يقدم الباحث المصري قراءته الشيقة لواحدة من أحدث الروايات التي سعت إلى صياغة استعاراتها المركبة عن الواقع المصري المعاصر، كما يتجلى على مرايا التاريخ العربي التي تفككه الرواية بينما تدير به حوارها الخصب مع الحيوات المصرية المعاصرة، ومع دور المرأة المحوري التي يسعى المتأسلمون للعصف به.

مصر.. تخلع ثوب الضباع

شوقي عبدالحميد يحيى

تصف الأقوال الشعبية من يعود من مهمة وقد أنجزها، انه سبع، ومن عاد ولم ينجزها، فهو ضبع. وبين السباع والضباع.. قرون عديدة. وتصف الأقوال الشعبية الزوج لامرأته "ظل وغطاء". وكثير من الأزواج للضباع أقرب. وتصف سهير المصادفة رحلتها في تاريخ مصر بـ "رحلة الضباع". كشهادة علي عصر، كانت له بدايات بعيدة، كنبت غًرسَ في الأرض فتجذرت عروقه وتشعبت فأنبتت فروعًا تطاولت فطالت أرض العرب، وتاريخ المسلمين. فأنبتت شوكًا يوخز المعاصرين، فينتبهوا ليصنعوا ثورة توحي بأمل في عصر جديد.

ففي رحلة العودة من الاتحاد السوفيتي إلي أرض الوطن "مصر" تأملت تطبيق التجربة السوفيتية علي أرض مصر فوجدت أن التجربة قائمة علي الأقوال لا الأفعال، وأن من كانوا يعدون بالقضاء علي الإقطاع والملوك، صاروا هم الملاك والملوك، فوصفت التجربة بـ "لهو الأبالسة" انتهت منها بأن رحلة التنوير تنبع من الذات ومن الداخل، لا هي بالغربية ولا بالشرقية. فغاصت في الذات وفي الداخل، فوجدت الماضي الأحمر (السوفيتي) يسيطر ويهيمن، وحتي يستطيع الحاضر أن يواجهه، يطلق عليه من يستطيع أن يواجهه، فخرجت الأصولية المتطرفة، وبدلا من أن تتعادل الكفتان ويستوي الميزان، تعلو بطشة اليمين علي اليسار، فتقتل الحاضر(السادات ذاته) وتقتل الجمال والمثال، تقتل "ميس إيجبت"(1)  ذاتها. مقتطعًا –للتنكيل بها - جزءً من أعضائها التناسلية، في رمزية لنهاية الإنجاب.

لكن مصر أبدًا لن تموت ولن تعقم. ورغم أن سهير المصادفة تتركنا في دوامة السؤال: هل ماتت "ميس إيجبت" فعلا، أم أنها في غفوة، ولابد لها أن تعود، وهل مصر عقمت بالفعل، أم أن الأمل لايزال في أن تأتي لنا بالولد؟ وتحمل سهير المصادفة زادها وزوادها من تجارب التاريخ وعبراته، بحثًا عن إجابة السوال عابرة من الماضي عبر الحاضر نحو المستقبل في "رحلة الضباع" .(2)

وكأنها كانت تستقرئ ما سيأتي في نهاية "ميس إيجبت" حين جعلت من طعن ميس إيجبت رجل منتقب، في إشارة للجماعات الإسلامية المتطرفة، في الوقت الذي لم يكن أحد يتصور أن ثورة في مصر ستقوم، وستختطفها الجماعة الإسلامية، ليخضبوا يدها البيضاء، السلمية، بدم شبابها الذين دفعوا الثمن الأوفي للحصول علي الحرية، والسير نحو المستقبل، وهم لايتصورون أن أوامر السمع والطاعة العمياء، ستسعي إلي إجبارهم للعودة إلي قرون طويلة مضت.

