الظاهر أن "نقد النقد"، وبمعناه التصوري الجذري لا الشارح أو الوصفي، جدير بأن يحدّ من اطمئنانا الوثوقي لتسمية "الجيل النقدي" أو"التجربة النقدية الجديدة" بالمغرب. إلا أنه، ورغم ما سلف، فثمة -في تصوّرنا- أكثر من علامة مائزة لخطاب هذا الجيل؛ مما يسمح بنوع من المقاربة لهذا الخطاب، وكل ذلك في المنظور الذي قد يسمح باستخلاص خطاب هذا الجيل ومدى إسهام هذا الخطاب في الأفق الثقافي العام بالمغرب. وما يحفز، أكثر على هذه المقاربة، ما حققه هذا الجيل، وعلى مدار الفترة الأخيرة، من تراكم ملحوظ يسمح، وبنوع من الاحتراس، بالحديث عن "أنماط قرائية"، لكي لا نقول "تيارات نقدية"، جديرة بأن تكشف عن "سياق اللاتجانس" الذي يطبع "أداء" أو "إنتاج" هذا الأخير. ومصدر هذا اللاتجانس اختلاف مرجعيات هؤلاء النقاد الجدد وتباين تصوراتهم للأدب... ولـ"عمل الناقد" ذاته.
وتفضي بنا أول ملحوظة، في سياق السعي إلى استخلاص دلالات "الإضافة"، مع الجيل الجديد، إلى مصدر أو مصادر "المعرفة" (النقدية) التي تعرضت لـ"خلخلة" جذرية نتيجة جملة من المتغيرات (الكونية) التي مست أنساق "العقل التواصلي" ككل. ففي فترة سابقة، من التاريخ النقدي/ الثقافي بالمغرب، وعلى وجه التحديد في فترة السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، ودون التغافل عن السياق الثقافي/ الإيديولوجي اللاهب الذي طبع الفترة، كانت تظهر من حين لآخر، وإن من خارج أية صيرورة إبستيمولوجية محكمة، قامات نقدية كانت تؤثر بسرعة مدهشة على المشهد النقدي وسواء على مستوى الترجمة أو على مستوى قراءة النصوص الأدبية. وفي هذا السياق برز الناقد الروماني/ الفرنسي لوسيان غولدمان (1913-1970)، وقام له إجلالا وإكباراً جلّ النقاد الحداثيين من المكرسين أو غير المكرسين من الباحثين عن لغاتهم وقتذاك. وعلى هذا المستوى قدّمت أعمالا نقدية "لافتة" (في حينها)؛ غير أن "قيمتها"،اليوم، لا تعدو أن تكون "تاريخية".
وفي السياق نفسه فإن مفتتح الثمانينيات، وبـ"ذوبان الإيديولوجيا" الذي سيميزها، سرعان ما سيُصَعـِّد من قيمة الناقد الفرنسي رولان بارت (1915 ــ 1980) الذي سيتنازل بدوره، وبعد وقت وجيز فقط، عن عرشه لفائدة الشاعري الروسي ميخائيل باختين (1895-1975). وقد حصلت جميع هذه "الانعطافات" أو "الانقلابات" (وبغير المعنى الذي يعطيه لها تومس س. كون في كتابه "بنية الانقلابات العلمية") في فترات متقاربة، ولعل في هذا ما يشي بما كان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور قد نعته بـ"تكديس الأسئلة" الذي هو حال "الثقافة القومية المغلوبة" في علائقها "المتوترة" إن لم نقل -ومع المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه "المسألة الثقافية"- "الدرامية" مع "الغرب".
