تقديم:
على الرغم من أن الكتابة القصصية لدى القاصة" نادية بنمسعود" ما تزال في البداية وهي تجترح طريقها الفني والجمالي،ولم تتخذ بعد وجهة واضحة، من حيث جنوحها نحو التجريب على مستوى اللغة والشكل القصصي، فإن هذه الكتابة في نظرنا تحتاج إلى متابعة نقدية، على الأقل لمساءلة بعض مكوناتها الفنية التي تمتح منها، و كذا سبر جانب الجمالي الذي تحفل به. ولهذا، فإن هذه القراءة ستأخذ على عاتقها الوقوف بين يدي التجريب القصصي من حيث اللغة والشكل، وكذا الموضوعات التي تنهض عليها القصص. وطالما أن الكاتبة لم يتح لها بعد إمكانية إصدار مجموعتها القصصية، فإن سنعتمد في هذه القراءة على عينة من النصوص القصصية التي نشرتها الكاتبة في موقع" القصر فوروم" ومواقع إلكترونية وورقية أخرى متفرقة.
في المتن القصصي:
تجربة الضياع:
تحفل كتابة "بنمسعود" ببعض التجارب التي تتوسل بها الكاتبة في بناء عالمها القصصي. ولهذا لا يهمنا في هذه القراءة الوقوف بين يدي هذه التجارب في ذاتها ولذاتها ، ولكن الوقوف عند درجة التعالق الذي يميزها في جملة من النصوص، ونفكر هنا بشكل خاص في تجربة "الضياع". وبالنظر إلى ما تشكله هذه الحالة من أهمية وحضور بأبعادها الدلالية والرمزية، فإننا سنتوقف عندها كما تطرحها هذه النصوص.
في قصة "لحظة هاربة" تحكي الساردة حكاية "حسن" الشاب الصغير الذي فقد والده المعيل لأسرته.
فبعد أن اشتدت به الأحوال، ومع اقتراب "عيد الاضحى" يتوجه الشاب إلى مقر الودادية قصد الحصول بالمجان على خروف العيد. فبعد طول انتظار، حدث أن أخذه النوم أمام البوابة، وعند الاستيقاظ يجد نفسه يمسك بحبل فارغ.
ليس بخاف، أن رحيل بعض أفراد الأسرة يولد لدى البعض فراغا ملحوظا على مستوى الحياة. وأمام طغيان هذا الشعور على نفسية الإنسان، و في غياب كامل لسيطرة الإنسان على عواطفه تحت تأثير وقوة الألفة، يشعر البعض بالضياع. وغني عن البيان أن الضياع النفسي أشد ضرواة وتأثيرا على سلوكات الغير. فحالة"حسن" في قصة""لحظة هاربة" من الحالات التي تجسد هذا النموذج ، فالولد بدل أن يكون واقعيا ومنسجما مع التحولات الجديدة التي عصفت بحياته الاجتماعية، يجد نفسه مكرها يرتهن للانتظارية التي ولدت لديه ضياعا نفسيا من الصعب الإفلات من قبضته. فالقاصة"نادية"من خلال حبكتها القصصية وما انتهت إليها، إنما تريد بشكل أو بآخر، استعادة الواقع المأساوي الذي تعيشه بعض الفئات، ولفت انتباه الجميع إلى ضياعها وأخذ المبادرة المناسبة اتجاه ما يحدث لها.
ولما كانت "تجربة الضياع" من السمات الواضحة التي تحضر في هذا النص، فإن القارىء لقصص "بنمسعود" يجد لها - أي التجربة – صدى وامتدادات داخل نصوص قصصية أخرى.
في قصة" كانت تعبر الأمكنة " مثلا، تطالعنا الساردة عن حكاية " رضى" الفتى الصغير الذي دأب العيش في الهامش بعيدا عن أية رعاية ، فيجد نفسه هذا الأخير ينخرط في عوالم التسول و النشل قصد تأمين حاجياته اليومية. تقول الساردة في هذا الإطار" عند وصولي شارع مولاي علي بوغالب.. تملكني الخوف.. لا أخفي أني كنت وحيدة..لاسيارت و لا دراجات ..المهم لا أحد سواي.. إلا بضعة أشجار ذابلة وصوت رضى الطفولي .. وهو يفرك يديه الصغيرتين مع بعضهما البعض طلبا لحنو مفتقد".
