تطرح الباحثة الجزائرية في هذه الدراسة إشكالية البوح وتعرية الذات في الرواية المغربية عامة، والمكتوبة منها باللغة الفرنسية خاصة، كاشفة عن أن العجائبية هي سر الرواية الفرانكوفونية التي تعري للقارئ الفرنسي جسد مشرقن، حسب تعبير إدوار سعيد الدقيق، خال من الروح من أجل استهلاك غربي وطرح يفتقر لعمق الفن وإنسانيته.

البوح في الرواية المغاربية وأسرار الذات

دلال عبابســية

مقدمة:
عندما وجد الانسان نظر الى ما حوله فلم ير او يعرف أغرب من نفسه ولا أشد تعقيدا من ذلك الجسد المهيأ للحياة، الذي يهتز ويتحرك، يعطش ويجوع، يتعب يريد. يشتهي. أو من تلك النفس التي تشتعل بين جنبيه وتمنحه الاختلاف والتميز عن باقي المخلوقات. حينها اتخذ من السؤال منهجا للمعرفة ولا غرابة أن نفترض أن اول سؤال كان:من أنا؟ ما أكون ؟ ولأن الكلمة سر الوجود بها عبر الانسان عن حوائجه آلامه وآماله، نبضت بها أحاسيسه وحملها عبر السنين عبء واقعه وعظمة أحلامه. فهي أيضا من قد يجيبنا:كيف نظر العربي الى ذاته؟ كيف صورها؟ في عصر باتت ذاتيه هذه الذات متأزمة ومتهمة، ولنحدد السؤال أكثر سنبحث عن هذه الصورة في الرواية المغاربية لأكثر من سبب.

تمهيد:الرواية والذات:
لا أنكر أنني عندما وضعت إشكالية البوح أطرتها في البداية بالسيرة الذاتية وما يقاربها من أشكال الكتابة حول الذات، لكنني بعد القراءة والبحث لم أجد البوح في تلك القصدية المباشرة ولا كانت الحقيقة المسرودة بتلاعبات الكتاب تجيب عن أسئلتي! ومع ذلك اتبعت منذ البداية مسارا وجدته منطقيا، أو لنقل مناسبا لإشكالية التحدث أو تعرية الذات، فكانت اعترافات الغرب الشفافة اللامبالية، ثم سير العرب القدامى والمحدثين التي تقدم الذات على استحياء، وشيئا فشيئا انتهيت إلى الرواية بوصفها «تدور في النهاية على الإنسان، وتجارب الإنسان .على عظمة الإنسان وخسة الإنسان»(1)

 فمنذ ولادتها ارتبطت الرواية بالحرية ومنحت الفرصة للتكلم أكثر عن الذات وبسط الأفكار والأصوات بتشعباتها واختلافها، كانت عند الغرب كرنفالا وعند العرب تمردا وفرصة لطرح الواقع والتهرب من عين الرقابة فحياة الإنسان كانت أكثر تعقيدا من الحدود المرسومة بالمنطق، نتذكر في هذا السياق حكمة الرواية، التي تحدث عنها ميلان كونديرا (في كتابه فن الرواية) «بل أكاد أقول إنه خلال الكتابة كان يسمع لصوت آخر غير صوت قناعته الأخلاقية الشخصية كان يسمع إلى ما أحب أن أسميه حكمة الرواية، كل الروائيين الحقيقيين يستمعون إلى هذه الحكمة التي تتجاوز الأشخاص وهو ما يفسر أن الروايات الكبرى هي دوما أكثر ذكاء بقليل من مؤلفيها».(2)

و"حكمة اللايقين" تقترب من البوح بقدر ما يبتعد هو عن العقل، فهو لحظة نفسية، روحية يغيب فيها التفكير في النتائج وما سيجلبه البوح من آلام وخسائر، فالأسرار كل الأسرار تقريبا محاطة باللايقين واللامنطق إننا نؤمن بما لا نراه أكثر من الذي نراه، ونرغب في كل ممنوع، ونعشق مالا نمتلكه دون أن تلتفت إلى ما بين أيدينا ... ونحن مشغوفون بكل خفي يتسامى عن العقل البشري العاجز أحيانا أمام الأسرار الكبرى في حياتنا، الأسرار التي لا يوجد لها تبرير منطقي بل إن بحثنا في الحقيقة يكون أحيانا لامنطقيا، ربما لهذا يقول كونديرا «عندما يفكر الإنسان، الإله يضحك لان الإنسان يفكر والحقيقة تفلت منه».(3)

وهنا تنفلت خيوط البوح في نسيج السير والاعترافات، فهو كشف واكتشاف، لا يكتفي بسرد الحقيقة بل يخلخلها ويتساءل حولها «إن الروائي ليس مؤرخا ولا نبيا انه مستكشف للوجود»(4) ولان البوح يحتاج شجاعة أكثر من سرد تاريخ حياة ما، أو حتى الاعتراف بذنب ما فهو كشف سر – قد يكون شخصيا وقد يكون وجوديا عاما الكل يئن تحت سطوته، والكل يتكلم عليه ويلفه بالصمت ولهذا «لا أتعب من التكرار مع بروخ: إن السبب الوحيد لوجود الرواية هو أن تقول شيئا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية»(5)

فهي- أي الرواية – تنفيس يقترب من التداعي الحر، هذيان صادق «إن شعبا هائلا من الحواس والأفكار يتحرر من عبوديته أثناء فعل الكتابة، الكتابة فعل حلم».(6) إنها فعل حرية. ومن هذه الثلاثية: حرية رواية بوح. يصبح في الإمكان أن نتعامل مع الحالة أو الذات المبدعة بوصفها إنسانا قرر أن ينظر داخله وأن يشارك الآخرين فرصة اكتشافه وكشفه لحقيقته في لحظة امتلاكه للحرية «حريته التي لا يمكن أن تهدر، توقه إلى العدالة وإلى الجمال، نشوته بالحس، وصوفيته بالمطلق، مأساته الكونية المحتومة كإنسان، وقدره المجيد في مجابهتها، تكافله الحميم مع رصفائه في المجتمع وفي الحياة، وفي الكون .....كلها لب حقيقته غير المغلقة، ...>> ولعله لا يمكن أ ن يفي بها الوفاء الحق إلا العمل الأدبي». (7)

البوح في الرواية المغاربية:
لهذا اخترت الرواية وبالتحديد الرواية المغاربية وتجربة البوح فيها، كونها ثرية بسؤال الأنا، مثقلة بحضور الآخر، مضطربة الهوية، جسدها ملفوف بستار العجائبية، وخاصة تلك التي تعلن عن وجودها بصوت الآخر وتصل إلى ذاتها عبره وتبوح بسر يقارب الحقيقة ويمتزج بالزيف.

