يكشف الباحث العراقي عن كيف أن قرار غزو العراق كان قرارا مثيرا للجدل، لا يخضع لأي من المعايير الدولية، ولا حتى لمنطق مصلحة العالم الرأسمالي الذي كان يسيطر بالفعل، وبسبب العقوبات الجائرة على ثروات العراق. ولكن حماقة القرار سلمت العراق لعدوه التاريخي، وتركت فيه حكما لا يمت للديموقراطية التي يتشدقون بها بصلة.

غزو العراق: قرار مثير للجدل

مهنّد العزاوي

يدخل العالم اليوم في شبكة انفاق استراتيجية مظلمة يصعب تحديد بوصلة الخروج منها، ويمارس ساسة الدول الفاعلة الازدواجية بالمواقف، وسياسة الهروب الى الامام  تارة بالحروب والنزاعات، وأخرى باستخدام نظرية "الكذب النبيل"، للتعتيم على قرارات استراتيجية مثيرة للجدل، فاقدة المضمون الموضوعي المرتبط بالمصلحة العليا، وقد ادخلت القرارات القطبية  العالم في الفوضى النازفة، ونحرت منظومات القيم وهدمت حزمة دول مؤثرة، وكذلك غيبت المؤسسات الدولية وجعلت منها ديكورا امميا، وبالرغم من هناك قرارات عربية مثيرة للجدل تعتمد على العاطفة والتسرع والتفكير الخاطئ وسببت ازمات مركبة إلا انها غير مؤثرة دوليا.  

أخضعت بيوت الخبرة الغربية متخذ القرار لفلسفتها الضبابية، والتي انقشعت  وأوجدت عالم مثقل بالأزمات الاقتصادية، والحروب والنزاعات، والعسكرة الزاحفة، والأيديولوجيات المتناحرة، والظواهر المسلحة والسياسية الطائفية، والتضليل الاعلامي وحرب المصطلحات والصور، وبات مصطلح البراغماتية المستعاض عن المثالية  مدخلا لتحقيق المصالح الشركاتيه عبر حكومات جاهلة طائفية، تمارس التمييز والقتل خارج القانون، وانتهاك حقوق الانسان من اوسع الابواب، وعلنا بلا خوف او مسائلة قانونية تذكر، لتهدم بذلك القانون الدولي الذي أطر السلوكيات الدولية بحزمة مواثيق وبروتوكولات تسهم في ارساء الاستقرار والأمن والسلم الاهلي ، والذي اصبح بحكم المفقود في ظل التمييز العنصري والطائفي والفوضى الزاحفة.

قرار غزو العراق
تؤكد الوقائع والتسريبات الاعلامية  ان قرار غزو العراق قد اتخذ منذ عام 1992، واعدت له المستلزمات المختلفة، والمتعلقة بالإعلام والعلاقات العامة لهيكلة الرأي العام، وكذلك التنسيق الدولي السري والعلني، ووضع المحددات الاممية ومنها الحصار الاقتصادي ومناطق حظر الطيران على شمال العراق وجنوبه بما يتسق مع معايير التهديد الحربي للقوانين الدولية، وعندما تسلم "جورج دبليو بوش" السلطة  كان غزو العراق من ابرز اهتماماته دون الاخذ بنظر الاعتبار خطورة هذا القرار وتأثيره على النسق الدولي، وهيبة المنظمة الدولية المعنية بالأمن والسلم الدوليين،  بل وذهب الكونغرس لتأييد ذلك عام 1998 عندما صرف مبالغ مليونية لتمويل عدد من الموجات السياسية المصنعة في اروقة المخابرات الاجنبية والإقليمية، لتكون بديلا سياسيا يجسد تقسيم العراق على مراحل باستخدام ثلاثية الدول الشيعية والسنية والكردية بعد غزو العراق، وبالفعل تحقق ذلك من خلال سلوكيات حكم حزب طائفي طيلة ثماني سنوات تخطت ممارسته الطائفية مواثيق حقوق الانسان والصكوك الدولية ليؤسس الى حكومة الطائفة في بلد متعدد الاعراق والاثنيات والطوائف كما مجسد في الولايات المتحدة اوربا واسيا.

محظورات استراتيجية
كثيرا ما يسوق الاعلام الغربي والعربي لبيوت الخبرة الامريكية ومنظريهم ومفكريهم على انهم مفاتيح الفكر العالمي، بل وينشر ويتابع ويتبنى رؤيتهم ومخرجاتهم الفكرية، دون الاخذ بنظر الاعتبار متغيرات البيئة والمناخ وشكل النظام وحرفية المؤسسات، ودوافع مراكز الدراسات  المرتبطة بأجندات مختلفة، والتي تهيكل فكريا الاعمال الحربية التجارية وتضع لها مبررات ليس بالضرورة واقعية بل مضخمة اعلاميا، وتضعها كدليل اساسي في التعامل مع الواقع السياسي والدبلوماسي، ولعل ابرزها شيطنة الدول والأنظمة والرؤساء، وفرض افكار التجزئة الاجتماعية لمكونات  متناحرة، وكذلك ازدواجية التعامل مع ملفات حقوق الانسان والقانون الدولي  كما في العراق سوريا، وفتشت كثيرا عن حزمة الحوافز التي تجعل متخذ القرار وصانعوه يقدموا على غزو العراق «فلم اجد»، وكان العراق محاصر وأمواله في خزينة الولايات المتحدة والنفط مسيطر عليه اميركيا، ولكني وجدت جملة محظورات استراتيجية تجاهلها المفكرون والمنظرون الغربيون في صناعتهم لقرار غزو العراق وهي: -

