"أن ترى شخصا عادياً يمشي بالقرب منك شيء يجعلك تشعر بأنك ما زلت حياً، وأن هناك بشر حولك يمشون ويأكلون ويعيشون حياتهم بشكل مختلف عما تحياه في استعارة موازية للموت تقترب منه وتكاد تتجاوزه ".
هذه إحدى أكثر العبارات التي أثرت بي في رواية "روزنامة السجين" لراتب شعبو. وقد تسنى لي الحصول على نسخة إلكترونيّة منها، وهي سيرة ذاتيّة وشهادة شخصيّة لتجربة الكاتب عن المُعتقل.
تكثر المشاهد الصعبة والقاسية على مسار النص، متواترة ومتوترة، وتلاحقكَ كقارئ. تبدأ هذه الملاحقة من حفلاتِ التعذيبِ المريرة بين فروعِ التحقيق التي يمر عليها الكاتب-السجين عبر ستة َعشرَ عاماً من عمره. إذ تم اعتقاله قبل أن يتم سنتهُ الثانية في كلية الطب البشري بجامعة دمشق.
سيرةُ سورية، هي سيرةُ قهرٍ وإذلالٍ بإمعان تم تطبيقها بدأبٍ منقطعِ النظير، لتسحقَ آخر ذرة قيمة في نفسية السجين-المعارض.
تحضرُ الذكريات كعالمٍ موازي يغذي الخيال، الذي يبدو أنه أقربُ صديقٍ للسجين في سجنٍ كتدمر مثلاً، تدمر التي يغدو فيها التعذيب الشاذ غير المرهون بوقت أو سبب، بل بكل العبثية التابعة لمزاجيّة السجانيين والمسؤولين عن الزنازين.
تم توزيع الرواية على مراحل زمنية تبدأ منذ أول محاولة اعتقال للكاتب وهو في الخامسة عشرة، إلى الاعتقال الثاني الطويل والذي احتل مساحة باقي الرواية من الشيخ حسن، إلى فرع الميسات، وعدرا، وتدمر.. الخ.
يطلق الكاتب على بعض مقاطع روايته أسماء شخصيات من المعتقل، وفي أماكن أخرى يسمي المقاطع بأسماء الأماكن. تفاوتت قوة هذه المقاطع وتميزها تبعاً لمستوى الحكاية، وربما عمقها وتأثيرها في نفسيّة الكاتب، فهنا مقاطع شخصية شفافة ورقيقة، كقصة ِالحب الغريبة التي نشأت بينهُ وبين أختِ أحدِ المعتقلين، عبر زياراتٍ خاطقةٍ وسريعة، وعبرَ إشاراتٍ شفافة خانقة؛ كأن تكتب له تلك الفتاة الجميلة الرقيقة "بحبك" على إحدى بتلات وردةٍ حمراء تركتها له في إحدى الزيارت. وهنا مقطع آخر، يتحدث فيه عن أبو فهد السجين السياسي الذي سيُصاب بالجنون، بعد عجزه عن الاستسلام لفكرة السجن، فيتم الإفراج عنه لاحقاً بعد أن يصدقوا جنونهُ وفصامهُ، وكذلك يتم الإفراج عن الطفل الذي اعتقلوه عشر سنوات بتهم توزيع منشاير في مدرسة.
تبدو تدمُر العلامة الفارقة بروح وذاكرة كل سجين سوري دخل ذاك المكان وخرج حياً بشخصية وذاكرة لا تمت بصلة لما كانته قبل الدخول لمملكة الجنون والموت. أما عمن لم يخرج منها فذاك شأن آخر متروك لزمنٍ قد يأتي، ويصبح تأريخ حيوات من قضوا خلف تلك الحجارة الصماء، ودفنوا في الرمل المحيط بها، واجباً إنسانياً وأخلاقياً.