الرواية المغاربية: قضايا اللغة والهوية:
لماذا نكتب عن الأنا بلغة الآخر؟!: هذا سؤال لابد أن يطرح ومنذ البداية، كون هذا البحث ذا طبيعة ذاتية جدا موغل في الأنا، يحوم حول العقل العربي، والفكر العربي، وصورة العربي ليس أمام الآخر بل أمام نفسه، وكيف نظر؟ فلماذا الكتاب الفرانكوفونيين اختاروا لغة غير لغتهم للتحدث عن عالمهم: الشرق، بينما يتواجدون في الغرب وغالبه ما توجه أعمالهم للقارئ الغربي، بل إن أعمالهم هي الأكثر بوحا وتعرية للذات بل لجسد العالم العربي كاملا، فالسير الذاتية التي قليلا ما تكتب في بلادنا تصبح عنوانا وميزة لأعمالهم، هل هذا اختيار أم حتمية هل اللغة العربية قاصرة على تقديم الأنا العربي؟! هل في اللغة الفرنسية حرية أكثر؟!

والحقيقة أن اللغة أحد مقومات الهوية تجعلنا نتساءل إذ «إن الرواية العربية، الفرنكوفونية بالنسبة لنا كمتلقين عرب تنتمي إلى الأنا العربي لكنها مكتوبة بلغة الآخر الفرنسي، لذا فإننا نجد التهم تدور حول مصداقية تمثيل هذه الروايات لأناها العربي أولا.»(8) اللغة الفرنسية - أيضا – كانت من مخلفات الاستعمار، ولو تأملنا أدوات الآخر التي نستعملها لأنكرنا الأنا. لكن مع ذلك فلكل شيء سبب ولكل كاتب اختياره وطريقته، فمالك حداد مثلا عانى كثيرا كونه لا يتقن العربية وفي روايته (سأهبك غزالة) كتب تفاصيل حياته في فرنسا وأشار لنفسه بالمؤلف دون ذكر الاسم. وبين كيف أن فرنسا هي المنفى والجزائر هي الحلم «اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط ... وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية ... إن الفرنسية لمنفاي!»(9)

تلك كانت عاهة "مالك حداد"، وإذا كنا نستعمل لغة الآخر لنتواصل معه فهل كان محمد ذيب في ثلاثيته يذكر نفسه، أو ينبه الفرنسيين لما فعلوه في بلاده وأهله، هل أرادت الضحية أن تحاجج الجلاد، أم كانت كتابة تروي قصة الألم لتشفى منه، إن إشكالية اللغة تقف حاجزا بيننا وبين ثروة من الإبداعات معلقة بين الانتماء إلى الأنا والانجذاب إلى الآخر «سنة 1987 حصل الروائي المغربي الأصل الطاهر بن جلون عن جائزة (غونكور concourt) الفرنسية عن روايته ليلة القدر la nuit sacrée التي صدرت في السنة نفسها كان هذا الفوز إعلانا عن انتماء الرواية إلى الأدب الفرنسي، لكن قارئها يكتشف على الفور أن هذه الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية تستلهم المحلية المغربية».(10)

اللغة من مقومات الأمة والتخلي عنها أو الاضطرار لذلك ليس بالأمر الهين وعندما نتحدث عن هذه الإشكالية تطالعنا مقولة ابن خلدون "ولع المغلوب بالغالب" فهل لهذا أسباب نفسية؟ هي عقدة النقص اتجاه الآخر تدفعنا إلى استعمال أدواته، هل كتاباتنا موجهة للأنا أم للآخر!؟ ثم هل اللغة هي حد فاصل للانتماء «لقد كتب زينون السوري في اليونانية فصنفه التاريخ بين عباقرة اليونان، وكتب الفارابي التركي في العربية فصنفه التاريخ بين عباقرة العرب، وكذا يمكن أن نقول أن الإمام عبد القاهر الجرجاني الفارسي الفيلسوف الخوارزمي، وجالينوس الإسكندراني، والقديس أوغستين وأبو ليوس الجزائريين الذين عدهما التاريخ كتاب لاتينيين، ولهذه الحالات ما يبررها وهو التقدم الحضاري للغة التي يكتبون فيها ولتفوقها وهيمنتها».(11) فهل هيمنة الآخر، هي السبب؟! أم أن الاستعمار استدعى ذلك «فمنذ أواخر النصف الأول من القرن الماضي ظهر كتاب مغاربة يكتبون بالغة الفرنسية ليعبروا عن واقع محلي مغاربي بقصد مناهضة التبعية الثقافية لفرنسا ولم يكن هؤلاء الكتاب يستطيعون الكتابة باللغة العربية فقد كان وضعهم من جملة تبعات الاستعمار الفرنسي الذي سعى إلى أضعاف القدرة على التعبير بالعربية إذ أن اللغة مظهر من مظاهر القومية» (12)

إن معظم الكتاب المغاربة الذين عاصروا الاستعمار الفرنسي وشهدوا الاستقلال كانوا لا يجيدون اللغة العربية، وبالنسبة للكتابة بها وقفوا موقفين: الرافض لها بحجة أنها لغة إدارية لاتصلح للإبداع، وهم في الغالب الذين ذابوا في الكيان الفرنسي، وموقف يعترف بأن الدافع الوحيد هو عدم القدرة على إجادة اللغة العربية، فهذا الطاهر بن جلون يسوّغ اختياره الكتابة بالغة الفرنسية بأنه خوف على العربية، لا لأنه لا يجيدها، ولكن لاختلاف درجة إجادته للغتين: يقول عن حالته وحالة كتاب آخرين: «أحسن أداة كنا نتقنها هي اللغة الفرنسية، فحفاظا على اللغة العربية ولكي لا نتعسف عليها ونشوهها، فضلنا أو فضلت أنا شخصيا أن أتقن أكثر اللغة الفرنسية، حتى يكون العمل الإبداعي الذي أقدمه في المستوى. وقد حاولت بعض الفئات في الستينات والسبعينات أن تجعلنا نحس بالذنب بسبب الكتابة بلغة ليست هي لغة البلد الأم، فليس الأساسي هو اللغة ولكن ما يكتب»(13).