تعود بنا "رحلة الضباع" إلي ألف وأربعمائة عام مضت، وتحديدًا بعد الهجرة النبوية بنحو ثلاثين عامًا، بعد أن قتل عثمان بن عفان – علي الرغم مما قدمه من إزدياد التوسع في الدولة الإسلامية وجمع القرآن و توسعة المسجد النبوي - يقتل علي يد معارضيه، الذين اعترضوا علي إحلال أقربائه في المناصب العليا للبلاد، لتكون أول استخدام لأهل الثقة وتفضيلهم علي أهل الخبرة، وبعد رفضه ما خيروه فيه بين ثلاثة: عزل عُمَّاله وردَّ مظالمهم، وألا يجعل لأقاربه فضلا على سائر المسلمين وقالوا: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. أبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله، بحجة حديث لرسول الله "صلي الله عليه وسلم" قال له فيه:[يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه حتى تلقانى]  ويكون أول استخدام للدين للتمسك بالحكم.

وبعد قتل عثمان، يرفض معاوية مبايعة علي إلا بعد أن يقتص علي من قتلة عثمان، غير أن عثمان رأي احتياج الأمة لهذه المجموعة فرفض القصاص منها، وأصر كل من الطرفين علي رأيه، فثار القتال بين عثمان ومعاوية راح ضحيته ألاف المسلمين، لينتهي بالاتفاق علي تقسيم دولة الخلافة ، فيختص معاوية بالشام، ومعها مصر، ويختص علي بالعراق، ليظل الخلاف بين أتباعهما إلي اليوم، وربما غدًا. وهو ما رأته، وسجلته "رحلة الضباع": {والمؤلم يا أختاه أنه لم يسلم في ساحة الوغي تلك أحد من الصحابة أو كبار مكة والمدينة من الهجاء الفاحش. أحاول أن أبحث عن هذا الحق الذي يريدون رفع راياته فلا أجد إلا خصام قبائل علي من يكون له الأمر. أحاول حتي أن أنحاز إلي فريق من الفريقين فأجد نفسي ألطم وجهي وأنا أصرخ: يا لضياعنا إلي أبد الآبدين. إن كلمات الله لم تصل إليهم كأنه قد صار بين القرآن الكريم وبينهم حجاب. كدت أهتف فيهم: أوتقتلون الناس دفاعًا عن الله وهو الذي حرم قتل النفس؟ لكنني أدرك أنهم قد مُلئت آذانهم بالشمع فهم لا يسمعون} .(3)

نتعرف في البداية علي "جمال إبراهيم" الذي يعمل مصححًا بجريدة "أندلسية" وقد قرر أن يطلق زوجته "نرمين" لعدم إنجابها. يتشكك الزوج في زوجته، ويزرع لها الكاميرات في البيت. يكتشف أنها تكتب. يتصور أنها مذكرات، يحملها إلي سفح "الهرم"  ليقرأها بعيدًا عن الأعين، وعنها. وكأنه يذهب بنا إلي بداية الحكاية، حكاية مصر. ويكون "الهرم" هنا هو الإشارة الأولي التي تضعنا علي إسقاط الحكاية علي مصر، ولتبدأ الحكاية مع مذكرات الزوجة فتبدأ "رحلة الضباع" في الرواية (الداخلية) بالبحث عن الخلاص من تلك الفتنة أو اللعنة التي أصابت المسلمين وروت الأرض بدمائهم التي حرمها الله. إذ تصورت الجدة "السوداء بنت الرومي" أن في سرد الحكاية تحذير وتنبيه لللأحفاد. وكأنها "زرقاء اليمامة". تحذرهم مما كان وما سيكون، ولتتوقف الدماء، فتحكي للحفيدة:

{نعتوني بـ "غراب البين" وبـ "الرائية" ومَن أطلقوا عليّ "المتتبعة للجيفة" ومن رموني ظلما بـ "الضبعة" أو لم يكونوا هم أنفسهم الضباع؟} .(4) فعلي مر التاريخ هناك من يقرأ.. ولكن دائمًا هناك مَن لايسمع. وتصحبنا السوداء في رحلتها عبر الزمن، حاملة نبوءتها، دافعة بالماضي أمامها، صارخة بتحذيراتها: {الآن أعرف أن سرد الحكاية يكاد يكون لعنة توارثتها حفيدات الجدة ولا خلاص منها إلا بأن تُحكي} .(5)

