ذاع صيت الحسن الوزان المعروف بليون الأفريقي، بعدما أصدر الكاتب اللبناني أمين المعلوف، باللغة الفرنسية روايته الشهيرة (ليون الإفريقي)، التي وضعته في مصاف الروائيين العالميين، لكن قبل ظهور هذه الرواية (كنا نعتقد أن أمين المعلوف هو الذي اكتشف شخصية ليون الإفريقي وحياته الأسطورية وتنقلاته العجيبة، لكنني كما يقول الكاتب سمير عطا الله، اكتشفت فيما بعد أن عشرات الكتب قد وضعت عن حياة الوزان – يبدو أن المعلم بطرس البستاني كان أولهم عام 1867 وهذا أحد أبرز مؤرخي الأندلس، ثم نجد عام 1933 كتاب ليون الإفريقي أو حياة الوزان الفاسي وآثاره للمغربي محمد المهدي الحجوي (جريدة الشرق الأوسط. س2008 عدد 10845).
ولد محمد المهدي الحجوي مؤلف هذا الكتاب عن حياة الحسن الوزان، بفاس، التحق بمدرسة الأعيان وتعلم اللغة الفرنسية، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدرسة العليا للترجمة، كما كان يتردد على جامعة القرويين لينهل من عطاء علمائها، عمل موظفا في السلك المخزني وفي المحكمة العليا، حيث كان مستشارا بغرفة الجنايات، شاعر له قصائد متفرقة، بعضها منشور في كتاب (الأدب في المغرب الأقصى). له ديوان مخطوط، قام برحلات عديدة إلى الجزائر وتونس وبعض الدول العربية. لقد اشتهر ليون الافريقي أو الحسن الوزان من خلال كتابه (وصف إفريقيا)، يتحدث عنه محمد المهدي الحجوي في هذا الكتاب، بكثير من الإعجاب، (وكأحد العلماء الجديرين بالالتفات من لدن المسلمين وكأحد الجغرافيين الذين كان لهم دور رائد في قيام النهضة الكبرى، التي يعيش العالم تحت ظلها. ص 16). زترجع شهرة الوزان إلى القيمة العلمية التي حظي بها كتابه (وصف إفريقيا)، الذي اعتبره المؤرخ عبد الله العروي (مؤلفا من الدرجة الأولى تاريخ المغرب ص 213).
عاش الوزان أو ليون الإفريقي، في سنوات المواجهة بين الشرق والغرب، التي عرفت الغزو المسيحي وحرب الاسترجاع لإمارة غرناطة من لدن الإسبان. ولد الحسن الوزان المشهور في الغرب بليون الإفريقي سنة 1488م انتقل مع أسرته صغيرا إلى فاس في المغرب، حيث درس فيها على أعلام وعلماء جامع وجامعة القرويين، استطاع الحسن الوزان في فترة وجيزة أن يجالس كبار العلماء والفقهاء والقضاة، في المدن المغربية والإفريقية التي كان يزورها. وأن يجيد نظم القصيد وقول الشعر، ليكون محط إعجاب الملوك فينال من عطاياهم، كما اشتغل في سن مبكرة، مهنة حيسوبي ماهر، يستخلص واجبات الضرائب والمكوس من القبائل، كما زاول في فترة تمدرسه وظيفة كاتب معتمد في مارستان الأمراض العقلية، المعروف في فاس (بسيدي فرج)، وكان يتقاضى آنذاك أجراً قدَّرَهُ في كتابه (وصف إفريقيا)، بثلاث (دوكات) كأجر شهري عن عمله في هذا المستشفى.
