العائلة
تفرّق الابناء في انحاء البلاد خلف الثورة، فالتاعت الام على فقدانهم.
أما الاب فظل يردد : اللعنة تنزل عليهم جميعا .. انهم لا يشبهوني!
*****
كان الاب من رجال النظام المخلصين، يمتهن التخابر على الناس. وكانت أكياسه دائما طافحة بالبذاءة والاذى حتى كرهه الناس وتحاشوه.
في الايام الماضية، وفي وقت التمام العائلة كانت المشاحنات هي سيدة الموقف وتظل عند مستوياتها الساخنة في احاديث الاب مع الابناء، فيما الام تحاول اخفاء تعاطفها مع رأي ابنائها.
- الوطن ليس هو النظام .. والنظام ليس هو الوطن. الوطن هو الناس والكرامة، فيما النظام هو الفساد وطغيان الحزب الحاكم.
يتفق الابناء على هذا الرأي حينما يواجهم الاب وهو يبرر ولاءه للنظام على انه خدمة للوطن.
هذه النقاشات لم تكن تنتهي كما ينبغي ان يكون الودّ العائلي، فطباع الاب الحادة كانت تجعل الابناء يلوذون سريعا من امام غضبه الجارف المصحوب بالشتائم، واحيانا بصفعات تنزل على وجوهم من يده الغليظة او بشئ من الاواني يقذفه بوجوهم.
الاب رجل النظام يريد للنظام ان يمضي داخل بيته ايضا..النظام الحديدي،الصقيعي، المتشابك كالاقفاص حيث في جوفه تتولّد كل أسباب الرهبة، تلك التي تكبّل ارواحا حيّة تتوق للحرية.
****
بيت في وطن .. وطن في بيت.
تنشب نار الثورة في أنحاء الوطن، وفي أرجاء البيت.
يذهب الابناء خلف الثورة. تظل الام في نظام الاب الصقيعي، وصدرها يشتعل حنينا لابناءها، تشتاق أكثر لفتاتها التي تشبهها، والتي عادت يوما من جامعتها على عجل لتطبع قبلة حارة على جبينها ودامعة تقول: يا امي جئت مودعة فقد نادتني الثورة .. ابتهلي لنا بالنصر.
من وقتها والام تبتهل في سرها خوفا من ان يسمعها زوجها الذي بات يحصي عليها انفاسها ليعرف اين ذهب الابناء. طوال الوقت يلح عليها بالاسئلة لمعرفة امكنتهم، رجل المخابرات الوفي لنظامه لا يفرق في عمله بين قريب وبعيد.
النظام كان غاضب عليه، عندما تناهى لسمع أجهزته الامنية ان ابناء عميلهم المخلص يشاركون في الثورة. بدأوا بالضغط عليه ليزداد هو شراسة في معاملته لزوجته ولكل المحيطين به. مزاجه صار حادا على أكثر مما هو فيه.
الرجل ما عاد صالحا لأن يكون زوجا أو أبا. بات مثل كتلة خرسانية يشكلها النظام حسب خططه ضد الشعب الذي مشى جامحا نحو شمس الحرية.
*****
هذه ليلة ولا كل الليالي،
تتناقل وسائل الاعلام انتصارات يحققها الثوار بوجه جيش النظام الذي يتقهقر مخلفا قواعدة ومنشآته.
تنفرج أسارير الام وهي تبتهل لانتصار أبنائها وبقية الثوار ... يغتاظ الرجل المخمور المنكسر على الاريكة.
- خونة، من رحم خائنة.
يقول ويعني أبناءه وزوجته.
. لا تتجاوز حدودك ايها السكّير -
ربما لأول مرة تكون المرأة حازمة بوجه الرجل، يكيل لها الشتائم النابية من فم مزبد ولسان متثاقل، وترد عليه بما استطاعت من كلمات منتقاة لعلها تعيده لوعيه ... لكن الرجل كان قد وصل الى نهاية المواجهة.
