نعت بعض الأخبار الكاتب الناقد الأديب يوسف اليوسف الذي انتقل إلى رحمة ربه يوم الثاني من الشهر الحالي (آيار 2013) في مخيم نهر البارد بلبنان بعد حياة قضاها في البحث والكتابة والتدريس، فقد درس الأدب الإنجليزي بجامعة دمشق وعمل مدرساً لهذه اللغة في مدارس وكالة الغوث في مخيم اليرموك.
وصنف الكثير من المؤلفات النقدية والأدبية، وترجم عن الإنجليزية مؤلفات أخرى.. وكان عضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب الفلسطينيين واتحاد الكتاب العرب. ولد يوسف سامي اليوسف في لوبية في العام 1938 وهي بلدة تقع على مسافة قصيرة (13كم) من طبرية باتجاه مدينة الناصرة. وكانت حتى عام 1948 بلدة زراعية تعجّ في الأراضي التي تحيط بها كرومُ العنب (الدوالي) والزيتون. وعلى مقربة من تلال البلدة يجري وادي العين الذي تتدفق فيه المياه شتاءً ويجف في الصيف. وقد تزايد العمران فيها قبل النكبة واتسعت لتشمل حياً جديداً هو المدَّان. أما القرى التي تحيط بلوبية فأهمها قرية الشجرة التي استشهد فيها الشاعر عبد الرحيم محمود سنة 1947. وقرية حطين التي يقع فيها قبر النبي شعيب على ذمة الراوي. وقرية طرعان التي ما تزال حتى يومنا هذا قرية عامرة لم تقم العصابات الإسرائيلية بتدميرها ومحوها من الخرائط مثلما فعلت ببلدة لوبية. وقرية عيلبون التي ينسب إليها نوع من العنب الفاخر الذي يقال له عيلبوني.
وفي ذاكرته التي سماها تلك الأيام ذكر لنا يوسف اليوسف ما ورد من شعر في لوبية من ذلك قول بعض الأندلسيين في مِدْحَةٍ أثنى فيها على صلاح الدين:
أما رأيتم فتوح القادسية في أكناف لوبيّةٍ، تُجلى، وذا عمْرُو
وهذا البيت ورد في كتاب بهاء الدين بن شداد الموسوم بالنوادر السلطانية.
وفي فصل من ذاكرته تلك يستعيد الناقد الأدبي فيما يشبه السرد التاريخي القصصي حياة أحد أجداه حسين محمود الذي كان حياً في العام1799 وهو العام الذي بلغت فيه جحافل نابليون بونابرت أسوار عكا، وفرض عليها حصاره من البر والبحر. ولكن المدينة أفلتت من ذاك الحصار. وأما جد جده لأبيه فقد ولد فيما يذكر سنة 1850 وهو عبد الرازق حسين محمود الذي توفي في حادث غامض سنة 1931 تاركاً عدداً من الأبناء منهم سليمان وجده لأبيه يوسف الذي كان قد رزق ببكره سامي الذي تزوج بدوره في العام 1936 أي في أثناء ثورة 1936. وفي العام 1938 رزق بابنه البكر وقد سماه يوسف. فيوسف سامي اليوسف الناقد الأدبي ولد في ذلك العام، ولم يكدْ يمضي على ميلاده شهران حتى أصيبت أمه بما يمنعها من إرضاعه على عادة الأمهات، فنشأ بسبب ذلك ضعيف البنية، هشاً لا يستطيع جسمه مقاومة الآفات الطارئة التي يتعرض لها الأطفالُ عادة. وقد ظل على هذه الحال حتى بلغ أيامه الأخيرة، فعلى الرغم من أنه تمتع بطول القامة (182سم) إلا أن وزنه لم يتجاوز الـ 60 كيلوغرامًا وهو على الدوام من ذلك الحين زبون دائم للأطباء.
فيما تبقى من الذاكرة يتربع البيت على سدة التخزين.
