أما قبل:
إن العودة للفكر الأسطوري لا يعني إطلاقا دعوة ضد الفكر والعلم وإنما نريد استرداد شيء ثمين قد فقدناه كما لا يعني كذلك اعتبار الشعوب البدائية أدنى مرتبة من التفكير العلمي بل جعل الأسطوري في بعده الميثولوجي يتغذى من التاريخي لينظم سلوك المجتمعات ويوحدها ضمن نسق عام وكوني مرتدية اللبوس الشعري وتوظيفه في نمذجة الأحداث والأشياء وإقصاء ومحاصرة الإغراء والشهواني من المعيش المؤسطر بالتقني والمعرفي الصناعي والعمل بالذاكرة التاريخية الفاضحة لفعل هوس الاسطري في اليومي.
أما بعد
أروم في هذه المساهمة حول الأسطوري وأسطرة اليومي أن أبسط القول في قضايا المعيش اليومي الذي أصبح موسوما بالاسطري من خلال الخطابات المستهلكة في عالمنا المعاصر هاجسا لا محيد عنه من قبل الفرد وتتدفق عليه الأساطير من كل صوب وحدب ولا يدري وقعها الكبير في تنميط اليومي وجعله في خدمة إيديولوجيا التقنية. سأتناول في البداية تعريف الأسطورة في الموروث الشعبي والأسطورة باعتبارها نظام اتصال ونسقا سيميائيا. وسأحاول تعريفها من حيث الشكل والمفهوم وإبراز دورها في المخيال اليومي وأسطرة الخطابات والسلوكات المعرفية وتنميطها وجعل الأسطورة بهذا الأسلوب كاستهلاك يومي مزيف لا واقعي.
1- تعريف الأسطورة في الموروث الشائع:
توظف كلمة الأسطورة في الاستعمال اليومي في مواضيع شتى ومستويات لغوية مختلفة وبقيم وتضمينات متغيرة بتغير السياق السوسيو- ثقافي. فالمعنى المتداول بين الكتاب والمؤرخين وحتى علماء الاجتماع هو قصة خرافية تجسد فيها كائنات على درجات متنوعة بعض تراكيب المخيلة الشعبية، وذلك ضمن شكل رمزي تحاكيه وتقلده قوى الطبيعة التي تبدو عبر تاريخ البشرية مخيفة أو أنها فوق بشرية ميتا فيزيقية. ولذلك تجد أساطير وثنية مشركة تسود حتى الأديان السماوية الموحدة كما أن هناك أساطير تمسخ الأشكال فتقوم بتصوير أشخاص حقيقيين فتبالغ فيها المخيلة الجماعية كأسطورة شخصيات تاريخية كانت ذات دهاء سياسي أو نضالي في المقاومة والقتال(1). في بعض الحكايات والخرافات يكون الوصف لمظاهر الوضع البشري بشكل شاعري وبلاغي مما يستلهم قريحة الشعراء والمبدعين الروائيين والقصاصين أو حتى المسرحيين مترجمة الحالات الوجدانية والوجودية للإنسان مثل الحب والموت والهرم والفقر والغنى...مسبوكة في بناء لغوي رفيع تكون الأسطورة خرافة شعرية تعبر بطريقة رمزية عن نظرية فلسفية أو مذهب ديني كأسطورة "أهل الكهف" المنصوص عليها في القرآن وأسطورة "الفردوس الأرضي" المذكورة في التوراة. ومن المظاهر الشكلية في بناء الأسطورة الخطابي نجدها مورفولوجياً تتشكل من عنصرين بارزين هما: التصور والخيال، تصور الحالات المتناقضة والمتعايشة في التاريخ الماضي للبشرية وتخيل يوطوبي لحالات الغد البشري ويعتبر تاريخ الفلسفة حافلا من حيث مبحثين أساسيين هما نظريتي الشر والخير وصراعهما في التاريخ الإنساني.
