من أي جراب أخرج "جهاد النكاح"؟
مشروع القلق من زمن يفتى فيه بأمر كذلك. زمن فاضت طاقة سفهه لتخترق لحاء الحياة الجمعيّة وتلتهم: العقلانيّة، العرف، الآداب، المقننات، من سفه سيكون متاحاً بعده، استخدام كلمة جهاد كبادئة تليها أية كلمة. سفه يهدف وأد جهاد "سميه" بنهج عميق الصلة بما اعتمدت الصهيونية لوأد فلسطين وشعبها. ولطالما تناسل الفساد لينجب من يتجاوز عجز السلف عن فعل الأكثر قبحاً. حصل ذلك على صعيد المافيا بالنسبة لتجارة المخدرات، وعلى صعيد النخب السياسية العربية بالنسبة لمواكبة احتلال أجنبي لبلدانها، ولاحقاً لاستجداء تدخل.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، أنجب ذلك التناسل طفرة أطلقت نخباً شنت حملة لتهشيم الآنية الجامعة؛ سُفهت العروبة ودُنِس الإسلام، حرف مفهوم الوطن والديمقراطية، وشخصن المجتمع المدني ونخست "كلمة سواء"، و"حقوق الإنسان". وكانت الاشتراكية والوحدة والحرية قد علكت قبل ذلك.
ما كان لتونسي مغمور أن يصدر تلك الفتوى لولا توافر بيئة حاضنة. ربما نظر حوله فوجد كل يفتي على هواه، ليس بردع أسباب الفقر والظلم والجهل، بل بتدمير أسباب العيش الآمن والسوي لسكان دول (الصومال، ليبيا، سوريا)، واستئصال المحبة والتسامح من تربة بيئتهم. وحقنها كراهية وغضب.. فأفتى، والحق أن صاحبه أدنى مرتبة في سلم السفه ممن دعم احتلال العراق، ومن أمين عام جامعة عربية، انتهك ميثاقها، وسلم مقعد دولة مؤسسة لائتلاف سبق أن تنكب راضياً بهتان كونه ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعب سوريا. وأدنى أيضاً من مرتبة شيخ أفتى بقتل ثلث سكانها ثمناً لإسقاط نظام، ومن مرتبة رئيس مجلس طالب المجتمع الدولي بتقديم ثمانين مليار دولار لإعادة أعمار سوريا بعد سقوط النظام، وهو يعلم أن هزيمة سوريا بعد تدميرها، ستقدم لشركات الدول التي خاطبها كمانحة محتمله، هبات بمئات المليارات. هو حتى لم يهمس بضرورة حماية ما لم يدمر بعد.
للسياسة العاقلة اقتصادها العاقل، خصوصاً في الحروب. ما هو اقتصاد سياسة المجلس؟
أ بلاد مدمرة وضمائر محروقة.. واستجداء شركات؟!!
أليس هذا هو الوجه الآخر لفتوى جهاد النكاح؟!!
سفه لم يشهد التاريخ العربي الإسلامي مثيلاً لقبحه!!
سفه يستثمر المأساة السورية، لفتح نفق يصل شعوب المنطقة (عرب، كرد، ترك، فرس) ببوابة عصر انحطاط جديد.
غداً أو بعد غد، قد تقصف أحياء مدن بتفسير لجهاد النكاح، أو بإفتاء جديد. من قادر أن يردع ذلك الاحتمال البغيض؟؟
ثمة من نَقَبَ سد مأرب، وغبي من يعتقد أن أحياء القاهرة وتونس وجاكارتا وبغداد وأنقرة ستكون محصنة من آثار الانهيار لاحقاً.
نقتبس من مقال نشر في القدس العربي (11-4-2011): "إذ يفترض أن لكل أمة محمية تضم جدرانها ما يحمي وجودها وهويتها وقدرتها على إنتاج حضارتها، لا يسمح لأحد كائناً من كان باللعب عليها أو باستخدامها في السياسة أو في غيرها، فإن الواقع العربي المعاصر يفتقد حضورها. ولإن كانت ثورتا شباب تونس ومصر قد تلمستا ضرورة بناء تلك المحمية، فإن القوى المضادة جعلت من الصراع حول قيامتها هو الرئيس".
