبول تملك كل أسباب الغواية: جمال الشكل وعذوبة اللسان. يا إلهي أحفظنا من الشرير! قال الكهل، فيما زوجته تهتف في سرّها: الله جميل ويحبّ الجمال. وفيما صورة المحبوبة ترتسم في خيالها، كما لو أنّها ذاك النهار، حين فتح عليها شكر الله الباب ووقف قبالتها كانت هي معه، وسمعتها تنطق بالقصائد التي علّمها إياها أستاذها النجيب بشارة.

 نعم كأنّما رأتها!

حتى أنّها، حين عثرت مصادفة في طيّات الكتاب تحت السرير، على الصورة التي نسيها العاشق المسافر، ما كان لديها أن تضيف شيئاً إلى هيئة المخلوقة البديعة التي رُسمت في خيالها، سوى الألوان النادرة التي لا تُظهرها تلك. وحين بعد سنوات، وقفت أمامها وجهاً لوجه، كانت كأنّما لا ترى جديداً! يا إله السموات الذي إذا ما أعطي أدهش! المجد لله في السماء وفي الناس المسرّة!

لحسن الحظ أن "أبو بشارة" ليس على علم بأفكار زوجته المتهوّرة أو بمراوغات لسانها. لولا ذلك لأنزل عليها جام غضبه! بسبب الشفقة والخوف عليها لضآلة حجمها وهشاشة عظامها ما يمنعانه من ذلك. الخوف إن بدأ بضربها أن ينسى نفسه كما نسيها حين أنهال على بشارة! لذا، وبعد قراءته الرسالة مرات اكتفي بالقول: فليرحل هذا المتمرّد. فليبتعد من شَتَم القديسين والكهنة في باحة الكنيسة غير آبه لإذلال أمه وأبيه. ولا لمكانة أخته الراهبة في الدير. فليرحل من رفض الاعتذار واضُطر الكاهن لحرمانه! نعم، ما لم يتراجع عن شتائمه في العلن، ويكذّب الأقاويل التي أغواه بها الشيطان. يهدد بالتحوّل إلى البروتستنتية؟! فليقتلوه كما قتلوا أبن الشدياق الذي جاهر وفعل. عجباً لأبناء هذه العائلة! فارس، المخبول، تحوّل إلى الإسلام ولقّب نفسه "أحمد"، وأخوه جاهر حتى دفع دمه ثمن النكران! فليبتعد من كان مثلهما، إلى فرنسا، المكسيك، أو حتى إلى مجاهل الأمازون، يا للوقاحة، ويَحلم ببطولة طانيوس شاهين!

التفت إلى نصرة وقال:  بشارة ابنك مجنون. هل تعرفين كيف انتهت عامية طانيوس شاهين؟ أقرئي.

ـ لا. لا أعرف. أقرأ لي لأعرف كيف انتهت؟

ـ نكّلوا بجدّه وقتلوا أباه. وأمه ماتت من الغمّ. وابنك ماضِ في طيشه وفي كتابة الرسائل التي تمجّد فرنسا. ما لنا ولفرنسا!

يا لغرور هذا الشاب! لولا استعطاف أبيه، كان سيحضر مع أولاد الذوات، مؤتمر باريس للمعارضين، ليطالب وإياهم باللامركزية! لا مركزية قال... كلام فارغ! ما له وللمؤتمرات والمؤتمرين؟ مغرورون يوقعون أنفسهم في الأوهام  وما تذكره الصحف عن الإخاء العربي الفرنسي. جيل متهوّر، يسير بملء إرادته إلى حبال المشانق في الدنيا، وإلى الجحيم في الآخرة! أيّ كبرياء زرعها إبليس في قلوبهم حتى ليعجز الواحد منهم عن إخفاء كراهيته، أو تمويه معارضته لأصحاب السلطان؟ وهل كلّ ما يصبو إليه أن آدم مُتاح، وهل الدّنيا، المكان الملائم لتحقيق الأحلام أو لاستتباب العدل!  تفه!

سيمضي والد "المغترب" شهوراً قبل أن يعلم بحقيقة الجهة التي راح إليها ابنه. سيعرف ذلك من الحاج نقولا المختار الذي أرسل في طلبه ليهنّئه بنجاة بشارة من المعركة الرهيبة التي قُتل فيها على حدود فرنسا وألمانيا نسيب أبن "أيوب" الساعاتي! هكذا، وفيما هو يتقبل تهاني لا ينتظرها، كان يشهق بالبكاء. مسح دموعه ومن جديد سحب الرسالة من جيبه وقرأها للمرة الخمسين، إنّما قراءة طازجة!

*  *  *  *

نصرة التي ترتاح في العادة إلى غياب زوجها عن البيت، وتتمني أن يطول، قلقت هذه المرّة لتأخره! صارت تروح وتجيء من الشباك إلى المطبخ. أنهكتها المراوحة فدخلت إلى غرفتها واستلقت على السرير. وحين أفاقت وجدت شكر الله في الصالة في هيئة لا تبشّر كثيراً بالخير.

ـ ماذا يريد منك الحاج نقولا؟

ـ يريد أن يطمئنني إلى بشارة.

ـ صحيح، وماذا قال؟

ـ ألتقاه شاب في باريس. قال إنّه يحاول أن يجد عملاً، وأنّه سيدخل جامعة السوربون.

ـ جامعة السوربون، المجد للّه!

ـ وماذا أدراك أنت بجامعة السوربون؟

ـ أسمع بها.

ـ كادت الأم تزعرد لولا أن عبوس زوجها أوقف الزغرودة في حلقها. عجباً، إن كان ابنه سيدخل تلك الجامعة العظيمة، فما..

ـ يا نصرة، الحاج نقولا  أخبرني شيئاً آخر.

ـ يا رب السموات، ماذا قال لك؟

ـ نسيب ابن أيوب الساعاتي...

ـ ما به؟

ـ مات!

ـ مات؟

ـ نعم قُتل.

ـ قُتل؟

ـ على الجبهة وهو يحارب إلى جانب الفرنسيين.

ـ يا حسرتي على شبابك يا نسيب!

ـ وأبو نسيب...

ـ مات أيضاً؟

ـ لا. موقوف. أوقفوه للتحقيق.

ـ وما ذنب المسكين؟!

ـ ذَنْب الابن هو ذَنْب أبيه.

راحت نصرة تندب "نسيب" كما تبكي فراق أبنها، فيما يراود زوجها إحساس قاتل، بأن المسائل أفلتت تماماً من يده، وأنّ تربيته ابنه باءت بفشل ذريع، وأنّ التحاق هذا العاق بالجيش الفرنسي دمّر آخر أعمدة "الناموس" بينهما، وأنّ فرنسا هي السبب. نعم، تحت وطأة شعوره بالغدر، يشعر بأنّ فرنسا، والأفكار التي نشرتها، عدوتّه اللّدود. هبّ من مكانه، وسألته زوجته إلى أين هو ذاهب، فلم يردّ عليها، وفي نفسه قال: احمدي ربك على أنّي فاعل.

من ناحيتها، ولفرط ما بدا لها شكر الله متهالكاً، غمرتها الشفقة عليه. والخوف من أن يصيبه العارض الذي كاد يؤدي بحياته ذاك النهار. إن كان ضربه إياها يريحه فليفعل. الآن وبعد أن ظهرت الحقيقة، صارت تغفر له كل شيء. وفي تلك اللحظة التي تراوح فيها الرؤيا، بين شفافية عظيمة وغموض رهيب، لأمَّ يسبق حدسها علمها وَأب مكلوم ومخذول، عاد شكر الله عن عتبة الدار. أمسك بكفي زوجته وراح يبكي بكاء طفل ثم أنهار على الكنبة فيما تحاول نصرة تعزيته بأن ابنهما على مقاعد الدراسة في ألف خير. لسماعه ذلك نهض وأسرع بالخروج متوجهاً إلى المطرانية ذاتها التي سبق أن التقى فيها أبنه ذاك اللقاء المريع. يحكي للمطران أشياء، كان هذا  قد سمع بها. يبكي بين يديه، ويستعطفه أن يتدخل لدى الأب حنَيْن ليغفر لابنه أقاويل طائشة هي من صنيعة الشيطان، خرجت على لسانه في لحظة طيش وتَخلَّ. والمطران يعده خيراً بما يبلسم الروح. روح أب تتراءى  له أفظع الاحتمالات: أن يلاقي ابنه المصير على الجبهة والكنيسة غاضبة عليه!

*  *  *  *

في تلك الواقعة التي قيل لوالده إن ابنه نجا منها، كان بشارة قد أصيب بالجرح البالغ الذي تراءى لوردة في هذيانها. لكنّ الرصاصة لم تخترق ظهره، لتنفذ من الأمام عند الصدر، بل أصابته في أعلى فخذه واستقرت في العظم، لولا أنملة لأصابته في المكان القاتل. على الطبيب أن ينزع الرصاصة ويطهر الجرح كي لا يقفل على الجراثيم، ويصاب الجريح بالغنرغرينا مميتة. عليهم وبأسرع وقت إجراء العملية لينجو من الموت، الكابتن الجريح الذي تحرص الكتيبة على حياته حرصها علي نفسها. إن نجا فسيغدو أعرج بالتأكيد. لكن، من الخسائر أهونها! و لياقة المشي ليست ضرروة لهندسة الاتصالات العظيمة .

وضعوه على الحمّالة وراحوا يهرولون به فوق تلال الثلج. إنهم في سباق مع الموت والثلج هش وأقدامهم تغوص.
لا يعرفون إن كانوا يدوسون على أرض صلبة أم على حفر مموّهة بألغام قد تحوّلهم إلى أشلاء؟ في محيط الثلج هذا الذي
لا يترك معلماً لتائه، لا يعرفون الجهة التي يهرولون نحوها. ولا إن كانوا يلحقون برفاق الكتيبة أم يقودون أنفسهم إلى أحضان العدو! طلعات الطائرات، التي يرونها لأول مرة في حياتهم، تتعقب خطاهم. يتساءلون هل هم الهدف، أم الكتيبة التي تخلّفوا عنها؟ لكنّ الجريح، رغم الإعياء لا يتساءل. يعرف أنه هو المقصود، وأنّ ترويض الحمام هو السبب. لم يخطر له يوماً أنّ ما يمقته أبوه سيفتح له باب المجد. لطالما أنّبه شكر الله على معاشرته كشاش الحمام خليل السمّان، وحظّر عليه ممارسة هوايته "الحقيرة". وفي ساعات اللّين كان يقول له: يا أبني عيب! برضى الله ورضى أبيك عليك، لا تتردّد على منزل هذا السابق.

لكن صديقه خليل لا يسرق. يهوى المنافسة على جذاب الحمام واليمام لكنّه لا يسرقها، بل يرجع الغريبة منها إلى أصحابها. يربّت ريشها برفق ثم يطيّرها في الوجهة اللازمة لوصولها. بأمان الله يقول لها. وتحلّق هي عائدة. شغف صديقه بلغة الطير يفوق ألف مرّة رغبته في اقتنائه. ما أتفه الطامعين بذلك كان يقول. الكائنات هذه لم تُخلق لتُسرق أو تُسجن، بل لتقّرب بين المتباعدين. هكذا، بعيداً عن التملّك، كان يعقد صداقات مع هواة مثله قد لا يرى لهم يوماً صورة وجه. يراسلهم ويراسلونه والطير هي الواسطة. يربط حلقة المعدن في الساق ويعلّق بها الوريقة التي تحمل تحيّاته. قيَمُ صديقه خليل هي ذاتها قيَم أبيه، لكن أباه يرفض الإصغاء ويحسم الجدال بمنعه من معاشرة ابن السمّان. وواظب هو في السرّ على ذلك  أتقن الهواية اتقاناً أقرّ به خليل نفسه. اتقاناً وضعه في دائرة الضوء والخطر، وتطارده لأجله الطائرات الآن.

في الكتيبة، حين اكتشفوا مهارته، ابتهجوا بهجة من اكتشف منجماً من ماس. إنّه بالنسبة إليهم كذلك، وإلاّ لما قامت الحكومات منذ إعلان الحرب بجمع الحمام الزاجل وغير الزاجل من أطراف البلاد، وحرّمت على الناس اقتناءها وهددت المخالفين بعقوبة الإعدام. ولَما، رفعوا رتبته وغدا "كابتين" متخصصاً، ومعاوناً لرئيس شبكات الاتصالات، القومندان سيرج، يتبادل وإياه الخبرات. القومندان الفرنسي يدّربه علي السلكية واللاسلكية وهو يدربّه على الزاجلة. وحين قصف العدو الكابلات والصناديق عَظُمت مسؤولياته، وتمكّن من كشف خطة الأعداء. ولولا أنّ هؤلاء عادوا واكتشفوا ما اكتشف، لما كانت الطائرات تطارده الآن.  جريح ورغم الإعياء، موقن من هذا. ومن باب الأمانة سيطلب من رفاقه أن يتركوه وينجوا بأنفسهم. يحاول أن يفتح فمه ليتكلم، فلا يجد الطاقة الكافية لذلك. يضع كفه على جرحه اللّزج ويحاول أن يرفعها ليرى، لكن الحمّالة تهتز وجسمه يهتزّ معها ورأسه يميل إلى هذه الناحية وتلك. هكذا تمكن من رؤية خطوط دمه على الأرض! فيما رفاقه يهرولون، مثل فزّاعات عصافير بيضاء. تستمر الحمّالة بالاهتزاز، ويشعر أنّه خفيف ومرتاح. ولشدّة راحته غفا. يا إلهي، والحمّالة ترتفع به، ومثل بساط الريح، تعلو في الفضاء. الله ما أعذب هذا! حتى لو اجتاح ضجيج الطائرات وعيه وبعثرت قذائفها الثلج وغمرت أجساد رفاقه، وغشت الأبصار، فبساطه مستمرّ في الارتقاء ورفاقه تحت يهرولون، وفضاء أزرق يغلّفه وشمس دافئة. وحده الآن في هذه السكينة البيضاء وهدوء أساسيّ ورحيم يسود. وفي غمرة الرحمة يجد نفسه مدعوّاً لأن يغفر لكل من أساء إليه. لأبيه وللأفندي الذي حبس وردة في الغرفة، وللخوري حنين الذي رفض أن يناوله القربان المقدس. مسكين كان أضعف من أن يقدمه لمشكك. مسكين، أبن آدم قاصر حملوه مسئولية إلهية. نعم يغفر لهم...

لكن عجباً!

لمَ خيمة بيضاء بدأت تغلّفه من جميع الجهات؟ ولمَ رفاقه انكبوا عليه كأنّهم ينقّبون في أحشائه عن كنز؟!

ما هذا يا رفاق؟ أعلام النصر؟ نعم، انتصرنا. مبروك يا شباب. بأمان الله عودوا إلي الوطن.

 طلعات الطائرات تتزايد والقصف أيضاً. الطيور البيضاء ترافقه، وتصفيق أجنحتها يدغدغ السمع. صديقه ومعلّمه خليل يُطلقها... روحي إلى صحبك بأمان الله. نسي أنّه هو بشارة صاحبها. ها هي تحلّق كما جسده الخفيف، وهو مستسلم للنوم اللذيذ. لولا ذلك لمرّ بمنزل وردة ثانيةً لوداعها كما فعل ليلة سفره، وسلّمها الرسالة التي منذ رحيله شرع بكتابتها: "حبيبتي وردة. المستحيل هو الممكن. سأعود برتبة مهندس كابتن. مع الحمام الزاجل تصلك رسالتي. بشارة".

البساط الطائر يغيّر اتجاهه. يدور، ولعلّه يتجه نحو الأرض. لابّد للرحلة من أن تنتهي ولا فرار من العودة إلى نقطة المركز. وسأل رفاقه عن كاهن يساعده على الصلاة. لكنّهم استمهلوه. حسناً! لا مانع لديه من التريّث، إذ لا يمكن لطانيوس شاهين الثاني أن يرحل قبل تحيّة مناصريه. بساط الريح يتأهب للنزول. سيحط في أرض بيروت غير بعيد عن ساحة الحرية. المستقبلون يترقبون هبوطه شاخصي الأبصار نحو البطل. رهبان الأديرة وراهباتها. تلامذة المدارس وتلميذاتها، شيوخ المسلمين وخطباء الجوامع، كلّهم يهتفون له. نعم، انتصر الحلفاء! والحرب انتهت. سيعمّ السلام كلّ مكان. والده يتقّدم المستقبلين، ومعه الأب حنين. ها هو يلّوح له بالترحيب وبيده القربان ووالده معه يلوّح أيضاً.