وفي رحلتها، تتعرف "السوداء" علي وتصطحب معها "الليث بن أسيد" ليكون الإشارة الثانية التي تضعنا في عمق مصر، فهو "الليث بن سعد" الإمام المصري الذي قال عنه الإمام الشافعي "الليث أفقه من مالك إلا أن قومه أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به". وهو الذي وضع خارطة إصلاح مصر في مقولته لهارون الرشيد "صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميره ومن رأس العين يأتى الكدر فإذا صفا رأس العين صفت السواقى". وليعيد كلاهما (السوداء والليث) إلي الأذهان قصة الخضر وموسي في رحلتهما إلي المعرفة، فيحمل "الليث" معها الرسالة، ويصبح هو المردد للتحذيرات التي أطلقتها "السوداء" أو أطلقها التاريخ الذي كتب بدماء المسلمين، والذي يشهد بأن أمراء المؤمنين ماتوا إما مسمومين أو مصلوبين أو مخوزأين. التاريخ الذي يبين لنا الأغراض الحقيقية التي يتخفي وراءها أولائك الذين يتسترون وراء الدين سعيًا للحكم {أه لو كنت تعرفت إلي سيد هذه الدار منذ أيام وهو يزعق مثل ديك الفجر في أهله بأنه ذاهب إلي نصرة الله والحق. والمصيبة أن جميع أهله وجميع الناس يعرفون جيدًا إلام هو ذاهب.. لاشئ سوي جمع الغنائم والاستيلاء علي المزارع وأسر الجواري. والأعجب أن لا أحد حاول إيقافه.} .(6)

وعلي الرغم من تقاطع الخطين – الواقع والتاريخ – إلا أنهما يصنعان خطين متوازيين، يصنعان تقابلا كاشفًا. فالخط الواقعي – حكاية أحمد إبراهيم ونرمين – تكشف سواءات المجتمع المعاش، والذي يتحتم تغييره، بينما خط التاريخ – حكاية السوداء بنت الرومي – تحذر من أن يكون التغيير بالدم، وبالفتنة والقتل.

التقنية الروائية:
تسعي سهير المصادفة دائمًا لأن تجدد نفسها وتقنياتها. فإذا كانت في روايتها الأولي "لهو الأبالسة" قد جعلت من الهامش نصًا موازيًا، فكانت الهوامش الافتتاحية للفصول تشكل بعدًا آخر للفصول وتشكل في مجموعها بعدًا رومانسيًا للبعد الواقعي في المتن الأصلي. وجعلت من الافتتاحيات في "ميس إيجيبت" كشافات إضاءة للمتن. فقد جعلت في "رحلة الضباع" من الهامش متنًا أساسيًا، بينما تحول المتن الأساسي إلي هامش، حتي أنه علي الرغم من أن عنوان الرواية هو "رحلة الضباع"، إلا أنها وضعت للرواية الداخلية، أو الضمنية عنوانًا ثانيًا هو أيضًا "رحلة الضباع"، وكأنها تؤكد أن الرواية تبدأ.... من هنا. فقد دار المتن الأساسي حول "نرمين" الزوجة الوفية التي تتفوق علي زوجها الذي يتشكك فيها، والذي يتنصت عليها ليكتشف أنها تكتب أشياء، لا يعلم ماذا تكتب، ولنتبين أنها تكتب رواية عن تاريخ الفتنة الكبري وتأثيرها في رحلة المسلمين مع الحكم –  دون أن تصرح الكاتبة أنها تكتب رواية – أي أنها تكتب التاريخ الذي من المفترض أن يكون العبرة والدرس، لمن يعي ويعتبر: {لم أعد أدري الآن يا بنيتي كم لبثت في كنفه أتمرغ في الحرير وأتثاءب من السعادة وأساعده في كتابة الأخبار التي يمكن كتابتها علي لوح الزمان بعد أن علمني الكتابة} .(7) وكما تؤكد الكاتبة في هامش الفصل الخامس {وحيث إنه قادر علي طحن أقدم العظام حتي ما دفن منها فيما قبل التاريخ، فكل من يعرفه يعرف أنه سيخلف روثًا أبيض يشبه كثيرًا لون الآزل، أو لون صفحات التاريخ حين تبيض أحيانًا وتصمت أحيانًا أخري وتمتلئ بما يريد الملوك تدوينه في أغلب الأحيان} .(8)  وليصبح ذلك هو الرؤية الأساسية في العمل. فضلاً عن كونها امتداد لـ "ميس إيجيبت" التي لم تنجب، فهي هنا أيضًا لم تنجب، ليظل لها ذات البعد الرمزي. بينما الزوج يعمل مجرد مراجع أو مصحح في جريدة، وعندما يكتب مقالاً وحيدًا، لايشعر به أحد، ويمر كأن لم يكن.

