قبل ثمانية اسابيع توقفت، في هذا العمود، عند تضخيم وجود الشيشان ضمن بعض الكتائب الإسلامية المقاوِمة لنظام بشار الأسد في سورية؛ وأستعيد، هنا، فقرة أخالها تتصادى مع العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة بوسطن الأمريكية مؤخراً، ويُتهم بتنفيذها شابان من أصول شيشانية: "يتوجب فتح ملفّ المسألة الشيشانية ذاتها، في قلب بلاد الشيشان، وفي عمق المواقف الإقليمية منها، وحيث لا يستهدف الترحيل والتضليل إلا إلى إغماض الأعين عن مأساة الشعب الشيشاني ذاته. هنا، أيضاً، لا تنام القضية الشيشانية بضعة أشهر، إلا لكي تستيقظ بغتة، أو بالأحرى يستيقظ العالم عليها بعد طول سبات، وكأنّ هذه البلاد موجودة في مجرّة أخرى منسية".
ولقد اقتبست العملية الإرهابيّة الرهيبة التي شهدها مسرح موسكو، سنة 2002، والتي أسفرت عن مصرع العشرات من الرهائن، بسبب الطرائق العنيفة التي استخدمتها وحدات التدخّل الروسية؛ ثمّ وقعت مأساة ماراثون بوسطن لتضيف مناسبة جديدة، إلى ملفات المسألة الشيشانيّة، التي بدأت دامية، وهكذا سوف تتواصل أغلب الظنّ، حتى إشعار طويل آخر. ودسّ الرؤوس في الرمال هو الخيار، شبه الوحيد، الذي يسوّغ عزل إشكاليات هذه المسألة عن أيّ واقعة إرهابيّة يتورط فيها شيشاني، أو داغستاني، أو أي مواطن قوقازي بصفة عامة. وهذا خيار يقترن بمقدار هائل من خداع الذات، فضلاً عن النفاق والتبسيط والتنميط والتعميم، قوامه افتراض سطحي يجزم بأنّ "ضعف اندماج" الأجانب في المجتمعات الغربية، وهيمنة "القِيَم الإسلامية" على عقول المهاجرين المسلمين خاصة، وأحاسيس الاغتراب والدونية والاضطهاد… هي التي تحرّك "أزمة الهوية"، فتدفع إلى سلوك الانعزال والتقوقع وكراهية الآخر، قبل أن تفضي إلى ذلك الطور الأقصى المتمثل في ارتكاب العمل الإرهابي.
فإذا صحّ، من جانب أوّل، التذكير بأنّ يد الإرهاب عمياء غالباً في ما يخصّ الضحايا، لأنها عشوائيّة في إقامة الموازنة بين الغاية والوسيلة؛ فإنّ من الضروري التذكير، تالياً، بأنّ المنخرطين في مختلف مستويات الإرهاب ليسوا دائماً قتلة محترفين، تخرّجوا من مدارس الجريمة المنظمة. كذلك فإنّ من الحماقة الاتكاء على ذلك التصنيف، العشوائي والأعمى والعنصري، الذي يحشر إرهابيين من طراز الأخوَين الشيشانيين تيمورلنك وجوهر تسارناييف في "نمط" متماثل متشابه جامد وساكن، لأفراد بهم مسّ من جنون متأصل، يجعلهم في حال من البغضاء المطلقة ضدّ الإنسانية جمعاء (كما يوحي أمثال دانييل بايبس مثلاً)؛ أو ضدّ "النموذج الحضاري الغربي" كما توحي الرطانة المألوفة التي تتكاثر وتصطخب في مناسبات كهذه، فيرددها عالم الاجتماع أسوة بالشرطي، وصحافي الحوادث الجنائية مثل نطاسي التحليلات الجيو سياسية!
ولقد شهدت بلاد الشيشان احتلالاً روسياً مارس العقاب الجماعي والقتل والاغتصاب والتمثيل بالجثث وسرقة الأعضاء البشرية، باتساق تامّ بين الرئيس الروسي بوتين، وجنرالات الجيش، ومعظم الأحزاب السياسية؛ وكأنّ السلطات الروسية تقصدت إعادة إنتاج حلقات العنف ذاتها التي حكمت علاقة السلطة المركزية بالشيشان طيلة عقد التسعينيات، وكأنّ المفارقات ما تزال هي ذاتها، أو تكاد. وذاكرة الشيشان لا تفرغ البتة من حروبهم السابقة ضدّ الطغيان منذ القرن السادس عشر في زمن "إيفان الرهيب"، مروراً بالقرن الثامن عشر على يد الجنرال أليكسي يرمولوف الذي كان يتلذذ بحرق القرى الشيشانية، وانتهاء بالقرن العشرين الذي وضعهم على أعتاب قرن جديد من مسار مشابه. روسيا يوتين، وقبله بوريس يلتسين، استنهضت ضدّهم ذئباً عسكرياً كاسراً متعطشاً للدماء، بدت كتائب جوزيف ستالين ألعوبة أطفال أمامه؛ وأمّا في واشنطن، فقد كان صمم الآذان هو ردّ الفعل الأمريكي.
فهل يصحّ طمس مفردات هذا التاريخ الدامي من الذاكرة (الشخصية، ولكن الوطنية أيضاً) للأخوَين تسارناييف، بذريعة أنّ عشر سنوات من الإقامة في الولايات المتحدة، وحيازة الجنسية الأمريكية، وارتياد مدارس راقية… كافية، في ذاتها، لكي ينسلخ المرء نهائياً عن ذلك التاريخ؟ لا أحد، حتى الساعة، يتجاسر على تشخيص الدوافع الحقيقية التي كانت وراء تنفيذ عمل إرهابي في بوسطن، لا في أية بقعة روسية؛ وقد يلفظ الفتى جوهر أنفاسه دون أن تتكشف، أو تُكشف للرأي العام، نوازع هذا الهدف الرياضي تحديداً، بهذه التقنية التفجيرية العجيبة. ولكن، في العودة إلى باطن سياسي واجتماعي أعمق: يد الإرهاب عمياء في كلّ ما يخصّ التمييز بين الغاية والضحية، وبين الوسيلة والجريمة، والمآل والمآل المضادّ المعاكس تماماً؛ ولكنها يد ليست خارج التاريخ، وليست سابحة في سديم مطلق من االتنميطات المسبقة والتصنيفات الجاهزة، وليست منعزلة عن تلك السياقات العميقة ذات الارتباط الوثيق بما يجري على الأرض من وقائع، وما يُصنع من تواريخ، خاصة في ميادين القهر والظلم والغزو والإخضاع.
وهكذا، بصدد ما شهدته بوسطن من إرهاب، ورهاب جَمْعي، وفورة شعبوية هستيرية ساعة إلقاء القبض على الفتى الشيشاني؛ وكذلك بصددالحوافز التي تدفع شيشانياً إلى قتال الأسد في سورية؛ أو قتال الاحتلال الأمريكي في العراق، أو قتال الروس أينما أُتيحت فرصة، أو استهداف قوى الطغيان العظمى كيفما اتفق… ثمة ذلك العبث الأسود الذي وصفه جورج برنارد شو ذات يوم: "أرى بعض ما يجري، فأقول: لماذا؟ وأتخيّل وقوع ما لا يمكن أن يقع، فأقول: ولِمَ لا؟"