وفي وقتنا الراهن يصعب التمترس في معاطف أسماء كهاته، لاعتبارات عديدة في مقدمها، وفي حال المغرب، أن فرنسا لم تعد في الواجهة من ناحية العلاقة مع النظرية النقدية العالمية. إلا أنه، ورغم مجمل التبدلات التي مست أنساق المناهج والنظريات والتصورات، لا يزال بعض نقادنا الجدد يستنجدون ببعض "المناهج" السابقة في قراءة النصوص والتعامل مع قضايا الأدب، وعلى نحو لا يخلو من تشويش على مستوى "التناص الموجب" الذي من المفروض أن يكون كامنا في "فعل القراءة" ككل. ولعل هذا ما يحتم ضرورة التمييز بين "العمل النقدي" القائم على "الإضافة" التي تلتبس بفعل "الكتابة" ذاته و"العمل الديداكتيكي" القائم على صنف من "التطبيق" الذي هو قرين "عشوائية المنظور" و"سطحية المفهوم". وهذا في الوقت الذي كشف فيه ما ينعت بـ"النقد الثقافي" عن مقولات تصورية وإمكانات منهجية لافتة على مستوى تدبر دلالات الأدب باعتباره "ممارسة خطابية"، وكل ذلك في المنظور الكاشف عن التحرّر من "الفهم الضيق" للأدب.
وعلى مستوى آخر فإن الحديث عن النقد الجديد، وسواء بالمغرب أو خارجه، يفرض الحديث عن "التحول" الذي طال الأدب ذاته. ومن هذه الناحية فقد تعرض هذا الأخير لـ"موت"، لكن بغير منطق "خطاب النهايات" (السعيدة) الذي تروج له كتابات عربية مسكونة بجرعات أو شحنات "الموضة" و"أسواق المعرفة" المتبدلة على غرار تبدل البدلات في الأسواق التجارية الأوروبية. والظاهر أن كتاب "موت الأدب" لصاحبه ألفن كرنان (وهو، وللمناسبة، مترجم، "ترجمة توصيلية"، إلى العربية) يعكس، وإن من وجهة نظر أمريكية، جانباً مهماً من هذا "التبدل" الذي مس الأدب. وبالنظر إلى تأثير التلفزيون والدراما وأشكال مرئية أخرى لا يبدو غريباً أن يتخلى الأدب، وبسبب من قوامه على "الكلمة"، عن تأثيراته على مستوى صوغ المتخيل والمحتمل وتعميق شرط الإنسان وسؤال الحرية. لقد صار هذا الأخير "مفهوما عاما" أو "ممارسة خطابية" جنبا إلى جنب ممارسات أخرى دالة أفسحت بدورها، وتحت تأثير النقد الثقافي سالف الذكر، لأنماط ثقافية أخرى كـ"الثقافة الشعبية" التي كثيراً ما نظر إلى دراستها من قبل كاختيار جالب للموت للأدب.
وثمة مظهر آخر لرصد التحول الذي حصل في النقد المغربي، ويتصل بالجامعة المغربية ذاتها التي سلفت الإشارة إليها. ومن هذه الناحية لم يعد النقاد، وكما كانوا في فترات سابقة، متمركزين في الرباط وفاس حيث كانت توجد أهم جامعتين في المغرب. لقد ظهرت، وفي مستهل الثمانينيات، جامعات أو بالأحرى كليات مستحدثة على مدار التراب المغربي من شماله إلى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، وهو ما سمح لأسماء عديدة بالبروز وعلى نحو لا يخلو من صعاب على مستوى رصد هؤلاء الباحثين. وقد كان لهؤلاء تأثير لا ينكر على مستوى تحرير "النقد الجامعي" من "التحقيق" الذي هيمن داخل الفضاء الجامعي بالمغرب وتحت تأثير أسماء منها من رحل وفي مقدمهم العالم الجليل أمجد الطرابلسي (1916 ــ 2001) وتلميذه (وأستاذنا) إدريس بلمليح الذي فارق الحياة قبل أقل من شهر. لقد تحقق نوع من الانفتاح على المناهج المعاصرة، وبالقدر نفسه تم الإقدام على قراءة نصوص أدبية حداثية. غير أن هذه المغامرة لم تكن تخلو من صعاب مصدرها "المنهج ولا شيء غير المنهج" الذي بدا في شكل "شعار" أو "ديانة"، وهو اختيار كان له تأثيره السالب على مستوى "الحضور المستقل" للخطاب النقدي في "علائقه المثمرة" مع النصوص الأدبية.