تربط الكاتبة بين الروايتين، الخارجية (قصة الزوج جمال إبراهيم والزوجة نرمين أو ذات الغمازة)، والداخلية (الزوج عمر بن عدي والزوجة السوداء بنت الرومي) برباط رفيع متين في نفس الآن. فتقول السوداء بنت الرومي (الجدة الأولي) لنرمين (آخر الحفيدات): {أنت إذًا حفيدتي "هاجر" ابنة الحبابة ابنتي} .(9) فإلي جانب الإشارة إلي العلاقة بينهما، نجد الإشارة بـ(هاجر) إشارة أخري إلي مصر فـ(ها-جر ها (بالهيروغليفيى معناها زهرة اللوتس وكلمة (جر) معناها أرض جب بالمعنى التوراتى (مصر) أي اسمها زهرة اللوتس وكنايتها (المصرية(. فهي إذًا إشارة إلي هاجر المصرية القبطية التي تزوجها سيدنا إبراهيم عليه السلام وأم إسماعيل، الذي رحبت بأن يذبحه أبوه إبراهيم، ما دامت تلك دعوة الله. فهي إذًا الصابرة المضحية المؤمنة - فالبداية (الجدة) إذن من{جبل أحد وشعاب مكة}(10)  وآخر الحفيدات (هاجر) من مصر - وهي الصفات التي منحتها سهير المصادقة لكلتا المرأتين. فالسوداء بنت الرومي ظلت وفية لزوج عربيد هجرها، وراح يتاجر في السلاح، الذي به تسيل دماء المسلمين، وعندما عثرت عليه مؤخرا باعها كجارية. ونرمين الحفيدة ظلت وفية لزوجها، لا تتأخر في طلب من طلباته، حتي تركها في النهاية ليتزوج من {المرأة الغريبة كليا عني والتي لا تتوقف عن سؤالي عن رأيي فيما ترتدي من قمصان نوم عارية وجميعها من مشتقات اللون البنفسجي الذي يتعب عيني} .(11) وبعد أن تتبين حقيقة كل زوج، تعيش السوداء مع القعقاع في الحرير، وتنعم بالحياة، وكأنها وصلت لبر الآمان، تخلع "نرمين" النقاب الذي كانت ترتديه مع الزوج وترتدي {بنطلون جينز واسعا وبلوزة زرقاء وجاكيت أسود}(12)  لتصبح امرأة أخري، يشار إليها في أجهزة الإعلام. ولتغير مصر رداءها وتخرج للحياة بعد ثورة قام بها {شباب أنبل جيل أنجبته البلاد} .(13) وكأنهن استبدلن الضباع.. بالسباع. لتتم دورة الحياة والإبداع، وحتمية التغيير.  فضلاً عن أن كلتاهما (السوداء ونرمين) تعمل عمل زرقاء اليمامة، فتحمل النبوءة السوداء، وتحذر من مصير الدم، وتعمل علي إيقاف نزيفه.