تمتد مشاهد الإهانة والتعذيب والسحق النفسي المنفلت من أي عقال أو ضوابط أخلاقية لتصيب الجميع دون مناسبة. هذا "الوعر" وهو لقب أطلقه السجناء كناية عن اسم أحد السجانين الذي يهين السجناء بزوجاتهم وأمهاتهم وأخواتهم. "شو لون كس أمك ولا!؟" يسأل الوعر ذاك؟ يقول الكاتب: "اعتدنا على سؤاله وعلى ألوانه المفضلة حتى أنه صار بسؤاله يستبدل كلمة "أمك" بالضمير فيقول ببساطة "شو لون كسها؟" ذات يوم هبط الوعر فجأة على الشراقة في إحدى المناوبات، وبادر الليلي (مناوب الحراسة اليومية) ببروده المعتاد:
- شو لون كسها ولا؟
- لون كس مرتك أحمر ما هيك يا عرصة!؟
في ذاك الجحيم التدمري. يغدو رهان الحفاظ على التوازن الداخلي هو الأهم وسط هول مواجهة الموت في أي لحظة. يتسائل الكاتب عن ماهيّة بصمة السجن، وفعله في نفسه وفي نفوس الآخرين: "في حالتي يمكنني أن أقول أن معنى السجن تكثف ذات يوم في لحظة حارقة اخترقتني وكوتني وقهرت ذاتي واستعمرتني حينها رغبة عميقة بالبكاء. لو كنت وحيداً، بعيداً عن العيون لبكيت من أعماقي". وفي مقطع آخر يقول: "عالم غريب، كأنني فوجئت بهذا العالم بعد حوالي شهرين من عيشي فيه، وأدركت بحرقة أن هذا هو عالمي الجديد، وأن هذه هي حياتي الجديدة. وبدأت فيما يبدو آليات استسلامي لواقع أنني "سجين"، ومع تقدم سير استسلامي بدأ ضيقي يتراجع. كمن كاد يختنق من لقمة كبيرة تمر في بلعومه وراح شعوره بالاختناق يتراجع مع تحدر اللقمة. يزول الشعور بالاختناق بعد أن تستقر اللقمة في المعدة. وأن ضيقي زال شيئاً فشيئاً واستقر السجن في مكان عميق داخلي، استقر ولن يغادر. لا هو قابل للهضم ولا يمكن لفظه".
يبدو الزمن في الرواية أيضاً عنصراً مادياً مهيمناً في عالم السجين والسجن، بل يبدو هو الشيء الأكثر رسوخاً في موازاة لرسوخ المعتقل المادي أي القضبان والجدران، حيث السجناء رهائن فراغ مغلق وزمن مديد كتيم يبدو بلا نهاية. ويبدو من سياق رواية "روزنامة المسجون" بأن القراءة حسب ما توفر من مواد وكتب كانت أهم وسيلة لدرء العفن الروحي والجسدي.
محاولة راتب شعبو لتأريخ تجربته في السجن سبقه إليها كتاب كثيرون من سوريا، مثل حسيبة عبد الرحمن في روايتها "الشرنقة"، حيث أرخت لتجربة معتقلات حزب العمل الشيوعي في سجن النساء في دوما، وعن تجربة الاعتقال والتخفي وكذلك كانت "قوقعة" مصطفى خليفة التي رصدت تجربة تدمر بلغة واقعية قاسية، لا ترحم القارئ بل تجرهُ من عنقه لتقول له حدق جيدًا هنا كنا وهناك متنا ألف مرة. وكذلك كتاب آرام كربيت "رحلة إلى المجهول" و"بالخلاص يا شباب" لياسين الحاج صالح و"خيانات اللغة والصمت" لفرج بيرقدار. وغيرهم كثر.. ضمن هذا السياق أيضاً تنضوي رواية راتب شعبو من باب التأريخ الحقيقي لتجربة مريرة من تاريخ سوريا الحديث المرتبط بحكم الأسد الأب. تجربةٌ أُريد لها التغييب والإقصاء بغرض النسيان، والتناسي، فتأتي مثل هكذا أعمال لتهزنا وتسمعنا تلك الأصوات الرهيبة، من صراخ المعتقلين، بكاء الأمهات المخنوق، رغبات السجناء المسحوقة خلف تلك الجدران العنيدة، قصص الحب، الموت، الفراق، الانهيار تحت التعذيب.. عوالم كاملة كانت تجري حولنا وبأثمان هائلة من حيوات المعتقلين وعائلاتهم.
يذكرُ الكاتب أسماء أصدقائه الحقيقية فيضفي بذلك لمسة حميمية ودفء تعكس عمق علاقته وارتباطه بالكثير من الرفاق: آرام، بكر، ياسين، جلال.. أشخاص من لحم ودم بكل الشغف بالحياة تقاسموا لحظات مريرة وفارقة من تلك التجربة القاسية.
شهادة حية من ضمير وفي وصادق تأتي في زمن فارق من حياة كل سوري، زمن المطالبة بإسقاط النظام. مثل هذه الرواية ومثيلاتها من روايات أدب السجون تقدم أداة ضرورية لمن لا يزال موهوماً بأضاليل النظام الممتدة لزمن احتلاله لحياة وأرواح السوريين. رواية لتمزيق القناع وقول شيء في حق البشر بالعيش أحرار وكما يريدون.
عشرات السنين ذهبت هباء من حياة راتب ورفاقه، فمن يعيد لأولئك ما فقدوه؟ من يعيدُ الأموات من موتهم؟ من يخرج السجن من أرواحِ أولئك البشر؟
الجدير بالذكر أن رواية راتب شعبو فازت مؤخرا ًبـ"جائزة دمشق لأدب اليوميات".
راتب شعبو: طبيب سوري من مواليد 1963، اللاذقية، اعتقل سنة 1983 لانتمائه لتنظيم يساري معارض، وأفرج عنه سنة 1999.