ونظرا لعدم فهم الأبعاد المعنوية للأسطورة بتعبير كلود ليفي شتراوس وانتشار الوعي العلمي المادي في الحضارة المعاصرة قد افقد الأبعاد الرمزية للأسطورة في حضارات مجيدة وعميقة ساهمت في بناء شخوص البشرية، وهذا ما تنبهت له الانثروبولوجيا البنيوية في تفسير بنية الخطاب الأسطوري في استعادة الأشياء التي يبدو أن العلم في حاجة ماسة إليها اليوم فهي ساهمت وتساهم في الإبداعات عبر تاريخ الإنسانية(2). ما نسمعه أو نقراه في الصحافة قد يترجم هذه الحالات في الأوضاع الاجتماعية والثقافية وتصبح الأسطورة في المحكي اليومي كأنها ملتصقة بواقع خاص دون غيره وأنها تكتسب دلالتها منفردة عن الكلي والعام فتراها لدى البعض مجرة " أكاذيب " لغاية في نفس يعقوب تخدم الأبعاد الإيديولوجية فيصير معناها فوق المدلولات التقليدية التي أنتجتها.
2- الأسطورة باعتبارها نظام اتصال:
الأسطورة كلام ولكن ليس كل كلام، الأسطورة لا يمكن أن تكون موضوعا أو مفهوما أو فكرة إنها صيغة دلالية وشكل، فبإمكان كل شيء نستطيع إخضاعه للخطاب أن يكون أسطورة، إن الأسطورة نسق من أنساق التواصل، رسالة لا تتحدد عبر موضوع رسالتها وإنما عبر الطريقة التي تنطقه بها، ثمة حدود شكلية للأسطورة، إن التاريخ البشري هو الذي ينقل الواقعي إلى حالة المحكي بالكلام وهو الذي ينظم وحده حياة اللغة الأسطورية وموتها، ولا يمكن للميثولوجيا- علم الأسطورة - أكانت بعيدة أم لا إلا أن تمتلك أساسا تاريخيا، ذلك أن الأسطورة كلام ينتفيه التاريخ ولا يمكن أن ينبثق من طبيعة الأشياء. فالكلام رسالة سيميائية ومن ثم فبإمكانها أن تكون شيئا غير شفوي منطوق وإنما أيضا قد تتشكل من كتابات أو تمثيلات: الخطاب المكتوب، التصوير الفوتوغرافي، السينما، والكاريكاتور والموضة واللباس والاهتمام بالذات... وهكذا في الاستعاري الأسطوري نجد أن الخطاطة تتحمل الدلالة اكثر مما يتحملها الرسم، وتتحملها المحاكاة أكثر من الأصل، والكاريكاتور اكثر من الصورة. إن الصورة اكثر إلزاما من الكتابة بالتأكيد وتفرض الدلالة مرة دون تحليلها ودون تشتيتها، فالصورة تصبح كتابة حالما تكون دالة وهكذا فان اللغة والكلام والخطاب هو كل وحدة أو تأليف دلالي أكان لفظيا أم بصريا.
3- الأسطورة باعتبارها نسقا سيميائيا:
إن الأسطورة جزء من السيميائيات، فكما يقول بارث Roland Barth "إن السيميائيات هي علم للأشكال موضوعه العلامات مستقلة عن ما تحمله من مضامين"(3) بعبارة أخرى يتقابل الشكلي التاريخي بالسيميائي الإيديولوجي، فالأسطورة تنتمي في آن معا إلى السيمياء باعتباره علما شكليا والى الإيديولوجيا باعتبارها علما تاريخيا، فالأسطورة موضوعها الأفكار في صيغة أشكال. من هذا المنطلق كان رولان بارث يركز على أن كل سيمياء تفترض علاقة بين حدين، دال ومدلول وترتكز هذه العلاقة على موضوعات من أنظمة مختلفة، فاللغة المشتركة تكتفي بالقول بأن الدال يعبر عن المدلول، أما بالنسبة للنسق السيميائي فهو العلامة كما يقول رولان بارث "الدال فارغ بينما العلامة مليئة" وهكذا ثمة علاقات تضمنية بين الدال والمدلول والعلامة فهي علاقات وظيفية تربط الجزء بالكل من هنا تميزت دراسة الأسطورة بكونها أخطوطة سيميائية شكلية. ثمة تناول مختلف لهذا الشكلي الصرف لحدود الدال والمدلول والعلامة تناولا يختلف باختلاف المرجعيات العلمية فالدال عند سوسير هو صورة سمعية- نفسية، والمدلول هو مفهوم وأما العلامة فهي العلاقة بين الدال والمدلول وتتمثل في الكلمة مثلا. ولدى س. فرويد الدال هو المعنى الظاهر للسلوك والمدلول معناه الباطن أو معناه الخاص وأما العلامة فهي الحلم في كليته أو الفعل الفاشل أو العصاب... بالنسبة لجان .ب. سارتر فالدال هو الأدب باعتباره خطابا والمدلول هو الأزمة الأصلية للذات وأما الدليل فهو ذلك العمل الإبداعي بدلالة خطابه الأدبي والفني. السيميائيات إذن لا تعرف بهذا المعنى إلا قراءة واحدة هي فك الترميز أما الميثولوجيا نسق سيميائي من الدرجة الثانية. فما هو دليل يصبح مجرد دال ضمن النسق الثاني وتختزل في مجرد وظيفة دالة، إن الأسطورة لا ترى سوى جمع بين العلامات (علامة شاملة) الحد الختامي سلسلة سيميائية أولى (نسق سيميائي أول) هذا حد جزئي من النسق الموسع كما يلي:
اللغة الموضوع: (دال + مدلول) = لسان
الميتالغة: (علامة (دال1) + مدلول) + دليل = أسطورة
ففي الكلام الأسطوري حسب بارث نسق سيميائي خاص، فهو نسق موسع ما دام يشمل اللسان حقا. فالدال في مستوى نسق اللسان يعتبر حدا أخيرا، أما في مستوى الأسطورة حدا أولا وبارث يطلق عليه الشكل وهناك ترابط بين الحدين الأولين، العلامة في النسق اللساني والدال في الأسطورة قد تشكل من علامات اللسان لذلك يسمي بارث حد الأسطورة الثالث للدلالة.