كما تظل الكاتبة محتفظة بمفتتحات الفصول بنصوص مستقلة، مثلما فعلت في روايتيها السابقتين، ولتظل هذه المفتتحات، كشافًا يضيئ النص. فهي هنا، تكشف عن بيانات ومعلومات عن الضباع، إلا أنها البيانات والمعلومات التي في الحقيقة يمكن خلعها علي الشخوص المعنية من الرواية، أي أنها تتحول من هامش إلي متن أيضًا، إذا تصبح جزءًا عضويًا وفاعلاً في إضاءة الرؤية الكلية للعمل.

وكما في أعمالها السابقة، عمدت الكاتبة إلى إذابة نقط الدواء في كوب كبير من الماء المحلي، فقد بثت الواقع المرير في ثنايا عمل كبير يحمل متعة التلقي، وشهوة المتابعة. فإذا ما أردنا تصوير كتابة سهير المصادفة، فأراها ترسم رجلاً مشعرًا، نحيفًا مرتدديًا زي امرأة مشتهاة، أجادت إخفاء معالم الرجال فيها، فهي موضوعات جافة كصحراء، يرش عليها رذاذ يرطبها، ونسمات تهذبها. فوسط قصة زواج واقعية، تحمل كل نبض الواقعية، من إخلاص الزوجة وشك الزوج، ورغبة الزوج وأمه في الإنجاب، تبث لنا سوءات المجتمع بين الحين والحين، وكأنها تذكر قارئها كلما استغرق في متابعة الحياة، ألا ينسي أن ما ترمي إليه أبعد من الهموم الفردية، إنه هم الوطن. وكأنها ترسم صورة المجتمع المرفوض والذي يمهد لثورة لابد آتية: {من الواضح أنها لشباب من هؤلاء الذين درسوا في مدارس وجامعات أجنبية.. وجميعها تتحدث عن ثورة قادمة لا محالة، وعن طوفان سيكتسح كل هذا الفساد وكل هذا الخراب العظيم}(14)   

ففي ص 53 نقرأ:

{أغرق في المادة التي جمعها "حسن" : مبيدات مسرطنة.. مسئولون كبار لا يدري أحد من أين صاروا يعيشون حياة تشبه كثيرًا ما قرأناه عن حياة الملك "فاروق".. بعض الشتائم عن توجهات أعضاء بعضهم التناسلية وعن نساء مَن يحب النساء وعَن رجال من يحب الرجال وعن عيال من يحب العيال سأحذفها بالطبع حتي لا تتعرض الجريدة للقضاء. صفقات مشبوهة تتم في سهرات حمراء يذبح فيها عدد لا بأس به من أعراض فتيات صغيرات، عن بيع كل أصول البلد تقريبًا، من مصانع كبري وشركات لصالح حفنة من الرجال الذين يحيطون بالوريث.}

وفي ص204 نقرأ:

{هل قرأ ذات يوم التحقيق الذي كتبته عن أسماك القرش الكبيرة التى تأكل الأسماك الصغيرة في السوق وتحتكر كل شئ لنفسها.. الحديد والذرة والقطن والأرز وتوكيلات السيارات والموانئ وحتي أرصفة وسط البلد وتسريح الباعة الجائلين عليها}. وفي ص 88 {يعرف مدير شئون العاملين أنه لن ينقلها مع ما تحمله من أسرار أبدًا وحتي موته أو رحيله المستحيل من الجريدة فلا أحد علي الإطلاق في مصر يترك موقعه}.

