بالرغم من صعوبة تلخيص النص الابداعي، فإنني سأحاول تقديم محتوي الرواية من خلال حوار جرى بين شخصتي الرواية الرئيسيتين _ شهد واسماعيل_ بحكم قدرتهما علي تمثيل ذلك أكثر من غيرهما.
«قالت بصوت هادئ: في قلعة مهجورة، في مسقط، في عمان .جنوب جزيرة العرب. يلتقي مصريان. من زمنين مختلفين ليتحابا وأمامهما جرت جريمة قتل.يا لها من حكاية!!» رفع رأسه اليها في دهشة، وفي غيظ صرخ: ها أنت تهرفين. لقد أتيت بي هنا لأنام معك. فلماذا تتحدثين عن هذه الأوهام؟ لماذا تتمنعين الي هذا الحد؟ قالت بهدوء، وهي تعيد نهديها داخل فستانها، وتغلق أزراره علي أسرارها: قم معي.ستري بنفسك القتيلة وآثار القتل. ( الرواية.ص46، 47}.
المتأمل لهذا المقطع الحواري سيكتشف أقانيم الرواية الثلاثة - شهرزاد وشهريار والحكاية- المتحكمة في النص الروائي. وسيلمس، من خلال التحليل اللاحق، تفاعل هذه الأقانيم الثلاثة فيما بينها، مجسدة بناء روائيا يقوم علي الحكاية – الاطار، أي حكاية ألف ليلة وليلة، مرممة بتقنيات أخرى مستوحاة من الرواية البوليسية، أو على الأصح الرواية – اللغز، فضلا عن جوانب أخرى، سيتم التعرض لها في حينها.
1-تحولات شهرزاد:
تبرز هذه التحولات، عبر قرائن سردية ولغوية مختلفة، جسدتها شخصية (شهد)، بطلة الرواية بواسطة أسلوب التسويف، أو الارجاء المقصود، كما فعلت شهرزاد في الحكاية -الأصل، بهدف الإفلات من موتها المحسوم من قبل شهريار.
أما بيالنسبة ل(شهد)، أوشهرزاد الجديدة، فإنها تمارس الأسلوب ذاته عن طريق التمنع والممانعة.والأمثلة التالية توضح ذلك:
أ_ «قالت: ألا تنتظر حتى أحكي لك حكاية الحصن؟» ص، 26
ب_سكتت وتنمّرت عيناها ثم قالت: لا. القصة لم تنته.سأصب لك أنا الكأس هذه المرة.ص27
ج- شهد، أرجوك. ألا أسليك؟ - شهد. خلاص.انتظر حتي أقول كل شئ بسرعة.ص31
قالت من جديد: نحن نصارع الزمن.لابد أن نجد القاتل قبل الصباح...بعدهاأحدثك عن هذا الباب.ص53
وفي النص حكايات عديدة لا تنتهي ترسلها شهرزاد الجديدة، أو شهد، إمعانا في حرمان شهريار الجديد، أو إسماعيل، من تحقيق رغبته خلال تلك الليلة الملعونة. هكذا استمر تناسل الحكايات المستمر، وكل حكاية تصب في الأخرى، وكل محكي ينفتح علي محكي آخركما برز ذلك في محكي ألف ليلة وليلة الأصل. والفارق بين الليالي القديمة والليلة الحالية، يتجسد في كون شهرزاد الجديدة,، ليست مجرد حاكية فقط- وهذا قاسم مشترك بين الحكايتين- بل إنها موضوع للحكي وشخصية أساسية من شخصياته.ومن ثمة، فحكايتها في هذه الليلة، مع إسماعيل استدعت، بهدف تجاوز الوضع الصعب لكل منهما، حكايات عديدة تناسلت عبر النص، وشكلت، من ناحية أخرى، بنيته المركزية المتماهية مع العالم الألف ليلي، والمتقاطعة معها في آن واحد.
هكذا توالت الحكايات بدون توقف :حكاية شهرزاد الجديدة(شهد) مع المغربي الميلودي بفرنسا وهذه استدعت، وفي فرنسا أيضا، حكايتها مع اسماعيل الرسام المصري، ثم جاءت حكاية ثالثة مارست فيها(شهد) االسحاق مع (فاتيما) المغربية ب"مراكش".
وهذه الحكايات المتناسلة بقدر ما تسهم في نمو النص، تسهم أيضا، من ناحية أخرى، في تعميق أزمة إسماعيل في علاقته ب( شهد) متحولين إلى كمائن حكائية تمنع (إسماعيل) من الوصول إلى اللذة المشتهاة.