وفي النهاية نحس أنه علينا تفهم صدق تجربة كل مبدع فالإحساس الذي تنقله لنا تلك الكتابات من مثل "الدار الكبيرة" و"الحريق" و"سأهبك غزالة''، و"نجل الفقير'' ... إحساس جزائري يشبهنا وينتمي إلينا، نهتز لألم مالك حداد الذي كانت الفرنسية منفاه، ونحترم " كاتب ياسين" الذي كانت لغته الفرنسية إبداعا، ونعرف بأن "نجمة" جزائرية الروح والجسد وإذ نحن نبحث عن لحظة صدق عند المبدعين، فإن اللغة ستكون شريكا مهما حيث يعتبر "الطاهر بن جلون" أنه لو كتب باللغة العربية فلن يكون صادقا «في حوار آخر يعد الطاهر بن جلون الكتابة بالعربية "كذبا" لأنها لا تمثله مثل الفرنسية «يقول بعض الناس كيف يتابع الطاهر بن جلون الكتابة في اللغة الفرنسية في حين أن بإمكانه الرجوع إلى لغة الضاد أو استعمال أسلوب النشر في اللغتين (العربية والفرنسية ) ... الإجابة: سأجيب على هذا السؤال لآخر مرة هل سمعت؟ سأجيب بكلمة واحدة، لا يمكن لي أن أكذب على قرائي، وألقب نفسي كاتبا في اللغة العربية، إني أحترم هذه اللغة ،وأحترم القراء العرب، لذلك لا أكتب بالعربية. فلو كتبة باللغة بالعربية لأعطيت أدبا سخيفا، أدبا سريعا»(14)

وكما يبدو فإن السؤال تكرر كثيرا، حتى أصبحت الإجابات أكثر غضبا، وأكثر واقعية، بل لقد أصبحت بوحا يكشف سر الإبداع عند "بن جلون"، فهو لا يريد تشويه اللغة العربية لأنه يحترمها. ولا يدّعي أنه كاتبا باللغة العربية، إذ لا يتقنها. ويعلن أن المهم هو "ما يكتب"، وإذا كنا سنطبّق على نص ما المنهج النفسي، فسنتعامل معه كما لو كان حالة، وهنا لن نهتم بأي لغة تتكلم لأن المهم هو ما تقول، وما تخفي تلك الكلمات، وما تبوح به من أسرار تهرب من اللاوعي إلى الوعي، ومع ذلك فإن اللغة كثيرا ما تمارس دكتاتوريتها - كما يرى بارت – فالفرنسيـة أكثر تحررا ومباشرة، فهي لغة عارية، مغرية، والعربية كلمتها مشتقة من "مكلوم" أي من الألم، وهي الأكثر تلاعبا وإخفاء(لغة محجبة – إن جاز القول – بالاستعارات والكنايات) فهل يمكن أن يكون هذا سببا للكتابة بلغة الآخر؟!

إن الإجابة عن إشكال اللغة، وإشكال الأنا الآخر لن تكون حاسمة فهي المنفى عند البعض والعجز عند البعض الآخر، ليبقى السؤال هل ما كتبه هؤلاء كان حول الأنا وللأنا، أم للآخر؟ ما حدود الحقيقة وأين يكمن الزيف! مع ذلك فقد تعود لتلك النصوص شرعيتها «لهذه الأسباب كلها يبدو مشروعا عدم التفكير بأن الكتابة بلغة الآخر تمثل حاجزا لا يمكن تجاوزه لإدخال النصوص المنتجة بها في الحقل الثقافي العربي والتعريب هو طريق العودة إلى الثقافة الأم»(15) ولنثق في أن اللغة العربية ستحصن تلك النصوص المنتمية إليها والمتسائلة عن الهوية، أحدا أهم إشكاليات الرواية المغاربية وسؤالنا في المحطة القادمة: مــــا ســـر الهوية في الرواية المغاربية؟!

ســـر الهويـــة فـي الروايـة المغاربيـة:
كان الفن دائما هو الأكثر استيعابا للإنسان، جميل مثله، وقبيح مثله كذلك يشاركه رحلة العمر ويتلون حسب احتياجاته، فكان لليونان مسرحهم، وللعرب شعرهم ... كل حيث يجد ذاته ... ومرت العصور، وبدأ عصر جديد ينعت بالسرعة، وبالعولمة وبالكثير من المصطلحات المعقدة، أصبح العالم قرية صغيرة وأصبحت الهوية فوضى عارمة «لانعرف أي هوية نحمل اليوم فعلى ما أحدثته ضجة المدينة، ولنعرف إن كنا نسير في طريق صائب ... لكن الشيء الوحيد الذي نعرفه في هويتنا أنها مسكونة بالكثير من الشياطين، شياطين الحب والرصاص والتعصب والمجون والشجاعة والإكراه والكره، لذا فليس أمام هذه الهوية إلا أن تعيد تقييم ذاتها». (16) لقد بدأ الإنسان الأول سؤاله عن (الأنا) وعاد هذا السؤال أكثر حدة، بعد اختلاط المعايير، وتهميش الإنسان أمام حضارة المادة، حيث كانت المركزية تتحول من أمة إلى أخرى تتداول الأيام ويعيد التاريخ نفسه مع وجوه جديدة، وأسلحة أكثر تطورا. أفاق العرب على كل هذا وبدأ المشروع النهضوي، وتأزمت الذات العربية أكثر، وتأرجحت بين العودة أو المضي مع الآخر – أو خلفه – قدم المفكرون محاولاتهم واجتهد النقاد، لتصحيح الصحيح ودحض الخاطئ، وسجل المبدع الألم الإنساني فكانت الرواية، حيث «تعكف جميع الروايات في كل زمان على لغز الأنا»(17) وإضافة إلى أزمة العالم الجديد الوجودية، كان المغاربة يعانون لسنوات تحت رحمة الاستعمار الفرنسي الذي يحطم الإنسان. استعمار يستهدف المقومات ويخلخل الهوية، وحتى بعد الاستقلال بقي الهاجس، متجليا في الأعمال الإبداعية، وفي الرواية بصفة خاصة حيث تبرز إشكالية اللغة والهوية. «عندما نتحدث عن الرواية العربية نقصد عادة الرواية التي تكتب بهذه اللغة، وهذا يعني أن الأعمال السردية المكتوبة بلغة أخرى من طرف كتاب عرب لا تنطبق عليها هذه التسمية وبالتالي فإن الهوية في الأدب لا تتحدد بهوية الكاتب بل بهوية اللغة التي ينتج بها عمله».(18)