4- في الشكل والمفهوم:
فالعلاقة في النسق الأول شكل فارغ، إلا انه نسق للدلالة فإن بنيت دلالة ما قد يكون بإمكانها الاكتفاء بذاتها إلى حد بعيد ولم تمسك بها الأسطورة والمعنى هنا يفترض معرفة وذاكرة وماض كما يفترض نظاما مقارنا من الأحداث والأفكار والقرارات إلا أن المعنى يبعد عما سيصبح شكلا في الأسطورة يفرغ نفسه ويفقرها ويتبخر التاريخ ولا يبقى إلا الحرف هناك تراجع غير عادي من المعنى إلى الشكل من العلامة اللسانية إلى الدال الأسطوري. فالشكل يبعد كل ما يحتويه المعنى من نسق كامل للقيم تاريخ وجغرافيا واجتماع وأدب وفن ... وهكذا فان فقرها الجديد يستدعي دلالة ما لملئها فالشكل لا يلغي المعنى بل يبعده ويجعله رهن إشارته، إن لعبة الاختباء هذه بين المعنى والشكل هي التي تحدد الأسطورة.
5- المخيال اليومي وأسطرة الخطابات:
يذهب الفيلسوف الألماني هايدغر في فلسفته إلى كون الإنجازات العلمية والسياسية قد أحدثت ضوضاء إعلاميا عتم فعل التفلسف بين الكائن والوجود في مرحلة تميزت بالتوظيف الإيديولوجي لاهتمامات الإنسان، ويبدو أن درس هايدغر الفلسفي يقوم على الاعتقاد في إعادة ترتيب أمور الحياة والفكر وفق الكينونة حتى تكتمل، وذلك ببلورة القدرة على النفاذ إلى الأصل والانشغال الكامل بالمشاركة في إنتاج التنوع من خلال تجاوز الوجود التاريخي لمعانقة "الدزاين" وعمارته، وهذا لن يتأتى في نظره إلا باعتماد عقلانية ذاتوية تحترم حق الاختلاف والتمايز بدل الشعور بإيديولوجيا الوحدة لأنها تهديد للكينونة وهذا ما يجعل الحياة محصورة داخل الحضارة التقنية، ونتيجة لذلك فان العودة للخفي بإجلاء المظاهر اليومية يضفي على الكينونة طابعا منيرا للاختلاف، وحتى يتم القبض على تلابيب الذانوية يحرص هيدغر إلى العودة إلى البدائية الخلاقة، ذلك الارتباط البدائي بالأسطورة كما بالشعر نستمد لغتنا منها وأما التناسق العام فيجب أن يظل بعيدا عن أية خلفية أو تأثيرات وسائطية تشوه الكينونة الحقيقية.(4)
فما يبدو بدائيا يعتبر في الانثروبولوجيا شفاهيا "بدون كتابة" كما لدى "العشيرة الطوطمية" في ظروف قاسية أظهرت تلك الشعوب قدرتها العظيمة فتحركت بدافع الحاجة أو الرغبة في فهم العالم المحيط بها، في فهم طبيعته وفهم مجتمعهم كذلك، ولتحيق هذه الغاية تقدمت تلك الشعوب عبر وسائل فكرية عقلانية صرفة، كما ينبغي أن يفعل الفيلسوف أو العالم في حدود ما.(5) فللأسطورة نصيب كبير من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية اشد للسيطرة على الطبيعة مما يمنحه القدرة على فهم الكون. إن تاريخ الحضارة البشرية منذ البدء هو تناسل وتشاكل لأنواع الخطابات وطبقات رسوبية يصعب سبر أغوارها إلا بالعودة بالمحكي الأسطوري إلى طبقاته الدنيا العميقة.