لكنّه لا يرى نصرة بين المستقبلين؟

لابّد أنّها ذهبت لتأتي بوردة، وأنهمّا باتتا على وشك الوصول.

*  *  *  *

كاميليا التي يؤرقها ابتعاد زوجها عنها، صارت تمضي غالبية أوقاتها في منزل أبيها، أو في الكنيسة. تحضر ليس قداس الأحد فقط بل قداديس كل يوم. تركع أمام تمثال السيدة العذراء، وبكل الإيمان الذي زرعه الله في قلبها، تتضرع إليها، بأن تأخذ بيد هذه العائلة النبيلة التي لا تستأهل محنتها. تصلّي أن يكون لهذه الحادثة مغزيً آخر غير ظاهرها المخادع.

جرجي يلاحظ أنّ ابنته بدأت تفقد شبابها قبل الأوان، وفيما تحدّثه بانهيار زوجها، تبدو له هي أيضاً على حافة الانهيار. تبكي على كتفه وتأتي لأول مرة منذ رحيلهم على تلك الحادثة... تقول إنّها تغفر لشكري ضعفه ولعائلته تآمرها. أبوها يلح عليها أن يحذوا حذو غيرهم ويهاجروا. هناك بعيداً عن الألسن ومآزق الحروب، من شأن الجراح أن تلتئم النسيان. ولا عجب أن تستعيد هي وزَوجها البهجة التي فقداها.

نور الدين يرى أن حماه على حق. من الأفضل أن يرحلوا.  لا إنقاذاً  لنفسه أو لحب تزعزع، بل من أجل الصغيرين. يقلقه أن يريا أباهما على هذا الحال. ولما حسم أمره أخيراً تاركاً الترتيبات العملية لوالد كاميليا، كانت دائرة الحرب قد اتسعت وأحوال السفر تتردّى. الدول ماضية في تعنّتها، والمعارك البحرية في ازدياد، وكذلك قطّاع الطرق. شتى الأخطار تهدّد المسافرين. هكذا نزع الفكرة من رأسه، وصار يمضي غالبية أوقاته في منزل قريب له في "بشامون". يلوم نفسه على إهماله زوجته الشابة التي منذ أشهر خلت كانت بهجة روحه. عقله لم يفكر بهجرها أو تطليقها، لكن روحه هي التي طلّقت. ليس فقط كاميليا بل كلّ مباهج الدنيا. وإذ جاءت تفاتحه في مسألة تقول إنها مهمّة، بدت له كل الحلول معقولة: إن كانت تبغي أن يحرّرها من رباط الزوجية فهو حاضر. وإن كانت تفضل البقاء على ذمتّه دون واجب العشرة الزوجية فهو حاضر أيضاً. كادت العبارة تخرج من فمه لكنه سكت. وَسبقته هي إلى الكلام، موضحةً أن المسألة تتعلّق بأخته ملك. إنّ قابلها فستحكي له بنفسها.

*  *  *  *

ما راع كاميليا، ليس فقط ابتعاد زوجها عنها، بل ابتعاده عن الله. راعها شعوره بأن القدر قد سدّد له ضربة لا يستأهلها، وأنّ الرب لم يتدخل لمصلحته. تحس به مكلوماً حانقاً وفارغ القلب. صحيح أنه بات يؤدي فروض الصلاة كما نصحه الشيخ يوسف، إنما لا يرقى إليها شك، هي التي تعرفه كما نفسها، أنه لا يفعل هذا كما المؤمنون. في السابق كان يصلّي في الأعياد وبعض المناسبات، أو في لحظات صفاء تختاره هي لذلك. إنّما حين يفعل، كان يستغرق في صلاته ويرتقي. وينهض عن المصلّى نقيّ الفؤاد. والآن تشعر أنّه يؤدي واجباً ليس إلاّ، حرصاً أخيراً على أبنائه كما نصحه صديقه: إذا ما كان الخالق يشاركنا في رعاية أبنائنا، فلمَ نحمل وحدنا هذه المسئولية الصعبة؟

وعبّرت كاميليا  للشيخ يوسف عن قلقها، فأجابها بأنّ إيمان الإنسان في المحن قد يهتزّ. لكن من الثواب للممتحَن أن يسعى. أن يواجه الكوارث بالتوجه إلى الخالق عزّ وجلّ. ليت
نور الدين يذهب إلى الحج. لعلّ ملامسة الحجر الأسود تعيد السكينة إلى  نفسه. لعل إشراقاً يحدث فيدرك مغزى ما يجري بعيداً عن الظاهر. ليته "يجاور" زمناً في الكعبة الشريفة، كما بعض المتعبَّدين، فتتجدّد الروح ويعرف قلبه ثانية الدرب إلى الرحمن.

 نور الدين يستمع إلى كلام صديقه الشيخ ويهز رأسه. في ودّه أن يجيب بشيء. في ودّه أن يذعن. أن يحج ويجاور ويلمس الحجر الأسود، لكنه يأبى الغش. يأبى أن يفعل هذا فعلاً إجرائياً، أو بحثاً خالصاً عن ملاذ. كان في ودّه الاعتراف بأنّه أضعف من أن يعبد، وأضعف من أن يسعى، وأضعف من أن يحبّ كاميليا. جلّ ما يمكنه القيام به الاهتمام بعائلته وانتظار الأيام لمغادرة هذا العالم الكريه! حيث كل شيء إلى انهيار. هذا القرن الذي عُقدت عليه الآمال سيؤول بأهله إلى الوبال. وتلك الأحلام كانت كلّها خدعة. والسعادة التي عاشها كانت لوناً من العزاء السابق على المأساة. ما هذه الحرب الكونيّة سوى مؤشر لانهيار أعمّ وأكثر صلافةً. إن كان له من عزاء فلأن والده ينعم بالراحة التي ينعم بها الصالحون من الموتى. كلما لاحت منه التفاتة إلى الصورة على الجدار حمد ربه على أنّ عزمي إسماعيل لم يشهد من هذا الزمن سوى رغده، ومن حياة أبنته إلاّ عذوبتها

في تأملاته حسم نور الدين أمره: لن يذهب إلى الحج. وإن أصرت كاميليا على الرحيل مع أبيها، فلتترك له الولدين. لا لأنّها غير أهل للتربية بل لخوفه عليهما من مخاطر السفر. وإن كانت وردة ستمضي بقية حياتها في المصح أو الدير فلتفعل. كثيرون أخطأوا الدّرب واعتزلوا رفاه الدّنيا. أخوه شوكت، اختار المجد فوجد نفسه في جحيم الحرب. وأرباب تلك سيمضون قرناً آخر في كرّ وفرّ.  كلّما انتصر فريق عاد وخسر. وهكذا إلى ما لا نهاية، كما منذ البداية. منذ قابيل وهابيل والأخوة يتقاتلون. منذ يوليوس قيصر وبروتوس ابني الإمبراطورية الواحدة. منذ الحسين ويزيد أبني القبيلة الواحدة. منذ الأمين والمأمون أبني الأب الواحد. ومن السلف إلى الخلف يتوارثون الأحقاد. وهذه الإمبراطورية التي يُقال إنّها شاخت، قد لا يُحسم أمرها باليسر الذي يتصوّره البعض! أوروبا ضربها الغرور، وجنحت عن المبادئ التي أسكرت الناس بها. معجبوها سيصيبهم اليأس الذي أصابه. نعم، ما جدوى أن يسعى ونفسه تعوزها الثقة. نفسه تبلّدت حتى ما عاد يهّزه شيء.

نعم، لا شيء بعد الآن يهزّه!

لكن ما هذا الطرق الثقيل على الباب؟

قبضة حديد تكاد تطيح الخشب! ومن يكون الضارب الآن؟ الضارب الذي يحمل له ما لا يرغب في سماعه؟ ما لم يتحضّر إطلاقاً له؟ ما سيرافق روحه حتى آخر العمر؟ طيلة حياته سيتراءى له العم أبو سليمان داخلاً عليه ينحني ويقبّل يديه. الاثنتان معاً. عجباً! ما المناسبة؟ لسنا في عيد وقد رآه البارحة! وسليمان يقول: السيدة سنيّة تطلب رؤيتك.

*  *  *  *

دخل عليها فوجدها راقدةً في الفراش، واهنة الجسم ضعيفة  الأنفاس لكأنها شرعت في الرحيل. انحنى على سريرها وأمسك بكفّها وقبّلها فالتفتت إليه وفتحت عينيها وتمتمت: سأرحل يا نور العين.

ـ لا تقولي هذا يا سنيّة، الطبيب سيحضر حالاً.

ـ لا تتعب نفسك... حان الوقت.

ـ كيف حان وقد وعدتني بأن نذهب معاً إلى الحج، ووعدتُ نفسي بذلك. هل نسيت؟

ـ لا، لم أنسَ يا نور عيني. لكنّي لم أعد قادرة على السعي. إن كانت الجنّة من نصيبنا فلقاؤنا هناك.

ـ لا تقولي هذا يا سنيّة.

ـ أقول ما أحس به.

ـ وتتركيني وحدي؟

ـ لست وحدك والله معك.

ـ لا تتركيني قبل أن نحقق الحلم.

ـ هذه الدنيا يا نور عيني ليست لتحقيق الأحلام.

طلب نور الدين من سيّدات البيت أن يخرجن. أحضر لها كوب ماء، وجلس بجانبها على السرير، فألقت برأسها على كتفه، وذراعها الرّخوة على صدره. سقاها فشربت وهي تتمتم: "سَلمت يداكَ يا نور الدين".

قالت وهذا وغفت قليلاً. وأحس بجسمها خفيفاً مثل يمامة تطير. وسمعها تحكي بصوت ناحل فأنصت. قرّب أذنه جيّداً من شفتيها ليسمعها تحدّثه بأشياء سيمضي بقية حياته يتذكرها.

خفيفة ماتت كما عاشت!

حملها ومشى في الدرب الذي سار فيه يوم ودّع أمّه وَأباه، يشعر أنّه يسير وإياها في الدرب الصحيح. ولما وصلوا اكتشف أنّهم جهزوا الحفرة. ولما انحني على نعشها يبكي خاف الحاضرون عليه وأنهضوه. وعندما أهالوا عليها التراب، جعلوه يتكئ عليهم، وكذلك فعلوا في طريق العودة. سار منهكاً. وجه سنيّة، ذاك النهار، لا يبارح خياله! سيمضي في تعذيبه حتى نهاية العمر! وجهها يوم خرج من البيت، قبل عشر سنين، ممسكاً بيد الطفلة.  الطفلة يومذاك لم تكن أخته  وردة التي غادر وإياها مستعجلاً اللّحاق بكاميليا. الطفلة يومذاك كانت المرأة التي تلاحقه بعيون لهفي، ووجه مخذول. الطفلة في ذاك الموقف كانت زوجته سنيّة!

*  *  *  *

في إجراءات العزاء ونور الدين يستقبل الناس، لاحت منه التفاتة إلى الحوش فرأى "ملك" تتحدّث إلى العم سليمان. وتذكّر ما قالته كاميليا قبل أيام: "المسألة تتعلّق بأختك ملك".

ماذا تريد ملك؟!

ووجد نفسه يتساءل: تري كم تبلغ من العمر ملك؟

وفي غمرة انشغاله باستقبال ابنه، الذي لم يحضر دفن أمه والوفود القادمة من الخارج، نسي الحكاية ولم يتذكّرها إلاّ بعد شهرين.

ـ ما حكاية أختي ملك؟ سأل كاميليا.

ـ لا أعلم إن كان الوقت مناسباً لذلك؟

ـ جميع الأوقات مناسبة لما تطلبه ملك. طمئنيها أنّ حساباتها مضبوطة على آخر "بارة". أظنّ أن والدك يطلعها دائماً على الكشوفات.

ـ صحيح. لكن هناك مسألة أخرى الآن.

ـ أنا حاضر. تُرى، ماذا تريد ملك؟

ـ ملك شديدة القلق.

ـ أفهم موقفها طبعاً. تقلق وأختها بعيدة عنها. قولي لها أنّي فعلتُ هذا لحمايتها، وأحوالها على ما يبدو في تحسّن.

ـ لا. هذه المرّة تبدو قلقة على نفسها.

ـ على نفسها؟! تقول، على مستقبلها.

ـ ولمَ الخوف؟

ـ تقول، بعد أن حصل ما حصل، لم تعد تأمل فرصة للزواج. مَن سيتزوّج فتاة تجاوزت الثلاثين. ولم يمنحها الله الجمال الذي وهبه لنساء آل إسماعيل.

ـ هي قالت هذا؟!

ـ نعم، تقول ما تقرأه في عيون الآخرين. وحدها من بين هؤلاء بلون الشوكولاته وقريباتها بلون الحليب.

ـ وممَ تشكو الشوكولاته؟

ـ لا أدري. تقول ينظرون إليها ولا يفهمون كيف يكون لها عينان خضراوان ووجه أسمر؟ لكأنها من سلالة هجينة والأخريات من نسل الملوك.

ـ هي قالت هذا؟!

ـ نعم.

ـ وماذا تريدنا أن نفعل؟

ـ أن نفكّر في زواجها.

ـ بالطبع، لكن لمن؟ هل تقدّم لها أحد؟

ـ تقريباً.

ـ إحدى الأمّهات خلال العزاء...؟

ـ لا.

ـ ماذا إذن؟

ـ الحقيقة، قبل ذلك، حدث أن...

ـ صحيح؟

ـ تقريباً.

ـ تقريباً؟

ـ ملك تسأل هل من المناسب أن تزوّجوها خالد بن رضوان.

ـ هي التي سألت؟

ـ تقول إن كانت وردة لا تريد الزواج منه تأخذه هي.

ـ هي قالت هذا؟!

ـ الفكرة لم تكن من قبل فكرتها.

ـ فكرة رضوان؟

ـ لا.

ـ فكرة مَن إذن؟

ـ فكرة الشاب نفسه.

ـ غريب!

ـ نعم . عرضها على أمّه فنهرته، وعلى أبيه فاستمهله بانتظار الوقت المناسب. جاء الشاب إلي لأتوسط له. ثمّ حدث ما حدث.

ـ حسناً.. حسناً لنسأل ملك إذن؟

ـ سبق وفعلتُ، فصارحتني بأنّ الشاب نفسه كلّمها.

ـ كلّمها بنفسه؟

ـ خاف أن يأتي إليك فتطرده، فبادر إلى مفاتحتها. قال إنّه لا يفعل إلاّ ما يرضي الله وعبيده.

ـ وما كان جوابها له؟

ـ قالت، إذا وافق أخي نور الدين أوافق.

ـ وما موقف رضوان؟

ـ يبدو متحمساً. يقول، البيت جاهز وكلّ شيء... ولا فرق بين أخت وأختها. كلتاهما ستسعد ابنه وتنجب له أولاداً صالحين.

ـ وماذا عن جلنار؟

ـ ما زالت خائفة أن يُغضب مشروع كهذا الباشا.

ـ آه، سبق أن ذكرت شيئاً من هذا القبيل.

وقال في نفسه: مسكين الباشا أو لعلّنا نحن المساكين. لحسن حظّه أنّه ودّع هذا العالم قبل أن يشهد بؤسه.

استدعى ملك وقال لها:  

خالد  شاب ممتاز. نشأ عندنا وأرسلناه إلى المدارس التي خرّجت أفضل شباب بيروت. إنّه ابن هذه الدار، وسيبقى فيها.

قال هذا فيما هو يتأمل أخته ليصدقّ ويتساءل كيف إنّه لم يفكر من قبل في مستقبل ملك؟! تنهّد وسألها:

ـ ومتى ترين أنّه من المناسب أن نعلن الخطبة؟

ـ ليس الآن، أجابته. علي أن أقابل وردة. لديّ سؤال ألقيه بنفسي عليها وبعد ذلك أقررّ بشكل نهائي. على أيّ حال فأنا مشتاقة جداً لرؤية وردة.

ابتسم نور الدين وقال: مبروك يا ملك.

نعم ابتسم! كاميليا ستخبر أباها أنّ نور الدين اليوم ابتسم! يا إلهي! ستتحرّك الأشياء على نحو غير الحزن الذي يخيّم على هذه الدار منذ أكثر من عام. ابتسم لتحقيق الحلم الذي يراود ملك: أن تسكن في بيت مع خالد، وتحيا معه، يعيشان، بالثبات والنبات ويخلفان الصبيان والبنات. ثمرة الزواج التي هجست بها طويلاً رضيّة، والتي ستراها بعد سنوات، حين ستأتي لزيارة آل إسماعيل. الثمرة التي ستؤكّد لها مكائد الساحرة جلنار! فهذه ستستقبلها مع كنتها ملك، ومع حفيديها التوأمين، عزمي ورضوان!