وإن كنا قد أشرنا إلى اللغة سابقا فستبقى قرينة بالرواية المغاربية التي تعرب قلبها وتفرنس لسانها – إن صح التعبير – ليبقى السؤال: أين تكمن الهوية في الجنس، اللون، الدين، اللغة ... وقد تناوله بقوة الكتاب الفرانكوفونيين أمثال "الطاهر بن جلون وأمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة Identités meurtrières (les  وكثير من الأسئلة كانت تشغلنا عن الانطلاق والتكتل، وكانت تزيدنا حيرة وتشتتا، فينادي البعض بأن المهم هو" ما يكتب "، ويعتبر البعض الآخر اللغة «بمثابة الخط الأحمر الذي إذا ما تم تجاوزه خرجت أعمال صاحبه عن دائرة لغة الضاد، وهذا يعني أنه يمكن للأديب أن يستعير من الآخر كل شيء: الشكل، التقنية، التيمات الايدولوجيا وغير ذلك، دون أن يفقد هويته الثقافية لكن إذا ما استعار لغته سيكون قد قطع الحبل السري الذي يربطه بالثقافة الأم حتى ولو احتفظ بمقوماتها الأخرى.» (19)

كانت اللغة سر من أسرار الرواية الفرانكفونية، بينما تميزت الرواية المغاربية بجرأة على طرح الأفكار، والبحث عن الحلول، والمشاركة في بناء ما حطمه الاستعمار، فكانت الرواية التونسية بحث عن حقيقة الوجود مع " ألمسعدي "وتلونت الرواية الجزائرية بالأحمر مع " بن هدوقة " و" الطاهر وطار " وكشفت بل وعرت الرواية المغاربية الواقع الاجتماعي وتضافرت الجهود في إبراز " الأنا" باختلاف الرؤى طبعا «لذا بات من المؤكد أن العامل اللغوي لم يعد الفاصل الحاكم والمميز طالما أن هناك خصوصية خطابية تعكس الانتماء والأصالة والهوية.»(20) لهذا ربما لا يستطيع غير الأدب أن يذيب الحدود الوهمية التي نضعها حول أنفسنا، فإذا كان السؤال واحدا، والهم واحدا، فلتتعدد الطرق لأن المهم أن نصل لبناء ذات لها القدرة على الثقة بنفسها ومواجهة غيرها .وعندها نتساءل معا «من نحن؟ وما المعايير الجديدة التي توحد بيننا وتسطر الخطر الفاصل مع الآخرين؟ هل مازالت تتمثل في الوطن، أو في الدود الجغرافية، أو اللغوية؟ هل تعتمد الخصوصيات الثقافية أم الدينية أم التاريخية؟ أو كما يقول دورني: ما المثال الموحد الذي يجعل جماعتنا تشبه فيلقا عسكريا أكثر من تشابهها سرب من الأفراد.»(21) وسيلتنا في هذا الأدب والرواية التي يمكن أن تقول ما لا يمكن أن يقوله غيرها. لكن هل قدمت الرواية المغاربية حلولا، أم أنها اكتفت بالبوح بسؤال يؤرقها؟! هل يمكننا معرفة من نكون من خلالها؟

لمقاربة الإجابة، نتجه إلى الروائي المغربي الطاهر بن جلون في بحثه الدؤوب – أو لنقل - في نقده للهوية العربية، بحث ربما للبناء وربما للهدم، بوح بأحد أسرار “الهوية “ هوية الشرق المرتبطة بالذكورة «أما أنا المعلم العجوز المحال على التقاعد المتعب من هذا البلد أو من الذين اساؤوا إليه وشوهوه فإنني أسائل نفسي عما أثارني في هذه القصة. اعتقد أن ما أثارني فيها أولا هو ما فيها من لغز، ثم إنني اعتقد أن مجتمعنا قاسٍ جدا، وإن لم يكن يبدو عليه ذلك وما فيه من عنف في العلاقات يتيح لمثل هذه القصة المجنونة التي تتحدث عن رجل في جسد امرأة يجب أن تكون شكلا من أشكال دفع هذا العنف إلى ابعد مداه».(22)