ينتمي الحسن الوزان إلى عائلة كانت تمتهن الفلاحة، كان أبوه ملاكا للأراضي الفلاحية في منطقة الريف بشمال المغرب، أما عمه الذي سيلازمه الحسن الوزان في أسفاره، فقد كان يعمل ببلاط السلطان، ويقوم بالسفارة ممثلا لملك فاس، عندما كان عمره لا يتجاوز العشرين وتحديدا سنة 1504 م الموافق 910 الهجري، اكتسب معلومات هامة عن أحوال البلدان التي زارها، ستكون مرجعا مساعدا سيعتمد عليه في تأليف كتابه (وصف إفريقيا)، لكن بعد وفاة عمه سيلتحق الحسن الوزان ببلاط الملك محمد الوطاسي (المدعو بالبرتغالي). كان الحسن الوزان شاهدا على سقوط الأندلس، كما أنه كان في المغرب في عهد حكم الوطاسيين، أما في ايطاليا فقد عاش بداية ازدهار النهضة الايطالية وعصر الأنوار الذي ستعرفه أوروبا. رحالة عابر للحدود والثقافات، وناقل المعرفة بين الشرق والغرب، بين الخلافة العثمانية والإمبراطورية المسيحية، لقد اقتيد الحسن الوزان أسيرا إلى روما، عند عودته من رحلة بين القسطنطينية والقاهرة، وفي جزيرة جربة التونسية تم أسره واعتقاله من لدن القرصان، وقدم إلى البابا في ايطاليا. وكان الأسرى في تلك الفترة يعتبرون من العبيد، وأغلبهم يعملون في قصور الملوك، وأحيانا ينتظم بعضهم في سلك الحرس الملكي، وكان مثل هذا المصير ينتظر الحسن الوزان، لولا أن البابا آنس فيه فطنة ودراية علمية، فبادر إلى عتقه وشمله بعطفه وقرر له معاشا سخيا، حتى لا يفكر في الهروب والرحيل إلى بلده.
لقد تُوِّجت هذه الحماية بإقناع الأسير الحسن الوزان أن يعتنق دين البابا، وتقول بعض الروايات المتضامنة معه، أنه فعل ذلك في إطار مبدإ التقية الشيعي، حتى يأمن سلامته، وأنه عند تنصره أطلق عليه البابا اسمه (جيوفاني ليوني أو يوحنا الأسد) حسب ترجمة المؤلف، بينما يرى بعض المؤرخين أن قبول الحسن الوزان اعتناق المسيحية، أملته المصلحة الشخصية حسبما يدل على ذلك سلوكه، لأنه عندما أحس بإمكانية هروبه بعد موت سيده، عاد إلى بلاد الإسلام في تونس وهناك عاد إلى دينه الأصلي، كما يحكي صديقه ومعاصره (ويد منسطار).
كانت مدينة فاس الحاضنة التي آوت الحسن الوزان، حيث درس في المسجد العتيق، ثم انتقل إلى جامع القرويين حيث تعلم العلوم الدينية، لكننا لا نعرف إلا النزر القليل عن حياة الوزان في روما، والغموض الذي يشمل حياته في هذه المرحلة، يشمل حتى مؤلفاته، كل ما نعرف عنه في هذه الفترة، أنه عاش في ايطاليا ما يقرب من عشر سنوات، تعلم خلالها الحديث والكتابة باللغة الايطالية، التي تتجلى في ترجمته لمؤلفاته ، من المؤكد أن موت ليون العاشر س1521 جعله ينتقل إلى مدينة بولوني التي امتهن فيها تعليم اللغة العربية لكردينال المدينة، ولربما من أجله ألف كتابا في نحو اللغة العربية، كما أنه سيؤلف لتسهيل تعليم العربية للاجانب معجما (عربيا – عبريا- لاتينيا) سنة 1524م، باشتراك مع أحد المهاجرين من يهود الأندلس، ساهم فيه الوزان ب 6000 وحدة معجمية.