*  *  *  *

بعد برقيته التي لاقت صدي حسناً في الآستانة، طلب عزت باشا من الصدارة العظمي تمديد المهلة لإكمال مهمته. يفضل كتابة التقرير في المكان عينه الذي وقعت فيه الحادثة والذي غدا هو جزءاً منه. لم لا، فالمدن العثمانية هذه، كلّها، في مصيدة الحروب واحدة.

هكذا أمضى أياماً في بيروت يكتب آخر تقرير له قبل الاعتزال.

نور الدين، الذي لن يقرأ التقرير كاملاً إلاّ في نهاية الحرب، كان الوحيد الذي سعى القاضي لوداعه. تمازحاً مثل صديقين قديمين وتبادلا الآراء في شئون السلطنة وشجونها. الظروف، تسير من سيء  لأسوأ. بريطانيا خرجت عن حيادها المزعوم وتمكنت من الضغط علي إيطاليا. وهذه بعد تردّد حسمت أمرها، فانسحبت من حلفها القديم وانحازت إلى دول الاتفاق. وكذلك فعلت بلجيكا.

ـ غول الحرب وحده يا صديقي سينتصر.

ـ لكن المراهنات على قدمِ وساق. إبليس هنا تركي وهناك إنجليزي. كيتشنر الذي أباد آلاف المهديين في السودان، يتلهّف البعض هنا على استقباله. وأنت يا صديقي نور الدين كيف برأيك تسير الأمور؟

ـ لا رأي لمن لا يُطاع. جلّ ما يملك من كان مثلي، عين ترى وأذن تسمع. نسمع بالرشاش الآلي الذي استخدمه جيش كتشنر لأول مرة في تاريخ الحروب.

وسأل القاضي المستشار عما يود عمله، وأين يجد في هذه الأزمة مكانه؟

 لا يدري.  لديه أُسَر يعليها وأخرى يردّ عنها شبح المجاعة. الجراد تجاوز جبل لبنان إلى حدود فلسطين وصار في طريقه إلى الخزّان الكبير: سهل البقاع. الخزان الذي كان الأباطرة الرومان يحسبون له أكبر حساب ليطمئنوا إلى أنّ إمبراطوريتهم بخير! 

- من ناحيتي يا صديقي، اعتزلتُ السياسية والكتابة عنها. ولا عجب أن آخذ عائلتي وأهاجر إلي أمريكا.

- تري، كم ستصمد هذه لتدخل الحرب؟

- لا أحد يعلم.وإن بقيتُ هنا فالمهام معروفة. البحث عن طعام للجياع. إيجاد المأوى لليتامى والعجائز، والدواء لمن لمّا يمت منهم بعد.

ـ وماذا عن المحتكرين؟!

ـ حتى جمال باشا يشكو جورهم. يهدّد بإعدام بعضهم لتربية الآخرين.

ـ أليس لديه وسيلة أخرى للعمل؟

ـ علي ما يبدو، لا.

ـ ومتى سيُعلق لهؤلاء المشانق؟

ـ قيل يؤجل ذلك مقابل أن يمدوا جيشه بالمؤن.

ـ لا تنقصه المداهنة.

ـ أبداً. نحن أيضاً يا صديقي، مضطرون للتعاون معه. أنشأنا مؤسسة لاستيراد القمح وبيعه بأسعار الكلفة. لكنّه اشترط. الجيش أولاً. هكذا وقبل إنزال الحمولة من المرافئ يُصادر نصفها! ولولا أن المحسنين يوزّعون حصصاً مجاناً، لَفاق عدد الموتى الأحياء. وأنتَ يا صديقي عزّت ماذا ستفعل؟

- أنا مسافر.

ـ أتمنى لك الوصول بالسلامة.

*  *  *  *

ـ أنهضي. تقول الأخت إليزابيت لضيفتها، سنغادر الجبل.  إلى بيروت.

ـ وما السبب.

ـ لا تقلقي. عُيّنتُ مسئولة عن الدير هناك. الريّسة سافرت لتدرس اللاهوت. سأتولّى الإدارة في غيابها. ألا ترغبين في العودة إلى بيروت؟

ـ الأماكن كلّها يا أخت واحدة.

ـ بالطبع. كلّها لمن آمن، تؤدّي إلى نور الرب.

كانت تلك المرّة الثانية التي تنتقل فيها وردة خارج الجدران. مرهقة، يائسة، ومشتاقة للخالة سنيّة. وفي وصولها إلى الدير كانت الحجرة جاهزة لاستقبالها، في الطابق الثاني بجوار غرفة الأخت إليزابيت. وحين سئلت الأخت أليزابيت عن اسم ضيفتها فكرت هنيهة وقالت: اسمها بهية.

*  *  *  *

ـ أنهضي يا عزيزتي، تقول الأخت لأختها. لديّ مهمّة أكلّفك بها. فتاة صغيرة تركتها أمها في رعايتنا.

ـ كم يبلغ عمرها؟

ـ ست سنين. اسمها زينة.

رفعت وردة رأسها ونظرت إلى الفتاة. فبان الخوف على وجه تلك والتصقت بالراهبة وهي تقول : خذيني معك.

*  *  *  *

تذكر وردة، أنّها ذات مرة، أحست في الصباح الباكر  بيد أنثى، تمتد  وتضع على الطاولة قرب سريرها شيئاً. وتذكر، أنّها رفعت رأسها لترى، فلمحت رسالة. نعم رسالة. ولعلّها من بشارة. فتحت عينيها جيداً. لم يكن في الغرفة أحد غيرها. وتذكر، أنها بذلت جهداً لتقاوم تأثير العقاقير وتتناول الرسالة. وأنّها نجحت في ذلك، ولشدة إعيائها وضعتها تحت المخدّة وفي خلوتها الليلية، راحت تقرأ:

"أختي الحبيبة بهية،

عرفتُ أنك نجوت ولجأت إلى الدير. أتمنى أن تكون رسائلي السابقة وصلتك. أعرف أنه يستحيل عليك مبادلتي الكتابة، لكن الروح كي تتصل بأختها لا تحتاج إلى واسطة. من ناحيتي، بدأت أتعافى. أشهر مرّت وأنا أغلي بالحمّى. ولشدّة إعيائي أجد نفسي غير قادر على الكتابة مطوّلاً، لذا أرسل إليك قصيدة لشاعر ألباني هاجر إلى مصر هرباً من الاضطهاد. كأن القصيدة تتحدث بلسان حالي.

"أيّها السنونو

ها قد حلّ الربيع،

اذهب بالسلامة،

من مصر إلى البلدان الأخرى.

اذهب إلى ألبانيا

وإلى مدينتي شكودرا.

بلّغ سلامي

إلى البيت العتيق الذي فيه ولدتُ

وإلى أماكن شبابي

واسترح قليلاً في السهل.

استرح وأطلق بصوتك الرخيم

أغانيك الحزينة!

لي هناك قبران،

قبر أمي وقبر أبي.

مضى علي زمن طويل خارج ألبانيا،

فأبكِ، أيها السنونو المتّشح بالسواد،

 بدلاً منّي.

ابكِ  بصوتك الشجيّ، أغانيك

الحزينة".

رسالة تقرأها وردة بانفعال عظيم، وفرحة أعظم، ستنتقل إلى الأخت إليزابيت وإلى كاميليا. من جديد سيتراءى لهذه التعبير الغريب الذي كان يلوح في عيني وردة قبل مجيء مدرّسها إلى البيت.

إنما عجباً، كيف عرف محبوبها باسمها المستعار؟!

*  *  *  *

ـ انهضي يا وردة. أولاد جدد. زلفي ستهتم بنظافتهم. تفكر في أن نفتح لهم فصولاً ليتعلّموا. هل تساعديننا؟

ـ حبذا لو أعمل شيئاً مفيداً.

- انهضي إذن. الصغيرة زينة ستأتي يومياً إلى الدير حتى عودة أمها. ذهبت تلك إلى بعبدا لتأتي بالمئونة. في الليل تبيت عند الجارة وفي النهار، تأتي إلينا. علي أن أخرج، فباخرة الحبوب وصلت من الإسكندرية. استدعاني نيافة المطران للإشراف على إفراغ حمولتها في المرفأ. سآخذ الفرس "تلجة" معي والعربة. المهاجرون في كلّ مكان هبّوا لمساعدتنا. يقومون بحملات تبّرع واسعة، ليشتروا الأطنان من الحبوب والملاءات والأدوية.

ـ حفظك الله يا أختي.

ـ وحفظ من يسهّل أمورنا. حقاً نسيت أن أخبرك، كاميليا أيضاً جاءت وكنت نائمة. وقد تأتي كلّ يوم خلال هذه الفترة. سنبعث برسائل إلى إخواننا في أنحاء العالم، ومنها بالأسبانية إلى بعض بلدان  أمريكا.

*  *  *  *

تنهض وردة. تلملم أغراضها قبل الدخول إلى الحمّام. الفتاة الصغيرة تلاحقها بنظراتها. ترى كيف تبدو في نظرها كي تتأملها هكذا مستغربة؟

ـ أنت جنّية أم أخت حقيقية؟ سألتها الصغيرة.

ـ أنا آدمية مثلك. لست ساحرة ولا جنّية.

ـ إذن لمَ شكلك هكذا؟

ـ لأنّي مريضة.

ـ وهل ستموتين؟

ـ ذات يوم بالطبع مثل كلّ الناس. حالياً بدأتُ أتعافى. الأخت إليزابيت طلبت منّي تدريسك، ما رأيك؟

ـ هل إذا درست أصبح متعلّمة، أقرأ وأكتب؟

ـ طبعاً.

ـ وأصبح راهبة حين أكبر؟

ـ هذا من مشيئة الله.

الصغيرة تعد على أصابعها: يوم، ويوم ، ويوم و...

ـ ماذا تعدّين يا زينة؟

ـ كم يوماً غابت أمي؟ خمسة ...

ـ حسناً أنت شاطرة في الحساب.

ـ نعم. وأظنّ أنّ أمي ماتت.

ـ لا تقولي هذا.

ـ ماتت أمي. من المؤكد أنّها ماتت.

ـ لا يا حبيبتي، سترجع إن شاء الله.

ـ لن ترجع فقد اكتشف العساكر أمرها، خاصة وأنّها لم تلبس التنورة.

ـ أيّ تنورة؟

ـ التي خاطتها لتخبئ فيها الحبوب. تنورة داخل تنورة...

ـ إن شاء الله ستعود بتنورة ملأى.

ـ مارون ويوسف لم يرجعا أيضاً. أخي مارون مات وأخي...

وطفقت الصغيرة تبكي أخويها مارون ويوسف ووردة تهدّئها: سيرجعان. صلّي ليرجعا.

*  *  *  *

في المرحلة الأولى، كان من الصعب أن يُسمح لوردة بتدريس اللغة العربية، في مكان تدلُّ فيه لهجتك على الزقاق حيث ولدت. هكذا اكتفت بتدريس البيانو بفرنسيتها المكتسبة. وإذ بعد ذلك، فعلت المعاشرة فعلها، التأمت الوافدة مع المكان الذي جاءت إليه وقاربت لغتها الفرنسية الإتقان، اتسعت دائرة نشاطها المدرسي. وحين نهضت وتبيّن أنها ذات صوت بديع، في الغناء على الطبقة العليا، انضمت إلى الكورال. وغناؤها حين تصدح، ave Maria ترتعش له القلوب. ويسألون عن هذه التي يتوغل غناؤها في أعماق الروح. يقال لهم إنها من أصل أسباني.

كانت وردة، في رسالتها إلى الشيخ يوسف، حدّثته بالسكينة التي تشعر بها حين ترتل، فأذن لها بأن تشارك فقط في ما يمجّد الله دون أن تتعارض معاينة مع دين الإسلام.

أسبانية! في الصباح الباكر وفي المساء مسلمة، تختفي في ثياب صلاتها الطويلة، الناصعة البياض التي خاطتها لها أختها صافيناز. كان من الصعب عليها أن تنفرد خمس مرات في غرفتها لتصلي، فتكتفي بمرتين تؤدّي فيهما الفروض مجتمعة، أداءً يمنحها السكينة. وفي ختام كل مرّة، تدعو ربّها أن تلتقي خطيبها بشارة، وأن يرحم روح والديها بوران وعزمي، وأن تقابل أخاها محمود ومربيتها رضيّة. وتخص بالدعاء، والدموع تنهمر من عينيها، خالتها سنيّة. تشتهي لقاءها وتقبيل يدها، لتعتذر عن سلوكها الرهيّب، ذاك النهار، يوم أمسكت بيد نور الدين واستعجلت مغادرة البيت لتحلق بكاميليا.

في الزيارة الأخيرة سألت ملك أختها وردة عن رأيها النهائي بالنسبة إلى الزواج من خالد. وتَلك التي لم تفهم قصد السؤال أجابت: قولي لأخي نور الدين إني مرتاحة في الدير ولا أريد شيئاً إلا "تلجة". إنْ كان عثمان لا يرغب في المجيء، يمكن للأخت إليزابيت أن تعثر علي سائس آخر.

هكذا، التحقت "تلجة" بسيدتها في الدير، ووُضعت في تصرّف الأخت إليزابيت، تُيسّر الأعمال الكثيرة التي تقوم بها. توزيع المؤن. إنقاذ منازعي الموت في الطرقات. الزيارات التي تسجل فيها أسماء العائلات المحتاجة. الإعانات ستصل وسيأكل الجياع. ووردة، في مناخ العَوَز وخروج الراهبات بدأت تساعد في الداخل. تدوّن الأسماء، تستقبل الجائعين لتناول وجبة اليوم، وتتولّى تعليم الصغار، أو تبتكر الحجج لتخرج ومعها زينة. هذه تبحث عن أمها وهي عن شيء آخر. وبعد الظهر، تشارك كاميليا وجورجيو في كتابة الرسائل التي تدعو المهاجرين في أطراف الدنيا إلى إنقاذ ضحايا المجاعات. رسائل كثيرة بُعثت في تلك الآونة. ورسائل أكثر منها كُتبت إلى بشارة ولم تُرسل.

*  *  *  *

في خروجها من الدير، تلتقي وردة امرأة عجوزاً. ضئيلة الحجم شديدة النحول، تطوي عظامها تحت تنورتها السوداء، تمشي ببطء وتكاد لا تتقدم. تتوقف المرأة، ومن على الرصيف المقابل تشخص إلى وردة. عينان غائرتان، وتعابير وجه تراوح ما بين تعبير طفلة وعجوز طاعنة في السن. ومِن بعد، تسألها شيئاً بالإشارة. أو هكذا يخيّل لوردة.

هل تسألها عن طعام؟

لا يبدو عليها ذلك. وإن كان هزالها وشحوب عينيها يوحيان بأنها جائعة. ها هي تجتاز الطريق وتقترب منها، وبالإشارة وبعض الكلمات تسألها عن اسمها، والصغيرة زينة تتطوّع للردّ:

ـ اسمها الأخت بهيّة.

هزّت العجوز رأسها ومضت.

*  *  *  *

منذ قدوم "تلجة"، صارت وردة تطلب من السائس أن يمرّ بالحيّ الذي يقع فيه بيت بشارة. تدور حول السور. تبحث وتنصت. لكن لا شيء ينبئ بشيء! على الأرجح أن أهل البيت كما سمعت هجروه. وتمرّ ببيت الجارة أمّ عبدالله وقلّما تلمح أحداً من النافذة فيه. لا تجرؤ على التوقف، إنّما في المرّة الأخيرة حدث شيء: استوقفها شاب، وبالفرنسية قال لها:

ـ لديكم رسالة يا أخت بهية.

ـ ماذا؟

وبالعربية أضاف:

ـ لائحة بأسماء محتاجين.

تناولت المغلّف وخطر لها أن تسأل الشاب عن اسمه، لكن السائس كان أسرع منها. همز جنب حصانه وانطلق.