أخرج مسدسه الذي لا يفارق وسطه وأطلق طلقة الى التلفاز، وبلا تردد طلقة ثانية الى رأس المرأة. لكن الجبان لم يطلق ثالثة الى رأسه كما يحدث في قصص الانتحار التقليدية.
إثر دوي الرصاص شرّعت شبابيك وأبواب الجيران، بل المدينة كلها. أبواب اغلقت طويلا تحاشيا لأذى الرجل.
بعد اليقين تقدموا بمشاعلهم نحو منزل الرجل لمحاصرة الاذى فيه، ولاخراج جثة المرأة التي طلبتها نجوم السماء.
اكتمال الغياب
عندما حلّ المساء لم يسجل الرجل حضوره في البيت، لذا ظلت المائدة على حالها كما رتبتها المرأة قبل قليل .. الا ان البرودة بدأت تسري في الطعام وتتسلل مع مرور الوقت الى أوصال المرأة.
يخدشها هذا المساء على غير عادة ، في المساءات الماضية كان لحضور الرجل ظلالا وارفة من الطمأنينة ، إلفة تنسكب بينهما مما يجعل البيت يشع تحت ألق الرجاء ومنتهى الاماني بحياة زوجية مكسوّة بالمسرات.
لهذا المساء كان وعد بالمسرة وخصوصية .. قالت له منذ الصباح: عد باكرا لو استطعت. وهو لم يكن ينسى ان هذا اليوم تصادف به الذكرى الاولى لزواجهما، لذلك تحيّن عند الظهر فرصة الغذاء وانسلّ من مكان عمله قاصدا السوق القريب، حيث ابتاع اسوارة ذهبية على أمل ان يقدمها هدية لها في هذا المساء الذي ينقضي دون ان يسجل حضوره في البيت.
تتسمّر المرأة عند النافذة ونظراتها لا تفارق المكان الذي يركن به سيارته.
أين عساه ذهب؟ وما الذي شغله عن العودة الى البيت؟ -
تتلاعب الاسئلة والظنون في خاطرها فتشعر بتهشّم نفسها .. عشرات المرات هاتفته على هاتفه الخليوي وتجده مغلقا. اتصلت بزميله في الصحيفة فأفادها بأنهما خرجا سويا عند وقت الانصراف المعتاد وافترقا عند مدخل البناية.
التزامات الرجل الفكرية والحياتية تجعله على نقيض سياسات النظام. يكتب معترضا على الفساد المستشري في مؤسسات الدولة دون ان يكون حزبيا. يعتقد ان المواطن الصالح هو صالح بالفطرة ولا يحتاج لحزب يدله على الطريق.
للرجل حضوره، فلمَ هذا الغياب؟
أين عساه ذهب؟ وهو الذي من قبل لم يكن يتأخر عليها ولو لمرة واحدة ، وكانت تحفظ أوبته بالدقيقة . وذلك أمر يندرج في أولويات التزاماته الحياتية التي تمنحه ان يكون نادرا في نوعه من بين الرجال.
روحها طافحة بالقناعة بأنها محظوظة بارتباطها من هكذا رجل يعرف كيف يصنع المسرّة وينشرها على كل المحيطين به.
هل حدث مكروه لوالديه العجوزين أثناء عودته للبيت وهرع اليهما حيث يقيمان مع شقيقته العزباء، تتساءل المرأة في سرها. ولكن شقيقته اكدت لها حينما هاتفتها للسؤال بأنه لم يأت اليهم والوالدين بخير. وقد أوصت الشقيقة بأن لا تخبر الوالدين عن غيابه خوفا من التأثيرعلى صحتهما.
القلق شاهق كجبال في روحها يجعلها تنهار على الاريكة، ولكن سرعان ما تقوم بخطوات بدأت تثقل نحو النافذة لعلها تلمحه في الطريق عائدا اليها ... لن تعاتبه على تأخره حين يعود اليها ، بل سترتمي في أحضانه بلهفة المحروم ، باكية بحرقة ، لتعبر له كم تفتقده ان هو غاب عنها.
لكن عبثا ان يطل الرجل، أو ان تتلقى جوابا على مهاتفاتها المتكررة ليخبرها عن سبب تأخره في هذا الليل الذي بدأ يجثم على جسد المدينة.
