إعداد وتقديم أثير محمد علي
مقدمة
ولد أحمد خيري سعيد بالقاهرة عام 1894 وتلقى تعاليمه بالمدارس المصرية؛ والتحق بمدرسة الطب في عام 1912، ولم يحصل على ترخيص بـ "مهنة طبيب" ولكنه ولتحق بغرفة "الصليب الأحمر" بالجيش الانكليزي خلال الحرب العالمية الثانية بوظيفة "مساعد طبيب" في ميدان فلسطين؛ وعاد إلى مصر بعد الهدنة. واشتغل خيري في الأدب وهو في المدرسة إلى جانب اشتغاله بالطب، فوضع رواية "الأسى" ولكنها صودرت من قلم المطبوعات إذ ذاك، ووضع بعدها مسرحية "بين الكاس والطاس" وقدمها لفرقة جورج أبيض وذلك في عام 1916، ولاهتماماته المسرحية وضع كتاب "فن الشعر" وفيه قارب الشعر العربي ليثبت صلاحيته الدراميّة.
ونشر سنة 1916 كتابه "عبث الشباب" وفيه نَفَس أبيقوري، ودعوة بوهيمية للتمرد والتحرر في الكتابة إلى درجة "الإباحيّة"، وتحرير اللغة من أسر القوالب الجاهزة.
وأسس خيري بمساعدة آخرين جمعية أطلق عليها اسم "الكفر والإلحاد"، وكان أول من نادى في مصر بفكرة استبدال حروف الكتابة العربية بأخرى لاتينية وغيرها من الأفكار الجريئة التي تحدت قدسية وثوابت مجتمعها اليقينية.
إلى جانب كل ذلك يعتبر المفكر والقاص أحمد خيري سعيد رائد من رواد الأدب في الثقافة العربية، تميزت كتابتاته القصصية بتلك النكهة المميزة لعمق حواري القاهرة الشعبيّة. مارس مؤثرات واضحة على جيل كامل من الأدباء المصريين قبل انعطاف القرن العشرين نحو نصفه الثاني. فقد كان بحق "ناظر" ما عرف في الأدب المصري باسم "جماعة المدرسة الحديثة"، فكان رئيس تحرير جريدتها الشهيرة (الفجر: صحيفة الهدم والبناء) التي لعبت دوراً كبيراً، رغم قصر عمرها (1925-1927)، في بلورة فن قصصي مصري جديد. ففضلاً عن نشرها لنصوص مبكرة لعدد من رواد القصة البارزين من محمود طاهر لاشين، ويحيى حقي، وحسين فوزي، وحسن محمود، وإبراهيم المصري من بين آخرين عنيت كذلك بنشر ترجمات لنماذح عديدة من أرقى أعمال القصص الغربية، خاصة الروسية منها.
وفضلاً عن دور أحمد خيري سعيد الرائد في تشجيع الكتابة الجديدة والتمهيد لها، كتب القصة والرواية. حيث أن له الكثير من القصص المتفرقة في الصحف والدرويات، كما أنه نشر رواية مهمة هي "الدسائس والدماء" صدرت عام 1935.
أما النصوص التي تأتي على ذكره فتدفع للقول، دون أن تجافي الحقيقية، إن أحمد خيري سعيد يبرز في تاريخ الحداثة العربية بتلك الملامح المبكرة الساخرة لـ المثقف "البوهيمي المتشرد".
على التوالي نترك لقارئ الكلمة نصاً لأحمد خيري سعيد يتناول فيه موضوعة "التاريخ"، وفيه ينصر الفاعلين المجهولين في صناعة التاريخ، كما ويتطرق لسمة التاريخ التي تميزه عن الأدب والعلوم.
معنـى "التـاريــخ" (أحمد خيري سعيد)
أتمثل إلى جانب بطل من الفاتحين بطلاً مجهولاً ربما كان أحق بالتمجيد وأجدر منه بالتعظيم والإجلال. "قيصر، ونابوليون، وتيمورلنك، والاسكندر، وطارق بن زياد، ومحمد الفاتح" قد غيروا اتجاه التاريخ ووقفوا على هضبة الزمن بحيث يراهم كل من جاء بعدهم فيدلف إليهم خاضعاً، مقدساً فيهم صرامة الجبابرة، ماشياً فوق هامات أطاحوها وأوصال مزقوها، قائلاً: "لئن كانوا قد أبادوا معشراً من الظالمين أو المظلومين فقد أحيوا أمماً وأنموا ثقافات وحددوا حضارات". وألحظ إلى جانبهم جميعاً تمثالاً لبطل مجهول وتماثيل أخرى لأبطال لم تع ذاكرة التاريخ أسماءهم، وما كانوا بالملوك والقواد فيهابهم وتنفسح لهم صفحاته، ولم يكونوا بذوي النفوذ والثراء فيتجشم المؤرخون رواية أخبارهم، وما تركوا لنا معبداً أو قصراً أو تمثالاً، حتى ولا حجراً مثل حجر رشيد نقشت عليه أسماؤهم.
