شهدت قاعة الندوات (محمد الكتاني) بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل، التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، يوم الأربعاء 6 فبراير 2013، مناقشة أطروحة جامعية تقدم بها الطالب الباحث عبد الفضيل ادراوي لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب، في موضوع : بلاغة الدعاء؛ بحث في المبادئ والسمات والوظائف. تحت إشراف الدكتور محمد مشبال.
وقد تكونت اللجنة العلمية المناقِشة من السادة الأساتذة: الدكتور عبد اللطيف شهبون رئيسا، الدكتور محمد مشبال مشرفا ومقررا، الدكتور محمد الأمين المؤدب عضوا، الدكتور محمد الحافظ الروسي عضوا، الدكتور سعيد جبار عضوا، والدكتور عبد الرحيم جيران عضوا. وبعد المناقشة التي استمرت من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة الثالثة بعد الزوال، أُعلن عن منح الطالب الباحث درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا.
وفيما يلي نص التقرير الذي تقدم به الطالب الباحث أمام لجنة المناقشة.
نــــــــــــــــص التـــقريــــــــــــــر
أولا؛ تصور عن الموضوع وسياقه.
يندرج موضوع هذا الاجتهاد العلمي المتواضع، ضمن مشروع نقدي بلاغي معاصر، تتعمق إشكالاته وتتطور على الساحة العالمية، يروم تطوير البلاغة وتطويعها، لتكون آلية مرنة لتحليل الخطابات الإنسانية، والبحث في قوانين اشتغالها وإمكاناتها التواصلية، بدل أن تكون مجرد قواعد متعالية وسابقة، يبحث المحلل عن مدى تمثلها في النصوص.
وهو مشروع بدأ يتبلور بهذه الكلية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولا يزال يطوره أساتذة ويعمقونه، خاصة ضمن وحدة بلاغة النص النثري القديم، عبر إعادة قراءة أنماط الخطاب، واستنطاق طاقاتها التعبيرية، والبحث في مكونات التراث المتنوعة، ومحاولة والكشف عن بلاغتها النوعية. إنصافا لكل الخطابات الإنسانية، وتأسيسا لقيم الانفتاح والتحاور بين مختلف المشارب الثقافية في المجتمع.
واقتناعا مني بضرورة تسخير الدرس الأدبي، شأنه شأن البحث العلمي، ليكون في خدمة الإنسان، ومساهما في بنائه الحضاري، وفي تنمية القيم الإنسانية النبيلة. كان اختيار موضوع الدعاء بوصفه مجالا للبحث في حقيقة الإنسان، وفي عوالمه الروحية وسبل صوغها إيجابا، ابتغاءَ استعادة العواطف النبيلة المفقودة، المهددة بقسوة المادية المتحجرة، التي غدت تهيمن على الرؤى والفكر وحتى الأخلاق.
إن موضوع الدعاء يحوز خصائص شتى جعلته متنا مرشحا للبحث العلمي، أبرزها:
أ- مكانةُ الدعاء في الثقافة العربية الإسلامية، بما هو جوهر التعبد ومخ العبادة التي هي علة إيجاد المخلوقات من الإنس والجن.
ب- وفرةُ الإنتاج المتحقق من الدعاء، وتنوعُ مجالاتِه وموضوعاتِه، وأشكال التعبرية، بما يحقق مبدأي التراكم الكمي والنوعي، شرطا مطلوبا في متن البحث العلمي.
ج-اتساع دائرة الدعاء وتواشُجُه مع فلسفة التدين العامة، وامتداد آفاقه امتداد الحياة الإنسانية عموديا من حيث علاقة الفرد بذاته وبخالقه، وأفقيا في علاقته بالآخرين، أسرة ومجتمعا ودولة، وحتى بيئةً محيطة به.
د- استجابة الدعاء لمبدإ التحسين، بسماته البيانية الباذخة، وألوان الزيغ الفني الذي يولد الإمتاع ويخلق التأثير والشعور الجميع في النفس.