وقصة "بن جلون" المجنونة - حسب قوله – هي رواية "طفل من الرمل"، حيث ينتقد الذهنية الذكورية المميزة لهوية الشرق، وانسحاق الأنثى تحت هذه الذهنية وطفل هذه الرواية ما هو إلا بنتا تحول أو حولها والدها بدافع العادات والنظرة الساخرة للرجل الذي لا ينجب ولدا، لتصبح رجلا في جسد امرأة وتضيع حقيقتها في تاريخ حافل بالوأد الذي حرمه الإسلام، وبفجيعة كل أب يبشر بميلاد أنثى في مجتمع السيد فيه هو الرجل. وإن كان هذا الموضوع يأخذ حيزا كبيرا من الكتابات النسوية، "فالطاهر بن جلون" يقدم للقارئ الآخر، صورة معدة مسبقا عن الشرق، وخصوصا "الحريم" هذا النتاج الخطير للكبت والظلم، حتى تتساءل المرأة في هذا الواقع المرير، حيث يقول " أحمد" بطل الرواية «أأنا كائن أم صورة جسد أم إرادة متسلطة في بستان ذابل أم شجرة متينة قلي من أنا؟»(23) والمرأة في روايات "بن جلون" حاضرة دائما بصورة نمطية، ضعيفة، تخدم سيدها، محاصرة بالأسوار، المسترجلة رغما عنها في "طفل من الرمل" والمومس أيضا رغما عنها في "صلاة الغائب"، والخادمة المنكسرة في "محا المعتوه، محا الحكيم"، والشبقية في "ليلة القدر" بل إنه يجعلها بطلة معظم رواياته، البطلة الحقيقية - طبعا - وراء رجل أو طفل، ولا نجد هذه الصورة عند "بن جلون" فقط بل إنها تتكرر في معظم الروايات الفرنكوفونية مع قائمة: السحر والذهنية الأسطورية، والعنف، والصراع العرقي، مثل: "أمين معلوف"، "رشيد بو جدرة" "ياسمينة خضرة" ... في حين تختلف نوعا ما توجها ت الرواية المغاربية المكتوبة بالعربية .

 بالعودة إلى "بن جلون" والهوية، نتساءل عن البناء والهدم ؟! «وهو أي الروائي وأن يشرح ويحفر في الذهنية العربية الذكورية المهيمنة على المصائر، إلا أنه لا يقوم بذلك بقصد قراءة تقنية للهوية الفكرية. المجتمعية العربية لجوهرتها وتحديث آفاقها وتركيبها التراكمي إنما يتصدى وفق ذهنية ثقافية غربية تنتقد مكونات الهوية ولا تخفي رغبتها بتهديم هيكلها الظاهر بتراكيبها، لا بقصد البناء في ذات الأرضية والجوهر، بل للاستعاضة عنها ببنية أخرى نموذجها غربي».(24) وإن كانت الهوية - عند بن جلون – أصبحت جيفة لا بد لها من جسد آخر فلا نعتقد انه سيكون جسد غربي، لأنه اذا كانت الهوية مثل الروح والجوهر فهي لن تركن الا لجسدها الحقيقي .

العجائبية ســــــر الرواية الفرنكوفونية:
كثيرا ما تبوح الرواية الفرنكوفونية بأسرار الذات العربية، فشخصياتها من أعماق الواقع العربي، فضاءها وزمانها، مكانها، جسد عربي متدثر باللغة الفرنسية، هكذا تمنح فرصة للقارئ الغربي لرؤية الجسد عاريا لكن هل ذلك الجسد حي ينبض بالحقيقة أم هو تمثال مصمم لإرضاء طرف ما؟! وهل يحق لنا حينها أن نتهم تلك الروايات «باتهام واحد وهو أن هذه الروايات قد أعادت إنتاج الذات العربية برؤية الآخر الغربي ومن أجله»(25). وهنا بعد أن اعتبرنا منذ بداية البحث أن البوح في السير الذاتية، وفي الرواية العربية إشكالا، فإنه يصبح في الرواية الفرنكوفونية إشكالية أكثر تعقيدا، حيث تصبح صورة الأنا متأرجحة بين حقيقة ما أراه أنا، وما ينبغي عليّ أن أريه للآخر فـ: هل صورتـــي موجهـــة إلـــي "أنـــا"؟!

يعترف المسيحي بذنوبه ليتطهر منها، ويختزنها المسلم حسرة وندما بينه وبين خالقه الستير، يفرغ الأول همومه، ويضعها الآخر نصب عينيه، حتى لا ينسى، وبينهما ينتج المبدع نصه ليتجلى الإنسان، ولو تساءلنا سؤالا بديهيا: عندما نشعر بالاختناق وعدم القدرة على تحمل سر ما، فلمن نبوح به؟! ستكون الإجابة البديهية "لأقرب شخص لنا أو منا"، لأن العربي ومنذ البداية لاحظنا بأن السر عنده هم كبير، بل هو أسيره، وبالتالي سيصبح أسيرا لمن باح له، من هنا نتساءل حول الرواية الفرنكوفونية الأكثر مواجهة للانا لمن كتبت؟! ولماذا؟! وإن كانت كتبت بلغة الآخر، هل هذا يعني أنها موجهة إليه؟! ثم هل قدمت الصور الحقيقية؟ هل ذلك هو الوجه أم قناع ملون بما يرضي الآخر؟! .معظم تلك الروايات، سير لأصحابها تروي طفولتهم، وأيامهم، وواقعهم. تعطي صورة عن الشرق بعامة، وعن المغرب العربي بخاصة، يتلهف الغرب لقراءتها، وتحصد الجوائز، وتحقق انتشارا ومقروئية غريبة، حتى أنها لتدعنا نتساءل «ما إذا كانت لم تنجز لمحاولة "إدهاش الآخر" وتقديم نفسها كما يريد أن يراها، وليس كما هي فعلا».(26)

إن للمبدع المغاربي ارتباط تاريخيا بالآخر الفرنسي، فهو عدوه التاريخي مغتصب أرضه قاتل أجداده، السيد والمالك، والقوي، فهل الشعور بالدونية كان دافعا لتلك الطريقة في تقديم الذات عبر ذلك الجو ألعجائبي، المستوحى من "ألف ليلة وليلة"، وتلك العناوين المضبوطة والمحددة من طرف المستشرقين «الذات المنجرحة بحاجة للثقافات الأجنبية كي تشعر بشخصية ثقافتها: ففي إقامة التمايز بينهما- لا العداوة – تعرف أكثر وأفضل ثقافتها فتعالجها وتدبرها ثم تخطط لها، وجود الأخريين في وعينا ضرورة».(27)