يمكن التذكير في هذا السياق، أن الحسن الوزان هو الرحالة العربي الوحيد الذي اندمج في أوساط المثقفين في ايطاليا، نسج علاقة صداقة ومودة مع كبار الرسامين الايطاليين الذين تعرف إليهم، استطاع أن يخلد وجوده الملتبس، من خلال لوحة تشكيلية تؤكد الأبحاث العلمية التي أجريت عليها، أنها البورتريه الحقيقي لشخص الحسن الوزان، الذي يعود تاريخ انجازه إلى أكثر من أربعة قرون، عندما كان الوزان قريبا من البابا ليون العاشر، الذي عرف عنه رعايته وتشجيعه للفنون والآداب، وتشوفه إلى معرفة الشعوب الأخرى والاطلاع على حضاراتها، ولهذا السبب سيطلب البابا من الحسن الوزان، أن يؤلف له كتابا عن (وصف إفريقيا). تجدر الإشارة، أن كتاب وصف إفريقيا لليون الإفريقي بقي لقرون عديدة، المصدر الوحيد لمعرفة شمال إفريقيا وبلاد المغرب، وحتى نهاية القرن الثامن عشر، نجد أن جل المراجع الجغرافية عن إفريقيا، صارت تعتمد على كتاب الوزان، من أجل اكتشاف إفريقيا ومعرفتها.
لكن هذا الكتاب الذي ترجم إلى جميع اللغات الأوروبية، لا نعرف بأية لغة كٌتب نصه الأصلي، لقد صدرت طبعته الإيطالية سنة 1530م في سلسلة كان يشرف عليها رموزيو Roumisio وهي خاصة (بالأسفار البرية والبحرية). كما أثير نقاش حول صحة وجود النص الأول المكتوب باللغة العربية، في هذا الصدد، يدافع جان روموزيو مترجمه الأول إلى الإيطالية ( أو مساعد ليون في الترجمة)، على وجود نص مكتوب باللغة العربية (كان يحمله ليون معه في أسفاره)، لكن المستشرق الفرنسي الكبير لوي ماسينيون، في أطروحته الجامعية، بعنوان (المغرب في السنوات الأولى من القرن السادس عشر، لوحة جغرافية حسب ليون الإفريقي 1906) يؤكد (إن مخطوط كتاب وصف إفريقيا، لم توجد نسخته أبدا بالعربية ص,26) لقد تحول الحسن الوزان، أو ليون الإفريقي أو جيوفاني ليوني، أويوحنا الأسد، إلى ظاهرة نصية لا نعرف عن ماضي صاحبها في موطنه الأصلي أو عن حاضره في المنفى، إلا شذرات متفرقة في كتابه (وصف إفريقيا)، لكنها توثق لمسار حياته، وكما يقول الفيلسوف شتاينر، ( ففي لحظات المنفى والشتات يتحول الكتاب إلى مجرد وطن) لكن لولا التوقيع المذكور في آخر كتابه القاموس الطبي، وبخط يده (فرغ من نسخ هذا الكتاب العبد الفقير إلى الله. مؤلفه يوحنا الأسد الغرناطي المدعو قبل ، الحسن بن محمد الوزان الفاسي ص،33) لما استطعنا اليوم أن نعرف النظير العربي – الإسلامي لليون الإفريقي، إن هذه المصادفة أشبه كما يقول الحجوي (بكلمة أؤلائك الذين يدركهم الغرق في مجاهل البحر،فيكتبون كلمة عن حالهم وعن النقطة التي هم فيها، ويجعلون الكلمة في قارورة ويكلونها إلى أمانة البحر،وكم حفظ التاريخ من فوائد لهده القارورات، وكم من اكتشافات هلك أصحابها، ولولا القارورة ما عرفت، وقارورة الحسن الوزان التي ضمنها كلمته وهو في مجاهل الغربة .هي. توقيعه في قاموسه الطبي المذكور.ص،34)