هـ- كون الدعاء صادرا عن شخصيات لها ريادتها في ساحة البيان العربي؛ في مقدمتها سيد الفصاحة(ص)، ومن تلمذَ لمدرسته البيانية من الصحابة الأجلاء ورجال العرفان والتصوف.
و- كونه نصا تراثيا يغطي مراحلَ تاريخيةً طويلةً، ما يجعل دراسته موصولة بالانفتاح على مكونات هذا التراث وقضاياه الفكرية والثقافية، ويتيح إمكانية تكوين فكرة دقيقة عنه، وتشكيل وعي جديد بذواتنا وهويتنا ومستقبلنا.
يضاف إلى هذا:
ا - ندرة الدراسات الخاصة ببلاغة الدعاء، فرغم أن للعلماء في تراثنا وقفات طريفة مع الدعاء في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وهي إشارات، عميقة أحيانا وعابرة أحيانا، ترد في سياق مباحثهم في التفسير وعلوم القرآن والحديث، وفي الشروح ومباحث الأصول والفقه وغيرها، إلا أنها تفرض ضرورةً الاستفادة منها وتطويرها بما يناسب الهموم الفكرية المعاصرة.
ب- ارتباط هذا الخطاب بالإنسان وبهواجسه وأحواله المختلفة، يتعانق فيه الفردي بالجماعي، فيصبح النص الدعائي صورة عن الذات، وتغدو الذات مرآة وصورة عن الآخر.
ج- وظيفة الدعاء الإنسانية، بما هو مساهمة نوعية في مسيرة البنائ الحضاري، يستهدف الإنسان، أملا في تغييره والارتقاء به في سلم التكامل الإنساني. وهي وظيفة حضارية جليلة طالما حمل أمانتها المفكرون والمبدعون والفلاسفة والمرشدون، وعلماء النفس والاجتماع والأنتروبولوجيا وغيرهم، كلٌّ من زاويته ورؤيته. فالأهداف البعيدة لمقاربة الحقيقة الإنسانية المرَكَّبَة، هي نفسها التي يغازلها هذا النمط التعبيري.
-الطابع العرفاني للدعاء من حيث كونه خطابا وجدانيا غنيا بسمات الشعرية المترتبطة بالذات وباعترافات الشخص، ما يجعل منه كتابةً ذاتيةً، تجلي طبيعة صاحبها، وتسلط الضوء على واقعه ومحيطه. وتغدو بذلك كتابة يقينية، وكتابة (الماصدق) بلغة المناطقة.
ما يجعله مستودعا لتقرير الحقائقَ وترويج المعرفة.
-هذه الجوانب تجعل البحث في موضوع الدعاء بحثا لا يفتقد حسه الإشكالي، لأنه يبدو مغريا بثراء قضاياه المعقدة؛ يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، ويتشابك فيها السياسي والاجتماعي والثقافي. بما لا يمكن للباحث أن يضرب عنها صفحا.
ثانيا؛ إشكالية البحث وفرضياته ومفاصله الكبرى:
لقد خاض هذا الاجتهاد المتواضع في إشكالية دقيقة، حاول صاحبها الدفاع عن الدعاء جنساً قولياً في مجالي النقد والبلاغة، يمتلك مقوماتٍ تعبيريةً تواصليةً، تتيح له أن يُرافِع في ساحات الإبداع الجميل، الغني بالقيم الإنسانية والمساهم في خلقها وتنميتها.
ففي حدود علمي القاصر، لم تبذل جهود تذكر في مجال دراسة الإبداع الدعائي أو التنظير له. علما أنه بحسب معطيات نظرية الأجناس، لا مبرر يتيح التعامل بمنطق إقصائي أو تفاضلي بين الصيغ التعبيرية البشرية. خاصة وأن المنظور البلاغي النوعي يعد
مطلبا إنسانيا وحضاريا. لأن الذاكرة الإنسانية لم تنه بعدُ إمكاناتها التعبيرية ولم توصد أبواب تصوير احتياجات الإنسان هواجسه وتطلعاته، بصيغ لا نهائية، ما يجعل البلاغة مطالبة بالكشف عن هذه الاحتياجات المتباينة، وترَقُّب تَشَكُّلاتها ما استمر نشاط المخيلة الإنسانية.