1.    يعد العراق همزة الوصل الاستراتيجية بين المحاور الجيوسياسية الاقليمية

2.    يشكل العراق محور جيوسياسيا عربيا هاما في صناعة القرار العربي الدولي

3.    يشكل العراق البعد الرابع في معادلة التوازن الاقليمي وحجر الزاوية في الامن القومي العربي ورقم في معادلة الامن والسلم الدوليين

4.    حافظ العراق على استقرار النفط تسعيرا ونقلا وتصنيعا، والذي يحقق التوازن الاقتصادي ويبعد شبح الازمات الاقتصادية للدول المستهلكة، نظرا لسيولة التدفق وتنوع التصدير واستقرار التسعير والذي فقد بعد غزو العراق.

5.    استخدام القوة خارج اطار الشرعية الدولية مما ادى الى نسف قيمة المنظمات الاممية وأعاد العالم الى شريعة الغاب واستخدام القوة من قبل الاطراف المختلفة دون الرجوع للشرعية الدولية وهذا ما حصل بعد الغزو

6.    استخدام القوة او ارهاب القوة  يولد ردود ارتجاعية امنية كارثية، حيث اصبح العراق ساحة للمليشيات والتنظيمات المتطرفة، مما اشاع الفوضى الامنية بالمنطقة برمتها، والتي من المفترض ان تكون رقع خضراء امنه لان خزين الطاقة العالمية فيها.

7.    ابرز التحديات والمخاوف التي يمكن وصفها بالمحظورات هي لبننة العراق او صوملته، وإشاعة الاحتراب بين مكوناته او نقل نظام طائفي اليه في ظل محاذاته لدولة طائفية تجاهر بنشر الثورة الايرانية عبر عسكره الاسلام وادلجة الطوائف والتهديد بالإرهاب العابر للحدود.

الكلفة والمردود
عادة ما يدرس خيار الحرب في كافة المستويات وفق فلسفة «الكلفة والمردود»، ولعل كلفة غزو العراق قد تخطت التريليون دولار من دافعي الضرائب الامريكية، ناهيك عن الخسائر البشرية، والمضاعفات الاجتماعية والنفسية التي عصفت بالمجتمع الامريكي، وكذلك الأزمات الاقتصادية والمالية التي تتجه الى شفير الهاوية المالية، ناهيك عن نسف منظومة القيم الدولية المعمول بها، وانزلاق العالم الى الفوضى المسلحة والتي تكلف اقتصاد العالم المليارات

اما عن المردود قد سلمت ادارة اوباما العراق على طبق من نفط لإيران، لتكون وكيلا اقليميا، او شرطيا شريرا يمارس البلطجة المسلحة والأيديولوجية ضد جواره العربي، وانطلاقا من العراق  البائس والقابع في ذيول قوائم الانجاز والتحضر الدولي، تحت حكم الطائفة المسلحة بلباس السلطة، وديمقراطية شاذة لا ترتبط بالقيم الديمقراطية العصرية، وقد امتدحها الرئيس الامريكي اوباما  متجاهلا واقع العراق المتخلف البائس، ويبدوا ان القرار الرديف بترك العراق الى اهله لم يكن واقعيا  بل ترك العراق لخصمه التقليدي.

ظواهر متحولة
تؤكد القرارات المثيرة للجدل التي انتجت حروب المغامرة، والتي تورطت بها الولايات المتحدة في الشرق الاوسط على انتاج عالم مثقل بالأزمات المركبة ، ومن ابرز سماته النزاعات والحروب ، وتعصف به الظواهر الطائفية المسلحة، وعسكره وتسييس الاسلام ، وظواهر تهديم الدول، والانزلاق الى الفوضى الهدامة، وأضحت الازمات الاقتصادية تنهش في عموم دول اوربا والولايات المتحدة والعالم العربي، واضحى الشرق الاوسط خارطة مملوءة بالرقع الحمراء الملتهبة، ولعل ابرز نتاج خطير لتلك القرارت «تحول الظواهر الطائفية السياسية والمسلحة الى حكومات مستبدة تمارس القتل خارج القانون والتعذيب المنهجي وانتهاكات حقوق الانسان التي تخطت كافة القيم القانونية والدولية» ولايزال العالم يتعامل مع تلك الظواهر وفقا لمصالح السياسيين والشركات، وليس وفق فلسفة الاستقرار واختفاء التهديد وغياب الخوف لتحقيق مجتمع دولي يرتبط بمحددات الامن والسلم الدوليين، واضحى العالم يتجه وبشكل واضح الى فوضى المفاهيم والقيم وسيادة شريعة الغاب، القوي يأكل الضعيف، وبات يقضم الدول العصرية ذات الانجاز بالتعاقب وفق نظرية الدومينو، ويبدوا ان الهروب الى الامام هو سيد القرارات السهلة، لتستمر الفوضى الناتجة من القرارات المثيرة للجدل.

 

خبير استراتيجي عراقي