ولو افترضنا أن النظر داخل " الأنا " محاولة لمقارنتها بالآخر، ومحاولة التغلب عليها إبداعيا فهل يصح حينها أن نعتبر الرواية الفرانكفونية تقف إلى جنب الرواية الحضارية التي تعالج أزمة الشرق والغرب، والتي يحولها "جورج طرابيشي" إلى "رجولة/ أنوثة" يبحث فيها كل طرف عن موقعه من بين الثنائيات: موجب وسالب، فعل ومنفعل، ملقح وملقح «فإن المثاقفة لا توقظ في الطرف المتلقي إحساسا بالدونية المؤنثة، بقدر ما تبعث فيه شعورا مرهقا بالخصاء الفكري والعنّة الثقافية، وتحت وطأة هذا الإحساس الذي لايطاق ذله يلوذ مثقف المستعمرة، أو المستعمرة السابقة، أول ما يلوذ بماضيه الحضاري يفترض فيه أنه ينم هو الآخر عن رجولة».(28) الشرق "الفنان"، الجزء الجميل من الوجود، النافذة التي من خلالها يستطيع "الآخر" المادي أن يتطلع إلى العالم الروحاني، حيث البداوة الصارخة، الوحشية والعنف، السحر والدجل، الغيبيات والخرافات، عالم الحريم، شبقية الحمامات، ذلك الأنا الذي تخلقه الرواية الفرانكفونية المغاربية.

الكتابة تحت الطلب؟! نقطة لابد من المرور بها، لمقاربة صدق البوح، أو زيفه، إذ أنه شعورية دقيقة، تقتلها القصدية، التي كانت أحد أسباب السير الذاتية المباشرة إلى الرواية، فهل العجائبية سر الشرق عموما والمغرب العربي خصوصا .أم هي باقة تنسق تحت الطلب!؟ «عندما طلب مني بول بوولز كتابة سيرتي الذاتية قلت له فورا: ولكنها مكتوبة، وهي عندي في الدار منذ فترة، وطبعا لم تكن لي منها جملة واحدة مكتوبة لكنها كانت مكتوبة في ذهني».(29) هذه شهادة "محمد شكري "صاحب "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" وغيره الكثير من المغاربة الذين طلب منهم بول بوولز كتابة سيرهم الذاتية المثقلة بواقعهم الاجتماعي المرير، وأحداث مغامرات الشارع، وكأن الآخر يتلذذ لمعاناتنا في "ساديّة" قاسية، بعد أن حدد المستشرقين أو بعضهم العقل العربي التركيبي وأصدروا ا حكمهم لتصبح مأساة "الأنا" هي مهزلة "الآخر" حسب مقولة «الحياة مأساة عند من يشعر، ومهزلة عند الذي يفكر»، وليس غريبا أن يكون الآخر "ساديا" وإنما المشكلة أن تكون "الأنا" مازوشية تهوى جلد الذات. وإذا كان الغرب في حاجة دائمة للشرق – حسب أمين معلوف – فإن من أولويات الذات معرفتها لذاتها ومواجهتها لتتمكن من محاورة أو مصارعة الآخر. وفي كتابة " التحليل النفسي للذات العربية اعتبرها "علي زيعور" حالة في حاجة للمكاشفة وتعرية الحقيقة للشفاء من عقدها. ووضع "الجابري" صاحب نقد العقل العربي ثالوثا محددا ... كل ما كتب عن العربي كان دافعا للفضول، لمعرفة تلك الذات الغريبة المحاطة بقطاع ميثولوجي، المعقدة، العنيفة، لكننا نتساءل حول الإنسان، فهو من أوجد الأسطورة، وهو من يحاول مطاردة الحقيقة، وهو الذي عندما يفكر الإله يضحك - حسب كونديرا – وهو الأنا والآخر. لهذا قد نقول أن شغف الغرب هو شغف طبيعي يعرفه كل إنسان يهمه ما يحدث في الجانب الآخر، ومن هنا فإنه عندما يطلب أن يكتب له، فله مبرراته، لكن ما مبررات ما يطلب منه أن يكتب عنه؟!

«الطاهر بن جلون: أنا لا أكتب تحت الطلب والمرة الوحيدة التي فعلتها كانت حول سجن تازمامارت».(30) وفي نفس السياق أجاب الكاتب السعودي "أحمد أبو دهمان: «كتبت (الحزام) في الفرنسية! لماذا هل تغويك الكتابة الإكزوتيكية التي قد يهواها الغربي؟ الإجابة: أعرف شهوات الشرق، وأقسم لك أني لا أعرف شهوات الغرب».(31) ويبقى الإصرار بين الطرفين اتهام معقول، وإجابات مقبولة «بعض النقاد يقولون أننا حينما نقرأ رواية الطاهر بن جلون، نقرأ الصورة التي تتوقعها أوروبا عن العالم العربي، وأن ابن جلون هو في خدمة ايدلوجيا أوروبية، تريد أن تعطي عن عالمنا صورة عنيفة، مقابرية فلكلورية ... ما هو رأيك في هذا؟! أجاب: إنه رأي ووجهة نظر وليس لي أن أرد على رأي بعض الناس، إني لم أسمع هذا الرأي وقد تكون أنت استمعت إليه في المقاهي».(32)

وإن كان ابن جلون يبدو حازما في إجابته، لامباليا، فإن رواياته تبوح بسرها، حيث تنطلق من المقابر مثل روايتي "محا المعتوه، محا الحكيم" و"صلاة الغائب"، وتكشف الحمامات وتدنس المساجد في رواية "ليلة القدر"، تحكي عن الأنا لتثير الآخر، تسترجع سحر الحكي الشهرزادي – إن صح التعبير – فنعود إلى ثنائية "طرابيشي"، "الذكورة والأنوثة "، وكأن بالشرق عند هؤلاء الكتاب أنثى تمارس سحرها على الغرب "الذكر" وإن كانت الأنثى ضعيفة تحتاج للذكر القوي، فالشرق متخلف محتاج للغرب المتفوق، وهذا يرضي غروره، مما يساهم في نجاح تلك الروايات، وإن صح هذا فلن تشفى الأنا من عيوبها، ولن يكون البوح علاجا، بل تزييف وإجابة عن أسئلة لا تعنيها «ويتساءل نجيب العوفي في مقال له عن الرؤية الجنسية في رواية "ليلة القدر": هل تلبي هذه الرؤية يا ترى حاجة ما لدى القارئ الغربي تحديدا، باعتبار أن القارئ هو صانع العمل الأدبي في التحليل الأخير؟ .... توقفت الرواية مليا عند سؤال الجنس - الجسد – كما توقفت عرضا عند سؤال الدين من خلال تعريته وانتقاد طقوسيته وصوريته، ومرت مرورا كريما على السؤال الثالث، سؤال الأسئلة مما جعل الحس التاريخي يبدو باهتا في الرواية (....) ومرة أخرى وأخيرة، هل للقارئ الآخر دخل في العزف على أوتار أسئلة محددة والإعفاء عن أخرى وإن كانت جوهرية ؟!»(33)

ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أن تلك الروايات لم تتساءل حول التغيير، ولم تحاول تقديم حلول، وكان الدور الكبير فيها استعراضيا «عندما يقبض على أحد الأعيان من العهد القديم، كان يركّب على حمار ووجهه إلى مؤخرته، وعلى رأسه عمامة زرقاء، وحول عنقه عدد من الجلاجل، وكان يُطاف به بهذا الزي في الشوارع قبل أن يفصل رأسه، ثم يعلق رأسه على عصى طويلة، في حين يرمى بالجسد إلى الكلاب».(34) ولهذا فسؤال الأنا يصبح مزيفا. كل ما يقدمه هو المصادقة على الصورة التي وضعها لنا “الآخر“ ويبقى هذا الرأي بحاجة إلى دراسة معمقة في أعمال الفرنكوفونيين. إذ يضع المبدع نفسه تحت المجهر «فيتجاوب الجمهور(بمن في ذلك النقاد الذين هم، في شروط الحضارة الحديثة، مفتاح الجمهور) مع العمل الفني. هو للفنان بمثابة تعويض نرجسي كبير، عن كل الجرح الفاغر الذي يشعر بأن وجوده يتقلص إليه، وتعويض عن كل ضحية تعرية الذات التي يضطر الفنان إلى الإقدام عليها بمزيد من الجراءة والجسارة، كلما أراد لعمله الفني المزيد من الأصالة والمصداقية».(35)

وبالعودة إلى وظيفة الفن عند القدماء بأنه تطهير، فالقارئ يبحث عن ذلته في الأعمال الإبداعية، يبكي لأنه يقرأ أحزانه، ويضحك لأن الفن يدغدغ أفكاره المتخفية ويعريها، يجد فيه أسراره التي لم يستطع البوح بها، حالة من التداعي الحر والتفريغ الذي تعقبه دائما راحة كبيرة، وإذ كنا نبحث عن البوح، فلا بد أن نتساءل عن لحظة الكتابة فإذا كانت تحت الطلب فهي لحظة الولاء والشعور الذي قد يكون حاجزا أمام صدق البوح أم هي حالة طبيعية يتمحور فيها الجانب الإكزوتيكي والروحانية. ليس فقط كحالة بل كإيديولوجية كاملة نسجها الشرق حول نفسه -حسب طرابيشي- لأن «المبدع الأدبي حسب فرويد يسحرنا بتلك المتعة الفنية وليس بعيدا أن يكون مصدر هذه المتعة قدرة الفنان على دعوتنا للاستماع إلى أخيلتنا ذاتها دون خجل أو تورية».(36) والآن: ما سر العجائية في الرواية الفرانكوفونية: هل هي تعرية لواقعنا أم حجاب لسترنا؟! وفي كلتا الحالتين ستكون إشكالية البوح، والبحث عن تجلياته في الأعمال الإبداعية هي نافذتنا للمعرفة أو للمقاربة. في مقالة له يقول عبد العزيز المقالح «أما الإخلاص للمحلية هو الطريق الصحيح للعالمية»(37) فهل هذا سر نجاح تلك الروايات؟!

النتائج:
ينصهر الخيال والواقع في هذا البحث، ويضطرنا للتساؤل «أين يبدأ واقع حياة الفرد في رواية السيرة الذاتية وأين ينتهي؟ وأين يبدأ المتخيل وأين ينتهي؟ تلك هي المشكلة الكبرى في التصنيف، فالسرديات جميعا تسير دائما وفق نظام: الاتصال والانفصال، الاتصال بالواقع ثم الانفصال عنه».(38) وهي مشكلتنا أيضا، لان البحث عن لحظات البوح سيتأرجح بين تلك الثنائية: حقيقة الواقع وزيف الخيال، امتزاج للانفعالات، ودفعة لاشعورية لأسرار مؤلمة، وأخرى مضحكة، يكتسي كل سر لون صاحبه ويختلف باختلافه وكذا ثقله ومدى تأثيره، فللمتصوف سره وللزنديق هو الآخر سره، وللطفل الذي كذب عن أمه ... وللرجل الذي خان زوجته ... والآخر الذي خان وطنه ... أو الذي أحب وطنه كذلك .. أسرار جميلة وأخرى قبيحة تشبه الحياة .لذا لا ندري ونحن نختم بحثنا: هل انتهينا او بدأنا؟ أم أننا نفتح بابا جديدا للبحث، لكن المهم أننا وجدنا في الرواية نصا مثقلا بالبوح وأسرار الذات، وفي الرواية المغاربية نصا اشكاليا يستحق القراءة والتعمق، والبوح يكاد يكون ميزة طاغية في هذا النص.

التوصيات:
البوح يمزج بين النفسي والأدبي لهذا يمكننا تتبع تجلياته في مختلف الأشكال الأدبية، ومختلف الحقب الزمنية، دون ان نقصره على الاعترافات أو السير الذاتية. قد يؤصل البوح لفكرة وحدة الفكر البشري فلا نضطر للمقارنة بين الشرق والغرب، أو البحث حول الأسبقية والافضلية ،وانما نقول أن كلا باح بطريقته وحسب نفسيته وشخصيته الخاصة.

يحتاج هذا الموضوع المزيد من الدراسة والبحث لأنه يمس الأنا والهوية والاخر، وهي من الاشكاليات التي تحتاج ان نعيد البحث فيها في كل عصر.