هذا الطموح النقدي اقتضى أن تُحصر إشكالية البحث في محاولة التصدي للمادة الدعائية، من زاوية حدودها البلاغية، عبر تساؤلات: هل يمكننا الحديث عن بلاغة خاصة بالدعاء ؟ ما حدود وملامح هذه البلاغة؟ أهي بلاغة عامة ومعيارية؟ أم إنها تُشيد لنفسها مقوماتٍ خاصةً، تُماهي طبيعةَ العوالم التعبيرية والجمالية للدعاء؟ هل نقارب الدعاء وفق الاجتهادات والقواعد البلاغية السائدة؟ أم إن افتراض استقلالية الدعاء الإجناسية يقضي أن نضع ثقة ما في هذه المادة من دون سلطة جمالية سابقة؟
وإذا كانت بلاغة الدعاء خاصة، فهل هي بلاغة مستقلة عن غيرها؟ أم إنها ضرورةً منفتحةٌ ومتأثرةٌ بغيرها؟. ثم هل إن ملامحها الجماليةَ ذاتيةٌ وجدانيةٌ محضة، رهينة التصوير البنائي النصي؟ أم إنها متَعَديةٌ وتداوليةٌ إقناعية، ورائِمةٌ تحقيقَ التغيير؟ أم إن الوجهين معاً هما حقيقةُ هذه البلاغة؟
وقد كان من الطبيعي أن يؤطِّر هذه الإشكالية اقتراح أولي زعمنا ثقةً ما في المادة الدعائية المتوفرة بما هي جنس تعبيري قائم الذات.
هذه المرافعة اقتضت تخصيص مساحة الباب الأول، لمعاينة الملامح العامة لبلاغة الدعاء، فتتبع الفصل الأول بعض الملامح المبدئية التي يفرزها الاحتكاك بالخطاب الدعائي، وجب وضعُها في الحسبان، هي: التحسينُ، والتخييلُ، ومنطقُ الكتابةِ المخصوصةِ، والتّحررُ، والذاتيةُ، والتّعدي، والتعالقُ، والتمثيلُ السُّلطويُّ، عُدت مبادئَ شبهَ مُحايِثة، تُوجِّه دارس الدعاء وَتَحُدُّ من غلواء سلطة القراءة المعمَّمة، وتفرضُ الإنصاتَ لذبذبات نصوص الخطاب الدعائي ذاته، بعيدا عن إكراهات الجماليات الأخرى.
وفي خطوة كان مسرحَها الفصلُ الثاني، جربت الاسترشاد بتلكم المبادئ لبحث مكانة الدعاء في النقدين القديم والحديث، استنادا إلى الظلال الوارفة التي نفيء إليها من مدلولات الدعاء في المعاجم اللغوية، واستنادا إلى أن مجهودات السابقين وتنظيراتهم الأدبية، كانت تطل عل الدعاء ولو باحتشام، أو على الأقل كان يمكن أن تستوعبه. فكانت معاينتها ومساءلتها واستثمارها، من منظور نظرية الأجناس، وبلاغة الأنواع. خصوصا مع وجود إشارات غاية في الأهمية، يغنمها الباحث المعاصر، عرَضا واقتضابا، أبانت عن حيوية الخطاب الدعائي وأهليته البلاغية والنقدية، رغم أنها ظلت محدودة في مَضَانِّها، بالنظر إلى أن المنطلقات والرؤى التي تحكمت في أصحابها، ظلت في مجملها مدينة بسلطة جمالية الشعر الذي كانَ لهُ القدَحُ المُعَلَّى في آفاقهم الفكرية.
وفي النقد الحديث اتسمت الاجتهادات بقدر غير قليل من التنوع والانفتاح المغريين. ودلت بجلاء على ضرورة البحث في إمكانات التواصلية الإنسانية للدعاء. رغم أنها ظلت بدورها محدودة من حيث حسها النوعي.
