برحيل محمد الصباغ، عصر الثلاثاء تاسع أبريل 2013، فقد المغرب أحد كبار شعرائه وكتابه في العصر الحديث. ارتبط اسمه بإبداع شعري استغرق عقوداً، واغتنى بإضافات أسهمت في نقل الممارسة الشعرية المغربية من التقليدية ومراعاة القوالب العتيقة، إلى فعل خيال خلاق أكثر انفتاحاً على العصر، وأكثر وعياً بضرورة استثمار الموروث الشعري واللغوي، في آن.
وتميزت تجربة محمد الصباغ بانطلاقتها القوية خارج التصنيف الذي كان لا يجد الشعر إلا في القصيدة. فاقترح في مجموعته الشعرية "شجرة النار" (1954) طريقة وجدت في الترجمة إلى اللغة الإسبانية أولاً، وقبل صدورها بالعربية، صوتها الأقوى: نصاً شعريا متفرداً، في الأسلوب، والرؤية، والتطلعات. وهكذا كان الصباغ رائداً في قصيدة النثر التي كانت تبني للمغرب حواراً ثقافياً وشعرياً متميزاً مع الشعر الإنساني. وعقد صلات وطيدة مع التجربة الشعرية الإسبانية، خصوصاً جيل 27 (ألكسندري، ولوركا، ونيرودا، وغيرهم... ).
كما ارتبط بعدد من رموز الرومانسية العربية (الرابطة القلمية، والعصبة الأندلسية)، أمثال: ميخائيل نعيمة، وبولس سلامة، وسعيد عقل، ورياض معلوف...
وقد كان محمد الصباغ، خلال مساره الإبداعي الطويل الغني، أحد روّاد الثقافة الحديثة في المغرب، أسهم في تأسيس اتحاد كتاب المغرب، وتولى مسؤولية تحرير عدد من المجلات الأدبية والثقافية. كما نيطت به مسؤوليات مختلفة في وزارة الثقافة.
ومن عناوين دواوينه وكتبه الغزيرة، نذكر: فوارة الظمأ، عنقود ندى، شلال الأسود، كالرسم بالوهم، العلال، شجرة محار، اللهاث الجريح، تطوان تحكي، أنا والقمر، عندلة...
وهو من القلائل الذين توجوا بجائزة المغرب للكتاب أكثر من مرة: في سنة 1970 عن " نقطة نظام"، وفي سنة 1986 عن" أطالب بدم الكلمة"، وفي سنة 2005 عن " الطفولة الستون".
ومن اللحظات الدالة في ثقافة المغرب الحديث هذا الاعتراف المبكر من المشرق العربي بمبدع مغربي جاء على لسان الأديب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة، حين قدم كتاب محمد الصباغ " اللهاث الجريح" (1955)، معتبراً أن الصباغ من ألمع رجالات النهضة الأدبية في المغرب العربي، "فهو كاتب تتفجر عواطفه وأفكاره من شق قلمه عنيفة، صاخبة، ولذلك تراه يتنكّب العادي والمألوف من قوالب البيان. إذا نظم فبغير وزن وقافية كما تشهد مجموعته الشعرية المترجمة إلى الإسبانية "شجرة النار" وإذا نثر كسا مفرداته وعباراته حللا من الألوان بين زاهية وقاتمة، ثم أطلقها تدرج على أوتار تعددت مفاتيحها وتنوعت قراراتها".
وجدير بالذكر أن بيت الشعر في المغرب زار الكاتب الكبير محمد الصباغ، في رحلة مرضه الأخيرة، في إحدى مصحات الرباط، واتّصل مبلغاً حالته الحرجة لمسؤولين في وزارة الثقافة، ثم لجهات عليا، ممّا أسفر عن إحاطة الكاتب الراحل بالرعاية الملكية السامية.
وإن بيت الشعر في المغرب، إذ ينعي شاعراً كبيراً كان قد أقام له أمسية متميزة ضمن أمسيات الشاعر المغربي في شهر أبريل 2002، في الدار البيضاء؛ فإنه يفقد فيه صورة مثقف حديث، جعل من ممارسته عملاً دؤوباً على اللغة من أجل استثمار إمكاناتها الإيقاعية والفنية وجرس كلماتها المتجهة إلى فعل الخيال وتأثيره في فكر الإنسان وحياته، وإلى قيم الحوار ونداء الجمال في الشعر وفي اللغة مسكن الكائن.