وللخطاب الأدبي بأجناسه المختلفة خير شاهد أليس "منذ البدء كانت الكلمة"؟ في اللغة وبها استطاع الإنسان منذ الخلق أن يكتشف نقطة الإقلاع. وباللغة والأسطورة والموسيقى انطلقت البداية إلى اتجاهات مختلفة، فتفرقت بين المعنى والصوت وأصبحت نظرية الأنواع الأدبية المنشطرة بين الملهاة والمأساة المعتمدة على الموروث الأسطوري تنقسم إلى أبعاد زمنية تحددت عبر التاريخ بما يسمى لدى الفلاسفة اليونان بنظرية النوع أو المقولات الثلاث للشعر "المسرحية، الحكاية، الأغنية" التي اعتمدتها الفلسفة اليونانية إذ كان على الشاعر أن في عملية التطهير أن يعمل بطريقة المحاكاة على إظهار عيوب الآلهة والأبطال الأسطوريين وذلك سردا أو إيماء في المسرح، فمماثلة الأحداث الأسطورية عبر المحاكاة والتقليد لتلك المخلوقات البشرية المتفوقة على الناس العاديين وما بين الملحمة والملهاة محاكاة لأسطورة "الفرس" وأسطورة "أوديب الملك"(6).
فكما أن الواقع الوجودي ينحصر بين الكوميدي والدرامي فان الخطابات ترجمت هذا الدور في التقليد اليومي إلى الآن. بواسطة أنماط خطابية متطورة نتجت بفعل التقدم التكنولوجي للحضارة المعاصرة كالخطاب السينمائي والخطاب الاشهاري والخطاب الإعلامي والخطاب الإلكتروني.
وعلى الرغم من الادعاء بطغيان المادية حتى في الطبيعة الإنسانية، يعيش إنسان اليوم، مكتنف بالأسرار، ويبقى دينيا في لا وعيه حسبما يؤكد يونغ(7). كما يتعاطى مع محيطه وأشيائه من خلال منظور ذاتي عاطفي وذوقي جمالي ينأى غالبا عن العقلانية والتجرد عن الأنا وينبغي مع ذلك أن يتسلح ويتهيأ للحوار مع الرمز والأسطورة والخرافة،(8) محاولا كشف المضامين الكامنة وراء أسطرة اليومي الحافل بالمرموز الحيوي، ومجرد الكشف عن أنظمة الخطابات المعاصرة التي تزاحمنا في المعيش اليومي سيظهر بجلاء حالة الرموز المتصلة بنشوء الكون والإنسان وبعمليات الخلق والفساد والسيرورة العالمية في مختلف العوالم الممكنة، فالأسطورة الهندية القديمة تحكي لنا عن كون "العالم كله في حبة الفول" هذا العالم الرمزي القائم الذات ثابتا مستقلا في كماليته، كالبيضة الكونية، والرحم والتوأمين، والكائن الخنثاوي الأصلي وآدم وحواء والإنسان وايروس الحب وإيزيس وقرن الثور.
الأسطوري بمعناه الميثولوجي التاريخي يدخل حياة الشعوب وينظمها ضمن نسق معرفي سلوكي موحد، فيصبح للأسطوري مثوى في اليومي يرقد وينام ويموت تحت رمزياته المجلوبة. كذلك تفعل الاسطرة الحديثة التي ترد القول اليومي إلى اغترابه القديم، لكن ثمة تحول للأسطوري/ الشعري إلى نمذجة للإغراء والشهوانية، في ظل أساطير السوق المروجة بالتصنيع الإعلامي التي تكرر الذاكرة التاريخية عبر الرموز فتختصرها وتكثفها وتجيزها وتعمل على نقل الأفعال من "الآني" إلى "القديم" الباقي بديمومة وجوده المتفاعل مع "المطلق الزمني"، فبالاسطري – النمذجي ننتقل من المعيش الذاتي إلى المعيش الجمعي. فإذا كانت الأسطورة قديما تهتم بالرؤى القدسية لتفسير العالم الإلهي لاكتشافه وإدراكه فان الاسطري اليومي المنبثق عن العالم المتحضر تبغي اكتشاف الإنسان وتفسيره وإدراك أبعاده.