2 –تحولات شهريار:
تتأسس شخصية شهريار، طوال الرواية، على التماهي المقصود بينه وبين شهريار ألف ليلة وليلة. فعلى امتداد الرواية لاهم له إلا التحايل علي المرأة عامة، وشهد خاصة/شهرزاد الجديدة، مصرحا بهوسه الجنسي بالفتيات الصغيرات، مترسما خطوات شهريار الفديم المهووس، بدوره، بافتضاض الأبكار. والقرائن الدالة تجسده ممارسات عديدة تمحورت حول تمجيده للجسد، قاهرا ومقهورا، ورفضه العنيف لكل ما يعرقل احتياح الشهوة المتفجرة باللذة والألم في الوقت ذاته.
ومن ثم، فهو يرفض خريف الجسد، أو مواته، ويبحث عن العنفوان والتفجر والشبق. وإذا كانت عقدة شهريار القديم، مجسدة في خيانة المرأة(في الحكاية الأصل ضبطت الزوجة متلبسة بالخيانة مع أحد عبيد القصر) مما ولد لديه حسا انتقاميا
برز في ليالي ليالي المتعة والقتل، اذا كان الأمر كذلك، فإن شهريار الجديد لايترددفي الانتقام، أيضا، من عدو قاهر مجسدا في الزمن الذي حول جسدزوجته إلي جسد شائخ. وسيتحول هو بدوره، يوما ما، إلي وضع مشابه يعاني العجز والعطل.
ولعل هذا ما يفسر إعجابه الشديد بالفتيات، في لحظات الحوار الدالة:
أ- (.... سألته، _هل تعرف سر الحياة؟ اندهش للحظة _لاأحد يعرف سر الحياة.
أجاب بصوت كسول، ثم ناولها كأسها.
_طيب.هل تعرف سر الخلود؟
هل تعرف هي حكاية البنتين الصغيرتين؟ هل يمكن؟ إذن لماذا تسأله؟
لم يشأ أن يعطي السؤال اهتماما أكثر.قال، وهو يتناول كأسه من فوق الأرض:
_ربما تكون الحياة نفسها سر الخلود. _إذن لا خلود للموتى. _تقريبا.) ص25 . الرواية.
ب- في النص مواقع عديدة، تكشف عن بحث اسماعيل، أو(شهريار الجديد) عن الخلود بأي ثمن، خاصة أنه ((يدرك منذ زمان أنه يمكن البلوغ للنيرفانا بالمجاهدة الصوفية وبالجنس معا)) .ص41
ج_ وفي ذروة النشوة، مع إحدى الفتاتين، ينخرط في تجربة العشق بكل حواسه (....وبالفعل سكنت شفتاهاتحت شفتيه, وأغمض عينيه علي سر الوجود، وهو يرتشف من كل شفة على حدة. ص,98
3 –تحولات الحكاية:
لايمكن فصل تحولات الحكاية عن تحولات الأقنومين السابقين ـ شهرزاد وشهريارـ انطلاقا من تحولات شهرزاد، التي تبدأ باسم العلم، مرورا بتجاربها الجنسية المتعددة، وصولا الي أعلي مراحل اللذة عند سقوطها في شباك اسماعيل أو شهريار الجديد. ف(شهرزاد) هي: فيروز –هنا-مروة بالياء_-مروة بالتاء_-مروة الثالثة التي تجمع بين الأولي والثانية... وهي قبل هذا، أو ذاك، (شهد)، شهد القلعة، التي فاضت بالعسل المر. إنها دائمة التحول في تاريخها القريب أو البعيد. إنها المتحول الثابت.
أما شهريار، أو إسماعيل، فهو الثابت المتحول، أو التحول في الثبات. ذلك أن عشقه للنساء، وعلي رأسهن شهد، مجرد وسيلة لاكتشاف وضعه الانساني، من حيث كونه كاتبا يمارس كتابة الرواية متماهيا مع شخصياتها إلي الحد الذي يتداخل فيه الوهم منتجا سردا يشبه الحقيقة، بل انه يعيش ندم (بافل) في رواية (تورجنيف)-الآباء والبنون- بعد أن دخل مرحلة الشيخوخة، ولاذ الشباب بالفرار.. لكنه سرعان مايتجاوزهذا الوضع نحو طهرانية الشيخ (عفرة زيدان) في حرافيش (نجيب محفوظ) محتضنا تيهه، كما احتضن يوما (عاشور الناجي)- في الرواية - شريطة أن ينهل من المتع دون أن يسأل، مهتديا بآخر جملة قالها الشيخ:((إذا نسيت فلتتذكر))ص43 .ولكن، قبل هذا أو ذاك، يظل اسماعيل حريصا على التماهي مع (شهريار) الفاتح الأكبر لحصون العذاري.