فلزِمَ والحالُ هذه، البحثُ في هوية الدعاء من حيث المقوماتُه الإجناسية، انطلاقا من فرضية جزئية إضافية شَكَّلت معالم الفصل الثالث، ومقتضاها دعوى أن الدعاء يتيح إمكانية إدراجه ضمن الإطار العام لتجنيس الكلام العربي، ويتيح مناخات التناول المخبري المحايث، فكان اقتراح ما اصطلحنا عليه ب(صيغة الدعائية) بما هي آلية نقدية مؤقتة، وصيغة إجرائية متعالية ومجردة، تحاكي إن لم نقل تكاتفُ صيغاً تجنيسيةً عريقةً، لها فعَّاليتُها في تحديد هوية الخطابات؛كالشعرية والدرامية والسردية وغيرها.
هذا الإجراء المغامر أتاح إمكانية تكييف الدعاء إجناسيا، اعتمادا على مداخل الثبات والتحول والتغير، أو تجليات الجنس والنوع والنص.
وفي الباب الثاني تمت معاينة الخطاب الدعائي بما هو جنس تعبيري قائم بذاته، يتيح إمكانية المقاربة البلاغية في مستوياتها التصنيفية ثم التحليلية، خصص الفصل الأول لتجريب فرضية تصنيفية إضافية إمكان تطويع الدعاء ضمن صورنة تراتبية تتيح إفراز أنواع دعائية صغرى تَدين في جانب منها بأصل صيغتها المحايثة، وتنزع من جانب ثان نحو الاستقلالية النسبية و(التَّلامّ)، ضمن أطر تصنيفية جديدة. ووفق تشكلات نوعية لها ملامح من الاستقلالية المؤقتة أو النسبية والراجحة أيضا، ضمن دائرة الدعاء؛ فكانت أنواع الدعاء الجامع أو المركب، ودعاء البوح والاعتراف، والتسبيح والتحميد أو التمجيد، والتوسل والتصلية ثم الزيارة. وهي كلها نماذج لتلوينات أسلوبية وصيغ جمالية مخصوصة، تستوجب المعاينة والتأمل النقديين، وتتيح إمكانية التمييز بينها استنادا إلى مقومات بنائية وتعبيرية مهيمنة.
هذا الأمر حتم أن يسير الفصل الثاني، في اتجاه استقصاء ملامح خاصة بالدعاء مرتبطة بسياقات النصوص الخاصة، ومتشربة كنه سياقات الجنس والنوع والنص وقدرات معا، وتحقق جماليتها وإمتاعيتها تَكويناً وتَكَوُّناً. حصرنا أبرزها وأكثرها تواترا في: الروحانية، والتباكي أو الحزن والشكوى، والتذلل والاستضعاف، والحب والشوق، والإرادة، والرجاء أو اليقين، والترابط أو التواصل، والقرآنية، والتوسل، والاعتراف أو البوح، ثم الممكن أو الواقعية.
ما أبان عن خصوصية وموصوفة للدعاء، قوامها ما يمكن نعته ب(الرمادية الإجناسية)، التي تنزع به نحو الاستقلالية من جانب، وتَثَّاقل به من جانب آخر إلى التعالق مع أجناس عريقة وغيرية، سواء أكانت قريبة أم بعيدة.
وقام الفصل الثالث على فرضية جزئية إضافية قَضَتْ دعواها استحالةَ فصل الخطاب الدعائي عن سياقه وعن غاياته ومقاصده الخارجية، وقصورَ مقاربة نصوصه بمعزل عن رسالتها التواصلية. فكان زعمُ إمكانية نَظْمِ جُلّ النصوص الدعائية في خيط إقناعي دقيق، لا ينفصل عن رسالة الداعين في المجتمع. فافترضنا أطروحات حجاجية مركزية في الدعاء، كالتوحيد والمعاد والنبوة أو الحقيقة المحمدية، تنهض بها عناصر بلاغية، ودعامات مقنعة، لا تنفصل عن سياق واقع التدين، وتراعي سياقات الإنتاج والتلقي في بيئة اجتماعية وتواصلية خاصة.
