دفاعاً عن الشعر والتاريخ كتبت المقالة التي ننشرها هنا. فالشعر يتبدى كعنقاء تولد من أزمات اللغة والتلقي والاستلاب المجتمعي، وكبرهان على وشائج العلاقة ما بين الفني والواقع، والضرورة المجدية لصلة الشعر والشاعر بروح الميدان والثورة.

الثورة والشعر، قبل أن ننسى

مرسي حسن

أوَّلُ الغَيْثِ جَدْبٌ! وأوَّلُ الرِّيِّ ظَمَأٌ!
في زَمَنِ الأَقزامِ المُتَعملقينَ بفَجَاجَتِهم تحت بريق الأضواءِ المتآمرةِ، يرحلُ الحقيقيُّونَ، أو يُجْبَرونَ، وهم يَعافونَ الزَّيْفَ وأهلَه، ولا يَبْقَى إلَّا هؤلاءِ، وهؤلاءِ مُسُوخٌ. فإذا ثارتِ الأرضُ الَّتي طالما أجدبوها وصرختِ الشِّفاهُ الَّتي طالما جفَّتْ مُكَمَّمَةً، تُشْرِقُ الشَّمسُ/ الحقيقةُ لتكسرَ الظَّلامَ/ الزَّيفَ، فتكونُ الثَّورةُ. والإبداعُ ثورةٌ أيَّما ثورةٍ. فلا عجَبَ إذن أن يكونَ الشِّعْرُ أجملَ ما يكونُ وقتَ ثوراتِ الشُّعوبِ؛ فالثَّائرونَ شعراءُ قصائدُهم الثَّورةُ، والشُّعراءُ ثائرونَ ثورتُهم الشِّعْرُ.

ولا تخمدُ جذوةُ الشِّعْرِ في قَلْبِ الشَّاعرِ إلَّا كالنَّارِ تحتَ الرَّمادِ، تختبئُ مِن الرِّياحِ العاتياتِ لكى تعودَ أكثرَ تَوَهُّجًا. ولا يغيبُ الشّاعرُ الحقُّ إلّا ليرجِعَ أَبْهَى. وفي كلٍّ لا يغيبُ عنه الشِّعْرُ. الشَّاعرُ بطَبْعِه ثوريٌّ مُتمرِّدٌ؛ إذا دَجَنَ، خَمُلَ وانطفأتْ شاعريَّتُه. لذا، فهو يخفُّ للثَّورةِ أكثرَ مِن غَيْرِه لعِلْمِه أنَّها تحشدُ مشاعرَه وتجدِّدُ طاقاتِه الإبداعيَّةَ. فما الشِّعْرُ إلَّا غناؤُنا الَّذي نُغافِلُ به القُبْحَ حتَّى يُولَدَ الجمالُ مِن رَحِمِ الأَمَلِ، والغناءُ دائمًا مُنتِجُ الثوراتِ ومُنتَجُها الأوَّلُ. وحيثُ لا لَيْلَ إلَّا وتحملُ ظلمتُه قَمَرًا يبشِّرُ بالنُّورِ، يبقى الشِّعْرُ قَمَرَ ليالينا. أ وليسَ صاحبه هو الَّذي يحْلُمُ بجَنَّةِ السَّماءِ وهو في جَهنَّمِ الأرضِ؟! الثَّورةُ هي الحُلْمُ الَّذي إذا تحقَّقَ، دَخَلَ الشَّاعرُ جَنَّةَ المعنى يقطفُ مِن ثَمَرِها أنَّى شاءَ.

وُلِدْنَا كِبارًا

وإن كان الشِّعْرُ في بلادِنا العربيَّةِ قد أمسى غريبًا، لا يقرؤوه إلَّا أحدُ ثلاثةٍ: أديبٍ (أو، بالأَحْرَى، شاعرٍ!) أو ناقدٍ أو مقهورٍ حالمٍ، فما زال هو صانعَ الثّورةِ إذ هي الحلمُ الَّذي يتوَهَّجُ في أُفُقِ الحالمينَ فيُوقِدُونَ فتيلَها ويَقُودُونَها. أمَّا الطُّغاةُ، فلا يقرؤونَ همومَ شعوبِهم ولا آدابَهم، لذا لا يَعُونَ دروسَ الماضي ولا يفهمونَ إشاراتِ المستقبلِ. ولا نَدْرِي نحنُ أَنَحْزَنُ لأنَّهم لم يقرؤوا فيُصلِحوا إذ هم قادرونَ، أم نفرحُ لأنَّنا هكذا غافَلْناهم وثُرنا عليهم؟! الشِّعْرُ شرارةُ الثَّورةِ في نفوسِ الحالمينَ ووقودُها الَّذي يُذْكِيها مِن حيثُ لا ينضُبُ، ويكفي الشِّاعرُ فخرًا أن تكونَ له طاقةُ التَّغييرِ هذه.

