يحاول القاص التونسي الخوص في روح من يتعرض إلى الطرد من أرضه ووطنه بقوة السلاح حاملا ذكرياته وحفنة تراب واجدا نفسه ينقسم إلى كائنين مختلفين كناية عن الضياع النفسي والذهني بين ماضٍ حميم وحاضر مجهول

المجهول

سليم بنحسين

غبار ثائر في كل مكان, بكاء و صراخ يصم الأذان, أمّ تحمل صغيرها وتهرول مفزوعة, عصابة وقاتل وألغام مزروعة, شخص جاثم على ركبتيه, بنادق وأسلحة موجهة إليه و دموع تسيل على وجنتيه. في يده ورقة وقلم رصاص و العصابة تنادي بالقصاص.

رجل أغبر أشعث, عليه ملامح الإرهاق والتعب. ثيابه ممزقة وعلى رأسه كوفية, جفّت دموعه وهدأ روعه, أرسل مع رفاقه على سيارة قديمة, إلى مكان مجهول. سيارة هي كل ما بقي من أملاكه, فلقد جرّد من منزله وحقله ووطنه. وصل إلى المعبر فمر مع المارين دون ترخيص أو هوية.

اجتاز الحدود, وتوقف بأقرب مدينة وصلها. شخص مجهول الهوية في جلسة استثنائية, تملأها الرومانسية, في إحدى الحانات المنسية... تناغم بينه وبينها ورسائل متبادلة عبر موجات مشفرة... بينهما كأس فارغة, يمسكها ويسكب جرعة من خمرة الدهر المعتقة... خمرة وليست بخمرة, إنها خلاصة الزمان ومعاناة الإنسان...

بعد برهة... حملها بيده وركب السيارة... سيارة تجاوزت سرعتها سرعة الضوء في مناطق العمران... مناطق عمران ضاعت في ثناياها خيوط العنكبوت... بها أناس مختلفو الأجناس والأعمار, كل منهم في شرنقته ينتظر مصيره المحتوم.. ينتظر بفارغ الصبر قاتله ليخلّصه من عذاب دام لسنين متعاقبة.

أُخرج من السيارة التي اصطدمت بجدار الصوت... فتح عينا واحدة... لم يدرك هل هو داخل ثلاجة الموتى أم داخل آلة التصوير فوق البنفسجية... صورة, صورتان لم يدرك الأطباء أن له دماغان, أن له قلبان, أنه شخصان مختلفان...

دماغان منفصلان معزولان بغشاء ورقي مكتوب عليه 'أنا أم أنا'... دماغ موجب ودماغ سالب... هما قطبان لرأس واحد فلو نزعت الورقة, لتحول رأسه إلى مفاعل تتم فيه عملية الانشطار النووي, ووفقا لمبدأ التوازن بين الكتلة والطاقة فإما أن يصبح رأسه مولدا للطاقة وإما أن ينفجر كقنبلة نووية...

أما قلبه فهو قلبان الأول مقلوب والثاني متقلب... وشتّان بين القلب والقالب... هما قلبان كذرّتان نظيرتان مثيلتان لا يختلفان إلا في عدد النوترونات... ومن الممكن أن يكون قلب منهما مغطى بالكربون الموجود في توابيت الفراعنة المصريين من فرط قدمه فهو يعود لفترة ما قبل التاريخ... يصعد الدم من قلبه إلى دماغه مثلما تصعد صخرة سيزيف على الجبل ثم يعود إلى مركز المُسْتَوي صفر.

هو شخصان في شخص واحد, نفسان تتنفسان نفسا واحدا, تستنشقان الأكسجين ذاته وتتغذي من مغذيات واحدة... ليس بشخص على نصفين, بل هما نصفين في شخص واحد, فأي منهما سيستقيم؟

هما قوتان متضادتان, لا غنى عنهما حتى يكون في حالة استقرار, كجسم خاضع لقوانين نيوتن أو كسفينة فولاذية في أفق المحيط خاضعة لقوانين أرخميدس... هما توأم, أحدهما عمره خمس سنوات والثاني خمسين سنة !...

شخصان, لا يملكان حيزا زمانيًّا أو مكانيًّا... بينهما ثقب أسود كما هو حاله في الفضاء... يبتلع كل جسم في نطاقه المغنطيسي بثبوت وسكوت... بل يبتلع مشاعر الحزن والفرح... الخوف والشجاعة... الكره والحب... بينهما فجوة, هي قبر لكل ما يحيط....

شخص واحد مقسم تماما مثل المعالجات الدقيقة للحواسيب. فهي مقسمة إلى معالجين وكل معالج مقسم إلى قلبين... شخص مقسم إلى خيطين مترابطين كحمض نووي في عمق خلية... شخص مبرمج كغير باقي البشر, بنظام معقد لا يمكن للفيروسات الخبيثة الضرار أو المساس به...