*  *  *  *

بشارة في السنة الأولى على الجبهة، وقبل التحاقه بمكتب الاتصالات، كتب عدداً كبيراً من الرسائل لوردة ولأهله. لكن، بين صرامة الرقابة من جهة الحلفاء، وصرامة تضاهيها من جهة المحور، لم يصل من تلك شيء. الرسائل التي يكتبها الجنود، تُجعل وقوداً للتدفئة، والقليل منها يذهب إلى ملفات المراقبين. وحين أصبح مهندساً لخطوط "الزاجل" والهاتف، صار من المستحيل على بشارة إرسال كلمة أو إشارة لأيّ مخلوق في الدنيا. تعليمات، لا أحد يخرقها، إلاّ وَجزاؤه الإعدام. لكن تلك الرسالة وصلت! وبالبريد. غير الأولى التي لا تحمل أثراً لختم. رسالة، لفرط ما شوّشت أفكار وردة، ظنتها من ضروب الهلوسة.

"أختي الحبيبة،

كلما استطعت سأكتب و كلّما أذن لي البشر سأرسل. وإن كنت هذه المرّة أفعل والحزن والقلق ينغّضان علي بهجة التواصل. ولولا أنّ البوح ضرورة للنفس كي لا يصيبها الفناء بعد الموت، لما فعلت، نعم، لا يسعني أن أموت وأقرب الناس إلى  روحي يبقى جاهلاً علّة مصيري. لقد حدث ما يصعب تصديقه. ما لا يمكن حدوثه إلاّ في ترّهات الحروب. فقد شاءت تلك أن أمرّ يوماً بالعربة العسكرية، فألمحُ طيفاً جمّده البرد، حتى بات غير قادر على أن يلفظ  روحه. كان الثلج يغطيه من الرأس حتى القدمين، وذراعاه المتصلّبتان تطلبان من العابرين النجدة. ولولا همس مكتوم، لظننته ميتاً وتابعت السير لأنجو بنفسي. لكن خيوط الضباب التي كان تتسرّب من فمه وفُتحتَي أنفه جعلتني أوقف السيارة وأنزل. خلعتُ معطفي وألبسته إياه. أركبته العربة وطرت به إلى المعسكر. وفيما كنتُ أنزله، وقعتْ من جيبه محفظة تناولتُها وخبأتها بين ملفاتي.

لازمتُه أياماً. أسهرُ عليه مع الممرّض أو أقوم برعايته إذا ما انشغلوا عنه. ونشأت بيننا من تلك الصداقات التي تربط الرّوح بالرّوح! وبعد أسابيع تذكرتُ المحفظة. وكدت أعيدها له دون فتحها، لولا أن نظري كان سبّاقاً. فتحتُ الأوراق، وعرفت أن زميلي، أدّعي ما أدعيتهُ: فرنسي من الجنوب، وأسمه المعلن غير أسمه الحقيقي. أحسست بالخطر، وعلى الفور، دخلت على رئيس القومندان وطلبت نقلي.

في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، في بلدان الأمريكتين، بدأت الرسائل تصل، تحث الجاليات على إغاثة أبناء وطنهم في بلاد الشام. كان لواحدة من تلك الرسائل وقع مختلف، إذ عادت تشغل أبناء الجالية في "بوينس آيرس"، بحكاية ظنّوا أنّها طويت في صفحات الماضي. الرسالة كغيرها وَرَدت من الدير في بيروت، تنقل تحيّات سيّدة تدعى كلاوديا إلى أقارب لها وأصدقاء. وإلى، يا للعجب، عائلة تعرفها جيداً هي عائلة شكري. كلاوديا جرجي التي يعرفونها، إنّما أضيفت إلى اسمها عبارة للإيضاح وُضعت بين قوسين (كلاوديا نور الدين إسماعيل!).

الخط خط كلاوديا والكلام كلامها لكن الاسم تغيّر.

عجباً، كيف تغيّر زوجة السلطان اسمها؟ كيف تقيم في الدير، وتكتب رسائل لصحبها القدامى؟

كان شكري، أسوةً بغيره، قد سمع آنذاك بالشائعات: المحبوبة التي حرمه أبوه الزواج بها وهرّبها جورجيو إلى ما وراء البحار، غدت بسعي من ذاك المحنّك، زوجة السلطان العثماني. تعيش في قصره في اسطنبول مفضّلة على سائر نسائه. القصة التي منذ سنوات أطارت صوابه وجعلته، حتى قبل أن يفكّر بالهرب، يُضرب نهائياً عن الزواج. أمضى السنوات السبع الأولى في عزوبة مطلقة يلوم نفسه ويلعن الجبن الذي زرعه والده في روحه وحال دون لحاقه بكلاوديا. لو فعل، كما يجدر برجل، لغفر له جرجي نذالته وزوّجه إياها. لكان وطئ مرفأ بيروت عريساً يتأبط ذراع عروسه. لكن الجبن، أّرذل الصفات لرجل، أدّى بخطيبته إلى مخدع السلطان. والآن تكتب لهم من بيروت باسم مستعار! لا يدري هل تفعل هذا سراً عن السلطان، أم أنّ هذا قد هجرها  كما فعل بكثيرات غيرها، وصارت مِن ثم حرّة وسيّدة  نفسها؟

مهما اختلفت التكهنات، فالرسالة ملأت نفسه زهواً. لا يمكنه الزعم بأنّ حرية كلاوديا جاءت بعد فوات الأوان. لا. فهو قد دخل الدير بملء إرادته لأنّه أدار ظهره لمباهج الدنيا وامتثل الدعوة التي كانت تنتظره، كما يمتثل الآن رجاء المستغيثين. أقام الدنيا وأقعدها ليملأوا  بُطون البواخر بكل ما يحتاجه مُعدم. وها هم الناس يتجاوبون ويجمعون المُؤنّ. بارك الله بمبتكر الهاتف الذي هداه لتيسير التواصل بين المؤمنين. كلّم سنترالات الأرجنتين كلها، أوصلته بأبناء جبل لبنان وبلاد الشام أينما وُجدوا. والآن سيرافق بواخر النقل العملاقة إلى بيروت، بمعيّة اللجنة المكّلفة بالمهمّة.

نعم، رغم تأفف أبيه.

ثانيةً يعترض هذا طريقه! ثانية يتدخل لحرمانه من تحقيق أغلى أمنية على قلب مؤمن: إنقاذ الضعفاء. "مجاناً أخذتم مجاناً تُعطون، ومعني حياته الآن يتبلور".

هكذا، وبإشراف الكاهن الجديد ذي الأصل اللبناني، شُحنت، من مرفأ "بوينس آيريس"، باخرتان مملوءتان بكل ما من شأنه أن يردّ عن الضعفاء الجوع والمرض. وعبرتا الأطلسي تشقّان الدرب إلى مسقط رأس الأجداد. الدرب ذاته الذي سلكته كلاوديا قبل عشر سنوات. الآن وهو في عرض البحر بعيداً عن تفاهة الشأن العادي، تتضح له الرؤية ويدرك مغزى ما حدث له منذ عقد من الزمن:

في تلك الليلة الثقيلة التي أمضاها ساهراً منتظراً بزوغ الفجر، كان يرتب في خياله الخطة ويستعيد تفاصيلها: قبيل الشروق، سيتسلل من البيت على غفلة من أهله، ويتوجّه إلى المرفأ ليلحق بكلاوديا. يفاجئها ويفاجئ أباها بحضوره، ليؤكد لها حبه ولأبيها استحالة التفرقة بين المحبيّن. كانت الأمور بالتأكيد ستسير على هذا النحو، لولا أنّ الطبيعة تآمرت عليه، وتحت وطأة الطقس الحار والرطوبة غطّ في نوم عميق، ليفاجأ بأشعة الشمس تلسع جفنيه. مبلّلاً بالعرق، هبّ مثل مجنون! متأخراً عن موعده ساعات، فالباخرة  صارت في عرض المحيط!

ذاك اليوم المشئوم الذي بلغ فيه الندم مبلغاً رهيباً في نفسه، عزا استغراقه في النوم إلى التكاسل المتأصل في روحه، وإلى دخان البخور الذي تشعله أمّه كلّما انتهت من قلي السمك. لكن لا. الآن، وبعد مرور سنوات، وهو بين زرقة الماء والسماء، تنجلي الأسباب الجوهرية للتأخير، كما تنجلي معاني كلّ الأحداث السابقة عليها. كلّها تتصل بمغزى واحد يتجاوز البخور والرطوبة وتعسف الوالد وجُبن الابن. ولجميعها مبرَّر عظيم كان يقوده إلى الدّرب الذي
اهتدى إليه. الهدى الذي جعله يغفر لأبيه موقفه، وللكاهن أماديوس تقصيره. كانت كلاوديا، على كرسي الاعتراف، قد باحت للأب
بأن شكري لثم يدها وجنتيها وكاد يلثم فمها، لولا أنّها
أسرعت إلى الهرب. ورجته أن يقوم بالوساطة بين الوالدين المتخاصمين. وهو، شكري، عاد بدوره واعترف. وحمد الله
على الشجاعة التي منحها لخطيبته كي تقاوم الغواية. نعم،
الحمد للّه، فوحده يعلم بالمغزى الخفي للدوافع. كلّها تجارب
عابرة مهّدت لملابس الكهنوت. والدنيا، التي لا تبخل على
أبنائها، ما زالت تغدق عليه. نعم،  تمنحه بعد سنوات غفران شابة أحبته وخذلها. وتحفزه لخدمة الضعاف. فها هو يرأس الرحلة التي ستنقذ الآلاف من المجاعة.

*  *  *  *

خرجت الباخرتان من الأطلسي، لترسو  بعد أسابيع على الضفة الشمالية للبحر المتوسط في مرفأ مرسيليا. وينزل ركابها القليلون، ومن بينهم الكاهن شكري، في المرفأ ذاته الذي نزل فيه منذ عقد من الزمن العم جورجيو وابنته. في ملابسه الأنيقة الفضفاضة ذات الأكمام الواسعة، تسير عربة الكاهن في شوارع المدينة بحثاً عن الفندق الذي سمع به من العم جورجيو. إنّهم يقتربون، يقول السائس، وها هو يصل، وينزل ويقترب من الفندق ويقرع الباب  ويُفتح له.  ويطلب غرفة ويصعد السلّم الخشبي متهيّباً ويدخل. يركن أغراضه جانباً ويستلقي على السرير. يا إلهي! في الغرفة آثار نفس يعرفها. النفس الدافئة، العطوفة سبقته لا ريب إلى هنا. لعلّها الغرفة ذاتها وذات...

هكذا وعلى إيقاع أفكاره السامية غفا. وفي صباح اليوم التالي نزل، وعيناه تبحثان عن صاحب الفندق "جاك رو".

في الجلسة الفريدة التي جمعت الرجلين، وتبادلا  فيها الأحاديث، كان على الطرف المحنّك، أن يبذل جهداً كي لا يدع جليسه الكاهن يستشف شيئاً من فواصل كلامه. في خاطر الكاهن انتهت الجلسة إلى لا شيء، وبقي الحوار المُشتهى في سجلّ المتخيّل:

ـ"هل مات السلطان وتَرملت زوجته؟ وماذا، بعد أن يموت السلطان يحلّ بنسائه؟ أيصبحن حرائر أم يُوَرّثن إلى من يأتي بعده؟".

ـ " يا حضرة الكاهن المتيَّم...مَن جاء بعد تلك الحكاية هو المستشار نور الدين. والمحبوبة أنجبت منه طفلين: شوقي وعلية".

بقي السرّ سراً. وزوجة السلطان، بين بيروت واسطنبول، تراوح في خاطر الراهب مكانها.  لكن دروس الفلسفة الطازجة تؤكّد له استحالة ذلك! إذ لا يمكن للسرّ أن يكون سراً خالصاً، فشرط الأسرار إمكانية ظهورها! أمسك ورقة وراح يكتب في المسألة كتابة لاهوتية. حتى إنّه، في طريقه ثانية إلى المرفأ، والعبارات تتدفق على ذهنه كالشلال، لم يشعر بشيء. أبحر واللغز الذي حمّله إياه صاحب الفندق يؤجّج تساؤلاته. وحده الرب يعلم! سيدخلون البحر المتوسط الذي، منذ أكثر من نصف قرن عبره أبوه صبياً يافعاً مع جده.

يا إله السموات! أنفاسك تتهيّب دخول المكان الذي على ضفافه نبتت جذورك. تتهيّب هذا المنبسط المائي الذي يصل ما بين القارات وتلهج الكرة الأرضية بعظمته. رذاذ الملوحة، عذوبتها، زرقتها، غير المياه التي عرف. الشكر للّه! وحده قادر على تفصيل العناصر على النحو الأسمى لعبادته! سيركع يصلّي، مشرّعاً وجهه إلى الأزرق اللانهائي، في خلوة وسعها أطراف السماء.  خلوة لن تطول، فبعد بُرهة  فقط سيُضطر إلى قطع صلاته.

في إبحاره مرافقاً الباخرتين، ما كان يخطر للكاهن شكري، أنّ وصوله إلى غايته المنشودة، ستعصف بها المخاطر. وأنّه لن يدفن في أرض الأجداد كما كتب في وصيّته. وأنّ الحمولات، التي من شأنها إشباع آلاف الجياع، لن تبلغ المرسى. ولن يبلّ منازعو الموت ريقهم بقطرة دواء، وأنّه، سيُضطّر إلى قطع صلواته لحظة الارتقاء. فالضربات على باب الكابين أقوى من أن تتركه يفعل بسلام!

قام وفتح.

معاون القبطان! ما له لهذا الحدّ مذعوراً؟!

"سفن غريبة تلوح بعيداً في الماء. تقترب ولا تستجيب للإشارات. مجهولة الهوية لا ترفع علماً ينبئ بالجهة التي تنتمي إليها. الوضع حرج والقبطان يدعوهم لتدارس الموقف في أسرع وقت".

ـ لكن أين نحن الآن؟ وأيّ المياه نعبر؟

ـ نحن في منتصف الدرب حيث القراصنة يعيثون فساداً.

ـ دعوني أعالج الموقف، قال الكاهن.

نعم، سيشرح لرجال تلك السفن الغاية السامية التي تقف وراء هذا الإبحار. لقد فعل. ومن ناحيتهم أصغوا إليه وهم يهزّون رؤوسهم. بدوا موافقين على كلامه، ورغم هذا راحوا يسألونه عن أشياء أخرى: لمَ أكياس الأغذية هائلة الحجم؟ ما كميات الأسلحة المخبأة في بطون السفن؟ وسؤال آخر: أيّ الدول تقف وراء هذا كلّه؟!

لا أسلحة، لا دول، ولا جهات، أجاب الكاهن شكري مبتسماً. ليس سوى فاعلي خير. إنْ كانوا يريدون أن يتحققوا فالقبطان يسمح لهم بالتفتيش، وينتهز هو الفرصة ويحّدثهم عن الرب. وعلى ما يبدو نجح.  فالرجال المتشككون، بعد اعتذارات وتحيّات، عادوا من حيث أتوا.

لم تمضِ ساعات على توارى هؤلاء حتى هبّت من باطن البحر زوارق فائقة السرعة، هبوب العفاريت. ضربت حول الباخرتين طوقاً من الصخب والرذاذ. رجالها يلوّحون بأيديهم، يتفحصّون بالمناظير، يصيحون  بكلام غير مفهوم، قبل أن يبدأو بإطلاق النار. ثم وبخفة الشياطين شرعوا بالاقتراب. وبالخفة ذاتها غادروا زوارقهم وراحوا يتسلّقون السفينتين، ليطلبوا من أفرادها التجمّع في المقدّمة. بعد قليل سيجد الكاهن نفسه سجيناً مع القبطان في غرفة ذاك. سيمكثون في سجنهم ما يكفي من الوقت لينهب الغزاة حمولة السفينتين عن بكرة أبيهما!

*  *  *  *

انتشرت أنباء الباخرتين المنكوبتين وطاقمهما المجهولي المصير. الأطراف تتبادل التهم. العثمانيون يتهمون الحلفاء بافتعال الحادث "لتكريه شعوب المنطقة بهم"، والحلفاء يتهمون العثمانيين، بعرقلة وصول مساعداتهم. الأخبار توغر الصدور ضد السلطنة. المعارضون من نصارى ومسلمين يستعجلون الخلاص. إلى أن يحدث ذلك فالجياع يملئون الطرقات فيما مؤن وفيرة أثناء النهب غرقت في البحر.

خيّم اليأس على المدينة. قبض على أشد النفوس إيماناً. الأخت إليزبيت ستلوذ أياماً بالفراش، فيما وردة تمسك بيدها. كاميليا لا تجد طاقة للوصول إلى أقرب كنيسة. نور الدين يحاول مواساتها وهي على شفا الانهيار. حتى، وقبل أن تعلم بأن مرافق الباخرتين مجهول المصير، هو نفسه خطيبها السابق شكري.