ففي ثمانيةَ عشرَ يومًا أَضَفْنا، نحن المصريينَ، إلى كِتَابِ الثوراتِ العالميَّةِ فصلًا كبيرًا ستظلُّ تتدارسُ بطولاتِه الدُّنيا، وإلى ديوانِ الشِّعْرِ العربيِّ أضافتْ ثورتُنا أسماءً جديدةً عثرتْ على أصواتِها وسطَ زحامِ المَيْدَانِ وبينَ دقَّاتِ قلوبِ أبطالِه. فنحنُ أَنْتَجْنا الثَّورَةَ، وهي وَلَدَتْنا. والثَّورةُ أمٌّ رؤومٌ تلدُنا لكنْ كبارًا.

جَذْوَةُ نارٍ في صَحْنِ دموعٍ
شِعْرُ الثَّورةِ جَذْوَةُ نارٍ في صَحْنِ دموعٍ؛ مفردةٌ طَلْقَةٌ ومفردةٌ دَمْعَةٌ، لا هو يُهادِنُ أو يغازلُ ولا هو يفحُشُ أو يُسِفُّ. أَصْدَقُه أَقْرَبُه، وأَعْمَقُه أَبْسَطُه في غيرِ ابتذالٍ ولا تسطيحٍ. غنائيَّتُه سلاسةٌ وعذوبةٌ لا تهْوِي بالمعنى إلى السَّطْحِيَّةِ والمباشرةِ ولا تقعدُ به عن العمقِ والطَّرافةِ. قصيدةُ الثَّورةِ، ككلِّ القصائدِ الصَّادقةِ، تقتاتُ برُوحِ شاعرِها؛ تندفقُ إذا فارَ نَبْعُ الثَّورةِ/ الشِّعْرِ في الشَّاعرِ/ الثَّائرِ. ولا يزالُ النَّبْعُ عَذْبًا ما دامَ الشَّاعرُ فيَّاضًا، فالنَّبْعُ لا يَأْسُنُ وماؤُه جارٍ. وإن عِيبَ على القصائدِ السِّياسيَّةِ خَطابِيَّتُها الفَجَّةُ، فما هذا إلَّا لعَجْزِ الشَّاعرِ ومحدوديَّةِ أدواتِه. والشِّعْرُ/ الشِّعْرُ بَعْضُه معرفةٌ وأكثرُه عِرفانٌ، والشَّاعرُ بين المُتشاعِرِينَ نَبِيٌّ بَيْنَ مُتَنَبِّئِينَ كَذَبَةٍ.

قصائدُ الشُّعراءِ قلوبُهم، وقصائدُ الثَّورةِ أَشْجَعُ هذه القلوبِ. وليسَ هذا إلَّا لقصيدةٍ تنطلقُ مِن وسطِ المَيْدَانِ ولم يُسْفِرْ فَجْرُ الحقِّ بعدُ. فتقفُ في الصُّفوفِ الأُولَى وصوتُها يَهْدِرُ في وجْهِ البنادقِ لا يأبهُ شاعرُها بمَوْتٍ ولا بتنكيلٍ، فتُرْعِدُ لتُرْعِبَ البندقيَّةَ ومُتأَبِّطَها إذ كلاهما جبانٌ قَلْبُ أحدِهما حديدٌ وقَلْبُ الآخرِ أقْسَى، وكلاهما أجوفٌ لا يَعْمُرُه ما يَعْمُرُ قلوبَ شعراءِ الثورةِ وقصائدَهم. ولو رأى الطغاةُ قُبْحَهم، لاستنكروا على أنفسِهم ما يفعلونَ.