هكذا تنخرط الكتابة، بدورها، في لحظات التحول المتواصلة علي مستوي الشخصية، في سياق تحول اخر، علي مستوي الأجناس والصيغ الآدبية، مما أنتج سردا يشبه الرمال المتحركة، تفاعل فيه أسلوب الرواية البوليسية -أو علي الأصح الرواية اللغز كما سبقت الإشارة- بالأسلوب المسرحي عبر تبادل المواقع بين اسماعيل وشهد، مواقع المحقق والمتهم. ففي لحظة معينة يصبح فيها اسماعيل محققا وشهد متهمة. وفي لحظة أخرى، يصبح فيهااسماعيل متهما وشهد محققة.
وبتوالي تساقط الجثت، تتوالي أيضا، الإتهامات التبادلة بين الطرفين. غير أن البنية البوليسية، أو بنية الرواية اللغز، تستفيد _كما سبقت الاشارة_ من الصيغة المسرحية الكلاسيكية من خلال وحدة الزمان(ليلة واحدة) ووحدة المكان ( القلعة) ووحدة الموضوع 'الجريمة). وقد ساعدت هذه المكونات الثلاثة علي الرفع من الإيقاع الدرامي للرواية، عبر معاناة الشخصيتين من آثار جريمة لم يرتكبها أي أحد منهما, ولكنهما _في الوقت ذاته_يوجدان _دون غيرهما _ في هذا الفضاء المشبع برائحة الدم والقتل.
ولاشك أن نسبة الحوار الطاغية، في النص، سمحت بتشخيص المكونات الفكرية والنفسية والاجتماعية لكل من الشخصيتين، فضلا عن توسيع دائرة السؤال حول وجود الجثة، أوعدم وجودها، وبالتالي حول وجود مجرم يسمح بإبعاد التهمة عن اسماعيل وشهد.
استفادة السرد من هذين الآسلوبين _أسلوب الروايةالبوليسية وأسلوب المسرح_تحكمت فيه مفاتيح أساسية سمحت ببناء الحكاية من خلال المحطات التالية :
أ _التضمين الحكائي _ كما ورد عند تودوروف(2 ) _المستند الي الحكاية الاطار _حكاية شهد واسماعيل _ وما اندرج تحتها من حكايات متناسلة سبقت الاشارة اليها في البداية.
إنها محكيات صغري تدعم المحكي الأكبر بخلاف محكي الليالي القديمة التي تستقل فيها المحكيات الصغري بحكاياتها الخاصة، وشخصياتها المستقلة داخل الحكاية الاطارالصادرة عن شهرزاد.
المحكيات الصغري في الرواية، اذن، تخدم لحظات التوتر المهيمنة علي فضاء القلعة من جهة، وهواجس الشخصيتين من جهة ثانية. والتضمين، بالاضافة الي هذا وذاك، سمح بخلق إيقاع سريع للسيرورة _والصيرورة أيضا_الحكائية فرضته أجواء المطاردة الدائمة داخل القلعة.
ب_ الفصل والوصل: وأقصد ب (الفصل) استنبات محكيات معينة، أثناء جريان السرد، تفصل بين مرحلة وأخري، ثم يعاد لحمها، لاحقا، بالرجوع اليها حسب ما يقتضيه السياق.
والمحكيات التي تفصل بين مقاطع الحكي مستوحاة من :
+ _مقاطع نصية من نصوص سردية مختلفة( الآباء والبنون لتورجنيف _حرافيش نجيب محفوظ_ حوريات أودسيوس....). وتجدر الملاحظة الي أن استدعاء هذه النصوص يتم في لجظات نفسية محددة يتداخل فيها الزمان والمكان, وبالتالي يصبح المجال فسيحا للتداعي والتذكر، والإيهام بحقيقة ماجري ويجري في لحظات محددة.