لقد ترجم كتاب (وصف إفريقيا) إلى أهم اللغات الأوروبية، وعند عملية ترجمته تم إعادة صياغته، عن طريق التصويبات وتنقيح الهفوات الخاصة بكتابة الأسماء الجغرافية والتاريخية، لقد تعرض ليون الإفريقي كمدونة نصية تنوب عن الوجود الحقيقي للحسن الوزان لقراءات عديدة،. حتى نهاية القرن التاسع عشر، ظل كتاب (وصف إفريقيا) المصدر الوحيد المعتمد في معرفة شمال إفريقيا ومصر والسودان. هذا ما جعل الباحثين الغربيين يستفيدون من رحلاته في عصر النهضة الأوروبية وبداية انطلاق الحركات الاستكشافية إلى قارة إفريقيا المجهولة، (أما العرب فلم يعرفوا عالِمهم الوزان ولم يُعَرِفوا به، وأغفلوا كتابه القيم في زاوية النسيان. حجي ص، 6) ومن هنا تأتي القيمة العلمية، للبحث الذي كتبه المثقف الإصلاحي المغربي، محمد المهدي الحجوي، الذي قدمه إلى مجمع المستشرقين، وذلك من أجل إنصاف الحسن الوزان (كشخصية بقيت لفترة طويلة مجهولة في أوساطنا. ص،19 ) كما حاول الحجوي في هذا البحث أن يفند الأطروحة الإستشراقية، التي مفادها أن ليون الافريقي في كتابه وصف افريقيا (قدم لنا تأليفا عربيا بتفكير أوروبي (حجي . ص .18) ولهذا يستعيد الحجوي، التذكير بالمسار العلمي للوزان في جامعة القرويين بفاس، والتأكيد على أصالة جذوره المغربية (فمدة تعلمه لم تكن طويلة، ومع ذلك حصل من المعلومات على ما رفعه إلى المقام الذي تبوأه ... حتى نال منها ما جعل منه أكبر جغرافي لعهده. ومن أكبر شيوخ أوروبا في ذلك الفن. الحجوي، ص،56 )
يمكن النظر إلى كتاب المهدي الحجوي وأرائه، كمحاولة لتوطين شخص الوزان في بيئته الأولى، من خلال تعريب لقبه الأجنبي (ليون الافريقي) وأسلمته ثم مغربته، عبر التأكيد على اسمه الأول (محمد الحسن الوزان الفاسي)، كما أن الدرس المنهجي الذي قصده الحجوي، أن الأسير الحسن الوزان صاحب الهوية المغربية، هو الذي ساهم في نهضة أوروبا وشجع الأوروبيين على ارتياد الآفاق المجهولة، أما الرسالة التوجيهية التي يقدمها الحجوي بين ثنايا سطور كتابه، فقد كانت موجهة هذه المرة إلى أهله من المغاربة، بأن يجعلوا من سيرة الحسن الوزان معلم الأوروبيين نموذجا للتحدي، وأن يتسلحوا بروح الثقة والاعتزاز بالذاتية المغربية والنبوغ المغربي، بالرغم من كابوس الاحتلال الأجنبي الجاثم على صدورهم، وأن يجعلوا من شخصية الوزان نبراسا يحتذى به في مسيرة النهضة العلمية (لقد عزمت على أن أخص هذا الرجل العظيم، الذي لا يقصر قدرا عن ابن خلدون وابن الخطيب. ببحث في تاريخ حياته ص.32) كما أن كبير مؤرخي المغرب في تلك الفترة، الباحث عبد الرحمن ابن زيدان، واضع مقدمة كتاب الحجوي، نحا نفس النهج، متوجها إلى النخب المغربية والناشئة الصاعدة (أن يرشد الله شبابنا الناهض إلى الاقتداء به في كتابة تاريخ أعلامهم وبلادهم، الذي لا توجد أصوله إلا باللسان الأجنبي. ص. 24). وأن يحذو هذا الحذو، في إبراز (أمثال هذه الجوهرة النفيسة القيمة، واكتشاف ما لعامل سلفنا، من دفائن الكنوز العلمية والأدبية التي لا يفنى ثروتها إنفاق ص.25)