إن الكاتبة في هذه القصة لا تكتفي بعرض حالة " رضى" لوحده بل تقرنها بوضعية "الأم" التي تقاسم ابنها هذا الضياع ، لكن بطعم مختلف.إن"رضى" في هذه القصة يجسد حالة من حالات الضياع" التي تعيشها الطفولة المغربية المنسية داخل فضاءات المدينة التي باتت ترتدي أكثر من وجه. نقرأ في قصة" تعبر الأمكنة" " تذكرت كلمات الشعراء والمثقفين ورؤساء الجمعيات الاجتماعية وهم يتحدثون عن البؤس والبؤساء.. فتساءلت عن نصيب أطفال مدينتي مما يتحدثون عنه.." وتضيف في نفس القصة وهي تصف حالة" أم رضى" "وعند كل مساء تحط عينياه على عيني أمه كريمة وهي تتسكع بين المقاهي و تبتسم بمرارة للرجال الجالسين عسى تحرك مكبوتاتهم فيمنحونها بعضا من الدراهم" إن قصة رضى والأم تجسدنموذج البؤس والضياع الذي تعيشه بعض الأسر التي تجد نفسها مرمية وسط الشوارع تعانق الأسوار والأزقة . ولن نجازف إن أشرنا إلى أن الساردة وهي تعرض بالسرد حالة هذا الطفل، تكون قد صرفت فنيا موقفها من الواقع الذي يعيشه بطل قصتها، من خلال توسلها بسؤال مقلق ينطوي على الكثير من الأبعاد الأنطولوجية. تقول الساردة" تذكرت كلمات الشعراء والمثقفين ورؤساء الجمعيات الاجتماعية وهم يتحدثون عن البؤس والبؤساء.. فتساءلت عن نصيب أطفال مدينتي مما يتحدثون عنه.." إن صورة" رضى و"الأم" من الصور السردية التي لا تحتاج إلى بيان وهي تبحث في المواقف وتسعى إلى تحريكها لدى البعض.
خلاصة القول فإن الحديث عن موضوعة" الضياع" التي حاولنا بشكل سريع الوقوف بين يديها،لا ينفي بالضرورة اشتغال الكاتبة على موضوعات من قبيل موضوعة " المرأة" والأنثوية"، وبعض القيم الأخرى التي يمكن أن يصدافها القارىء في متنها القصصي. ولهذا فإن توقفنا عند تجربة "الضياع" كان ينتصر لأغراض فنية وجمالية لا غير.
مسألة التجريب بين اللغة والشكل:
يلا حظ القارىء من خلال الكتابة القصصية لنادية بنمسعود، أنها تعتمد التجريب. ومعلوم أن التجريب سمة الكتابة المغربية الحديثة. وقد ظهر التجريب في القصة المغربية نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات نتيجة للتحولات الاجتماعية والثقافية التي انخرط فيها المجتمع المغربي. والتجريب يأخذ الكثير من المظاهر لدى كتاب القصة القصيرة.
ماذا عن سؤال التجريب في كتابة بنمسعود؟ للإجابة عن هذا السؤال، سنركز على المستوى التالي:
- مستوى اللغة والشكل:
إذا كانت بعض النصوص تنحو منحى واقعيا، بحكم الموضوعات التي تخوض فيها الكاتبة كما يمكن أن يلاحظ ذلك القارىء. فإن لغتها- النصوص- جاءت تقريبا تتناغم مع الموضوعوات المقترحة. بمعنى آخر، فإن بنمسعود قد اعتمدت من حيث البناء لغة اليومي والهامشي. وهي كما هو معلوم لغة خالية من التكلف والتصنع وفي متناول القارىء، وتيسر له سبل بناء الدلالة . ويمكن التمثيل هنا بالقصص التالية" كانت تعبر الأمكنة" و" لحظة هاربة" و" شامة". وهي كما لا يخفى تتسم بالطول نسبيا إذ نجده يلملم جميع تفاصيل الحدث وباقي المكونات السردية الأخرى التي تستوجبها الكتابة القصصية. أما في باقي القصص الأخرى، خاصة قصص" نفس الطريق" و" انت تستسلم"،فإن القارىء يجد نفسه أمام لغة مختلفة عن العينة السابقة، وهي تستفيد من الشعرية في بناء وترتيب أجزاء الكلام السردي، والاختزال والاقتصاد اللغوي. وإذا كانت هذه العينة من النصوص تتناول بعض موضوعات الذات وعلاقتها بأسئلة الحياة والمجتمع والآخر الرجل، فإن الطبيعة الفنية لهذه النصوص دفعت الكاتبة اللجوء إلى اعتماد القصر باعتبارها سمة يقتضيها الحدث الذي يؤطر النص. وبغض النظر عن الخلفيات الأخرى النفسية التي دفعت الكاتبة اعتماد التجريب صيغة فنية، فإنه يظل- أي التجريب- سمة تعلق بالنصوص القصصية لدى" نادية بنمسعود وتميزها فنيا وجماليا.
القيمة الفنية:
إن قصص "نادية بنمسعود" تستمد قيمتها الفنية والجمالية حسب حسب ما تحصل لدينا من ملاحظات من الموضوعات، ولذلك فهي من الناحية البلاغية تنهض على سمتين دلاليتين:
سمات عامة: ويجدها القارىء في قصص "كانت تعبر الأمكنة" و" لحظة هاربة" و" شامة"
سمات خاصة: وتتمثل في قصص" نفس الطريق" و" انت تستسلم.
إن السمات العامة كما تطرح نفسها في المتن القصصي، تحيل من الناحية البلاغية على الانسجام القائم بين اللغة والكلام، وهو انسجام يتعالق ويتحقق فنيا و بدرجات مختلفة في النوع الثاني.
وخلاصة القول، إن قصص "نادية بنمسعود" بقدر ما تحيل على أفق ومجالات الاشتغال الذي تراهن عليه الكاتبة، فإنها تطرح المزيد من الأسئلة النقدية لدى القارىء. ولعل المقام لا يسمح هنا بالتفصيل في هذه التجربة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها ما تزال في البداية وهي تجترح طريقها الفني والجمالي.