أما الفصل الرابع فأبان عن مقاصد عديدة للدعاء، بدا من خلالهاخطابا مساهما في البناء الحضاري للمجتمع، عبر تأهيل الأفراد وتخليقهم، وبث روح الاستقرار والطمأنينة وإشاعة أحاسيس القوة والسعادة في النفوس وتنشيطها للعمل، وعبر انخراط الداعين في محاورة الواقعين الاجتماعي السياسي بما يؤسس لمجتمع سليم وموحد، يكرَّم فيه الإنسان وتحترم إنسانيته.
ثالثا؛ المنهج والرؤية
لقد فرض البحث نظراً نَوْعِيّاً ومخصوصاً، يراعى خصوصية جنس الدعاء، احترازا من إسقاط النتائج المتوصل إليها في مجالات أخرى. فبقدر ما يغري هذا الخطاب بحيويته وبغناه، يَلزم الحذر الشديد في ولوج عوالمه المتشعبة، حفاظا على رسالة الناقد أو البلاغي، والتزاما بالحدود والأدوار المناسبة لقدراته. وتفادياً مثلبةَ تَقَمُّص أدوار هي من اختصاص الفيلسوف أو المؤرخ أو الفقيه الشارح أو الشيخ المفتي، أو حتى المفكر الداعية. وهي كلها مجالات كنت أُومِن بضرورة الانفتاح عليها والاستفادة منها. لكن مع الوعي التام باحترام دور الناقد والبلاغي، بممارسة القراءة الواعية المراعية لخصوصية الظاهرة الأدبية. فكان اعتماد سبيل نقدي يقوم على الوصف والتحليل للظواهر النصية المتحققة، والانفتاح على التفسير والتأويل المفضيين إلى التقويم والحكم، مع التقيد قدر المستطاع بمكونات النصوص وسماتها، وتوخي استشراف آفاقها من بنياتها أولا، ثم ربطها بسياق الجنس العام. وفقَ خطة تحليلية تزاوج بين الذاتية التي يفرضها التذوق الشخصي للإبداع، وبين توخي الوصف والتفسير المقنعين نزوعا نحو التقنين والمحايثة، بما هما ضرورة بلاغية ونقدية.
وهي مهمة تحوطها صعوبات جمة، أبرزها ذلك التداخل الإشكالي المعقد الذي يستشعره المرء، بين ضغوط الخبرة الجمالية المعاصرة، التي تدين بقراءات ومعايير جمالية مغايرة، لكنها راسخة في الوعي وتمارس إكراهاتها الخفية على محلل خطاب له عتاقته التراثية(الدعاء) ومهابته الدينية وقادسته الروحانية، وسياقه الجمالي المختلف أيضا.
وأعترف أن الفصل الحاسم بين الوعيين ليس بالمهمة السهلة ولا حتى بالممكنة، فقصارى ما كان ممكنا، الاجتهادُ في محاولة تمثل ملامح الدعاء، في ضوء رؤية تحليلية، لا تلزم نفسها تطبيق المعايير المسبقة، بل تحاول الاستفادة من خبرة التمييز بين أصناف القول، والارتقاء بالدعاء إلى مستوى تحليلي يُستحضَر فيه أفقاه الإبداعي والثقافي الخاص.
رابعا ؛ نتائج البحث وآفاقه المستقبلية
لقد أوصل هذا الاجتهاد المتواضع إلى نتائج أهمها:
1- لقد أبان التعامل مع الخطاب الدعائي أن البلاغة في حقيقتها إنما هي سبيل إنساني راجح، ومفهوم واسع، يتأرجح بين العلمية والذاتية، ويستوعب كل أجناس القول الممكنة، سواء أكانت رسمية ومشهورة، أم مغمورة ومهمشة، فمجالات البلاغة وإمكاناتها واسعة وممتدة لا حدود لها، فكل الصيغ القولية التي عبر وسوف يظل يعبر بها الإنسان، عن طموحاته وهواجسه وحاجاته، قابلة للنظر البلاغي، ومؤهلة لمد الدرس البلاغي بعناصر جديدة.