شكري آثر أن يترك وصوله مفاجأة، وفي البرقية التي بعث بها إلى مطرانية بيروت، اكتفى بالقول إنّ الجالية في الأرجنتين ترسل أمانتها مع كاهن، له  في لبنان جذور وأصدقاء.

*  *  *  *

الموت في كلّ مكان، يوحّد ما بين سكان يرتعدون من الخوف والبرد. يأوون إلى أقبية الدير، وإلى زوايا الجوامع، حيث ينتظرون الإحسان من الميسورين. كنت تسمع أنّات المتأوهين من الجوع. الناس يهاجرون باتجاه الجنوب إلى فلسطين ومصر ليأتوا بالحبوب. سيعد الحظ من يرجع ويجد عائلته على قيد الحياة. بعضهم يموت بالسل. ويلٌ لمن يصيبه المرض القاتل! ويلٌ لأسرته! عائلات بأجمعها انقرضت أو هاجرت. الجثث تملأ الشوارع.

الجوامع والكنائس، ترسل المتطوّعين لحملها والبحث لها عن مرقد. رائحة العفن تنتشر مع الأمراض. الجرب. الكوليرا. التيفوئيد. حمّيات لا يُعرف لها أسماء. قاعات الجوامع
تمتلئ بالمصلّين. أجراس الحزن لا تتوقف. المآذن ترتفع بالدعاء والتكبير. أخبار المعارك تتوإلى وهزائم السلطنة أيضاً. المشانق تُعلّق في بيروت والشام، لشبان يغلقون عيونهم على مشاهد الظلم ويهتفون بسقوطه. "اللّنبي يحاصر القدس". نور الدين فيما يقرأ تفاصيل تلك، يتساءل عمّا سيحلّ بالسلطنة. ووردة تتساءل عما حلّ ببشارة؟ بعد الصداقة التي عقدها مع الجريح، وبعد انكشاف هوية ذاك، صارت تهجس بأن يقتل أحدهما الآخر. مَن سيقتل مَن؟ تسأل إليزابيت. "تلك حكاية أخرى. وقعت المحفظة من جيب الجريح الذي كان يتكئ على كتف الضابط، وهذا فتح الأوراق وعرف الاسم: نظمي عزمي إسماعيل! وهل هناك مئة شاب يُدعون كذلك؟".

الجراد يتابع زحفه. أمواجه ترتفع وتهبط لتنقضّ على الحقول والبساتين. جراد أحمر، جراد أبيض، جراد أسود أو أخضر، يحطّ على المزروعات، وفي أرضها يتوالد. الحكومة منشغلة بإطعام جنودها. يلتقطون المحاصيل والمعونات قبل وصولها. أعداد الأيتام تتزايد. الأمهات يتركن فلذات أكبادهن على عتبات وجهاء المسلمين والأديرة. بعضهم يوزّع على العائلات. المفتي يعاونه كثيرون، ومن بينهم نور الدين، أنشأ "دار الأيتام الإسلامية". المراهقون أُخذوا  إلى الثكنات تمهيداً لنقلهم إلى جبهات القتال. الأمّهات ألبسن أبناءهن "الدشداشات".  أُسقط بيد"القومندان" مسئول ثكنة "عاليه"، وطلب على الفور إعادة المراهقين من حيث أتوا. مسؤولو الثكنات الأخرى لم يعترضوا، فأُرسل حديثو السن إلى جبهات دخلت ومقاتليها في الطور الأخير.

جمال باشا وحده في أتون الحرب يكبر. صار عملاقاً يزرع الرّعب في النفوس. ينصب المشانق للمتهمين القادمين. و"الكونية" هذه نفق مظلم، لا أحد يتكّهن فيها بساعة الخروج.

*  *  *  *

دقّ الحارس باب القاضي ليخبره بما وردهم منذ لحظات: باخرة سياحية تُدعى "زيناتا"، ضُربت وغرق جميع ركابها.

ـ ومَن الجهة التي ضربتها؟

ـ يُقال، الألمان. إنّما الأطراف كلّها تتهم بعضها بعضاً، والغرقى بالآلاف.

ـ يا إلهي، من أي الجنسيات؟

ـ بريطانيون. إنّما من بينهم عدد من الأمريكان. يقال إنّ الأمر أغضب أمريكا وأنها ستدخل الحرب.

"عجباً لهذه الكونية. بدأت بمقتل دوق نمساوي وتتأجج الآن بمقتل مسافرين أمريكان!

ـ لا عجب قال نور الدين، لابد من ذرائع تبرر فظائعها كلّما دخلتها دولة تجدّد الفتيل".

القاضي عزت باشا، بعد أن أنصف العائلة التي جاء لإنصافها، بدأ يتحضّر لمغادرة بيروت مرتاح البال. وفي وداع نور الدين وجده هذا متفائلاً: نعم حدث ما لم يكن في الحسبان! الروس يواجهون ثورة في الداخل. البلاشفة يسيطرون على الحكم. يقال إنّ هؤلاء يمقتون الحروب ولا عجب أن ينبذوا المعاهدة التي ورطتهم فيها. إذا انسحبت موسكو تنفست اسطنبول. ولا غرابة يا صديقي أن تنتهي هذه الحرب، بعد ملايين  القتلى، بالتعادل.

هكذا منتعش الروح اتجه القاضي مع نور الدين إلى المرفأ. في تلك اللحظة، ونفسه عامرة بالثقة، ونسيم تشرين يلامس خّديه، حبٌّ للعالم كلّه تدفق في قلبه، يمنحه العزاء على فراق المستشار. في لحظة التفاؤل هذه، لو التقى "السفاح" ذاته كان سيأخذه في الأحضان. إنما لحظة التفاؤل كانت عينها لحظة المصير. عند أسفل السلّم، هاجمه ملثّم وغرز في صدره طعنات خنجر. سيموت بين يدي صديقه في طريقه إلى مستشفي الألمان وهو يتمتم: السفاح!

النبأ الذي خطر للجميع في بادئ الأمر إخفاءه عن وردة. إنّما، لسماعهم ما هو أفظع منه عادوا وأخبروها به، لتزداد يأساً ولوعة، وتلوذ ثانية بالصمت. بسببها لاقى هذا الرجل النبيل حتفه. حدث هذا فيما النبأ الأفظع بدأ يجري على الألسن: بشارة، هو أيضاً  قُتل على الجبهة مع نسيب ابن أيوب الساعاتي.

*  *  *  *

الهرب   الكبير
الخبر الذي لا أحد يجرؤ على أن يبلغها إياه، صارت وردة تقرأه أينما كان. في رسالة بشارة الأخيرة التي لا تتجاوز عبارتين : " حبيبتي وردة كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة. وداعاً " وتقرأه في صمت الأخت إليزابيت. في تهرب كاميليا وتواري عبد الله. في أعداد الغربان التي تنعق في الجو.  في حركة هذه وهي تحط وتطير حاملة أشلاء القطط والكلاب. تقرأه في طواف المرأة العجوز في الطرق. في تعب تلك وجلوسها على حجر عند ناصية الشارع. هذه ليست مارتا. ولا ابنة تلحق بها لتعيدها إلى البيت. مارتا ماتت قبل سنين في الأرجنتين، وزينة تقول:

امرأة مسكينة ابنها راح  إلى الحرب ومات فاختل عقلها.

الكل، بلا كلام، ينبئها بأن بشارة انضم إلى قافلة شهداء لا أحد يجرؤ على ندبهم. إلزابيت تقول لها: من الأفضل يا عزيزتي أن تسافري مع أخيك. وكاميليا تحاذر أن يقع نظرها في نظرها. في لقاءاتهما التي غدت نادرة، تشيح بوجهها إلى الأرض! أي العبارات تداري العين خروجها؟

وفي الزيارة الأخيرة، قالت لها:  نور الدين اتخذ القرار. سنسافر.

-هجرة ؟

-لا. حالياً سفر.

-وإلي أين تسافرون؟.

-إلى أقرب مكان. الاسكندرية. لا تقلقي يا عزيزتي، نور الدين رتب لك كل شيء . سيصلك مالك والمؤونة. اشكريه بدلاً مني. وقولي  له ...

- ماذا أقول له ؟

- إني مشتاقة لآبيه نور الدين .

- وهو أيضاً يشتاق إليك .

- صحيح ؟

طبعاً .

- وكادت كاميليا تحدث وردة بشيء أخر : بندم نور الدين . نعم ، لو أن الفكرة التي خطرت للشيخ يوسف خطرت له ، وزوّجها بالرضي من بشارة ! لكن ما جدوى أن تحدثها بهذا بعد فوات الآوان ؟ ووجدت نفسها تقول :

-إذا طالت الحرب ، سنواصل السفر إلى الأرجنتين . عند ذلك سيرجع نور الدين ليأخذك أو يرسل بابا جورجيو لذلك . جميل أن نجتمع ثانية تحت سقف واحد إليس كذلك يا وردة ؟

" إذن سيسافرون بالتأكيد " ،

فكرت وردة . نور الدين، بعد أن خسر كل شيء صار يفضل الرحيل . والباخرة العملاقة التي كانت ستسافر عليها مع بشارة ستُرجع كاميليا من حيث أتت . الكل إن تيسر له سيرحل . عدد من الراهبات نُقلن إلى بلدان وبلدات أخرى . وبعد أن نُهب الدير وبات على ساكنيه تدبير قوتهم الشخصي ، خفت وطأة القدم على عتبته . " زينة " بعد اليأس من العثور على أمها وأخويها سيرسلونها إلى قريبة لها في الشمال . هدوء غريب يعم أرجاء المبنى ويرجع صدى الأصوات . وهي أيضا عليها أن ترحل ، لتبحث عنه . يقولون مات . لكن لا . لا يمكنه أن يموت ويتركها وحيدة .

*  *  *  *

في تلك الفترة رأتها إليزابيت تكتب . ما هذه الأوراق يا عزيزتي ؟

- رسائل وداع .

- قلت إنك ستكملين رواية بدأتها ؟

-  إذا رجعت بأخبار عن أبطالها سأفعل .

ومضت تكتب أوراقاً صغيرة لمحبيها ، بخط متقن ، تطويها بعناية بالغة  وترمي بها من الشبابيك . وتخط رسالة طويلة لمضيفتها . وبالطبع ، ستمر بالعجوز تخبرها بالرحيل.

- إلي أين ؟

- للبحث عنه .

- خذيني معك يا ابنتي . أنا أيضاً أريد أن أبحث عن ابن  لي اختفي . خذيني نلف معاً البلدان ونسأل الناس هل رأى أحد منهم وحيدي؟

الرحلة القادمة  آخذك يا خالتي. الآن لا مكان لك على الشمسية.

*  *  *  *

" المستحيل هو الممكن " .

الدنيا ليل. المتأوهون في الشوارع غفوا . راهبات الدير خلدن إلى النوم . إنه الوقت المناسب للنهوض: وعلى رؤوس أصابع قدميها اتجهت إلى النافذة . تسلقت الحافة ، فتحت شمسيتها ولفت نفسها على  عمودها النحاسي تأهباً للطيران . الفضاء مكتوم . رصاصي . أي الفصول نحن ؟

فصل الظلام

قفزت عن حافة الشباك ، ولعجبها بدأت الرحلة بيسر . استقرت الشمسية في الفضاء هنيهة ، ثم بدأت تعلو على مهل . تتمايل إلى هذه الناحية وتلك ، تمايل سرير طفل ينام . ورويدا رويدا تحلّق . فوق البيوت والحدائق . فوق الحقول والبساتين . وتدور عائدة . يا إلهي ، للدوران في سواد الليل عذوبة ! هذه زيارتها الأولى للمدينة بعد دخولها الدير . من فوق ترى أشياء لم تكن تراها من الأرض . الظلمة تلفها بحجاب كثيف ، تَرى منه ولا تُر. ستمضي حتى النهاية . ستمضي إلى أن تصل . وقبل ذلك لابد أن تمر ، يا إلهي ... الصوت يصلها من دهاليز السنوات البعيدة ، صوت سنية ! ستمر لوداعها . اقتربت من مسكنها في دار إسماعيل، وفي حجابها الأثيري دارت على النوافذ . وتوقفت قبالة غرفة النوم ورأتها ممددة على السرير ، كاشفة الرأس وشعرها الأسود مسدل من ناحية واحدة على كتفها وصدرها ، تزينه زهرة من القرنفل البنفسجي . نور الدين يجلس بجانبها ممسكا بيدها منكس الرأس ، يبكي . وخطر لها أن تدخل ثم عدلت . لا . لن تزعجها في لقائها حبيباً  أنكرها طويلاً ثم عاد إليها . لكن سنية هي التي بادرت . من خلف درابزين الشباك لوحت لها بكفها  تسألها :  إلى  أين تذهبين  يا  وردة ؟

إلى البحث عن بشارة .

" عفارم " انتظريه كما انتظرت أنا نور الدين . ها هو قد عاد سنعيش بالثبات والنبات ...

وتابعت طيرانها ، فيما سنية تكمل جملتها ، كانت هي تتجه لوداع أختها ملك . نعم، لا يطاوعها قلبها على الرحيل دون أن ترى عزباء  آل إسماعيل المتفانية.  لكن ، يا للمفاجأة ! ها هي ملك تحمل على ذراعها طفلاً وخالد بن رضوان يحمل آخر نسخة عنه !

توأمان !

نعم يا أختي . صبيان . عزمي  وَ رضوان .

يا إلهي ! وكيف تميزين أحدهما من الآخر ؟

أحياناً آخذ هذا على أنه ذاك . لكن تصوري ، زوجي خالد ... تذكرينه طبعاً ، مغمض العينين ، يميّز بين الأخ وأخيه . ويحلو لي أن أمتحنه ، فيشير دون أن يرى : هذا رضوان وذاك عزمي ، وما من مرة أخطأ ، تصوري !؟

وكيف ذلك يا ملك ؟

دليله إليهما همس الأنفاس . لا تزعلي يا وردة كل شيء في الدنيا نصيب .

يا إلهي ، إن كان من شأن تلك الحادثة أن تخرج أختها عن عزوبتها المستعصية ، فقد كانت تستحق العذاب . عانقتها وهي تقول : مبروك يا ملك . رضوان شاب ممتاز . إنما بالنسبة لي تعرفين السبب . مبروك يا حبيبتي . كل المصاغ الذي تركته بوران سيصبح لك . لكم كانت تحبك بوران .

وقبل أن تسمع جواب أختها انطلقت . عادت ترتفع وأطراف شمسيتها تتسع وترفرف . عبرت بيوت رأس بيروت وتعبر الآن المقبرة ، ومن فوق تسلّم على الراقدين فيها . تتذكر أختها ليلى التي لا تعرفها ، كما ، لأول مرة تدرك جهلها بمكان عزمي وبوران . كيف لم تذهب  ولا مرة واحدة ، كما غيرها صباح الأعياد لزيارتهما ؟ لا بأس ، أول ما ستقوم به عند عودتها ، هو تلك الزيارة . رمت أقحوانة على قبر سنية الذي لم ينبت عليه العشب بعد ، ومضت. وإذ تجاوزت سور مدينة الموتي ، بات عليها أن تختار بين الدرب البحري والدرب البري ، فوقع خيارها على الأول . نعم ، لتشهد شروقاً يتمني كل كائن حيّ  أن يشهده !

لوحت للمنارة وتابعت طيرانها باتجاه الشاطىء . وحين دهمها النعاس . كان آخر ضوء في بيوت المدينة قد تلاشي ، فيما مظلتها البيضاء تمعن في التحليق فوق بحر الليل البنفسجي . حسناً أن العم جورجيو أرسل  لها البوصلة ، فمعالم الأثير غير معالم الأرض . هكذا غفت مطمئنة إلى أن سفينتها تمضي باتجاه الشمال .

لا تدري كم من الوقت نامت .  وحين أفاقت  كان الثلج يغطي كل مكان ، وكانت هي ترتعش من شدة الصقيع . لفت نفسها بغطاء الصوف الأزرق وتكومت حول عمود الشمسية  تتأمل المدى اللانهائي الأبيض ، وتشعر رغم الفراغ بأنها تقترب أكثر فأكثر من بشارة . يا إلهي أنت الأكرم! ها هو طيفه يتراءى من بعيد جالساً أمام خيمته ، مضمد الجراح  يقرأ . أسرعت إليه . وهو ، من ناحيته ، أحس باقترابها فرفع بصره قائلاً :  باسم الرب ! ماذا تفعلين هنا يا وردة ؟

- أبحث عنك .