ذلك الرجل الذي عثر على الحديد وصهره هو بلا ريب بطل أكبر من كل بطل. فأنا وأنت نعلم من سيرته ماذا؟! لاشيء!! ومع ذلك فإنه هو الذي وطّد قواعد المدنيات جميعاً لا من جهة تسليح الإنسان، ولكن من جهة استنباط معدن أصلب من البرونز الذي كان يتخذ منه سلاحه وأوانيه وتماثيله وللحديد فوق الصلابة ميزات أخرى يعرفها تلاميذ المدارس.
وبطل عظيم هذا الذي اهتدى إلى زراعة الأرض ومثله ذلك الذي استأنس الحيوانات وجعلها داجنة. هما وفرا للإنسان قوته من غلة الأرض ولحوم الحيوانات وأضافا إلى قوته ونشاطه قوة الخيول والثيران ويسرا له تنظيم المجتمع تنظيماً سياسياً.
فلأيما سبب نشيد بذكر "قيصر" وأشباه "قيصر" وننسى هؤلاء الأبطال المجهولين؟ لقد عوقبوا بنسيان أسمائهم ووصف معارف وجوههم وسيرتهم. فمن الغبن أن نزيدهم خمولاً على خمول فنطوي كشحاً عن تمجيد أعمالهم الجسام.
إن لشعاع الشمس وخيط النور الفضي المنبعث من هذا الكوكب أو ذاك قصة أمتع من قصة الإلياذة، وإن للأحجار الملقاة على جانبي الطريق أو تحت الأنقاض أو في سفح جبل أو قاع نهر لقصصاً ألذ من قصص "ألف ليلة وليلة". فهذا الشعاع يروي لي أنباء العوالم الأخرى ويحدثني عن حكاية "البعد الرابع" ويوقظني إلى البحث مع الباحثين عما يقصده العلامة (اينشتين) بنظرية النسبية ولقصته أعمق الأثر في تفكيري وفي نظري إلى الحياة وأهلها وماضيها ومستقبلها. وتلك الأحجار تمثل لي عصراً من عصور التطور أو تنبئ عن عهد من عهود الرقي أو الانحطاط الإنساني. ولعل واحداً من هذه الأحجار هو الذي زل فوقه جواد "الغوري" أو خضب بدماء "علي بن أبي طالب" ولا يبعد أن يكون أحد الأحجار التي قذفها الثوار على الباستيل.
* * *
اختلفت الآراء في سبب الثورة الفرنسية والانقلابات الكبرى. ولكن من لنا بجميع البواعث والمطامع والمحادثات السرية، وعلاقات القوم وحبهم وبغضهم وما ورثوه عن آبائهم، ويصور لنا الوسط الذي عاشوا فيه ويقدم لنا إحصاءات صادقة عن أمور كثيرة هذا مستحيل بالطبع. ولهذا كان من المستحيل معرفة الحقيقة لأية ثورة أو انقلاب نحن لا نقرأ التاريخ الحقيقي. بل الذي نقرؤه هو الماضي كما يصفه المؤرخون ولسنا حينما نتصفح الوقائع التي يسوقها (الجبرتي) أكثر من أشخاص ينظرون بعيني هذا المؤرخ الكبير. ومهما يكن "الجبرتي" دقيقاً ومخلصاً وصادقاً في الملاحظة – ولقد كان كذلك وأكثر – فإن الحوادث التي يصفها والوقائع التي دونها كشاهد عيان ليست هي هي التي حدثت بالضبط.
وإذا كان هذا حالنا فلماذا يلذّ لنا التاريخ وننقطع للتنقيب عن حقائقه؟!
السبب هو أننا نثور على حياتنا المحدودة وظروفناً المقيدة. فنفر إلى الماضي نجول فيه أحراراً من القيود والتبعات والمسؤوليات والواجبات ونحيى ألف مرة ألف حياة مختلفة. نتعظ ولا نتعظ ونشبع فينا ميلاً شاذاً هو نقد الناس والأعمال – والأولى أن نحاسب أنفسنا وننقد أعمالنا.
* * *
هل التاريخ علم أو أدب؟! التاريخ علم وأدب في وقت واحد. ولكنه علم يختلف عن علم الطبيعة وعلم الحيوان. ويختلف عن الأدب المحض. هو علم من حيث طريقة البحث عن الحقائق وتمحيصها، وأدب من طريقة الرواية وأسلوب الكتابة. يقصيه عن العلم البحث أن نتائجه ليست مأمونة ولا تفسيراته صحيحة، ويقصيه عن الأدب أنه عبد للحقائق. فالمؤرخ لا يتمتع بحرية الأديب من جهة الخيال ولا يلج إلى قلوب شخصياته ودوافع وقائعه وبواعث حوادثه.
(الجديد، القاهرة، ع 43، 4 فبراير 1929)