 

جامعة سوق أهراس ـ الجزائر

 

قائمة المصادر والمراجع:
1. بدوي(محمد): الرواية الجديدة في مصر:دراسة في التشكيل والايديولوجيا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1993

2. حداد (مالك): سأهبك غزالة، ترجمة: صالح القرمادي، الدارالتونسية للنشر، تونس1968.

3. زيعور (علي): التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 1977.

4. طرابيشي (جورج): شرق وغرب، رجولة وأنوثة، دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، دار الاداب بيروت، ط4، 1997

5. طرابيشي (جورج):الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية، دار الاداب بيروت ط1، 1995

6. العوفي (نجيب):عوالم سردية، متخيل القصة والرواية بين المغرب والمشرق، دار النشر والمعر فة، الرباط، ط1، 2000

7. فرج (نورة):ارتباكات الهوية: اسئلة الهوية والاستشراق في الرواية الفرنكفونية، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط4، 2007

8. المسيري (عبد الوهاب)-التريكي (فتحي): الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق، 2003

9. معلوف (أمين): ليون الافريقي ترجمة: عفيف الدمشقية، دارالفارابي، بيروت ط3، 1997

10. ميلان كونديرا:فن الرواية ترجمة: بدر الدين عرودكي، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق ط1، 1999

11. مجلة ألف العدد6

12. مجلة عمان العدد148

13. مجلة الكاتب الجزائري عدد خاص 2005

 14. الملتقى الثامن للرواية(عبد الحميد بن هدوقة) مديرية الثقافة ولاية برج بو عريريج، الجزائر 2004

15. ملتقى اشكاليات الأدب الجزائري، جامعة باجي مختار عنابة الجزائر 2005

 

هوامش:
(1) محمد بدوي :الرواية الجديدة في مصر : دراسة في التشكيل والأيديولوجيا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1993.ص 99

(2) ميلان كونديرا :ِ فن الرواية ، ترجمة :بدر الدين عرودكي ن الاهالي للطباعة والنشر، سورية ط 1 ص159-160

(3) المرجع نفسه. ص :160 .ِ

(4) ميلان كونديرا: فن الرواية ص: 49

(5) المرجع نفسه: ص:160 .

(6) محمد علي شمس الدين: الكتابة - الحرية – الموت .مجلة فصول العدد 3، 1992 ص: 167

(7) إدوارد الخراط : أنا والطابو مقاطع من سيرة ذاتية للكتابة عن السلطة والحرية مجلة فصول .العدد 3 1992 ص:46

(8) نورة فرج: ارتباكات الهوية: أسئلة الهوية والإستشراق في الرواية العربية الفرونكفونية المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب ط 1.2007 ص 20 .

(9) مالك حداد:  (سأهبك غزالة) ترجمة صالح القرمادي، الدار التونسية للنشر، تونس 1968.

(10) نورة فرج: ارتباكات الهوية ص: 09

(11) حسين خمري: الكتابة المزدوجة والهوية الثقافية: مجلة الكاتب الجزائري، عدد خاص، 2005، الجزائر ص: 153 - 154

(12) مرجع سابق: ص: 9 – 10.

(13) نورة فرج: إرتباكات الهوية، ص: 10- 11

(14) المرجع نفسه: ص: 11

(15) إبراهيم سعدي: عودة إلى مسألة الرواية والهوية، الملتقى الثامن للرواية (عبد الحميد بن هدوقة ) مديرية الثقافة ولاية برج بوعريريج الجزائر 2004، ص:159

(16) مهند مبيضين: هويتنا وشياطينها، عمان: مجلة ثقافية شهرية، العدد الثامن والأربعين بعد المائة ص43

(17) ميلان كونديرا: فن الرواية .ص29.

(18) ابراهيم السعدي: عودة إلى مسألة الرواية والهوية ص: 155.

(19) إبراهيم سعدي: عودة إلى مسألة الرواية والهوية ص:155

(20) جلال خشاب: إشكالية الهوية في الأدب الجزائري باللغة الفرنسية .ملتقى إشكاليات الأدب في الجزائر، جامعة باجي مختار .عنابة 2005 ص:202

(21)  عبد الوهاب الميسري، فتحي التريكي:الحداثة وما بعد الحداثة، دار الفكر، دمشق 2003.ص195.

(22) خالد زغريت: الطاهر بن جلون في رواية طفل من الرمل، جدل الثقافة والفن، عمان: مجلة ثقافية شهرية، العدد الثامن والأربعون بعد المائة ص:87.

(23) المرجع نفسه: ص: 87

(24) خالد زغريت: الطاهر بن جلون في رواية ' طفل من الرمل'، ص: 87

(25) علي زيعور: التحليل النفسي للذات العربية ص 129

(26) خالد زغريت: الطاهر بن جلون في رواية 'طفل من الرمل'، ص: 20

(27) علي زيعور: التحليل النفسي للذات العربية ص 129

(28) الكيان والمكان: مقابلة مع مح(1)-جورج طرابيش: شرق وغرب، رجولة وأنوثة دراسة في أزمة الجنس والحضارة في الرواية العربية، دار الطليعة،

(29) مقابلة مع محمد شكري، مجلة (ألف) العدد السادس ص:72

(30) نورة فرج: ارتباكات الهوية ص09

(31) المرجع نفسه ص: 15

(32) المرجع نفسه ص: 14

(33) نجيب العوفي: عوالم سردية، متخيل القصة والرواية بين المغرب والمشرق، دار النشر المعرفة، الرباط، ط1 2000، ص34 نقلا عن: نورة فرج: ارتباكات الهوية ص14/15

(34) أمين معلوف: ليون الإفريقي: ترجمة عفيف الدمشقية، دار الفارابي ، بيروت، ط3 1997 ص290

(35) جورج طرابيشي: الروائي وبطله: مقاربة اللاشعور في الرواية العربية ص: 9-10

(36) جورج طرابيشي: الروائي وبطله ص:18 .ارجع لـ Freud: Création littéraire et rêve evolle

(37) نورة فرج: ارتباكات الهوية ص17