- أنت شابة صغيرة وما كان يجدر بك أن تأتي إلى هذا المكان .

- لكني كبرت . نسيت ؟ سنوات مرّت ...

- صحيح . إنما لا تقلقي علي ، فأنا رغم المخاطر بخير 

- إذن . لابد أن ترجع معي .

- أرجع معك ؟!

- نعم ، أمك في انتظارك .

- صحيح ؟

- كانت ستأتي معي لولا ...

- وماذا عن أبي ... ؟

- لا أدري .

- مهما يكن يا وردة ، تعرفين أنه بعد التحاقي بالجيش الفرنسي ، بات من غير الممكن ...

- ولم يا حبيبي فعلت ؟ ألا تعرف أن الشقاق بينك وبين نور الدين سيزداد ؟ إن كان ، بعد نصيحة الشيخ يوسف ، سيغفر اختلاف الدين ، فمن الصعب عليه أن يغفر انضمامك إلى الأعداء .

- الفرنسيون ، يا حبيبتي ، ليسوا أعداء . سأشرح لك حين نلتقي .

- في الدنيا أم في الآخرة ؟

- كما يشاء الله .

*  *  *  *

لا تدري كم من الوقت مضت تحلق  في مخيلتها. إنما كان عليها أن تعود  لتصل إلى المدينة وتقترب من الدير . حطت على حافة النافذة ،  أغلقت مظلتها ، دفعت الدرفة ونزلت إلى غرفتها . تغريها الرغبة في أن تغتسل لتنزع ما علق بشعرها وما التصق بجلدها من لزوجة وعفن . لكن الإنهاك لن يسمح لها بذلك . بين الصحو والإغفاءة اتجهت إلى سريرها ، وبمرورها بمحاذاة الطاولة لمحت رسالة مفتوحة قرأت منها العبارة الأولي . ارتمت على السرير وغمرت نفسها بالغطاء وغطت في نوم عميق ، فيما هي تستعيد ما قرأت " حبيبتي وردة "

مشكلتها ، حين أفاقت ، أن الأخت إليزابيت تبدو لها لا مبالية. تسألها عن الرسالة التي لمحتها علي الطاولة قبل أن تنام ، والتي حين أفاقت لم تعثر عليها . وهذه تلوذ بالصمت . أو تقول : لا علم لي يا حبيبتي بتلك الرسالة . متى وصلت ؟ وتضيف: من الأفضل لك يا عزيزتي أن تسافري مع نور الدين . خلاصك ، يا عزيزتي في الابتعاد .

الابتعاد عن أي  شيء ؟ سألت وردة في سرها ، وإليزابيت أضافت :

-                            الطبيب نفسه ينصح بذلك . لا تفوتي على نفسك الفرصة .

-         *  *  *  *

يوما بعد يوم يتأكد لها  النبأ الذي لا يجرؤ أحد على إعلانه ، والذي غدا مشتهي لدى محبوبها نفسه بعد أن جرى ما جرى! كل يرى الأشياء من زاويته ، والحادث الذي جعله يشتهي الموت، يراه رفاق الكتيبة سبباً  للتتويج!  حملوه على الأكتاف، هاتفين للبطل المرسيلي الذي جمع المجد من طرفيه : العلم في هندسة الاتصالات والبطولة في ساحة الوغى . كان في وده أن يفتح فمه ويقول شيئاً ، إنما وجد نفسه عاجزاً عن قول أي شيء .

من ناحيتهم لم يكونوا في حاجة لأن يستمعوا إليه بعد أن رأوا المهندس يستل البندقية من يد عدوه الألماني ويطلق عليه الرصاص ،  فيما كان هذا ورفاقه يقتربون من المحطة لسرقتها . الألمان تركوا الجريح وتراجعوا ، ثم فروا  فرار العصافير ، والبطل يبادلهم النار بالنار . نعم ، بمفرده وفي الموقع الأكثر جاذبية للدم والذي صارت تتحدث به الأمم ! سيتحدث رفاقه طويلاً بتلك اللحظة التي استشعر فيها البطل خطى عدوه، فاستدار بحدس شاعر ورشاقة لاعب كاراتيه.

محمولا على الأكتاف يهتفون له ،  فيما خياله المنهك يستعيد الواقعة التي تورط بها : الرصاص الذي تدفق من البندقية الآلية، وكان أسرع من توقعاته ، هو الذي أردى اليافع قتيلاً أو شبه قتيل . وبعد فرار الآخرين، لاح على وجه الجريح ذاك التعبير المعذب الذي يستعطفه فيه أن ينقذه وإن كان هو قاتله .

عجباً لم البطل الشهم لم يفعل ؟!

لم ، هو بشارة شكر الله ، لم يستجب لاستغاثة شاب يرفض أن يموت ؟

رفاقه مستمرون في الهتاف ، واسم البطل يخرج من حناجرهم فرنسياً يدعي " برنارد " لكن لا . اسمه بشارة شكر الله  وهو ليس بطلاً . إنه قاتل ، قتل غريماً غدا  أخاً  له  في الإنسانية منذ الطلقة الأولى التي أوقعته  جريحاً  أعزل .

"عاش البطل".

"نعم ، الذي رفض إنقاذ أخيه الجريح".

"عاش المهندس الفذ ، رفيقنا ومواطننا المرسيلي برنارد."

لا القاتل ، ليس مرسيلياً. هو بشارة شكر الله ، حفيد نمر شكر لله ، حفيد توفيق  حفيد عيسى  وموسي وإبراهيم وكنعان ، هكذا بالتسلسل وصولاً إلى سيدنا آدم. آدم  لم يقتل . أبناؤه هم الذين فعلوا . استسلموا لغواية التنافس فقضى أحدهما على الأخر وتركه في العراء . وهو الحفيد بعد ملايين السنين يكرر الفعل ذاته .

 يا للخزي !

 الجريح سينزف حتى الموت ، وأمه ستطوف في الشوارع غماً على فقدان ابنها الذي قاتله لا يعرف اسمه . كان في وسعه أن يسأل ، لكنه استعجل الهرب .

يهتفون بالنصر ، ولم يشعروا به يتململ ، ويطالبهم بوضعه على حمالة ، فقد  ارتمى على أكتافهم مطأطئ الرأس ، مثل فارس أصابه سهم " أخيل " فاستسلم إلى ظهر جواده ليعيده إلى مكانه الأصلي .

لكن إلي أين يعيده هؤلاء ؟

إلى المستوصف : عارض  صحي أصاب البطل . هكذا حملوه على الأكف وهرولوا به .

ولما استعادت الحرب مجراها أفاق هو من صدمة بطولته صامتاً ممتنعاً عن الكلام  والطعام ، ممتنعاً عن توصيل خطوط الهاتف ، وممنوعاً من الاتصال بالحمام الزاجل !  وهو نفسه  لا يدري  إن كان ، سيظل بقية حياته أخرس مشلولاً أو شبه أخرس ، شبه مشلول ، شبه عاطل عن العمل . وبالنظر إلى  خداع البندقية قد يكون شبه قاتل .

لا بل قاتلاً !

*  *  *  *

الطبيب المكلف بعلاجه ، عجز عن تشخيص مرضه بغير الأزمة التي تعصف بنفس البطل ، والتي هي على الأرجح بطولته ذاتها . لذا قرر أن يحيله على الطبيب الكولونيل ، الذي يقوم بزيارات استثنائية  للمعسكر لمعاينة الحالات المستعصية فيه . جلس هذا مع المريض ، واطلع على الرسوم والكتابات الكثيرة  التي يحتفظ بها  في ملف خاص ، وأطلع على الرسالة التي كتبها إلى عائلة القتيل الألماني والتي لم يتمكن من إرسالها بعد لجهله الاسم والعنوان . كما قرأ القصيدة التي تنطق بلسان هذا الأخير ، وفيها يقول :

" يكفي أن تضل الدرب

أن تكون وحيداً

أن تكون وحيداً وتائها لتَقتل .

تائهاً وحيداً لتُقتل ".

وفي لقائه الخاص مع القوامندان قال الكولونيل :

يخشى أن تكون المسألة أكثر من أزمة نفسية وأقل من جنون. على أي حال ، بات لا يؤمن جانب هذا الكابتن . قاتل يبكي القتيل !

- والحل ؟

التخلص منه . أو تقديمه للمحاكمة وهناك يقررون مصيره .

- مستحيل قال القومندان .

اسمع يا صديقي ، أجاب الكولونيل بما يشبه الهمس . بلغني أن قدرات هذا المخبول في تسيير الحمام الزاجل تفوق قدرات ساحر وأن كفاءته في الاتصالات السلكية توازي عبقرية مخترع .

- صحيح ، وهذا سر حرصنا عليه .

لكن ماذا لو انقلب السحر الأبيض إلى أسود ومال العبقري اللبناني إلى ريح ألمانيا ؟ هل تعلم بماذا يطالب ؟

- لا .

- يطالب بإعادة الحمام الزاجل إليه ، ليحمله رسائل لمحبوبة يرفض الإفصاح عن اسمها .

- صحيح . لكنه يهلوس . فهو بعد الحادثة ...

- لذا لا بد من التخلص منه . مجنوناً كان أم عاقلاً ، بات مصدر خطر.  من يدري لعل الفتاة تلك ...

المحاجة التي تحول فيها الكولونيل والقوامندان إلى مرافعين بليغين ، كادت تؤدي إلى صدام دون أن تسفر عن شيء . إنما من قلب المأساة يتراءى الخلاص . ففي تلك الليلة ، لم يغمض جفن لأحد  في  المعسكر . فالجبهة التي التهبت منذ سنتين لحسم ملكية أرض تطالب بها كل من فرنسا وألمانيا ، وألهبت حماس الجماهير هنا وهناك ، عادت تشتعل من جديد ، لتودي بحياة المئات من المقاتلين في الخنادق . وبمئات غيرهم من حاملي الإمدادات . القذائف تنهمر عليهم كالصواعق والطائرات في غاراتها تصم الآذان . الهاربون من الموت يدوسون الجثث ، دماؤهم تصبغ التراب ، ومن بين الهاربين أولئك ، الكولونيل نفسه . جريحاً يزحف بين المتاريس ، برفقة القومندان والكابتن المشكوك في ولائه ، يساعدانه على سد منبع النزيف .

بعد تلك المعركة ، واطمئنان الكولونيل إلى أن الأطباء عدلوا عن بتر  يده ، انتهى إلى الحل المقبول :

- نضع المشتبه  تحت الاختبار ، ريثما نقرر مصيره . إنما بشرط .

- وما هو الشرط ؟ سأل القومندان .

- تشديد الحراسة عليه .

هكذا وفي تلك الفترة صار له ظل .

معاون عنيد يحضر ويراقب كل ما يقوم به ، ويدوّن بالدقة كل التفاصيل ويطلب إليه أن يوقع . ليس الطلب ما يسبب له الحيرة ، بل الود  الذي يظهره الظل ، فضلاً عن الإعجاب !

أفردوا له غرفة أقفل بابها عليه . صاروا يأتونه بالطعام ويؤذن له بالذهاب إلى الحمام مرتين في اليوم لقضاء حاجته ، ولماما للاستحمام . ظله يرافقه والقومندان يزوره . لا تخف ، يقول له ، فأنا إلى جانبك . عجباً ! إذا ما كان إلى جانبه وحريصاً لهذا الحد على صداقته فلم سجنه ؟  يسأله بالإشارة عن السبب  فيحدثه هذا بالمرض . وذات يوم اعترف له بالحقيقة :  يخافون أن تهرب . إن فعلت فمن يتولي من بعدك أمر الشبكات ؟ "  إياك أن تهرب " . يقول له .

عجباً لهذا كيف يقرأ أفكاره ؟!

- إياك . إن حاولت قتلوك .

لن يهرب ولا يخرج من زنزانته إلا برفقة الظل والقوامندان لمعاينة الشبكات . فيبدل ملابس بملابس ومقيداً يضعانه على الحمالة ويسرعان في نقله إلى المواقع . أو يركبانه السيارة العسكرية التي تنثر التراب وروائح البترول . ولا يفكان قيده  إلا ساعة العمل . القومندان يفعل هذا معتذراً ، يا صديقي ... وذات مرة قال له : لا تعلم يا صديقي ، مكانتك في نفسي . أنت بمنزلة أخي الأصغر وكم يؤلمني أن ترجع إلى بلادك بساق التوت . قال هذا ودمعت عيناه . أنت يا صديقي من طينة نادرة . إذا منحني الله فرصة النجاة  فلن أتخلي عنك .

وذات يوم خطر للأسير أن يحدث ظله .

- ما اسمك أيها الظل ؟ سأله .

لسماع السؤال ، أشرق وجه الشاب . إنها المرة الأولى التي يفتح فيها المهندس  فمه  ويحكي .

- اسمي ؟ سأل مبتسماً .

- نعم اسمك ؟

- جان كلود بونوا . باشاويش .

لكن الظل لم يكتف بالإجابة ، بل انتهز الفرصة  ليواصل الكلام ويمتدح رسومه .

" طريقة مكشوفة ومبتذلة للتودد ! "

- رائعة هي رسومك يا رفيق . رائعة . أنا ، يا رفيق ، لي في الفن تجربة  وفي الكتابة  أيضاً .

- حقاً ؟

- نعم . لا ريب أنك سمعت بمونمارت ؟

- كنيسة مونمارت ؟

- لا بل هضبة مونمارت نفسها ، بما في ذلك الكنيسة . يا لتلك الهضبة  كم  صارت تجذب مثقفي العالم ! ما لم تذهب إلى مونمارت فإنك لم  تدخل عصرك بعد . يتوافدون إليها من أطراف الدنيا . من الصين واليابان ومن الأمريكتين . يحجون إليها كما المسيحيون إلى روما والمسلمون إلى  مكة .

- وما أدراك أنت بالمسلمين ؟ سأل السير ظله؟

- أنا يا رفيق درست في كلية الفنون سنتين ثم وقعت الحرب . لا بد لكل دارس للفن أن يطلع على الحضارات والأديان التي تركت أثراً في العالم .

- حسناً  .

وخطر له  أن يضيف : " أنا أيضاً مسلم أو على وشك أن أغدو كذلك " ، لكنه سكت . ما شأن الدخيل بهذا ؟  لكن والحق يقال ، إنه بدأ ييأس لهذا الظل . ظله هذا خفيف الظل يخشى لو كشفت الأوراق أن ينقلوه بعيداً  كما نقلوا نظمي إسماعيل . فإن كان لابد من أن يرافقه أحد ليل نهار ، ويكتب عن كل شاردة  يقوم بها وواردة ، فليكن هذا الفكاهي الطيب . عندما يحمي وطيس المعارك ، ويعلو صراخ المقاتلين في الخنادق ، وأنين المنازعين ، ويلبسه الذعر ، الحق يقال إن هذا الودود لا يقصر . يمسك بكفه كأنما ليشد أزره .

وحين أخذته النوبة التي تشبه الصرع ، والتي صارت تلم به بين يوم وآخر ، ضمه إليه كما  تضم أم ولدها ، سقاه الماء وفرك يديه بالكحول ، ولم يكتب شيئاً من هذا في التقرير . بل كان يعبر عن المسألة ويحدثه ثانية بالرسوم وبمعرض يقام له في مونمارت . إن كنت يا صديقي مبدعاً في الشعر كما في الرسم ، أصحبك إلى أفضل دور النشر .

نعم ، دخل الحرب جندياً متطوعاً ، وسيخرج منها رساماً مبدعاً بالفحم والرصاص . وكاتب خواطر وشاعرا ! الرسوم والكتابات التي وقعت في نفس الظل "بنوا " موقع السحر ، وجعلته يتعاطف معه ويرسل رسالته لوردة بواسطة الجندي الذي بترت ساقاه.  الرسوم والكتابات ، التي يعتبرها الشاويش من تجليات فن جدير بأن يعرض في مونمارت ، ويُنشر في باريس ، فيما هو ، بشارة شكر الله ، يرى فيها أفظع عقاب . نعم أي الأحزان رافقت تلك الخربشات ، وأيها ترافقه كلما نظر إليها ؟ لا بد أن يفعل بها شيئاً ليرتاح .  ماذا يفعل ؟

يحتفظ بها لنفسه . يضعها في صندوق من حديد ويقفله بقفل من فولاذ ، ويكون شرطه  الأول والأخير على وردة اسماعيل ، إن تزوجها ، أن لا تفتح الصندوق في حياتها أبداً . إن فتحته ، وبرغم حبه لها ،  بل وبسبب حبه  لها ، فسيتركها إلى غير رجعة .  ثم خطرت له  فكرة أخرى حررته  من مسألة الصندوق ومن عذاب الاحتمالات : سيجمع كل ما رسم ، كل ما خربش وكتب ، ويجعله كومة يشعل فيه النار . كما سيحرق البذلة العسكرية  ليبدأ مسيرته بعد ذلك حراً خفيفاً . الفكرة لمعت في خياله كما النبوءة . وسمع محدثه يقول :

-الحرب على ما يبدو توشك على نهايتها ، ما الذي ستفعله بحياتك بعد ذلك يا رفيق ؟

- لا أظن أن الحرب ستنتهي .