وفي البيت يتوافر الحديث عن الذكريات وعن المجدّرة وخبز الذرة والمسخن والششبرك والبحتة وحساء العدس وغيره وغيره .. مما يستعيده الكاتب. والحارة بما توحي به من عبث الأولاد والألعاب الشعبية التي كانت شائعة في ذلك الحين ومن أشهرها وأكثرها تداولاً (الطميمية)، وللكتّاب حضوره أيضاً ففيه تنشأ العلاقات المبكرة مع أبناء الجيل الواحد، والعلاقات المبكرة مع حروف الهجاء، ومع القراءة. فقد دخل الكتاب مثلما يذكر سنة 1944 أي عندما كان في السادسة. وفي العام 1945 أنهى يوسف عامه الأول، وكان قادراً على تلاوة بعض سور القرآن على مسامع أبيه الذي أصبح شرطيًا عام 1946 براتب قدره 22 جنيها فلسطينيًا. وفي السنة التالية أصبح يوسف تلميذاً في الصف الثاني في مدرسة البلدة. أمّا السنة السوداء في حياة الكاتب يوسف يوسف فهي سنة 1947 التي انتشرت فيها الشائعات عن قدوم جيوش الإنقاذ العربية إلى فلسطين كي تمنع الصهاينة من الاستيلاء عليها وتهويدها بعد انصراف الإنجليز. ولكن هذه الشائعات لم تسفر عن شيء إلا في 17 أيار من العام التالي 1948 أي بعد أن غادر الإنجليز، وأعلن الصهاينة قيام دولتهم المزعومة على أرض فلسطين التي لاقت اعتراف بعض الدول الكبرى، ومباركتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذه الأجواء اشتعلت تمثيلية الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. وينبش يوسف سامي اليوسف كثبان الذاكرة ويستخرج منها مواقف تؤكد أن في هذه السيرة تاريخًا، ولكنه ليس التاريخ المعروف، وإنما هو تاريخ من لا تاريخ لهم .. تاريخ نقرأ فيه عن الناس الذي شردوا ونزحوا واختفوا في الكهوف ماذا كانوا يقولون وماذا كانوا يسمعون. فالصفحات التي تروي حكاية الحرب، واللجوء بعد سقوط لوبية، صفحاتٌ تأخذ بخناق القارئ الذي لا يترك القراءة حتى ينتهي من الفصل، فكأنه يقرأ قصة مأساوية مشوقة مثل قصص المنفلوطي. أخيرا يتذكر يوسف اليوسف- راح الصهاينة يدمرون بيوت البلدة بيتاً تلو الآخر. في جريمة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها لا في القديم ولا في الحديث. وتحط به وبأبيه وأمه الرحال في كفر عنان لمدة ثلاثة أشهر، بعد ذلك قرر والده متابعة الرحيل والهجرة نحو لبنان لتحط بهم عصا الترحال في بيت ياحون، ثم في صور، ثم في طرابلس، وحمص، وحماة، ومورك، وبعلبك في لبنان .. واستقر بهم المقام في مخيم اليرموك بدمشق.
وعلى الرغم من المعاناة الكبيرة التي تجاوزناها، وتخطينا الحديث عنها في هذه القراءة لكتاب الفقيد "تلك الأيام" الذي يروي ما مر به من أحداث في السنوات التسع الأولى من عمره، لم يهزم يوسف اليوسف، ولم تتحطم في نفسه الإرادة، فقد تغلب على تلك المعاناة، ودرس حتى تخرج بشهادة جامعية أولى في أدب اللغة الإنجليزية. وبوساطة هذه اللغة قرأ الأدب الأوروبي، وأفاد من تلك القراءات فألف وصنف كتبًا فيها من الجدية ما لا نجده في كتب غيره من الدرارسين. فقد صنف من المؤلفات: مقالاتٌ في الشعر الجاهلي (دراسة، دمشق 1975)، والغزل العذري (دراسة، دمشق 1978). وبحوث في المعلقات (دراسة، دمشق 1978). والشعر العربي المعاصر (دراسة، دمشق 1980) و"مالشعر العظيم" (دراسة، دمشق 1981)، وكتاب عن غسان كنفاني بعنوان "رعشة المأساة" (دراسة، عمان 1985)، وكتاب عن الشخصية والقيمة والأسلوب (دمشق 2000)، وكتاب في التاريخ بعنوان "حطين" (دراسة، دمشق 1987)، وآخر بعنوان "فلسطين في التاريخ القديم" (دراسة، دمشق 1989). وكتاب عن "الخيال والحرية" (دمشق 2001)، ومقدّمة للنّفري (دراسة في فكر وتصوف محمد بن عبد الجبار النفري، دمشق 1997)، وابن الفارض (دراسة، دمشق 1994)، وترجم عن الإنجليزية: "الديانة الفرعونية"، ومختارات من شعر إليوتEliot. أما سيرته الذاتية فقد صدر منها جزءان فيما نعلم عن دار كنعان في دمشق على أن يصدر الجزء الثالث، الذي لا نعلم صدر أم لا . رحم الله يوسف اليوسف وعوضنا عنه بالمؤلفات الكثيرة التي صنف. فهو حي بأفكاره وآرائه ومواقفه مثلما هو حي في سيرته وتذكاره.
(أكاديمي وناقد من الأردن)