كما أن الشاعر المغربي الكبير أحمد السكيرج في تقريظه لكتاب الحجوي والاحتفاء بشخص الوزان، يرى فيه وفي شخصه دعوة (إلى مراقي العلوم والعرفان. ص. 27) لكن بعد مرور سنة على صدور كتاب الحجوي، سينشر رائد الحداثة المغربية، الكاتب المجدد سعيد حجي، في جريدة (المغرب)، بحثا عن (الحسن الوزان، شخصية مغربية فذة) يقول فيه (لشخصية ليون الإفريقي هذا مقام كبير في الدوائر العلمية الغربية وكثير من المقالات حررت فيه، يعتبر شخصا له خدمة جليلة للثقافة والبحث في عصر لم تكن فيه معلومات الإنسان عن هذا العالم، إلا معلومات سطحية، إذن فمن العار أن يجهل مثل هذه الشخصية من وسطنا العربي، وفيه تدرجت وتفتقت ، بينما له في الغرب دوي، حيث يعتبر ممتازا في معلوماته وطريقة بحثه. ص.398) وأهم ما يدعو إليه سعيد حجي (أن أقل الواجبات التي ينبغي أن نقوم بها نحو رجلنا الممتاز، أن يترجم كتابه إلى اللغة التي هي أصله الأول، فنعيد إلى المكتبة المغربية كتابا من كتبها الضائعة) ولم يتحقق انجاز هذا النداء الغيور، إلا بعد مرور أربعة قرون على إصدار النسخة الإيطالية، عندما قام الباحثان المغربيان محمد حجي ومحمد الأخضر، بنقل كتاب وصف إفريقيا إلى اللغة العربية.
قدم لنا ليون الافريقي في كتابه (وصف افريقيا) عملا بيداغوجيا رصينا، يتوخى الدقة العلمية والامتاع في قراءته، عن طريق المزج بين علم الجغرافية وفن الرحلة، كما أنه يتميز بانزياحه عن طرائق الكتابة الجغرافية التقليدية ، وذلك بعدم الالتزام بالكتابة الطبوغرافية الخرائطية، والتركيز على فعل المشاهدة والتجربة المعيشة والحكي الشفاهي،. لأن ظروف الأسر العصيبة في روما، وبعده عن المكتبة العربية، جعلت ليون الإفريقي يعتمد على جذوة الذاكرة وما علق بها من أحداث عاشها، أو مشاهد رآها. ولهذا تنوعت مناهج التأليف في كتاب وصف افريقيا، بين الجغرافية الوصفية والرواية الشفاهية، والمقاربة الأنتروبولوجية، والحكي التاريخي والمجاز التخييلي. ففي أحد السرود المثيرة في كتاب وصف افريقيا (يروي ليون، حكاية تأسيس مدينة القصر الكبير، من طرف يعقوب المنصور، فعلى إثر التيه الذي كان هذا الأخير ضحيته أثناء عملية القنص، بادر أحد الصيادين الفقراء إلى إنقاذه وهو يجهل أن الأمر يتعلق بملكه، مع ذلك، عبر الصياد للرجل التائه، في أسلوب مؤثر عن عرفانه بجميل ملك البلاد، الذي يقوم بواجبه فينشر العدل، وهو ما يتيح لأفقر رعاياه العيش في طمأنينة وأمان. وجزاء له على تصرفه وولائه، أمر يعقوب المنصور ببناء مدينة، وعين الصياد واليا عليها، (م.المناهل، أم البنين الزهيري. ص. 56 عدد 88) لقد تحولت حياة الحسن الوزان إلى ظاهرة نصية، أو إلى سلطة حكائية تتسلح بفتنة الغواية، جعلت من كتابه (وصف افريقيا) أن يكون شبيها بحكايات شهرزاد في ألف ليلة وليلة، التي استعملت حيلة الحكاية من أجل تأجيل موتها، كذلك كان الأمر مع الوزان، الذي لولا محكيات كتاب (وصف افريقيا) لكان مصيره مثل بقية الأسرى الذين اعتقلوا معه.