يتقدم الليل ولا يرتسم الامل ، المرأة في ضيق كامل ومآقيها تسح دموع حارة. لم يعد بوسعها ان تتنفس. قدماها لم تعد تقويان على حملها ، والشحوب قد مسح جمال وجهها.
وهي منهارة كليا واعضاؤها مبعثرة ، تحاول برجاء أخير مهاتفته، فتسمع اشارة الرنين من محموله لأول مرة منذ المساء ، يخفق قلبها بسرعة، ثم يأتيها الصوت الآدمي جافا وغليظا وليس به ميزات أصوات عمال السنترال:
- صاحب الرقم المطلوب غير موجود لدينا، وهو غير موجود فوق تراب البلاد كلها.
جنود في الميدان
أصواتهم تهتف للوطن وللحرية، أصوات المواطنين ابناء البلاد.
رصاصهم يهتف بحياة الرئيس وكرسيه "المجيد"، رصاص جنود الحرس الجمهوري.
*****
كانت الميادين والشوارع قد اكتظت منذ الصباح بالجماهير الغاضبة والمحتجة على فساد الرئيس الذي حوّل الوطن الى مزرعة مملوكة له ولسلالته.
وقد طغى . طغى الرئيس حتى بات هو الطغيان كله، الى ان الناس باتوا يدعونه سرا بالطاغية، وقد نسيوا اسمه الحقيقي بالرغم من تكراره طيلة النهار والليل في وسائل الاعلام الرسمية مع مقدمات لا تحصى ولا تعد من مفردات التمجيد والتفخيم. إعلام الرئيس هو الاعلام الرسمي الوحيد في هذه البلاد المترامية. له تكتب القصائد خوفا، وله الاغاني والرقص الذي يبدو فرحا بوجوده "النادر". ولكنه في واقع الحال هو الرقص ارتعادا.
وله كل ما للبلاد من اصول، وللناس حسرات فقدان أملاكهم وذواتهم.
*****
الطاغية في قصره المنيف وبعدما وصلته التقارير عن حشود الشعب في ميادين وشوارع البلاد يصرخ غاضبا ومزبدا بوجه أعوانه:
كيف يحدث هذا وأنا على قيد الحياة، كيف لا يرهبوني؟ -
الاعوان يدارون وجوههم ويطأطئون، يتحاشون ان تلتقي نظراتهم بنظراته الحادة. لم يكن هذا الكائن الرئاسي في هذه اللحظة الا وهجا ناريا يتفلّت للانطلاق ليأكل الاخضر واليابس، وهو لم يتأخر بإتخاذ قراره الهستيري:
- أفلتوا عليهم جيشيَ القهّار الجبّار .. افلتوا حرسي الجمهور!
*****
إنفلت الرصاص من كل حدب وصوب يخترق الاجساد الساخنة.
ليس للرصاص عيون، أو شئ من حواس.
فقط رصاص يمضي بمشيئة الرئيس، والجنود المدججون في الميدان ما هم الا في مهمة رسمية تكلّفوا بها للدفاع عن الوطن .. جاءتهم الاوامر بأن البلاد تتعرض لمؤامرة اجنبية أدواتها الحشود في الشوارع والميادين.
يطلق جندي رصاصه فيردي شقيقه قتيلا، شقيقه الذي ولد من رحم امه وأبيه.
ولا ندري ان كان هو يدري.
يقترب جندي آخر من امرأة منقّبة، يمزق عنها قماشها ويطرحها أرضا مكشوفة عن جسدها. المرأة كانت شقيقته التي ولدت من رحم امه وابيه
ولا ندري ان كان هو يدري.
*****
تلال صارت جثث الاهالي
جثث شاخصة للسماء ، لم يتيبّس على شفاهها سؤال الحرية.
أحياء وموتى يريدون إمتلاك حريتهم.
--
كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في السويد *
- من مجموعة بعنوان "مملكة الرئيس" قيد الاعداد تستلهم "الربيع العربي".