6- الأسطورة كاستهلاك يومي:
يعج المعيش اليومي بخطابات شتى تحمل الأحداث ولكنها تستهلك بشكل بريء لا يرى فيها المتلقي ذلك النسق السيميائي بل يعتبر أن الدلالة نسقا من الوقائع تحول المعنى إلى شكل وان الصيغة الصفر هي الدلالة تتحول بدورها إلى فعل من الأوامر والتقييدات، فتعاقب الأسطورة للمعنى هو إرادتها للاستحواذ عليه، وما إن يتعذر عليها شغره، تجعل من المعنى الثبات كي تريد السيطرة عليه بغية أن تطال كل شيء وتفسد كل شيء، وهكذا يصبح لمعنى اليومي صراع مديد وطويل مع الاسطري لا ينفصل أو ينقطع بل يستمر بأشكال متنوعة.
في الميثولوجيات ركز رولان بارث على بلاغة الصورة في الخطاب الاشهاري وفي السينما وعلى الحضور القوي للإعلام والصحافة في تنميط الشخصية في المجتمع البورجوازي الاستهلاكي والذي يراد به بفعل الأسطورة المساهمة في صنع العالم لكنها تعتبر من الثابت في إنسان المجتمعات البورجوازية الانغمار في كل حين ولحظة في الطبائع الزائفة والساذجة وعلى الاستلاب العميق كما تريد هي أن توافقه وتصنعه، عمل الأسطورة بهذا المعنى ملتبس، فعرض طواف رياضي للدراجات الهوائية أو سباق للسيارات أو التزحلق مثلا أو إشهار خمور جيدة إنما يجعل من الميثولوجي الصانع للأسطورة التجرد والانسلال وترك الفعل للمتسلين وللذين في حاجة إلى دفئ، علاقته بالعالم الجمعي علاقة تهكمية لأنه يعلم أن حقائق الغد هي أكاذيب اليوم، فعرض سيارة في وصلة اشهارية مثلا تجعل الميكانيكي والمهندس هو من يعلم بخبايا أمور السيارة واما صانع الحدث الميثولوجي يضل قابعا في المياتالغة الأسطورية، كذلك الأمر بالنسبة للمنظفات والمواد الشبيهة بالصابون فعلى الرغم من آثارها السلبية فان لها حسب صانع الميثولوجيا دور مثالي في تحرير الشيء من نقصه الظرفي، فالوسخ يظهر وكأنه عدو صغير يجب أن يطارد ويقتل بواسطة عناصر وظيفية بوليسية. في هذا المضمار يشير رولان بارث في الميثولوجيا على أن معارضة إشهار المسحوقات بالإشهار التحليل نفسي، إذ يحرك الغرور والمظهر الاجتماعي المقارنة بين "التيد" مثلا و"أومو" فيدعو الإشهار المستهلك إلى صيغة من صيغ المعروضات ويجعله شريكا في الخلاص لا مستفيدا من نتيجتهما.
حضور المرأة في الإشهار كذلك جعل من الصورة كثافة المرموز الأسطوري حتى أضحى المتلقي من الجنسين ينغمر في متاهات اليومي فتأسطر لديه نمط غريزي يجعل نظام الميثولوجي يتغذى من الحب على الطريقة البورجوازية غير محققة، فيبدع صناع الميثولوجيا صورة أخرى في وصلة أخرى ملكة جمال الكون تتزوج عامل بسيط يسكن في كوخ وهما سعيدان مستقران يعيشان جنبا إلى جنب. حضور هذه الصورة في تيمات إشهارية مختلفة بسيناريوهات مختلفة يجعل من المجتمعات الاستهلاكية تعوم في وضع مفارق للأوضاع والحالات العادية. وإن ما يهم هنا هو تمرير السلعة المشحونة بصورة المرأة في قالب شهواني وإغرائي افتراضي، فهذه الإمبريالية الأسطورية بتعبير رولان بارث نفسه،(9) تريد الهيمنة بالأسطري الذي يستلهم الشكل الأسطوري العجائبي في الخطابات القديمة لاستغلالها في الاستهلاك والتبضع والتنميط السرمدي حتى يكتب الاستمرار في هذه الهيمنة الاستهلاكية للمفاهيم الضرورية لتغطية الواقع فتضخم الأخلاق وتصيب الأفكار والتصورات قبل كل شيء وهدفها إخضاع هذه المفاهيم إلى نظام ترميزي محنط أكثر مما يخضع للتوظيف التواصلي من هنا يغيب الفعل دائما في الصنيع الميثولوجي ويتكثف حينئذ حضور الاسم ليبلغ الفعل شانه الدلالي ويملا معناه في المستقبل لكي لا تكذب الأسطورة للتو من قبل المتلقي وإن جرى تكذيبها تكون قد تركت زمنا افتراضيا للتفاوض.فالفعل المستقبلي يجب أن يضل بمنأى عن الدحض والتفنيد فتراه يختبأ وراء اللاواقعي في شكل بلاغي استعاري رسمي هدفه الأساسي هو تكديس الأغطية فوق الواقع.