سبق لقوى مضادة أن نزعت صورة لشهيدة شابة غير محجبة من على لوحة ضمت صور شهداء ميدان التحرير، وبعد سنتين من تاريخ المقال أعلاه، قدم "جهاد النكاح".
عندما يسمح أحدهم بتمرير جرعة صغيرة من سفه أخلاقي لتحقيق مكسب سياسي أو اقتصادي ما، ويسكت المجتمع عن ذلك (لا يردع). تفقد البيئة قوة ردعها لتمرير جرعة أخرى مماثلة، بل وينمو التحريض على تمريرها. وجرعة إثر جرعة يتلاشى ردع المجتمع.. ليستيقظ صباح يوم على نبأ انهيار السد.. ربما هكذا انهار سد مأرب!!
مفيد في زمن السفه تذكر ووعي سبب إصرار الآباء والأمهات، على ترديد: "اللهم ثبت علينا العقل والدين". بسملة رددها الأجداد قبلهم. ونبه الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله، إلى ما يهدد جناحيها (العقل والدين) ببالغ الضرر. وحذر من أن اللعب على الأسس لغاية الربح، قد يدمر الدين والوطن.
جاء في مقال نشرته المرصد، دورية جمعية حقوق الإنسان في سوريا بتاريخ (6 أيار 2006) ما يلي: "ما جرى و يجري اليوم في العراق وفلسطين وأفغانستان من مجازر تشبه وتزيد بشاعة تلك الفيتنامية، حيث يمارس صيد البشر كما الأرانب والبط. نهبت متاحف العراق وتاريخ فلسطين وشيدت متاحف للجريمة: اسحاقي، قانا، جنين، فلوجة، حديثة.. الخ. إذا أضفنا لما سبق التعذيب المنهجي لآلاف المعتقلين في أفغانستان وفلسطين والعراق، والاختطاف وقطع الرؤوس واستهداف التفجيرات للتجمعات المدنية والأماكن التي تحوز على قداسة، سنتوصل وببساطة إلى أن ما يحدث هو هجوم جبهي ومباشر على العقل في هذه المنطقة من العالم. فهل الهدف هو تدميره، وتحويل سكانها إلى معتوهين يفتكون بعضهم بالبعض؟! وهل ذلك تمهيد لاتهامهم لاحقاً بأنهم خطر على الجنس البشري؟"
نخلص للقول: جاء"نكاح الجهاد" من بيئة صنعتها وحمتها نخب هدفت ولقرون تخليف العقل الفردي والجمعي العربي والإسلامي. نخب فضلت التحالف مع قوى خارجية في كل مرة كادت المجتمعات تنجح بإنتاج بيئة نظيفة، وغدا فريق منها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، خادماً لا رأي له. وتحت الطلب بذل ويبذل جهوداً ضارية لتحويل من يجندون من العرب والمسلمين للحرب على سوريا، إلى صناع للعته الفكري والنفسي لشعوب المنطقة. ربما تمهيداً لتوجيه اتهام استشفه المقال المنشور في (6 أيار 2006). ما من قوة فاعلة لمنع نمو ذلك الاحتمال سوى أن تنتصر سوريا ببنيها وبناتها (مستقلين سلطة معارضة) على قوى ظلام فكري وسياسي لا يرف جفنها إذا اقتلعت طفلة من خيمة في "الزعتري"، كي تدمر إنسانيتها.
هل يتذكر من في الفنادق الفخمة "من يجلس على أريكته ثم يقول اهجموا..لا تفاوضوا"(1)، قصيدة القدس لمظفر النواب.
آن الأوان ليتوحد السوريون تحت راية سوريا التي كانت حتى الأمس القريب أما لكل العرب وحضنا دافئا لكل ابن آدم.
آن الأوان ليوجه السوريون طاقاتهم ضد العنف بكل أشكاله، وألوان راياته لصرخة تملأ فضاء وبر وبحر سوريا.. لا للعنف.
آن الأوان لصاغة الأبجدية، لأحفاد المعري وسيف الدولة والزنكي، أن يهبوا لإنقاذ منطقتهم وشعوبها من عصر انحطاط جديد.
الهامش
(1) القول للشيخ معاذ الخطيب.