2- أمكن تجريد جملة مبادئ عامة وعليا، وثيقة الصلة بالخطاب الدعائي يمكن تجريدها من البنية العامة للنصوص الدعائية، فتكون مداخل نظرية لولوج بلاغتها، وتحمل على عاتقها توجيه القراءة، وتأطير الاشتغالين البلاغي والنقدي، بما يحد من غلواء الانسياق مع الاحتدام المصطخب الذي يستشعره المحلل في نفسه ووعيه؛ بين مقتضيات القراءة البلاغية العامة، وبين القراءات الخاصة والخبرات النوعية الأخرى.
3- ثمة صعوبة حقيقة، شبه محبطة تواجه الباحث في استخلاص الملامح العامة للدعاء، لأنها تكشف عن طبيعته المركبة والمعقدة، وتظل زئبقية وهلامية تتراخى إلى أقصى حد احيانا، فيجد الباحث نفسه شعر أم لم يشعر، خائضا في ملامح يمكنها أن تعمم على أجناس أخرى.
4-رغم أن الدعاء لم يحظ بالدراسة والتنظير الكافين، في النقدين القديم والحديث، على غرار ما خصت به أجناس كلامية أخرى، نظرا إلى اختلاف الهموم الجمالية التي كانت تحرك النقاد سواء أكانوا قدماء أم محدثين، إلا أن المجهودات التي اطلعنا عليها، كانت بمثابة الشاهد على الأهلية البلاغية للدعاء، وعلى غنى المداخل التي يمكن أن يعالج من خلالها. فقد نظر إلى الدعاء من حيث هو مكون جمالي، لا ينفصل عن خطابات عريقة في الإبداعية كالرسائل والخطب، فبدا الدعاء عنصرا يساهم في البناء الجمالي لأجناس أخرى. وفي أحيان أخرى اعترف بهنمطاا تعبيريا، وإن كان قد ظل أسير سلطة البلاغة المعيارية، التي تدين بأصولها الشعرية، وبمباحث الإعجاز وبمنظورات التقعيد والصرامة المنهجية.
وفي هذا المضمار، تبينت إمكانيةُ استثمار إسهامات دارسي الدعاء من منظورات ثقافية عامة، من مفسرين وشراح وفقهاء ووعاظ ومشتغلين بالفكر الإسلامي عموما. رغم أنها كانت تنطلق من هموم فكرية مغايرة. إلا أنها تلتقي معها، ما يستدعي تطويرها وتطويعها، في سبيل دعم الدرس البلاغي المعاصر، لتحقيق التلاقح المطلوب بين النتائج الرائدة التي توصلت إليها هذه الجهود المنفتحة والمؤسِّسة، وبين الجهود المعاصرة، المتخصصة.
5- وفي مجهودات أخرى بدا الدعاء بنية لغوية مركبة، وخطابا منسجما داخليا، قابلا للمعاينة من منظور الدراسات البنيوية المعاصرة. وقد شكل هذا نافذة مهمة وإضافية، أبانت عن إمكانية الإطلالة على الدعاء من جوانب تمظهرات التركيب والتأليف فيه، وأتاحت إمكانية الحديث عنه شكلا مركبا لا بسيطا.
6- ومن منظور النقد الإجناسي، والبلاغة النوعية، التي تتوخى ضبط آليات اشتغال الجنس ضمن حدود جماليته المخصوصة، كانت ثمة إشارات دقيقة كشفت عن ملامح نظر نقدي راجح، يمكن أن يمنح هذا الشكل التعبيري خصوصيته الجمالية، ولو مبدئيا (وأحيانا عفويا). إذ صنف الدعاء شكلا تعبيريا من الأشكال الشرعية، له هويته ما شكلا ومضمونا. وهي أحكام واستنتاجات كانت بالغة الأهمية في سياق العملين البلاغي والنقدي، وكانت محفزا بارزا، قادنا إلى قياس إمكانات التجنيس التي يخولها هذا الخطاب.
7- وفي القياس العملي لمعايير تشكل جنس الدعاء محايثة وتحققا نصيا، يتبين أن بلاغة الدعاء تظل مؤطرة بجنس تعبيري اتخذ الصيغة الدعائية إطاره العام، وفّرت قدرا من مقومات الاستقلالية الذاتية، التي لم يعد معها الدعاء مجرد عنصر ملحق بغيره، أو مجرد شكل عفوي دون مستوى الجنس القولي المركب. بل هو خطاب تواصلي، وبنية نصية قائمة بذاتها، يمكنها أن تستوعب بنيات صغرى، وأحيانا غيرية، ضمن بنيته الأصلية.