نرجو أن نكون قد قدمنا في هذا المقال فكرة عن كون الأسطوري أصبح يتوسع شيئا فشيئا، تاريخا وجغرافية، يتحرك بحيوية مثيرة عبر المواقع الخطابية واللسانية الاجتماعية، صورا ولفظا وعلامة ومرموزا، وبدأنا نتكلم عن موجات انغراس الأسطورة في كل مكان ومعيش: في صالونات البيع والمعارض والألبسة والتجميل والحلاقة والتسوق والترفيه والتسكع في الشوارع...هذه المظاهر السيميائية هي الخطوط العريضة بامتياز للميثولوجي الذي يحرم البشرية من الحمولة التاريخية فيتماهى "الفرد المؤسطر" عبر الاختباء في تحصيل الحاصل اليومي باغتيال العقلاني الذي يفسر المعيش مختزلا التاريخ في لغة الاسطرة التي لا تهدف إلا لتنميط الحياة في صور أسطورة البورجوازية.
ومهما يكن فان الأسطوري (بدون أسطرة) سيساهم في صنع العالم بفهمه بدون التواطؤ معه. وعمل الميثولوجي، بالتالي، هو تحرير الأسطورة من هذا الانزياح الاسطري وبناء حالة شاعرية في الإدراك والوعي، أي شعرنة أشياء هذا الوجود وجعلها غير قابلة للاستلاب، ومن هنا تكون بداية الأسطوري في مصالحة الواقع والناس والوصف والتفسير والموضوع والمعرفة وتحريرها من أية إيديولوجية بورجوازية مستغلة.
جامعة محمد بن عبد الله، فاس، المغرب
مراجع ومصادر البحث:
1- Roland Barth، Mytologies، Edition Seuil 1957
2- كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة علي الكبيسي.منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء 1986.
3- محمد علي الكبسي، الدرس الهيدغري، مجلة الفكر العربي المعاصر عددي 58و59.
4- جرار جينيت، مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمان أيوب، دار توبقال للنشر 1985.
5- أحمد ديب شعبو المرموز التكويني، الفكر العربي المعاصر عدد 38
6- رولان بارث (ملف)، بيت الحكمة، العدد 7 السنة 2 فبراير 1988.
7- كلود ليفي ستروس وجاك جريدا ورولان بارث وجوليا كريستيفا وتزيفستان تودوروف (ملف) بيت الحكمة، العدد 4 السنة 1 يناير 1987.
الهوامش:
(1) أسطورة نابليون في الثقافة الفرنسية أو "عائشة قنديشة" في الثقافة المغربية واساطير اخرى ذات رمزية عظيمة الشششان في المجتمعات العربية
(2) كلود ليفي شتراوس، الأسطورة والمعنى، ترجمة صبحي حديدي ص 11-20
(3) رولان بارث في الميثولوجيا -1957Mythologies - ص 96
(4) محمد علي الكبسي، الدرس الهيدغري، مجلة الفكر العربي المعاصر ع 58و59
(5) الأسطورة والمعنى ص: 17
(6) جرار جينيت، مدخل لجامع النص، ترجمة عبد الرحمان أيوب، دار توبقال للنشر 1985 ص: 25-29
(7) احمد ديب شعبو المرموز التكويني، الفكر العربي المعاصر ع 38 ص41-42.
(8) احمد ديب شعبو، المرموز التكويني نفس المرجع والصفحة
(9) ملف رولان بارث، بيت الحكمة، العدد 7 السنة 2 فبراير 88 ص 37.