عتبات النص:
علي الرغم من رفضي لاعتبار غلاف العمل عتبة أولي للنص – في مصر تحديدًا – لاعتقادي بألا دور كبير للكاتب في اختيار لوحة الغلاف، إلا أن غلاف "رحلة الضباع" يجبرني علي اعتباره عتبة أولي، لقدرته علي تصوير أجواء الرواية، حيث نري في أعلي صفحة الغلاف مجموعة من الأرجل، تتداخل ما بين أرجل رجال حفاة، وأرجل إبل، يبدو عليها جميعا التراب والإرهاق، بينما امتد اللون الرملي باقي صفحة الغلاف، لنتبين منها، امتداد صفحة الصحراء، والرجال والجمال قد أنهكها السير، وما زال أمامها مشوار طويل. كما توحي اللوحة بتقفي الأثر، وبالبيئة العامة التي تدور فيها الرواية.

فإذا ما تجاوزنا صفحة الغلاف، نحو العتبة الثانية، الإهداء. وجدناه أشبه بتحديد المراجع، الأمر الذي يجعله في صميم العمل، حيث تعتمد الرواية علي فترة زمنية زاخرة بالأحداث، وتعددت فيها الأقاويل، ولابد لقراءة الرواية قراءة جادة من استعادة دراسة تلك الفترة الزمنية، وهي الفترة المعروفة بـ "الفتنة الكبري". حتي ما يبدو من الإهداء عائليًا، نجد أنه يدخل في الرواية بشكل ما، فالإبن "لؤي" الذي يُلقي شلالات الضوء، الذي يضئ بالضرورة للكتابة المشعة، والزوج، الشاعر الملهم الذي تحول إلي بيت تسكنه الكاتبة، إنسانيًا وأدبيًا، لابد أمور تساهم بشكل أو آخر في إخراج نص مستقر راسخ، بعيدا عن القلق، أو الاضطراب. ثم يأتي من استلهمت منهم، أو عادت إليهم في دراسة الفترة التاريخية المشار إليها.

أما العتبة الثالثة، وهي افتتاحيات الفصول، حيث لا عناوين داخلية، فقد جاءت إضاءات علمية ومعرفية حول حيوان الضبع، والذي تمهد لنا به معرفة خواص شخوص الرواية التي تنطبق علي الرجال المعنيين فيها. فإذا كان مفتتح الفصل الأول يربط بين الضبع والإنسان مباشرة، حيث يشبه عواء الضبع بالضحك الهستيري للإنسان، أي الضحك غير الطبيعي، فإن مفتتح الفصل الثاني يورد: {وهو غير مهتم علي الإطلاق بقتل فريسته قبل الشروع في نهشها}.

وفي مفتتح الفصل الثالث نقرأ: {ولأنه خسيس وجبان وغبيّ حتي أن مخه كان يضرب به المثل علي الحمقي من الرجال.} ونقرأ في في متن الرواية {أجوب البوادي برسائل لا تصل إلي من يعنيهم الأمر وإذا ما وصلت فهي تصل دائما متأخرة} أي أن الراوية دائمًا ما (تؤذن في مالطة) مثلما يقول المثل عمَن يسدون آذانهم، فلا يسمعون، وإذا سمعوا فهم لا يعون. أليس ذلك من الحمق والغباء الذي يتصف به الضبع؟ ثم تصرح "السوداء" عن زوجها، بما بربط بين الرجال والضباع {وكنت أهمس للضبع الجبان أن اهجم علي النسر الآن فإنه ممتلئ البطن ولن يستطيع الطيران، لكنه كان لا يحب إلا لحوم الميتتة من البشر........ولقد تهافتت عليَّ كل مصائب صراع الضباع علي الملك خلال رحلتهم الدموية}.(15)