لأن الصيغة الدعائية تتيح إمكانات التنوع والتحول ضمن دائرتها الكبرى والفسيحة. وهذا أمر من شأنه أن يقود إلى إمكانية تصنيفية، تخول لنا تعرُّفَ أنواع دعائية متحولة عن الصيغة الأصلية، وكاشفة عن مرونة إبداعية تخضع بموجبها الصيغة لسياقات نوعية مختلفة.
وفي الوقت ذاته أبانت هذه الصيغة، عن كونها تقوم على سمات جمالية تفرزها التشكلات النصية المختلفة، التي دلت على وعي جمالي خفي لدى الداعي لحظة إنتاجه الدعاء، وعلى عمليات من التصوير لعوالم النفس البشرية، والتعبير عن خلجات الذات وقضايا الإنسان، بما لا يمكن معه إنكار الوجه الجمالي التخييلي للدعاء. وهو ما اصطلحنا عليه ببلاغة الدعاء اللازمة.
8-إن الخصوصية التعالقية للخطاب الدعائي، وارتباطه بسياقات خطابية، مختلفة، يتداخل فيها السياسي والاجتماعي والعقدي، يستلزم أن تكون بلاغته ذات وجه آخر، هو الوجه الذي اصطلحنا عليه(الوجه المتعدي للدعاء)، الذي بدا من خلاله الدعاء خطابا وظيفيا، يشكل امتدادا لرسالة الإنسان المسلم في المجتمع.ما يجعل هذا الخطاب قابلا لأوجه ومداخل كثيرة من البحث والتحليل، منظورا غليه في علاقته بمحيطه وفلسفت أصحابه ومقامه المرجعي، وقابليات التأويل فيه ومحدداتها ..إلخ.
9-وقد كشفت قراءة هذا المتن، عن حس بلاغي إقناعي ينتظم جل النصوص، ويهدف إلى إحداث التغيير في الآخر، فردا أو جماعة، من أجل تحقيق تغيير واقعي أشمل، يتخد غاية له توجيه الكيان الإنساني، فردا وجماعة، نحو امتثال سبيل الحياة التكاملية التي يسير فيها على هدي ومقتضيات رسالة الإسلام. فكان الدعاء ذا بلاغة وظيفية ترتبط بالحياة وبتفاصيلها، وتنشد إخضاعها لمنظورات الدين وفلسفته العامة.
10- وبذلك كان الدعاء واجهة جمالية لخدمة مشروع الدعوة إلى الله، وشكَّل امتدادا لواجهات أخرى كان الدعاة- وهم طبعا المؤمنون بالإسلام عقيدة ومنهجا شاملا في الحياة- يؤدون من خلالها رسالتهم الإنسانية.ويساهمون في بناء القيم وتطويع الأرواح وتوجيه الوعي نحو الصلاح والخير.
11-تبعا لما سلف، يغدو الخطاب الدعائي على قدر لا يستهان به من الغواية، يستحق بموجبها أن يصطف إلى جانب الخطابات التي علا شأنها، وكان لها القدح المعلى في الثقافة الإنسانية، وفي تاريخ الإبداع البشري. فهو إبداع له طبيعته المركبة، وله خصوصية المنفلتة، أمور تجعله خطابا وَلَاّدَ أسئلة جوهرية باستمرار.
12-هذه الجوانب مجتمعة تجعل من هذا المجهود عملا لا يخلو من حس إشكالي، فقد انبنى على تساؤلات جمالية كانت تحتاج حتما إلى كفاءة نقدية وبلاغية، أطمح إلى امتلاكها لكنني لا أدعيها لنفسي. خاصة وأن التصدي للبحث في خطاب يصنف ضمن دائرة التراث، يقتضي امتلاك خبرة مستمدة من هذا التراث نفسه، ووليدة سياقاته النوعية التي عانيت طوال مراحل البحث من افتقادها.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.