- يا صديقي ، ما من حرب إلا عرفت نهاية .

- لتبدأ أخرى من جديد .

- لا تكن متشائماً . الحرب ستنتهي إلى الأبد . هل سمعت  بالبلاشفة ؟

- لا . من هم هؤلاء ؟

- ثوار روس انقلبوا على القيصر . يؤمنون بالعدل والمساواة وإلغاء الحروب.

- عظيم ، يا صديقي بونوا . وأنت ماذا ستفعل إذا ما انتهت الحرب ؟ ستنضم إلي البلاشفة.

- لم لا . وقد أعيش في مونمارت وأعود إلى الدراسة بلشفياً . وأنت ؟

- أنا ؟

- نعم ، أنت . هل تعلم لم أسألك ؟

- لتكتب الجواب في التقرير ؟

- لا . لأني أعرف أين ستذهب . هذه المرة  يا  صديقي   سأقول لك السر الذي سمعتهم يتحدثون به .

- الكولونيل يصر على محاكمتي ؟

- بالنسبة للكولونيل لا أعلم . لكن القومندان يفكر في أن يصطحبك إلى مصر

- يا إلهي ، وهل فتحوا معركة هناك ؟

- لا . كلف الفرنسيون بإنشاء شبكة هاتف ، والقومندان رشح المرسيلي الفذ لمساعدته على تنفيذها .

- رائع ! قال لظله .

نعم ، رائع أن يذهب إلى مصر ويأخذ معه وردة . يقابلان الشاعر " شوكدرا " ويسمعانه القصيدة التي في محنتهما تبادلاها . هكذا إذا ما انتهت الحرب ، تبدأ من هناك دعوته . يا حضرة الشاويش ، الكابتن هذا الذي أمامك ، لديه دعوة . رسالة . لا الشعر ،  ولا الرسوم  ولا الكتابات ستمنعه من القيام بها . بشارة ، هذا ، بعد عثوره على المفقود ، سيبادر ويبشر الآخرين به . الناس ، كل الناس أينما وجدوا معنيون بالانسجام الكوني . وهو ، منذ أن فعل ما فعل ، واكتشف ما اكتشف ، بات أكثر من غيره معنياً به .  والرحلة التي ستستغرق العمر كله ، سيبدأها من البدء . و تحقيقا للوعد الذي وعد ، سيطمئن إلى سلامة أبيه ، ويوقف أمه عن طوافها في الطرقات ، ويقابل وردة ، يؤكد لها حبه  ويحدثها بمسألة الانسجام . فإن كانت لا تزال على حبها له  وتبادله الرأي ، وعلى استعداد لمرافقته ، فهو حاضر لأن يتزوجها . وإلا فمصيره العزوبة ليس إلا . يختارها كراهب متجول . يحمل اليافطة التي ستغدو مظلته ، والتي يحث بواسطتها الناس على تحريم القتل . قاتلك هو هو . قاتلك هو أنت . نعم ، فالحياة هي الجوهر ، الانسجام هو الناموس والقتل هو الهلاك . بلي ، والشاويش يلح عليه ليخرج عن صمته ويعطيه الجواب :

- يا صديقي ، بونوا لم أقرر بعد . لكن ما رأيك أن ترافقني في رحلتي ؟

- إلى  مصر ؟

لا بل ...

- إلى مونمارت ؟ سأل الظل وهو يصفق من الغبطة . عظيم ! معارفي بين الفنانين كثر هناك . ودور النشر أكثر . وهي ، بعد الحرب تتلهف على من ينطق لسانه بويلاتها . ستغدو يا صديقي أشهر من نار على علم ، وأنا رفيقك ... يا إلهي لو كان في استطاعتي أن أفك قيدك الآن لفعلت .

مسكين هذا الشاويش . مازال ماضياً في البحث عن مجد عابر . مسكين ، برغم الحرب  وويلاتها ، لم يختبر نعمة التخلي . التخلي الذي دفع بشارة لاتخاذ قراره . إن كان لم ينفذه بعد ، فلأنهم استولوا على الملف . حجزوه في درج مكتب ووعدوه بأن يسلموه إياه في الوقت المناسب . إذاك ، يشعل النار في الأوراق ويرتاح .

لكن الشاويش " بونوا " قبل غيره سيتأكد من أن الشاعر لن يفعل . فالقومندان أذعن لمطالب الكولونيل . وبعد المعارك الأخيرة ، جمعا كامل نتاج المشتبه فيه ، وجعلاه كومة أشعلا فيها النار . الفصل الأخير الذي حضره بونوا منتحباً ، وتراءى لمخيلة الشاعر دون أن يشهد من تنفيذه شيئاً.

*  *  *  *

انتصر الحلفاء . تنفس الأحياء الصعداء  وفي بيروت بدأت الاحتفالات .  الجنود الإنجليز والفرنسيون يدورون في الأحياء ، يوزعون البسكوت والخبز . لأول مرة في حياتهم يرى الناس الخبز الأبيض . أكلوه بشراهة . وكثيرون بكوا الأيام التي عاشوها على خبز الذرة والخبز الأسود . خالة زينة ، تكفكف دموعها وتحكي للراهبات كيف رأت بعينيها الرغيف الإفرنجي ! يا إلهي حمداً لك على أنك خلصتنا من جور الأتراك . حمداً لنعمتك علينا بمجيء فرنسا .

زينة ، مع الصبيان والبنات تركض في الشوارع . يلحقون بالجنود لينالوا نصيبهم من الإكراميات . رجعت إلى وردة تصيح : أخت بهية أخت بهية ، سكر أبيض يا  أخت بهية . تناولت وردة قطعة من السكر فيما ارتمت الصغيرة على الأرض تبكي وتندب : " أمي ماتت قبل أن تذوق السكر الأبيض " .

كان مارون أخو زينة قد رجع بمفرده . في ذلك النهار الذي أضاع فيه أمه وأخاه في الحازمية ، ضبطوا معه كمية من الحبوب واقتادوه للتحقيق . وبعد أن أطلقوا سراحه مشى كثيراً ليصل ، وتوالت عليه أحداث يلزمه وقت طويل ليخبرهم بها .

زلفى تشعر بأن الأخت البهائية ليست علي ما يرام . صحيح أنها لا تتأخر كثيراً في النوم كما في السابق ، غير أنها تمضي غالبية وقتها مع كتب تقرأها وأوراق تكتبها وهموم ظاهرة على وجهها . يقال إن هذه الفتاة التي " ختمت " العلم ستباشر الكتابة . ستزودها إذن بأخبار تسمعها من هنا وهناك . خبر اليوم يتعلق بمدينة القدس . يقال إن قائداً مهما ، نَسٍيت اسمه سيجلب اليهود إلى فلسطين ليكونوا قريبين من المدينة التي يقدسونها .  كل إليهود يا أخت بهية .

- وكم يبلغ عدد هؤلاء ؟

- العلم عند الله . أكيد أكثر من ألف . أو أكثر من سكان بيروت . بل أكثر من سكان بيروت والجبل . يقال إن الإنكليز غير الأتراك ، فلكل شيء عندهم نظام . وهم سينظمون البلاد فيبقى كل واحد في مكان عبادته .

الكلام الذي أرادت زلفى أن تسلي به الأخت بهية ، أخرج هذه عن طورها، فرمت الكتاب من يدها وصاحت في وجهها :

- وأنت يا بلهاء إلى أين تذهبين ؟ وجارتك راحيل ؟...

- أنا وراحيل سنبقى في بيروت .

- إذن لا تتركي الأقاويل تلعب بعقلك ، فلا أحد يسكن في غير مكانه .

نعم ، أخيراً انتهت الحرب !

نور الدين مِن على شرفة بيته في الإسكندرية يطالع الأخبار في الصحف : المدينة تلو الأخرى تسقط تحت الحصار وتسلّم مفاتيحها لقادة الحلفاء . " قادمون يا صلاح الدين " قال اللنبي . متصرف القدس كتب إلى القائد الإنجليزي رسالة لا يخطها إلا مُذعن لمنتصر :" نظراً  إلى شدة الحصار على هذا البلد الآمن وما يلقاه الناس من ويلات بسبب مدافعكم الثقيلة وخوفاً من أن تفتك هذه بالأماكن المقدسة ، نضطر مرغمين إلى تسليمكم القدس آملين أن تحافظوا عليها كما حافظنا عليها نحن قرابة خمسمائة سنة " .

قائد الجيش العثماني ، أبلغ وجهاء دمشق ورئيس بلديتها انسحاب الخلافة . جيشاً وحكومة من بلاد الشام . ثم امتطى سيارته وراح باتجاه الشمال ، فكان آخر قائد تركي يغادر تلك البلاد . بعض الغوغائيين صاروا يتعقبون الجنود الهاربين ، ينكلون بهم ، فيتدخل المسؤولون وأصحاب الشهامة لحماية هؤلاء المساكين . أهالي بعض الشهداء ، من ضحايا جمال باشا ، بدأوا يشهّرون بالعائلات المحسوبة على العثمانيين .

أُنزلت الأعلام التركية عن الدوائر الرسمية . سُلِّمت سجلات الطابو والويركو والنفوس إلى البريطانيين في فلسطين وإلى الفرنسيين في لبنان ودمشق . رُفع العلم العربي في سورية . وفي بيروت أيضاً . رفعته شابة جريئة ، هي أنيسة المحمصاني ، شقيقة الشهيدين محمد ومحمود . بعد أيام سيقرأ نورد الدين التتمة : أُنزل العلم العربي عن الدوائر الرسمية في بيروت وبعبدا ورُفع العلم الفرنسي مكانه . نور الدين يهز رأسه : ستنقضي حقب أخرى من التاريخ . ليكتشف الناس أنهم من جديد يبدأون من الصفر . اتفاقيات الحاضر تزرع في بنودها بذور الحروب القادمة . كاميليا تلقي عليه السؤال الذي لا يلقيه هو على نفسه : هل قرر الهجرة أم البقاء ؟ كيف يسافر قبل أن يعرف ما حل بأخويه نظمي وشوكت ؟ هذا انقطعت أخباره عن الجبهة ، وذاك راح إلى أمريكا ولم يصل ! " طلبت المستقر بكل أرض فلم أرَ لي بأرضٍ مستقراً " .

الظروف لا الأمنيات ستأخذ عنه القرار . فالصحف بدأت تنبش حكايات الماضي : الأفندي العثماني متورط بإعدام شبان بيروت والشام . وبحجة توزيع المساعدات ، كان يجتمع بجمال باشا . ومقالات المعارضة ؟

إنما كان يكتبها للتمويه .

*  *  *  *

نسي الناس وردة شاه ، لكن هذه ، لم تنس بشارة ، كما لم تنس عائلتها . مشاهد وأحداث ، عاشت بعضها في الواقع وبعضها الأخر في المتخيل ، تعبر ذهنها المشتت ، لتؤكد لها أنها غدت في هذه الدنيا وحيدة . وحيدة وغربية ، دخلت الدير مريضة ، مسلمة ومن أصل تركي اسمها وردة شاه ، لتغدو بعد سنوات أجنبية من أصل أسباني حمّلوها اسم  بهية . محبوبها قتل في معركة الخنادق ، وأهله أعلنوا الحداد عليه . أقفلوا منزلهم في بيروت وراحوا إلى الجبل . نور الدين سافر . أختها ملك توقفت عن زيارتها . خلت أماكن المحبين . حل اليأس في نفسها وباتت تجد في حياتها في الدير راحة وحكمة . تتمنى لو كان الترهب في الإسلام ممكناً لتلبس الثوب وترتاح من وطأة العالم الخارجي وتتفرغ للعمل الخيري .

ما تطلبه هو عين المستحيل ، قالت إليزابيت . هي أكبر خيانة  لنور الدين . والعمل الخيري يمكن لأي مؤمن أن يقوم به بلا ترهب .

كيف ستمضي إذن ما تبقي لها من أيام في الدنيا ؟

- ستسافرين مع نور الدين وكاميليا . تتزوجين وتنجبين أبناء وبنات . آن لك يا وردة أن تنسى من مضى على غيابه سنوات !

" ولكن .... إن نسيته فكيف تنسى نفسها ؟

ستعود إلى أوراقها ، وستغدو هذه ملاذها الوحيد وإن رحلت تحملها معها . 

في تلك الآونة ستسألها الأخت إليزابيت ، إن كانت مستعدة للاهتمام بأجنبيات سيأتين من بلدان عدة ، لمساعدة المطرانية على إنشاء مدرسة التمريض التي حالت الحرب دون إنشائها . ومساعدة أهل البلاد على الخروج من محنتهم . سيصلن عما قريب .

لم لا ؟ قالت وردة في نفسها .

-                            أقترح أن تقومي بأعمال الترجمة . قالت إليزابيت .

-         *  *  *  *

الناس ، بعد انتهاء الحرب ، يبحثون عن أحبائهم . بعض المسافرين رجع وبعضهم الآخر لم يُعرف عنه شيء . شاب أسمر بملابس بحار بهي الطلعة طويل القامة ، سيضرب باب آل إسماعيل ويطلب مقابلة الأفندي نور الدين ، في هذا المنزل الذي خلا من الرجال .

 يا لتلك الأيام !

- أين الأفندي نور الدين ؟ سأل البحار الحارس .

- مسافر .

- ومتى  يعود ؟

- الله اعلم . يقال بعد أسابيع أو ربما بعد شهور .

- والعم سليمان ؟

- العم سليمان ؟! البقية في حياتك .

- رحمة الله على روحه . والعم رضوان ، وخالد ؟

- خالد أفندي أخذ عائلته إلى الشام .

وخطر للبحار أن يلقي على الحارس أسئلة أخرى . أو أن يتوقف ليتأمل بعين رجل منازل وحدائق غادرها منذ سنين . لكنه أدار ظهره ومشى .

بعد عام على ذلك ، وفي باخرة قادمة من الإسكندرية إلي بيروت ، سيتقدم البحار الأنيق من كهل ذي عينين خضراوين ، وينحني أمامه بإجلال . وبالإجلال ذاته سيمسك بكفه ويلثمها ، قبل أن يتمكن المسافر من تفادي حرج الموقف سمع الشاب يقول:  كيف حالك يا حضرة الأفندي ؟ كيف حالك يا آبيه ويا سيدي نور الدين ؟

*  *  *  *

أفاق أهل الدير على جلبة سوف يقضون عمرهم يسترجعون تفاصيلها . جلبة تختلف عن صخب المعارك التي شهدوها في الحرب ، وعن هتافات الترحيب بجنود الاحتلال ، وعن التي أيقظتهم ليلة سرق الدير . جلبة خاصة قوامها كلام تتبادله الخادمات والراهبات والحارس والسائس مهنا والجنيناتي صابر وزلفى . وبين الكلمة والأخرى يتردد اسم بهية ؟

ركضت إليزابيت  إلى هؤلاء تستفسر فأخبرتها زلفى بما حدث :  بعد أن يئست من الطرق على باب بهية  لتعطيها الدواء والشاي ، فتحته فلم تجدها . بحثت عنها في الحمامات وفي غرف الطابق العلوي وفي كل زاوية . ثم نزلت تبحث عنها في الطابق السفلي ، وللآن لما تعثر عليها . لعلها ذهبت مع قريبها العجوز الذي جاء منذ فترة وتكلم معها بالاسبانية.  فهو حين ودعها قال لها بالعربية ، " إذن سأرجع لآخذك "

ما الذي يبغيه عجوز من شابه سوي أن يفر بها ؟

هرعت إليزابيت إلى غرفة ضيفتها تبحث عن دلالات هرب ، فاستوقفها القفص خالياً من إليمامة ! القفص الذي أحضرته وردة منذ فترة وعلّقته على درابزين النافذة . لطالما حدثتها وردة بلغة الرمز والصورة الشعرية أو بكلام فلسفي ، ولعل إطلاق اليمامة استعارة لفرار فضلت ضيفتها عدم التصريح به .