تتميز منهجية الباحث المصلح المهدي الحجوي، بالدقة الموضوعية من خلال جمعه للمعلومات البيوغرافية عن حياة الوزان، التي تعتبر ضنينة لحد الآن، خاصة وأن جل مراجع البحث عنه موجودة باللغات الأجنبية، ولقد بذل الحجوي في هذا الصدد، مجهودا جديرا بالتنويه، معتمدا في التأريخ لحياة الوزان على المراجع الأجنبية، متجاوزا كل ما قام به من سبقوه من المستشرقين، بل إنه صاحب المبادرة الأولى في الثقافة العربية والمغربية،الهادفة إلى ترجمة بعض النصوص من كتاب (وصف افريقيا) وصفحات من المعجم (العربي – العبري – اللاتيني)، الذي شارك الوزان في تأليفه، بمعية أحد الأطباء اليهود من مهاجري الأندلس.
بالرغم من أن كتاب (حياة الوزان وآثاره) للمهدي الحجوي، نشر باللغة العربية، فقد كان له صدى وتقدير عند الباحثين المستشرقين، وكان أول من انتقده الباحث الفرنسي ج. كولان. الذي حاول أن يستعيد الوزان إلى أحضان الثقافة الغربية، وأن يعيد تنصيره من جديد، بعد ما عمل الحجوي، على إرجاعه إلى أحضان ثقافته العربية – الاسلامية. إن أول الملاحظات التي وجهها كولان إلى الحجوي، تتعلق بتغاضضه عن ذكر المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، الذي سبقه إلى الاهتمام والبحث فى حياة الوزان، وضرورة الإحالة المرجعية إليه، بل إن كولان يتهم الحجوي باعتماده على خريطة ماسينيون، دون ذكره للمصدر، بالرغم أن منهجيات الباحثيْن جد مختلفة. لقد اعتمد ماسينيون على التوصيف الطوبوغرافي والخرائطي لأقوال كتاب (وصف إفريقيا)، دون الاهتمام بشخص الوزان والتعريف بحياته، بينما كانت منهجية الحجوي موجهة إلى القارئ العربي الإسلامي، أن يعرف شخص الوزان الذي ضاع في زحام الأعلام الأجنبية، لهذا سيوجه كولان تنبيها ناقدا إلى الحجوي، بأن يحيل إلى لوي ماسينيون والاعتراف بفضله عليه، لأنه صاحب الخرائط التي نشرها الحجوي (مجلة هيسبيرس، ص. 95 – 1935)
استطاع المهدي الحجوي، في كتابه ( الحسن الوزان وآثاره) أن يقدم نموذجا للشخصية المتوسطية، الموزعة بين عالمين، دار الإسلام وبلاد الحرب، بين سكان الجنوب والشمال، الناطقين باللسان العربي والأعجمي، إنه كما تقول الباحثة الأمريكية نتالي زيمون ديفيس عن (ليون الإفريقي)، أشبه بطائر يعيش في البر والبحر، أو كأنه مواطن قادم من أبراج بابل، تعلم اللغة الإيطالية واللاتينية عند إقامته بروما، كان يتكلم قبل أسره اللغة العبرية لمجاورته ليهود الملاح في فاس، واللغة القشتالية التي أتقنها في طفولته قبل مغادرته إمارة غرناطة مسقط رأسه، والأمازيغية (الريفية) نظرا لزيارته المتكررة إلى جهة الريف.واللاتينية لغة التأليف والمعرفة في موطن المنفى.
لقد قام المهدي الحجوي في هذا الكتاب، بتحرير الحسن الوزان/ ليون الإفريقي من أسر المقاربة الاستشراقية، التي تسعى إلى الاستحواذ عليه والرغبة في تملكه، وأن تقنع القراء الأجانب أن قدر المبدع العربي – المسلم، أن لا يبدع إلا عندما يكون خارج وطنه ويعبر بغير لسانه، كما أن هذا الكتاب يتوجه كذلك إلى بعض أصحاب الرؤية السلفية الجديدة من المثقفين العرب، الذين تنكروا بمنطق تكفيري لعبقرية الحسن الوزان نظرا لتمسحه ، وتعاملوا مع آرائه وكتاباته الذكية، بأنها موسومة بالتجديف والتحامل لاعتناقه الدين المسيحي، دون أن يستعيدوا في هذا السياق سماحة الإسلام، عملا بقوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).