وعلى مستوى آخر لم تعد الجامعة المصدر الوحيد للأعمال النقدية، بل إن العديد من الأعمال فارقت منطق "قراءة/ قراءات" و"دراسة/ دراسات" و"نموذج/ نماذج" التي كثيراً ما تصدرت العناوين الفرعية للكتب والأطاريح المستقلة. لقد أخذت الصحافة تلعب أدواراً لا تنكر رغم تأثيراتها التي لا تزال محدودة، بل وقد ظهرت صحف ومجلات لا صلة لها بـ"الآلة الحزبية" التي كانت مهيمنة ومؤثرة على مستوى التأشير لولوج "قارة النقد". غير أن تأثير الصحافة ظل، هنا، محدودا مقارنة مع صحف ومجلات عربية، ومهجرية أيضا، رحبت، وبشكل لافت للنظر، بالمنتوج النقدي المغربي. وإذا كان هذا الاختيار الجريء قد مكن أصحابه من التحرر من "الحصار" الذي تفرضه، ولا تزال، بعض الأوساط التسلطية فإن أعمالاً عديدة لهؤلاء لا تخلو من "هشاشة معرفية" و"ضحالة ثقافية" تحدان من "تسويق" المنتوج.
إن ما سلف يجعلنا في صميم النقاش حول ما ينعت بـ"المقال" الذي ينطوي على أهمية بالغة بالنظر إلى التأثير الذي يمارسه على مستوى صياغة الخطاب النقدي. وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنه ليس كل ما ينشر في الصحافة يندرج، وبالضرورة، ضمن جنس المقال الذي لا يخلو من قواعد وضوابط. المقال الذي يقع في أساس أغلب كتب الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني إدوار سعيد، بل وكان وراء مكانته العالمية النادرة. هذا بالإضافة إلى دور المقال على المستوى الذي يمكن الناقد من أن يعكس، وباصطلاح إدوار سعيد نفسه، "صور" أو "تمثلات المثقف". وفي هذا الصدد لا تزال العديد من كتابات الجيل النقدي الجديد بالمغرب، وغير كتابات هؤلاء وخصوصاً من الأساتذة، وبما في ذلك المكرسين، تخلط بين "المقالي" و"الأكاديمي"؛ هذا في الوقت الذي يضرب فيه البعض، ومن "المفكرين النقديين" الوازنين، كذلك، عن الإسهام في المقالي.
غير أن ما سلف لا يجعلنا ننظر نظرة موحدة إلى "الأكاديميا" التي لا تخلو، وفي النظر الأخير، من أهمية على مستوى "الفاعلية المعرفية" و"الإنتاجية الثقافية". أجل هناك مستوى من الأكاديميا قوامه وإذا جاز مفهوم بيير بورديو "الانغلاق السوكولاستيكي"، ولعل هذا ما كان قد قصد إليه أيضا الناقد البريطاني تيري إيجلتون من خلال ما أسماه بـ"الأكاديميا الضارة". ومن المؤكد أن هذا النوع من الأكاديمية يخلو من صلات منتجة مع مشكلات المجتمع، هذا إذا ما لم نقل بأنه يسهم في تعميق "الفجوة" ما بين الثقافة والمجتمع مما يفسح المجال لدعاوى تكريس "الاستئصال" و"الاجتثاث". غير أن المقال، وعلى نحو ما يكتبه إدوار سعيد، أو سواه، لا يخلو من "عمق أكاديمي"؛ وهو عمق غير معلن عنه أو غير مقحم، وبكلام آخر: إنه "مندغم" في "شرط الكتابة" ذاتها التي تحرر العمل النقدي من "الانغلاق السكولاستيكي" لا "الأكاديميا" ذاتها.
وحتى إن كان بإمكان الدارس أن يشدّد، وضمن إسهمات النقد الجديد، على بعض الأبحاث التي ركـّزت على "مبحث التأويل"، فإن هذا النقد لم يرق بعد إلى الالتباس بالأسئلة الحارقة مثل سؤال الهوية والذاكرة والسرد والجغرافيا الثقافية وفك الاستعمار، وكل ذلك في منظور الأدب باعتباره "ممارسة" تندرج ضمن مفهوم "الخطاب" كـ"فكر" يجعل من المجتمع، ومن خلال "آليات التأثر المتبادل" لا "المناقلة أحادية البعد"، "مجالاً" أثيراً له.