ستتابع إلزابيت بحثتها . ستفتح الخزائن وتروح إلى الحمام وتطل من النوافذ وتدور في الحدائق وتفعل ما سبق وقام به منذ أربع سنوات ، آل إسماعيل ، لتسمع جواباً واحداً : أخر مرة رأيتها ، البارحة . لكن كيف لم يتنبه أحد إلى فرارها ؟ كيف لم يتناه إلى مسامعهم قرقعة عربة  أو حمحمة خيل ؟

سيضعون اللوم على الحارس ، وهذا على الجنيناتي وذاك سيغمز إلى موقف الأخت الفرنسية التي دأبت على الجلوس مع الهاربة يومياً للعمل ، أو لتبادل أحاديث لا تنتهي ، أو التنزه معها في حوش الدير .

بم كانتا توشوشان باللغات الأجنبية ؟

الأخت " ماري نزاريت" التي لم تفهم من الكلام الملغز ضدها شيئاً ، تبذل جهداً كي لا تبكي فراق صديقتها . تسمح دموعها وتتحدث بذاك الاحتمال : أن تكون بهية قد ذهبت منذ الصباح الباكر إلى المستشفى . فآلام معدتها في الأيام الأخيرة باتت لا تحتمل .

كانت بهية  قد ذكرت  على مسمعها إمكانية أن تفعل ذلك . من الجلي أن هذه الشابة التي تتقن عدداً من اللغات ، هي من منبت رفيع  وروحية نادرة ، قصدت الاستشفاء بمفردها كي لا تزعج أحداً . وإن كانت من ناحيتها ، قد شعرت عند منتصف الليل ، بما كانت تشعر به في الليالي الأخرى : حفيف خفيف ينبئ بنزول أحد من الطابق العلوي على عتبات السلالم ! وضوء خافت أشبه ببرق بعيد  يلمع تحت ثم ينطفئ . نعم . لكن ، بما أنها غريبة ، ظنت أن تلك الإشارات جزء من المكان الذي  وفدت  حديثاً  إليه .  ليت  في استطاعتها أن تفعل الآن شيئاً  للبحث عن الأخت بهية !

الحارس ، لا يسعه  القول ، إنه لشدة التعب ، بعد تنظيف الأماكن في الخارج وري الحدائق ، يغط كل ليلة في نوم عميق ، فلا توقظه الخيل إن صهلت ، فكيف كان سيصحو على وطء أقدام خفيفة ، تنزل السلالم  في ظلمة الليل وتدخل إلى المكتب، كما سيقال ، لتقرأ على ضوء الشمعة ، أسراراً دفعتها إلى الهرب ؟ والجنيناتي،  هو الآخر،  ما كان سيتنبه لشيء ، وخطوات الهاربة أكثر خفة من خطو النمل على الرمل .

أما السائس مهناً ، الذي لا شيء يُخفى عليه شيء  فلديه كلام كثير ، يبرّئ الراهبة الفرنسية . فقبل مجئ  تلك كان قد لاحظ أشياء وأشياء تدل على أن بهية  ستفرّ مع الشاب الذي أوقفها ذات مرة  في الطريق ،  وكلمها بالفرنسية وسلمها رسالة . الشابة الغربية هذه ، التي لا هي  بمسلمة ولا بمسيحية ، لا هي براهبة رُسمت ولا بعازبة تنتظر نصيبها ، هذه التي تتغنج في مشيتها بحجة أن في فخذها رصاصة ، بعد تسلمها الرسالة تغيرت بصورة مدهشة ! صارت كثيرة المرور في ذاك الحي ، وكثيرة الإلحاح عليه بأن يتركها بمفردها  تتدبر أمر الرجوع . تفعل هذا غير آبهة لسلطة الريسة عليها ! وبعيد تسلمها الرسالة اشترت قفصاً فاقع الألوان من دكان المعلم صابر ، وضعت فيه يمامة ترفض ذكر مصدرها ، بحجة  أن كائنات مثل الطير لم تولد لمقاصد التجارة ، ولا لأي غرض آخر ظاهر للعين . الكائنات هذه ، إن كانت تؤنس وحشة الإنسان ، فإنما تفعل ذلك لا مبالية وبلا هدف . كلام مخبولين تجيبه به تلك الفتاه الغامضة. ولا تجد حرجاً في أن تتبادل مثيله مع اليمامة . تتحادث  وإياها  كأنما تحادث روحها !

نعم ، يخطر لمهنّا  أن يبوح بكل هذا للأخت إليزابيت ، ويكشف لها عن التصورات التي تتراءى له كما وقائع:  ليلة الهرب ، والظلمة على أشدها ، ركن صاحب الرسالة الملعون عربته في الشارع الخلفي ، وانسل بلا نأمة إلى حوش الدير للقاء بهية . تناول حقائبها وأسرع معها في الهرب . من يدري لعله خبأ  الهاربة في بيته أو سافر وإياها في  إحدى البواخر الكثيرة التي صارت تمر ببيروت ؟

لكن، ما توسوس به النفس لن تلبث أن تكذبه العين ! ما هي  سوى  أيام حتى سيفاجأ بالمتهم واقفاً في باب  الفرن يبتاع الخبز ! لذهوله، أوقف عربته وراح يتفحص الشاب ! وخطر له أن يسأل الحلاق زيون عن هوية  هذا الملعون  لكنه عدل . في هذه الظروف المتقلبة  لا يجدر بأحد أن يتحرّى أحداً . لذا وقبل أن يلاحظ الشاب وجوده ، همز جنب الخيل ومضي .

أما الأخت إليزابيت، فلولا اختفاء حقائب الهاربة ،  لأخذت بكلام ضيفتها الفرنسية . أمّا  وقد مضت ساعات , والسائس يلف الشوارع وأهل الدير لم يتركوا زاوية من محيطة إلا  فتشوها ... وأمّا أن اختفاء الضيفة  قد تلازم مع اختفاء كل ما يخصها ، وأن الشمس بدأت
تميل للمغيب ، فقد بات من شبه المؤكد أن وردة اختارت ثانية
ما سبق واختارته  منذ أربعة أعوام ، وأنه لا بد من إبلاغ الأفندي نور الدين .

لكن كيف ؟

تستعرض إليزابيت الاحتمالات ، وتكتب في ذهنها للأفندي الرسالة تلو الأخرى ، فيما الراهبة الفرنسية ، تتحسر على خسارة الصداقة الثمينة التي نشأت بينها وبين الأخت بهية . تتحسر على الأحاديث النادرة  التي كانتا تتبادلانها . حوارات ، على ندرتها، ازداد في الأيام الأخيرة توهجاً !  تتحسر ... هي التي جاءت إلى مكان ظنته نائياً عن الحضارات لتكتشف فيه من ينطق لسانها بكنوز الحضارات ! من تقرأ  لها مختارات من أمهات الشعر والفلسفة . كانت ستدرّسها العربية ، وحتى الاسبانية .  كانت ستقرأ  لها  فصولاً من رواية تكتبها . رواية قد  تكشف لها اللغز... لغز حياة هذه الشابة  وإقامتها في مكان  تنتمي إليه  ولا تنتمي .

- وبمَ  تتحدث  روايتك  يا  أخت  بهية ؟

- لا يسعني قول ما تكتبه الريشة بدم القلب .

- ومتي تنتهين من كتابتها ؟

- لا أدري ، فمصير أبطالها  مازال مجهولاً .

*  *  *  *

زلفى ، تغبط الأخت ماري نزاريت على فصاحتها في التعبير ،  وإن كانت تخالفها الرأي . ففي غمار بحثها عن الهاربة يتراءى لها كواقع ، ذاك المشهد السحري الذي حُملت فيه الشابة ، ذات الطابع الوحشي، على بساط الريح إلى مكان لا يعلم به غير الله ، ومعها صندوق كتبها  وحقيبتها الهافان التي تضع فيها ثياباً بديعة لم تكن ترى النور. والحقيبة الأخرى السوداء المقفلة بأقفال غليظة . الحقيبة التي ، لم تفتحها ولا مرة واحدة  على مرأى من الأخريات .

ماذا تخبّئ الحقيبة المقفلة يا ترى؟

لا  ريب  أن  ما كانت تتجنبه في النهار كانت تقوم به في الليل : بعد  أن تطمئن إلى أن الجميع قد غط في النوم ، تقفل باب غرفتها بالمفتاح وتُخرج من الحقيبة أشياءها السرية! أشياء يتناهى حفيفها إلى مسمع زلفى ، مثل حفيف قماش رهيف !

 لا بد أن الفتاة الغريبة هذه تخفي حكاية ! ستتلصص هي من ثقب الباب لترى المشهد الذي سيدوّخ عقلها ! المشهد الذي سبق لكاميليا أن ساهمت في صنعه ، واسترجعته وخدها إلى كفها يوم الحمام ، صار يتراءى لزلفى من الثقب ، كما تطالعها ابتسامة غريبة تشع على وجه  بهية وهي تقف أمام المرأة بالطرحة وبفستان عرس يخلب اللب ! مثل ابتسامة المجنونات!  بلي ، يتضح لها الآن مغزى الهرب . بهية لحقت بعريس لها فرّقتها عنه ويلات الزمان .

*  *  *  *

بعد مضي أسابيع على اختفاء  وردة سيقف في الباب شاب متلهف على لقاء رئيسة الدير ، ويسلمها رسالة من الواضح أنه يعرف مضمونها . ستتسلح إليزابيت بالشجاعة وتستعجل فض المغلف وتقرأ :

" حضرة الأم الفاضلة ريسة الدير المحترمة ،

أثناء رحلتنا من بيروت إلى الإسكندرية ، حدث ما ينبغي إعلام ديركم الموقر به .  كانت إحدى الراهبات . كما يؤكد أفراد الطاقم ، قد صعدت إلى الباخرة مع غيرها من الركاب . إنما عند المغادرة  لم  يرها أحد  بين هؤلاء. طاقم السفينة ، ومعاونه ، لم يتنبها إلى المسألة  إلا بعد خروج المسافرين . عندئذ ، قاموا مع العمال بالتفتيش اللازم ، وحين فقدوا الأمل أبلغوا إدارة الشركة .  وتلك طلبت من المراكب البحث عن المفقودة . ما يثير الدهشة ، أن الطقس ، ذاك النهار ، كان جيداً والبحر شديد الهدوء ، حتى لا يمكن لغير جاهل تماما في السباحة ، أو راغب في الموت أن يغرق . والمدهش أيضاً أن الباحثين عن المفقودة  عثروا فقط على ثوبها  طافياً على وجه الماء . من العلامات الأخرى التي تميز هذه ، أنها طويلة القامة زرقاء العينين .

وتؤكد إدارة الشركة استعدادها لمعاودة البحث ،
إن كنتم ترغبون في ذلك . وفي حال النفي تستأذنكم إقفال الملف .  ولتتفضل الأم الريسة بقبول فائق الاحترام "

كانت الأخت إليزابيت ، ستعيد قراءة  الرسالة مرات ومرات ، لولا  تنبهها إلى أن حاملها كان يراقب انفعالاتها مراقبة من في نفسه شك ما ! استمهلته ودخلت إلى مكتبها وبدأت تسطر إلى قائد السفينة بعض الكلمات :

"أشكر اهتمامكم بأرواح الناس لا سيما روح من وهبت نفسها لخدمة الرب وعباده . ولا يسعني سوى أن أؤكد لكم ولإدارة شركتم الموقرة أن الدير لم يفقد أيا من راهباته التسع . لعل أحداً ما ،  سيدة أو رجل تسلل إلى السفينة بزي راهبة وخرج منه بزي أخر، و..." .

وما كادت إليزابيت تخط العبارة الأخيرة حتى مزقت الورقة وعادت تكتب غيرها وهي تتمتم : ما أسهل إطلاق الإشاعات في معرض نفيها .

*  *  *  *

كان البحار الشاب أكثر تلهفاً على  قراءة الرد الذي سيعود من ريسة الدير . الرد الذي سيحسم التشوّش  ويضع الحد في خياله، بين هلوسة يخشى أن تكون قد ضربت رأسه وحدث عاشه .

لا، إنه غير واهم!

  رؤية كنور الشمس كانت رؤيته الراهبة تلك، ذاك النهار المشرق  على سطح السفينة.  نعم . ورغم ملابسها الغريبة عليه ، والحجاب الذي يقمط رأسها ، ما كانت تلك طيفاً ، بل امرأة من لحم وروح رآها بأم عينه تتبادل مع مسافرات أخريات التحية ثم تبتعد لتجلس على مقعد وتفتح كتاباً وتقرأ . نعم ، فعلت هذا! و لحظة مروره بقربها ، حانت منه التفاته إليها ، وما إن  وقع النظر على النظر حتى دارت به الأرض وأعادته سنين إلى الوراء .

سبع سنين ؟

لا بل أكثر بكثير . أعادته بلمح البصر إلى ذاك الحد الذي يشبه فيه  الحلم الواقع والذكريات الأحداث . الحد الذي يسترجع فيه مشاهد أولى ونقية تسكن روحه ، كما تسكنها العينان اللتان لمح تواً  شبيهتهما !

ليت رضية كانت معه لتشهد !

ذاك النهار البالغ الإشراق ، وبعد أن اطمأن القبطان إلى سير السفينة ،  أرسل معاونه  ليجري التفتيش الروتيني خارج قمرة القيادة. أنهى البحار عمله  وصعد إلى السطح . مستمتعاً بالإبحار في مستهل الربيع ، وقف عند الدرابزين يتأمل السفينة ، تشق مجرى الماء وتبتعد عن الضفة الشرقية من البحر المتوسط . الضفة التي غادرها منذ سنوات عازماً على الرجوع إليها  للقاء  محبّيه . وحين تيسر له  أن يفعل ، لم يعثر على أحد منهم . لكن من المؤكد أنه  قريباً سيرجع . نعم ، ويلتقي أختاً له أضاع أثرها . حكى حكايته للقبطان ، وجعله يرى الصور . القبطان ، في المرة الأولى ، قلب شفتيه ورفع حاجبيه ، لكن المعاون قطع على رئيسه طريق الخطأ ، وقبل أن تفلت من هذا كلمة في غير مكانها ، جلا الالتباس : تلك عائلة لأخت له في الحليب أعطاها وعداً بأن يرجع إليها ولم يرجع، والحرب هي السبب .

أبوه رجب عاد وهو  لا .

نعم ، خرج محمود ، صبيحة ذاك النهار المشرق ، إلى سطح السفينة. وقف يودع المعالم التي بدأت تتوارى ويراقب المنبسط  الفضي الذي  يبرق تحت أشعة الشمس بريقاً يغري بقدر ما يغشي البصر . استدار ليرجع، فلمح المسافرة  التي نفذت نظراتها إلى أعماق روحه .

راهبة !

تابع سيره مأخوذاً بما رأى ، ثم استدار ثانية ومر أمام الراهبة ليتأكد : هناك صورة وأصل . وقبل أن يخطر له أن الأصل قد يكون لأخته وردة ، تعثر وكاد يقع . راح إلى المطبخ ، تناول شربة ماء وتهالك على كيس القمح . العمال يروحون ويجيئون وهو مأخوذ بما رأى . يا إلهي ، الدمع يترقرق في عينيه ! ولولا أن اسحق دخل يعيطه الشاي ، وأخبره بأن القبطان يسأل عنه لبكى . حين رجع إلى كابين القيادة ، سأله رئيسه عما به فأجاب : دوار بسيط .

- إذن ، كيف ستغدو ذات يوم قبطاناً ؟

سمع رئيسه يقول هذا فيما هو يفكر في حجة ليخرج من جديد .  يبحث عن الشبيهة . سيفعل هذا بالتأكيد ، وسيقف عند سلم الباخرة أثناء مغادرة المسافرين ليراها .

لكنه لم يرها .

عجباً . طيف تراءى وتبخر !

متلهفاً ، قرأ الرد الصارم الذي أرسلته ريسة الدير. الرد الذي سيخيب كل توقعاته!  " من ناحية أخرى ، تذكر ريسة الدير  في رسالتها ، لا علم لي بثوب ضائع من عندنا . والملابس ، في نهاية الأمر ، لا تعني أن لها صاحباً يلبسها . لذا ، أرجو منكم إقفال المل