رسم الشخصية
حيث أن القارئ العربي يعيش الآن فترة حراك مزلزل، استحوذ عليه كل اهتمامه، بعد ثورات تقاربت في الزمان وتباعدت في المكان، فطالت دولا عدة، ومازالت تعيش حالة القلق، بعد أن جاء المولود فيها غير مكتمل، فراحت تذكره بين الحين والحين بما كان وما ثار عليه، مثلما أشرنا إليه من قبل. وهو ما فعلته أيضًا في رسم الشخصيات. حيث توزيع تحديد معالم الشخصية علي صفحات الرواية. مثل صورة الزوج "حمال إبراهيم" توزعت علي مدار الصفحات فنجد: {في الحقيقة لم أخلق لأكون صحفيًا فأنا كسول للغاية ومخي لا يبدع أي شئ جديد وهناك عطب ما في مشاعري حتي إنني لا أدري في أية مرحلة من مراحل عمري وضعت ما يسمونه بالمشاعر في فريزر ما لا تنقطع عنه الكهرباء أبدًا.} وكأنه يجسد نفسه في صورة "الضبع". ثم يعود في ص22 ليصرح {يبدو أنني لم أحب أبدًا أبي ومن حسن حظي أنه مات وأنا في السابعة من عمري}. ثم يواصل حديثه عن والده {وبينما كنت أهرب منه ومن الرائحة وأنا أنهض من جواره انتفض فجأة وجن جنونه، وألقاني أرضًا وهو يصرخ أنا ما أعرفش أنام في البيت ده أبدًا}. ويعود في ص 79 {لا أريد الآن إلا أن أستسلم تمامًا لهذه النفس الخربة التي أمتلكها}. وكأن الكاتبة تؤكد لنا علي دفعات أو مراحل مدي تشوه تلك الشخصية، وعدم صلاحيته لأداء دوره مع زوجته الفاعلة "نرمين".

وفي تصويرها للزوجة "نرمين" نقرأ في ص 11 {في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً لم أجد ولاعتي وأردت تدخين سيجارة ولا أدري لماذا لم أوقظها كعادتي من النوم لتبحث لي عن ولاعتي. هي التي تعرف كل شئ حتي الأماكن التي أخبئ أو أضع فيها أهم حاجياتي}. لتصور لنا كيف هي الزوجة المطيعة الطيعة، إذ كيف أنها الزوجة التي يمكن إيقاظها من النوم للبحث له عن الولاعة؟ وكيف أن ذلك يتكرر كثيرًا، وكيف أنها هي التي تعلم كل شئ، وكيف أنها لاتتضرر من طلباته الغريبة في الأوقات غير المناسبة.

وفي ص90 وعندما تذهب لأمه وأخته التي تحرض عليها – الأخت – ورغم علمها بما تفعله كل من الأم والأخت، إلا أنها، ولإرضائه فقط، تذهب، وليس فقط، بل تعد المائدة، وبشكل لا يفعله إلا المحب {حتي الجزر صنعت منه ورودًا زينت بها طبق سلطة الزبادي الذي أحبه. وصنعت من الخيار الأخضر ما يشبه أجنحة العصافير لتزيين طبق البابا غنوج} {لماذا أحب ويحب الجميع صوت امرأتي ولماذا هو مميز إلي هذا الحد؟ إنه ببساطة لا ينتمي إلي مرجعيات الأصوات التي خبرتها في حياتي لا أصوات آلات ولا أصوات بشر ولا حتي هسيس أشجار أو تغريد عصافير، إنه يخصها هي وحدها ولذا علي الرغم من خفوته تستمع إليه الآذان بالإجماع وتستثار لغرابته ولو كنا في حشد}. إن هذا الوصف في الحقيقة، إلي جانب أنه يكشف عن وصف رجل لامرأة يحبها في عميق ذاته، علي المستوي الفردي، فإنه أيضًا، وصف للمرأة الرمز، لمصر المعطاءة، والتي لا يملك أي ممَن خبرها، إلا أن يحبها. أي أن قدرة الكاتبة هنا، زاوجت بين الفردي والعام، دون أن يشعر بفارق بينهما، وكأنها تلمح للقول الشائع، أن من يشرب، منها، أو من ماء النيل، فإنه لابد راجع إليها.