القوَّةُ هنا في سُمُوِّ القضيَّةِ ورسوخِ الإيمانِ بها وصِدْقِ التَّعبيرِ عنها، فإذا ما اجتمعَتْ هذه الوشائجُ لشاعرٍ يمتلكُ أدواتِه، كانتْ القصيدةُ ثورةً وكانتْ الثَّورةُ في القصيدةِ. وهنا بلاغةُ الرَّمْزِ - مِمَّن يُجيدُها - سَوْطُ جلَّادٍ أو أشدُّ، فما بالُنا بالتَّصريحِ؟! إنَّ خيالَ شاعرٍ يقاومُ بالمجازِ الحقيقةَ الطَّاغيةَ أَقْدَرُ على إحْدَاثِ التَّغييرِ؛ فمَن صنعوا الثورةَ هم وحدَهم الَّذين يصنعونَ الحقيقةَ وسطَ صَخَبِ الأبواقِ والبنادقِ الجوفاءِ.

صحيحٌ أنَّ "أصدقَ الشِّعْرِ وأعذبَه: أكذبُه" مِن حيثُ أنَّ مادَّتَه المجازُ، لكنَّ "الكذبَ الفنِّيَّ" (الَّذي هو المجازُ) لا يتعارضُ مع الصَّدقِ (الَّذي هو الحقيقةُ) ولا يُنقِصُ مِن مِصْدَاقِيَّةِ الشَّاعرِ. وشِعْرُ الثَّورةِ مجازٌ حَدَّ الصِّدْقِ وصِدْقٌ حَدَّ المجازِ. إنَّه وليدُ المَيْدَانِ حيثُ بلاغةُ الحناجرِ صرخةٌ لا جوفاءُ ولا متعاليةٌ، وإنَّما تِلقائيَّةٌ لا عشوائيَّةَ فيها؛ فلا عشوائيَّةَ في الفَنِّ حتَّى في أشدَّ حالاتِ عشوائيَّتِه. هي "تِلْقائيَّةٌ مدروسةٌ" لا تكلُّفٌ فيها ولا إيغالٌ. قصيدةُ الثَّورةِ نهرٌ، والنَّهرُ في ثورةِ تشَكُّلِه يحتاجُ إلى ضفَّتَيْنِ تُحدِّدانِ مجراه، وإلَّا صارَ دمارًا. "فالتِّلْقائيَّةُ الفنِّيَّةُ" بَيْتُ القصيدِ هنا.

علينا النَّذْرُ وعليكم الوفاءُ
وغدًا ينزلُ مطرُ السَّماءِ طاهرًا يغسلُ الأرضَ مِن أَدْرَانِها فلا يُبقِي إلَّا الطُّهْرَ. ويقيني أنَّ الكتابةَ في الصُّدورِ أَبْقَى مِن الكتابةِ على الأفُقِ، ناهيكَ عن أَرْفُفِ المكتباتِ؛ فما ينقشُه الوَجَعُ -وإن كانَ على صَفْحَةِ الماءِ- لا يغرقُ ولا يُمَّحَى. والشَّاعرُ لا يَخْشَى إلَّا مِن الغيابِ حضورًا، أمَّا حضورُه غائبًا وخلودُه شِعْرًا، فهذا غايةُ المُنَى. ولا يختلفُ في هذا مَن يكتبُ بالعامِّيَّةِ عمَّن يكتبُ بالفُصحَى، فالتَّعبيرُ الشِّعْرىُّ يبرزُ أيًّا كانتْ وسائطُه، والشَّاعرُ الحقُّ يؤثِّرُ في جمهورِه ويساهمُ في تشكيلِ العقلِ الجمعيِّ لأُمَّتِه أيًّا كانتْ المرحلةُ التّاريخيَّةُ. ولا أَصْدَقَ أو أَقْرَبَ مِن لُغَةِ البَوْحِ الَّتي لا تتعالَى على المُتلَقِّي ولا تُسِفُّ إذ العمقُ صَكُّ بقاءِ النَّصِّ الجيِّدِ، والتَّجاربُ الحقيقيَّةُ تشقُّ طريقَها طولًا وعَرْضًا. ولا يتعارض هذا مع مسؤوليَّةِ المؤسَّساتِ الإعلاميَّةِ ودُورِ النَّشْرِ الواعيةِ الَّتي تتابعُ وتقيِّمُ لتحتفيَ وتؤرِّخَ، فعلى الشَّاعرِ النَّذْرُ وعلى غَيْرِه الوفاءُ.

 

(ماجستير في علم الأسلوب، جامعة القاهرة)