+_ والعزف علي التذكر والتداعي سمح أيضا بتبئير ماتعلق بالوضع الخاص ل(اسماعيل)، مثل علاقته بالزوجةوالأبناء، بالحب الأول، بالقبلة الأولي....الخ أو تعلق ذلك بوضع عام يخدم سياق التداعي نحو أهداف محددة عن طريق تحيين السرد بلحظات فارقة.(احتراق قطار الصعيد _محرقة الفنانين والمسرحيين باحدي المحافظات...الخ)
+_عن طريق اللمسات العجائبية (الفانتاستيكية) التي تسمح بالغاء التراتبية الزمانية، او النظام الفضائي المنطقي، والإنتقال إلي أزمنة متداخلة في لحظة واحدة، تمزج بين ما رآه في الحلم وأصبح حقيقة، أو لعلها حقيقة أصبحت حلما. وقد لاتكون هذا أو ذاك، مادامت المرئيات من أحداث وشخصيات هي مجرد مواد عمل روائي _واسماعيل كاتب روائي داخل النص_ انتهي من كتابته وهو يعيش وقائعه في الوقت ذاته.ألم يقم باهداء روايته الأخيرة الي (مروة)التي رافقته إلي غرفته بالفندق, وبمجرد أن قبلها، تذكر قبلته الأولى، وانهالت التداعيات إلي الحد الذي نتساءل فيه عن (مروة)_ بالتاء_ أو( مروة) بالياء؟أو لعلها (مروة) النص؟
هكذا يتحول إسماعيل الكاتب الي إسماعيل الشخصية. هل الأمر يتعلق، إذن بالوهم أم الحقيقة؟هل الطبعات المتعددةلشخصية ((مروة)) تعكس تحولات الشخصية في الواقع، أم تحولاتها في الكتابة؟
ج _جدلية الكتابة والجسد: تقوم الرواية ,عادة’علي ثنائية الكلام _ ملفوظ الشخصية_ والسرد(ملفوظ السارد).غير أن هذه الثنائية تمتد الي ملفوظ أخر مجسدا في لغة الجسد. وفي الرواية مقاطع عديدة ترتفع فيها لغة الجسد عند كل من الشخصتين_اسماعيل وشهد_ الي أعلي مراحل النشوة والانتشاء، خاصة في المشهد الأخير الممتد من الصفحة104 الي الصفحة107 . وقد يتبادر الي الذهن، خاصة بالنسبة للقارئ الساذج، أن الرواية تحفل بمقاطع ((بورنوغرافية)) متعددة،
في حين نلمس رغبة جارفة استبدت ب(اسماعيل)، منذ البداية، لاكتشاف حقيقة المرأة، من خلال لحظات الاشتهاء أو الشبق. وعنف العلاقة بين الشخصتين مرده الرغبة في الامتلاك التي تصطدم بالتمرد لدي الطرف الآخر.والتمرد لايعني الرفض، بل يعني اعتزاز كل طرف بكيانه الجسدي الذي يمارس جموحه في لحظات المد والجزر«ثم ارتفع قافزا ليغطيها كلها، فأحاطته بساقيها، وشعر أن لها سيقان متعددة، وأيادي متعددة، ومن عينيها تخرج ألسنة اللهب حتي إذا استقر فيها وصرخت صار يطعنها كأنما يستدعي ماء الحياة من أبعد مكان في الفضاء فوقه.» ص105
الطعن الوارد في هذا الاستشهاد، أداة لإنتاج الموت والحياة، الفناء واللذة، بل إن الموت أعلى مراحل العشق والفناء، أقصي مستويات الحب . وفي تاريخ الأدباء والفنانين.نلمس هذه الرغبة الجارفة للقتل الرمزي _بالرغم من حدوث الجريمة المادية_ الصادر عن أحد المعشوقين، بهدف الوصول الي أعلي مراحل التجريد.هكذا يتحول القتل الرمزي الي أداة لانتزاع الجسد من ارتباطاته العادية التي تشده الي المحسوس، وتحويله الي دلالة علي قيم الفناء في المعشوق.«يمكن الاستئناس بسير فان جوخ وديك الجن وألتوسير وشريط امبراطورية الحواس... وكلها عكست رغبة العاشق في تحويل المعشوق,عن طريق القتل إلي دلالة رمزية».
ومن ثم لم تعد شهد مجرد امرأة مثل باقي النساء، بل أصبحت دالة علي المرأة_بالتعريف_ في كل زمان ومكان. إنها كل النساء. وهاهو قد انتصر أخيرا، سواء كان الانتصار وهما او حقيقة.(( وأدرك للحظة أنه لايوجد في العالم إلاهما معا. وربما قذفهما الله من السماء الي الأرض..... لم يعد هناك أي معني لأي شئ...لقد نال شهد وسط الموت...شهد نساء العالمين)).ص107.
ناقد وقاص من المغرب
هوامش:
1 – ابراهيم عبد المجيد = شهد القلعة .دار الدار.مصر.2008
2 _t/todorov=poetiquede la prose/seuil/1972