تسخير الأفعال للمضارع

من الحيل التي تجعلنا نعيش الماضي وكأننا نشاهد الحاضر أيضًا، أن نري استخدام الفعل الماضي متصورين أنه المضارع. فمن المتصور أن الجدة تحكي لحفيدتها عن رحلتها، إلا أننا نشعر وكأنها تعرض شريط يصور الماضي لنتعايش معه {وها نحن نعود إلي البيداء والبراري والقفار مرة أخري يا بنتي.} فاستخدام {ها نحن} تضعنا مباشرة في المضارع، في الحاضر. وكذلك المستقبل، نراه رأي العين والسمع، كأنه الحاضر{سأكتشف بعد سنوات من الآن أن الحب مرتبط بالضرورة بالعجز والصمت الطلق والخجل.. سأتابع عندما أكبر في السن خطوط التجاعيد تحت عينيها كلما ابتسمت ابتسامتها الحلوة}. وكأن الكاتبة تحاصرنا دومًا بواقعنا الحالي المعاش.

لقد بذلت الكاتبة مجهودًا معرفيًا جبارًا، صاغته بصيغة روائية تحسد عليها، الأمر الذي يتطلب من قارئها أن يبذل مجهودًا لا يقل عنه في المقدار، ويكفيه ما ناله من متعة مصاحبتها في رحلة عبرت بها الزمان والمكان. غير أنه – القارئ - قد يتخيل أن"رحلة الضباع" – خاصة إذا ما قرأها دون سابق أعمالها – انحازت فيها سهير المصادفة للمرأة ويتعجل بتصنيفها ضمن ما يسمي بالأدب النسوي، نظرًا لوضع المرأة في الرواية، وجعلها دائمًا جميلة وصاحبة رسالة، حتي أن الرسالة التحذيرية، اشترطت الجدة الأولي ألا ينقلها إلا الحفيدة من الإبنة وليس من الإبن. إلي جانب استعراضها عبر التاريخ لنماذج من المرأة دون الرجل "إن من سلالة الجدة .. زرقاء اليمامة والعباسة وشهرزاد وسجاح بنت الحارث وسلامة القس وأم سلمة زوجة السفاح وآمنة الرملية والمغنية بذل وتحفة الزاهدة وذات الخال وكلابة مولاة ثقيف". إلي جانب تشويه صورة الرجل، وجعله هو الضبع. إلا أننا في هذه الحالة نظلم الكاتبة كثيرًا، ونحد من تطلعاتها الرؤيوية الواسعة التي تشمل الوطن بأكمله. وأن النظرة المتأملة لا بد أن تضع كلا من المرأة والرجل في إطار الرمز. وأن نموذج الرجل هنا والمرأة معًا، يؤكد علي غياب دور الرجل، بالمعني المتعارف عليه لكلمة (رجل). ذلك الذي خلع ثوب الضباع، وهو ما صنعته الكاتبة في فعل الثورة، وعبرت عن روحها، والتي توقفت عندها الرواية. وهو ما يدفعنا - مرة أخري – لانتظار باقي مسلسل مشروع المصادفة الروائي. فهي وإن كانت قد صورت بحرفية عالية، ماذا يفعل من يستخدمون الإسلام وسيلة للإمساك بالأمور. وبعد أن عاشت وعشنا التجربة بالفعل علي أرض الواقع، وخبرنا ماذا يفعلون، بنا وبالبلاد. ألا يجعلنا ذلك نترقب كيف ستترجمه المصادفة إبداعيًا؟. 

 

شوقي عبد الحميد يحيي

EM:shyehia@yahoo.com

 

هوامش:
(1)- ميس إيجبت – ثاني روايات سهير المصادفة – الدار للنشر والتوزيع -  الطبعة الأولي 2008            

(2)- رحلة الضباع - ثالث روايات سهير المصادفة– المجلس الأعلي للثقافة – 2013 .

(3)- رحلة الضباع  ص 135

(4)- ص112

(5)- ص 96

(6) - ص 116

(7) - الرواية ص 190

(8)- ص 193

(9) - ص 103

(10) - ص110

(11) - ص 247

(12)- ص 243

(13)- ص 247

(14)- ص 215

(15)- ص 184