هو شخص بل أشخاص, مرتبطين بعدد من الدارات المدمجة, وروابط منطقية وغير منطقية ذات تعقيدات فلسفية وأبعاد ميتافيزيقية... خليط من تعقيدات الفلسفة والرياضيات والفيزياء وتعقيدات كل العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية...

مرت الأيام التي ساهمت في شفائه, خرج من المستشفى إلى الشارع عائدا إلى موطنه.وهل له وطن ليلتمس موطنا؟!...

 طال الليل وواصل المسير متبعا أصداء المآذن عبر أنهج وأزقة مدينة عتيقة التهم التاريخ معالمها... مدينة لا شرقية ولا غربية, غير معلومة وغير مدرجة بخرائط الأولين ولا الآخرين. لا يعرف أحدا من أهلها ولا يعرفونه. يمشي وتسبقه خطواته إلى أن حل بشارع طويل, واصل المسير ثم دخل قاعة المسافرين بمحطة القطار.

قاعة خالية: لا مسافرين, لا عمّال, لا إداريين. دخل يحمل في يده اليمنى حقيبة حزم فيها ذكرياته. صور وهمسات من مخلّفات الزمان, وقد طبعت عليها ملامحه و حركاته وسكناته. وفي يده الأخرى يمسك كيسا مملوءا ترابا طاهرا لموطنه الذي لا يعرف حتى اسمه.

جلس ينتظر قطارا لا يعلم أوان قدومه. ينظر إلى ساعة حائطية, وقد توجهت عقاربها نحوه حتى كادت تلدغه. هرول نحو ممر مظلم, ثم صعد قطارا لا يعرف وجهته ولم يقطع تذكرته. صعد ثم جلس بأحد مقاعده الغريبة في إحدى عربات القطار الخالي.

وفي طرفة عين, انطلق القطار عكس اتجاه السير, بلا سائق يوجهه, ودارت الساعة عكس عقارب الساعة. وقيّد إلى كرسي كهربائي بسلاسل وأغلال كادت تمزق جلده وثوبا حاكته عناكب الزمان.
سار القطار بسرعة مرعبة ، و غاص في أعماق نفق مظلم...والمقيّد سجين كرسي العدالة حيث يعذب الأبرياء!...

بقي القيد في معصميه حاضرا . و غاب الوعي عن الوعي برهة ؛ فُتحت الحقيبة ، و مرّ قوس الزمن يعزف على أوتار الصمت لحنا خرافيا ، فلاحت في مخيلته ابتسامة باهتة خافتة حزينة . كانت ابتسامة أمه, وقد أهدته قارورة عطر دهري توارثتها الأجيال أبا عن جد. ابتسامة كانت آخر ذكرى من أمه وقد غابت جل ملامحها...

ثم صعق بكرسيّه الكهربائي, فرأى أباه يروي له قصص الطفولة والخرافات القديمة في ليلة شتوية باردة والمطر تنهمر على الأرض كدمع فتاة فجعت بفقدان عشيقها. ويمرر والده في الأثناء يده عبر خصلات شعره الداكن شاخصا فيه بعين الألم و الأمل .

صعقة أخرى, تذكر بها الإخوة والصّحب والأحبة وهم يقضون أمتع أوقات الطفولة في اللعب بتراب دفن فيه السلف والأجداد وزرع فيه مأكلهم ومرت به جداول مشربهم.

صعقة ثالثة, تذكر يوم كان يدرس علوما لساعات وهو جاهل بما تشكله الحروف من معانٍ. يجلس طويلا ممرّرا قلمه على ورق أبيض ليخطّ ملامحا لحروف غير مألوفة لا في اللّغات الساميّة أو اللاتينية, يكتب كلمات لن يتمكن من قراءتها.

مازال القطار في مساره العكسي عبر النفق, ومازال يتخبّط في صعقاته متتالية. تمر أمام مخيلته صور كان قد مزقها منذ سنين طوال. تذكر أيّام الطفولة يوم أُهدت له وردة حمراء من حبيبة, لا يزال محتفظا بها في أحد كتبه المغبرة ذابلةً. تذكر ضحكات الأحباب وأفراحهم, تذكر نحيبهم وأتراحهم, تذكر حزنه على فراق والديه. تذكر يوم اعتدي على أخيه وأرزاقه ولم يهبّ لنجدته, تذكر حينما غدر به الأصحاب, حينما طرد من بيته, وشرّد من موطنه واغتصبت أرضه... تذكر يوم سال الدم والدمع, يوم نسي وصايا الأجداد, يوم تجاهل الوعد والوعيد وسبل العيش الرغيد و نواميس السماء المقدسة.

وفجأة, خرج القطار من النفق, وتبخّر في سماء بيضاء ناصعة.وتصاعد عبير عطر أمه الدهري في أجواء ضبابية. ولاحت في الأفق ابتسامة, ابتسامة شخص مجهول الهوية..